القارئ:
(ومن قواعد شرعنا التيسير فـي كل أمر نابه تعسير)
الشيخ:
قوله هنا: ومن (قواعد الشريعة التيسير) المراد بالتيسير: تيسير مأخوذ من اليسر، وهو السهولة والليونة.
قوله:(في كل أمر نابه) نابه: يعني اعترض له وعارضه ونزل به، (تعسير): التعسير مأخوذ من العُسْر وهو الشدة وعدم الليونة.
فالمراد بالقاعدة أن من حكمة الله ومن رحمة الله بعباده أنه إذا حصل لهم شيء من العسر؛ فإن الشريعة تخفف وتيسر لهم.
وهذه القاعدة قد دل عليها أدلة عديدة:
- منها: قوله جل وعلا: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.
-وقوله سبحانه: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
وقد علل الله عز وجل كثيراً من أحكامه بإرادة التخفيف والتيسير على العباد:
{يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}.
ويدل على ذلك أيضاً استقراءُ أحكام الشريعة، فإنها بفضل الله يسيرة سهلة تحقق مصلحة الخلق.
والعلماء يعبرون عن هذه القاعدة بتعبير يخالف تعبير المؤلف هنا، المؤلف هنا يقول: التعسير سبب للتيسير، والعلماء يعبرون عنها بلفظ آخر فيقولون: المشقة تجلب التيسير، ولعل لفظ المؤلف أولى من لفظ الفقهاء، وذلك لعدد من الأمور:
الأمر الأول: أن الشريعة إنما جاءت بنفي العسر، ولا يوجد فيها نفي المشقة.
والأمر الثاني: أن أحكام الشريعة لا تخلو من نوع مشقه، لا شك أن الجهاد فيه مشقة، وأن الأمر بالمعروف فيه مشقة، بل إن الصلاة فيها مشقة كما قال سبحانه: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}.
لكنَّ هذه المشقة ليست هي الغالبة على الفعل، هذا من جهة.
والجهة الثانية: أن هذه المشقة التي في الفعل مقدورة للمكلَّف.
ومن جهة ثالثة: أن المصلحة في هذا الفعل أعظم من المشقة الواقعة فيه، ولذلك نجد الطبيب يصف للمريض الدواء، الدواء أليس مُرّاً ؟ مُّر، لكنَّ المصلحة المترتبة على الدواء أعظم، وهي الخاصية التي جعلها الله عز وجل في الدواء يُشفى بها المريض، فهذه المصلحة أعظم من المشقة الحاصلة في الدواء، وكذلك أحكام الشريعة والشارع لا يقصد المشقة لذات المشقة، وإنما مقصوده المصلحة الواقعة في الفعل.
وسبب آخر أن المشقة ليست منضبطة، متى يوصف الفعل بأنه مشقة ؟ هذا أمر تختلف فيه وجهات النظر، ولذلك لا نجد الشريعة تعول على المشقة في بناء الأحكام، وإنما تعول على رفع العسر ورفع الحرج، ونمثل لذلك بمثال: لو قال قائل: بأن المسافر يجوز له الفطر في رمضان للمشقة، فالمشقة هي العلة لقيل له: بأن البنَّاء عليه مشقة، والخبّاز عليه مشقة، والعمال عليهم مشقة، فحينئذ وجدت فيهم العلة فيوجد الحكم وهو جواز الفطر، بل قد يقول له قائل: إن لاعبي الكرة، والممثلين، والموظفين، والطـلاب، والمدرسين، تلحقهم المشقة، فحينئذ لا يُلزمون بهذا الحكم، فتعليق الأحكام بالأوصاف غير المنضبطة يؤدي إلى التفسخ من الشريعة وعدم العمل بها، ولم يعهد من الشارع أن يُسند أحكامه إلا إلى أسباب منضبطة فلذلك التعبير بلفظ المؤلف أولى من التعبير بغيره.
وليعلم بأن العسر ليس جالباً للتيسير بذاته، وإنما الجالب للتيسير هو الشارع، فإنما يقال: العسر سبب للتيسير، أو يقال: المشقة سبب للتيسير، ولا يصح أن يقال: المشقة تجلب التيسير؛ لأنها ليست هي الجالبة بذاتها، وإن كانت هي تجلب بأمر الله، لكن ظاهر العبارة أنها تجلب بنفسها.
إذا تقرر ذلك
-وأن الشريعة لم تقصد المشقة لذاتها-؛ فإنه لا ينبغي لنا أن نقصد المشقة، لو كان الفعل يمكن أن يُؤَدَّى بدون مشقة فإن قصد المشقة ليس مشروعاً.
مثال ذلك: من قال: سأحج على قدميَّ من أجل أن أتعب في الحج فيعظم أجري، قيل له: قصد المشقة ليس مشروعاً؛ لأن الشارع لا يقصد المشقة، فأنت مخالفٌ في فعلك لمقصود الشارع.
فإن قال قائل:جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أجركِ على قدر نَصَبِك)).
قيل هنا:ليس المراد بالحديث النصب المقصود للمكلف، وإنما المراد النصب الواقع في العبادة الذي لم يقصده المكلف.
وأما حديث: ((دياركم بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم)) فهذا أراد به النبي صلى الله عليه وسلم ألا يخلوَ طرف من أطراف المدينة من السكان، من أجل ألا يأتي الأعداء فيغزوا المدينة.
إذا تقرر ذلكفما هي أنواع العسر الجالب للتيسير؟
- منها: المرض كما قال جل وعلا: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }، ففي هذه الآية علق الله عز وجل الحكم بقوله: (مَّرِيضاً) ولم يطلق، لم يقل: من كان به مرض، فدلنا ذلك على أن المراد مرض خاص، والذي يترتب عليه حكمة الحكم هو إذا كان المرض على حالة لو فُعِل المأمور معها لتأخر البرء أو زاد المرض، فإنه يشرع التخفيف حينئذ، مثال ذلك: من كان الصيام يؤخر شفاءه أو كان الصيام يزيد في مرضه جاز له الفطـر، ومن لم يكن كذلك لم يجـز له الفطـر ولو كان مريضاً، ولذلك من به وجع أسنان أو صداع بحيث إن الصيام لا يزيد في مرضه ولا يؤخر شفاء المرض فإنه لا يجوز له الإفطار.
ومن أسباب التيسير في الشريعة، أيضاً
السفر.
وقد اختلف العلماء في ضابط السفر.
فمنهم من يقول: نحده بثمانين كيلاً.
ومنهم من يقول: بمسيرة يوم، وهذا القول فيه قوة؛ لأن الله عز وجل قال: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ}؛ ولأن الشريعة جاء في نصوصها وصف السفر بكونه يوماً، ورد في بعض الأحاديث: ((لا تسافر امرأة يوماً إلا مع ذي محرم)) ولم يرد أقل من ذلك.
والقول الثالث في المسألة: بأن الضابط في ذلك يرجع إلى العرف، فما عده أهل العرف سفراً فهو سفر، وإلا فلا نعده سفراً تناط به أحكام التخفيف.
والدليل على أن السفر يناط به التخفيف قول الله عز وجل: { فَمَن كَانَ مِنكُم
مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
ومن أسباب التخفيف أيضاً: النقص، لذلك المجنون [والمريض] يخفف عنها في الأحكام، والحائض تسقط عنها الصلاة وطواف الوداع، وهكذا.
والشارع في التيسير يسلك مناهج عدةً:
- فمرةً يسقط الواجب مثل: سقوط الصلاة في حق الحائض.
- ومرةً ينقص الواجب مثل: صلاة المسافر.
- ومرةً يبدل الواجب بغيره مثل: التيمم بدل الوضوء.
- ومرةً يقدم الواجب مثل: تقديم الزكاة، وتقديم الصلاة المجموعة.
- ومرةً يؤخر الواجب مثل: تأخير المسافر للصيام، وتأخير الصلاة المجموعة.
هذا شيء مما يتعلق بهذه القاعدة.