القارئ:
(فإن تزاحم عدد المصالحِ يـُقدَّم الأعلى من المصالح)
الشيخ:
هذه قاعدة (تزاحم المصالح)، والمراد بهذه القاعدة إذا لم يتمكن العبد من فعل إحدى المصلحتين إلا بتفويت الأخرى فماذا يعمل حينئذٍ؟ ذكر المؤلف بأنه يُرجِّح بين المصالح، فيفعل المصلحة العظمى ولو كان في سبيل ذلك تركٌ للمصلحة الأقل، وهذه قاعدة في الشريعة مقررةٌ بعددٍ من الآيات والأحاديث.
- منها قول الله عز وجل: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم}.
- ومنها قوله جل وعلا: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، وأحسنه يرجع إلى القول، فإذا تزاحمت المصالح التي يكون فيها تحقيق لأحكام من أحكام الشريعة؛ فإننا نتبع الأحسن.
وباب سد الذرائع مقررٌ على هذه القاعدة.
وقد بنى الفقهاء باب الترجيح في كتبهم الأصولية للنظر فيما هو الأعلى من المصالح وما هو الأقل والأدنى.
فمثلاً: إذا نظرنا في الأفعال نجد أن بعضها يتعدى نفعه إلى الغير، وبعضه قاصر يقتصر على الفاعل، ولا شك أن الفعل المتعدي نفعه للغير أولى من الفعل القاصر، ولذلك فإن تعليم العلم أفضل من صلاة النافلة لكون النفع هنا متعدياً إلى الغير، ولذلك الفعل الواجب أولى من الفعل المستحب المسنون، كما ورد في الحديث عند البخاري:((ما تقرب العباد إلي بمثل ما افترضت عليهم)).
ومن هنا فمن دخل المسجد، والصلاة الفريضة قد أقيمت قدم الفريضة على تحية المسجد وعلى النافلة؛ نافلة الفجر وغيرها من النوافل.
ومن القواعد في الترجيح بين المصالح أنهم قالوا: إن المصلحة الخاصة مقدمة على المصلحة العامة في محل الخصوص، ويعمل بالمصلحة العامة فيما عداه،ويمثلون لذلك بقراءة القرآن، قالوا: هذا فيه مصلحة وهو أفضل الذكر، ولكن في المحالِّ الخاصة يقدم عليها الذكر الخاص، مثل أذكار الصلوات، وأذكار بعد الصلوات، وأذكار الصباح والمساء، فهذه يقدم فيها الذكر الخاص في محل الخصوص، وتبقى المصلحة العامة مقدمة في غير محل الخصوص.
ومن ذلك قولهم أيضاً: إن الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من الفضيلة المتعلقة بظرفها، سواء الظرف الزماني أو المكاني، ويمثلون لذلك بفروع عديدة.
منها في باب الطواف قالوا: الرَّمَل في طواف القدوم مستحب متعلقٌ بذات [عبادة] الطواف، والقرب من البيت مستحب [و] متعلقٌ بمكان العبادة، فإذا لم يتمكن من الرَّمَل إلا بالابتعاد عن البيت فحينئذٍ يُقدِّم الفضيلة المتعلقة بذات العبادة على الفضيلة المتعلقة بمكانها.
وقواعد الترجيح بين المصالح عديدة، وقد تتعارض بأن يوجد في أحد الفعلين عدد من المصالح، وفى الآخر كذلك عدد من المصالح الراجحة، فحينئذٍ يحتاج إلى باب الترجيح، وباب الترجيح معمول به في الشريعة.
إذا تقرر ذلك؛فإن المصالح منها ما هو ضروري، [و] لو فقد لأدى فقده إلى فوات حياةٍ، أو فوات السعادة في الآخرة، مثل:مصلحة الدين ومصلحة النفس، فهذه مقدمة على المصالح الحاجِيَّة.
والمراد بالمصالح الحاجيَّة: التي إذا قُدِّر فقدها أدى ذلك إلى الضيق والحرج، مثل: الرخص الشرعية، ومثل عقود المعاملات.
والمصالح الحاجيَّة مقدمة على المصالح التحسينية.
والمراد بالمصالح التحسينية: هي التي يؤدي فقدها إلى مخالفة ما فُطرت عليه النفوس من أحسن المناهج، ففقد المصالح التحسينية يؤدي إلى أمر مما تأباه النفوس والعقول الراجحة، وإن كان لا يؤدي إلى ضيقٍ ولا حرجٍ،ومثال ذلك: إزالة النجاسات فهذا مُرَاعًى من أجل أمر تحسيني، فإذا تعارضت مصلحة حاجية ومصلحة تحسينية قُدمت المصلحة الحاجية.
والمصالح الضرورية تنقسم أيضاً إلى أقسام عدة:
فضرورة الدين مقدمةً على ضرورة النفس.
وضرورة النفس مقدمةً على ضرورة المال، لذلك ورد في الأثر عن جُنْدُب -رضي الله عنه- أنه قال: (إذا عرض لك بلاءٌ فقدم مالك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء فقدم نفسك دون دينك).
وكذلك من المصالح ما يقطع بكونه مصلحة، ويقطع بأن الشريعة قد دلت عليه، ومنها ما هو ظنيٌّ، ولا شك أن المصالح القطعية مقدمة على الظنية، بل إن القطع والظن على مراتب متفاوتةً، فليس القطع على مرتبةٍ واحدةٍ، وليس الظن على مرتبة واحدة، وتختلف هذه المراتب، والإنسان يجد التفاوت بين هذه المراتب وإن لم يستطع أن يتلفظ بهذه المراتب، كما أن الري والشِّبع لها مراتب، وإن كان الإنسان لا يستطيع التعبير والتلفظ بمراتب ذلك.
القارئ:
(وضـده تـزاحم المفاسد يُرتكب الأدنى من المفاسد)
الشيخ:
وضد القاعدة السابقة تزاحم المفاسد بحيث لا يتمكن المرء من ترك المفسدتين معاً، وإنما يتمكن من ترك إحداهما بشرط ارتكاب الأخرى، فحينئذٍ يرتكب المفسدة الأقل من أجل درء المفسدة الأعلى.
وهذه القاعدة لها أدلة في الشريعة، [و] من أدلتها قوله جل وعلا: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}، فهنا تعارضت مفسدتان:
المفسدة الأولى: تلف النفس.
والمفسدة الثانية: الأكل من الميتة.
فتجنبت المفسدة الأشد، ولو كان في ذلك ارتكاب المفسدة الأقل بأكل الميتة.
وكما سبق أن المفاسد:
- منها ما هو محرم.
- ومنها ما هو مكروه.
- ومنها ما هو كبائر.
- ومنها ما هو صغائر.
فنجتنب الصغيرة ولو فعلنا المكروه، ونجتنب الكبيرة، ولو كان في ذلك فعل الصغيرة، إذا لم يمكن ترك الجميع.
وكذلك من المفاسد ما يتعلق بالغير.
ومنها ما هو قاصر على النفس، فالمفسدة القاصرة على النفس نرتكبها إذا لم نتمكن من درء المفسدة المتعلقة بالغير إلا بارتكاب المفسدة الأولى.
ومثال ذلك: إذا كان الإنسان مضطرّاً للأكل ولم يجد إلا ميتة، أو طعاماً لمن كان في مثل حالته، فحينئذ إن أكل من الطعام الآخر هو حلال، [لكن] فيه مفسدة متعلقة بالغير، والميتة ليس فيها مفسدة متعلقة بالغير، فنقدم المفسدة القاصرة على النفس، على المفسدة المتعلقة بالغير.
ومثال ذلك أيضاً: لو قيل للإنسان: اقْتُل غيرك وإلا قتلناك، فحينئذ هنا مفسدتان؛ قتل النفس وقتل الغير، والمفسدة المقدمة هنا المفسدة المتعلقة بالنفس، فنرتكب تلك المفسدة ونتحمل القتل من أجل أن ندرء المفسدة الأعظم المتعلقة بقتل الغير.
وهنا قاعدة متعلقة بهذه القاعدة يعبر عنها الأصوليون كثيراً وهي قاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)
قالوا: لأن اعتناء الشـارع بالمنهيات أعظم من اعتنائه بالمأمورات.
واستدلوا عليه بقـول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) ففي النهى قال: اجتنبوه واتركوه كلية، وفي الأمر علقه بالاستطاعة.
ويمثلون له بأمثلة عديدة:
منها: ما ورد في الحديث: ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) كما في السنن، قالوا:هنا مفسدة متعلقة بالتأثير على الصيام، وهنا مصلحة متعلقة بالاستنشاق، فدرئت المفسدة هنا؛ لأن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.
ومن أمثلته أيضاً:لو تولد حيوان من حيوان مأكول وحيوان غير مأكول،مثل:البغل يتولد من الحمار ويتولد من الخيل، فحينئذ قالوا: هنا درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فنحكم بتحريمه.
ومثله أيضا:لو اشتبهت أخته بأجنبية، فهنا اجتمع سببان: سبب تحريم، وسبب إباحة، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وشيخ الإسلام يرى رأياً آخر في المسألة ويقول: إن اعتناء الشارع بالمأمورات أكثر من اعتنائه بالمنهيات، وقد استدل على ذلك بأوجه عديدة، ولعل قول الجمهور في هذه المسألة أقوى من قول شيخ الإسلام، رحمة الله على الجميع.
وليُعلم أن محل هذه القاعدة إذا تساوت المفاسد والمصالح.
أما إذا كانت المصلحة أعظم من المفسدة؛ فإننا نقدم المصلحة، ولو كان في ذلك فعل للمفسدة:
ومن أمثلة ذلك: المريض الذي لا يستطيع الوضوء، أو فاقد الماء والتراب، هنا مفسدة في كونه سيصلي بدون طهارة، وهنا مصلحة وهي الصلاة. فيقدم مصلحة الصلاة [لأنها] أعظم من تلك المفسدة، فيصلي ولو كان على غير طهارة.
ومثاله أيضاً: السمع والطاعة لولاة الجور والظلم، فإن السمع والطاعة لهم فيه مفسدة إعانتهم على ظلمهم، وفيه مصلحة انتظام أحوال الجماعة واستقرار الأمة، وهذه المصلحة أعظم من تلك المفسدة، فتقدم هذه المصلحة، فيسمع ويطاع الظَّلَمَة من الولاة ولو كان في ذلك نوع إعانة لهم؛ لأن هذه المفسدة القليلة مغتفرةٌ في مقابل تلك المصلحة العظيمة.
هذا شيء مما يتعلق بهذه القاعدة.