بَابُ القَسْمِ
917- عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا قَالَتْ: كَانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ، ويَقُولُ: ((اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ)). رواهُالأربعةُ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ والحاكِمُ، ولكنْ رَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ إرسالَه.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرجَةُ الحَديثِ:
الحديثُ مُرْسَلٌ.
أخْرَجَه أبو دَاوُدَ، والنَّسائِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ، وابنُ مَاجَهْ، وابنُ حِبَّانَ، والحاكِمُ، والبَيْهَقِيُّ، من طُرُقٍ، عن حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، عن أَيُّوبَ، عن أبي قِلابَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ يَزِيدَ، عَن عَائِشَةَ به.
وهذا إسنادٌ ظَاهِرُه الصحَّةُ، وعليهِ جَرَى الحاكِمُ فَقالَ: صَحِيحٌ على شَرْطِ مُسلمٍ. ووافَقَه الذَّهَبِيُّ، وابنُ كَثِيرٍ، لكنَّ المُحقِّقِينَ من الأئمةِ أَعَلُّوهُ، فقالَ النَّسائِيُّ: أَرْسَلَه حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ.
وقالَ التِّرْمِذِيُّ: رواهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عن أَيُّوبَ, عن أَبِي قِلابَةَ مُرْسَلاً.
وقالَ ابْنُ أبي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أبا زُرْعَةَ يقولُ: لا أَعْلَمُ أحداً تابَعَ حَمَّاداً على هذا، وأَيَّدَه ابنُ أبي حاتِمٍ فقالَ: الحَدِيثُ مُرْسَلٌ.
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- يَقْسِمُ بينَ نِسائِهِ: قَسَمَ يَقْسِمُ، من بابِ ضَرَبَ يَضْرِبُ، قَسْماً، بفتحٍ، فسكونٍ مصدرُ قَسَمْتُ الشيءَ فَانْقَسَمَ، فيُعْطِي كلَّ واحدةٍ نَصِيبَها.
- فيَعْدِلُ: عَدَلَ يَعْدِلُ عَدْلاً، ضِدُّ جَارَ، فالعَدَلُ ضِدُّ الجَوْرِ.
- فلا تَلُمْنِي: لامَ يَلُومُ لَوْماً ومَلامَةً: عَذَلَ، فاللَّوْمُ العَذَلُ، قالَ في (الكُلِّيَّاتِ): اللومُ ممَّا يُحَرِّضُ، كما أنَّ العَذَلَ مِمَّا يُغْرِي.
918- وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُخْرَى، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ)). رَواهُ أحمدُ والأربعةُ، وسَنَدُه صحيحٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرجَةُ الحَديثِ:
الحديثُ صحيحٌ:
قالَ المُصَنِّفُ: رَواهُ أحمدُ والأربعةُ، وإسنادُه صَحِيحٌ.
وأخْرَجَهُ أحمدُ، وأبو دَاوُدَ، والنَّسائِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ، وابنُ مَاجَهْ، وابنُ حِبَّانَ، والحاكِمُ، والبَيْهَقِيُّ، من طُرُقٍ، عن هَمَّامِ بنِ يَحْيَى, عن قَتَادَةَ، عن النَّضْرِ بنِ أَنَسٍ، عن بَشِيرِ بنِ نَهِيْكٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ بهِ.
قالَ الحَاكِمُ: صَحِيحٌ على شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، ووَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وابنُ دَقِيقِ العِيدِ وابنُ حَجَرٍ، قالَ عَبْدُ الحَقِّ: عِلَّتُه أَنَّ هَمَّاماً تَفَرَّدَ بهِ، ولَكِنَّها عِلَّةٌ غَيْرُ قَادِحَةٍ؛ ولذلك تَتَابَعَ العلماءُ على تصحيحِه.
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- شِقُّهُ: بكسرِ الشِّينِ المُعْجَمَةِ، وتشديدِ القافِ، أي: جَانِبُهُ ونِصْفُه.
- مَائِلٌ: مالَ يَمِيلُ مَيْلاً، والمَيْلُ: ضِدُّ الاعتدالِ والاستقامةِ.
* مَا يُؤْخَذُ من الحَديثَيْنِ:
1- تَقَدَّمَ لنا أنَّ القَسْمَ لَيْسَ وَاجِباً على النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بَيْنَ نِسائِه؛ لقولِهِ تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51].
ومعَ هذا فقَدْ كَانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ في النَّفَقَةِ والمَبيتِ والطوافِ عليهنَّ. ثم يَقوُل: ((اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ)). يُشِيرُ إلى المَوَدَّةِ ثُمَّ مَا يَتْبَعُها.
2- أَنَّ القَسْمَ وَاجِبٌ على الرَّجُلِ بَيْنَ زَوْجَتَيْهِ أو زَوْجَاتِه، ويَحْرُمُ عليهِ المَيْلُ إلى إِحْدَاهُنَّ عن الأُخْرَى، فيما يَقدِرُ عليهِ مِن النَّفَقَةِ، والمَبيتِ، وحُسْنِ المُقابَلَةِ، ونحوِ ذلك.
3- أنَّه لا يَجِبُ علَى الرجُلِ القَسْمُ فِيمَا لا يَقْدِرُ عليهِ، وهو مَا يَتَعَلَّقُ بالقَلْبِ من المَحَبَّةِ، والمَيْلِ القَلْبِيِّ، ولا ما يَتَرَتَّبُ عليهِ مِن رَغْبَةٍ في جِماعِ وَاحِدَةٍ دونَ الأُخْرَى، فهذه أُمورٌ لَيْسَتْ في طَوْقِ الإنسانِ، {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}. وقالَ تعالى: {فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129]. ففيهِ دَلِيلٌ على السَّماحةِ في بعضِ المَيْلِ، قالَ تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]. وقالَ تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63].
4- العَدْلُ مَطلوبٌ مِن الإنسانِ في كُلِّ ما هو تَحْتَ تَصَرُّفِهِ من الزوجاتِ، والأولادِ، والأقاربِ، والجيرانِ، وغيرِ ذلك، فهو أَجْمَعُ للقُلوبِ على مَحَبَّتِه، وأصْفَى للنفوسِ على مَوَدَّتِه، وأبعدُ عن التُّهَمَةِ في التَّحَيُّزِ والمَيْلِ.
5- وفي الحديثِ رَقْمِ (918): إثباتُ عَذَابِ الآخرةِ، وهو مِمَّا عُلِمَ مِن الدِّينِ بالضَّرُورَةِ.
6- وفيهِ تعظيمُ حُقوقِ العبادِ، وأنَّه لا يُسامَحُ فيها؛ لأنَّها مَبْنِيَّةٌ علَى الشُّحِّ والتَّقَصِّي.
7- وفيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي للإنسانِ أَنْ يَسْتَحِلَّ مَن حَوْلَه مِن زوجاتٍ، وأَقارِبَ، وأصحابٍ، وجِيرانٍ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ مُقَصِّراً في حُقوقِهم، أو قَصَّرَ بشيءٍ منها، وتَلْحَقَه التَّبِعَةُ بعدَ مَماتِهِ.
8- وفي الحديثِ رَقْمِ (917) بيانُ أَنَّ القُلوبَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى، كما قالَ تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31]؛ فيَجِبُ على الإنسانِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بربِّه، ويُلِحَّ عليهِ في الدعاءِ بأنْ يَهْدِيَهُ الصراطَ المُستقِيمَ، وأنْ يُثَبِّتَه بالقولِ الثابتِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ، وأنْ يُثَبِّتَ قَلْبَهُ على دِينِهِ، وأَنْ لاَ يُزِيغَ قَلْبَه بعدَ إِذْ هَدَاهُ.
9- وفي الحديثِ رَقْمِ (918): أنَّ الجَزاءَ يَكُونُ مِن جِنْسِ العَمَلِ فإنَّ الرجُلَ لَمَّا مالَ في الدنيا مِن زَوْجَةٍ إلى أُخْرَى، جاءَ يومَ القيامةِ مَائِلاً أَحَدُ شِقَّيْهِ عن الآخَرِ، فكما تَدِينُ تُدَانُ.
10- في الحديثِ رَقْمِ (917) دَلِيلٌ على أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لا يَمْلِكُ هِدَايَةَ القُلوبِوالتوفيقَ، وإنَّما الذي يَمْلِكُها اللهُ وَحْدَه، كما قالَ تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. وإِنَّما هو عليهِ الصلاةُ والسلامُ يَهْدِي بإِذْنِ اللهِ تعالى، هِدَايَةَ إِرْشادٍ وتَعْلِيمٍ، كما قالَ تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
11- وفي الحديثِ (918): استحبابُ الاقتصارِ على زوجةٍ واحدةٍ، إذا خَافَ أَنْ لا يَعْدِلَ بينَ الزوجتَيْنِ؛ لِئَلاَّ يَقَعَ في التقصيرِ في الدِّينِ، قالَ تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3].
12- قالَ في (شَرْحِ المُنْتَهَى): وعِمادُ القَسْمِ اللَّيْلُ؛ لأنَّهُ مَأْوَى الإنسانِ إلى مَنْزِلِه، وفيهِ يَسْكُنُ إلى أَهْلِه، ويَنَامُ على فِرَاشِهِ، والنَّهارُ للمَعاشِ والاشتغالِ، قالَ تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73] والنَّهارُ يَتْبَعُ الليلَ، فيَدْخُلُ في القَسْمِ تَبَعاً؛ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَوْمَها لعائِشَةَ. مُتَّفَقٌ عليهِ، وقالَتْ عَائِشَةُ: (قُبِضَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في بَيْتِي، وفي يَوْمِي). وإنَّما قُبِضَ نَهَاراً، ويَتْبَعُ الليلةَ الماضيةَ.
· فَائِدَةٌ:
قالَ الشيخُ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحمدٍ: يَجِبُ على الزوجِ التَّسْوِيَةُ بينَ الزوجاتِ في النَّفَقةِ والكِسْوَةِ، ولا بَأْسَ أنْ يُوَلِّيَ إحداهُنَّ على الأُخْرَى أو الأُخْرَياتِ، إذا كَانَتْ أَوْثَقَ، وأَصْلَحَ لحَالِهِ.