بسمِ اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ للَّهِ الَّذي أكْمَلَ لنَا الدِّينَ، وأَتَمَّ علينا النِّعْمَةَ، وجَعَلَ أُمَّتَنَا -وللَّهِ الحمدُ- خَيْرَ أُمَّةٍ، وبَعَثَ فِينا رَسولاً منَّا يَتْلُو عَلَيْنَا آياتِهِ، ويُزَكِّينَا ويُعَلِّمُنَا الكِتَابَ والحِكْمَةَ، أَحْمَدُهُ على نِعَمِهِ الجَمَّةِ.
وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، شَهَادَةً تكونُ لِمَن اعْتَصَمَ بها خَيْرَ عِصْمَةٍ.
وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ، أرْسَلَهُ للعالَمِينَ رَحْمَةً، وفَوَّضَ إليهِ بيانَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنا، فأَوْضَحَ لَنا كُلَّ الأمورِ المُهِمَّةِ، وخَصَّهُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، فَرُبَّما جَمَعَ أَشْتَاتَ الْحِكَمِ والعُلومِ في كَلِمَةٍ، أوْ في شَطْرِ كَلِمَةٍ، صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ صلاةً تكونُ لنا نُورًا مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ، وسلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فإنَّ اللَّهَ سبحانَهُ وتعالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجَوَامِعِ الكَلِمِ، وخَصَّهُ ببَدَائِعِ الْحِكَمِ، كما في (الصَّحيحَيْنِ): عنْ أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ)).
قالَ الزُّهْرِيُّ: (جَوَامِعُ الكَلِمِ -فِيمَا بَلَغَنَا- أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لَهُ الأُمورَ الكثيرةَ التي كانَتْ تُكْتَبُ في الكُتُبِ قبلَهُ في الأمْرِ الوَاحِدِ وَالأَمْرَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ).
- وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ قالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالمُوَدِّعِ، فَقَالَ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الأُمِّيُّ -قالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- وَلا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ))وذَكَرَ الحديثَ.
- وخرَّجَ أبو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ مِنْ حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنِّي أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِيَ اخْتِصَارًا)).
- وخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَديثِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لِيَ الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا)).
- ورُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ إسحاقَ القُرَشِيِّ، عنْ أبي بُرْدَةَ، عنْ أبي موسَى قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ)).
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَعَلَّمَنَا التَّشَهُّدَ).
- وفي (صحيحِ مسلمٍ): عنْ سعيدِ بنِ أبي بُرْدَةَ بنِ أبي مُوسَى، عنْ أبِيهِ، عنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَن البِتْعِ وَالمِزْرِ، قَالَ: (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الكَلِمِ بِخَوَاتِمِهِ، فَقَالَ: ((أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ أَسْكَرَ عَنِ الصَّلاةِ)).
ورَوَى هشامُ بنُ عمَّارٍ في كتابِ (المَبْعَثِ) بإسنادِهِ عنْ أبي سلامٍ الْحَبَشِيِّ قالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: ((فُضِّلْتُ عَلَى مَنْ قَبْلِي بِسِتٍّ، وَلا فَخْرَ))، فذَكَرَ مِنها قَالَ: ((وَأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا بِاللَّيْلِ إِلَى الصَّبَاحِ، فَجَمَعَهَا لِي رَبِّي فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1].
فجوامِعُ الكَلَمِ التي خُصَّ بها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْعَانِ:
أحَدُهُمَا: ما هوَ في القرآنِ، كقولِهِ عزَّ وجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90].
قالَ الحَسَنُ: (لمْ تَتْرُكْ هَذِهِ الآيَةُ خَيْرًا إلا أَمَرَتْ بِهِ، وَلا شَرًّا إِلا نَهَتْ عَنْهُ).
والثَّاني: ما هوَ في كلامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهوَ مُنْتَشِرٌ موجودٌ في السُّنَنِ المأثورَةِ عنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقدْ جَمَعَ العُلَمَاءُ جُمُوعًا منْ كَلِمَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجامِعَةِ.
- فصنَّفَ الحافِظُ أبو بكرِ بنُ السُّنِّيِّ كِتَابًا سَمَّاهُ: (الإيجازُ وجوامِعُ الكَلِمِ مِن السُّنَنِ المأْثُورَةِ).
- وجَمَعَ القاضِي أبو عبدِ اللَّهِ القُضَاعِيُّ مِنْ جوامِعِ الكَلِمِ الوَجِيزَةِ كِتابًا سمَّاهُ: (الشِّهَابُ في الحِكَمِ والآدَابِ)، وصنَّفَ عَلَى مِنْوَالِهِ قَوْمٌ آخرونَ، فزادُوا على ما ذَكَرَهُ زيادَةً كثيرةً.
- وأشارَ الخَطَّابِيُّ في أوَّلِ كتابِهِ (غريبِ الحديثِ) إلى يَسِيرٍ من الأحاديثِ الجامِعَةِ.
- وأمْلَى الإمامُ الحافِظُ أبو عَمْرِو بنُ الصَّلاحِ مَجْلِسًا سَمَّاهُ (الأحاديثَ الكُلِّيَّةَ)، جَمَعَ فيهِ الأحادِيثَ الجوامِعَ الَّتي يُقالُ: إِنَّ مَدارَ الدِّينِ عليها، وما كانَ في معْنَاهَا مِن الكلماتِ الجامِعَةِ الوجيزةِ، فاشْتَمَلَ مجلِسُهُ هذا على سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ حديثًا.
ثمَّ إنَّ الفَقيهَ الإمامَ الزَّاهِدَ القُدوةَ أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى النَّوَوِيَّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَخَذَ هذهِ الأحاديثَ التي أَمْلاها ابنُ الصَّلاحِ وزَادَ عليها تَمَامَ اثنيْنِ وأربعينَ حَدِيثًا، وسَمَّى كتابَهُ (بالأرْبَعِينَ).
واشْتُهِرَتْ هذهِ الأربعونَ التي جَمَعَها، وَكَثُرَ حِفْظُها، ونَفَعَ اللَّهُ بهَا بِبَرَكَةِ نِيَّةِ جامِعِها وحُسْنِ قَصْدِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وقدْ تَكَرَّرَ سؤالُ جماعةٍ منْ طَلَبَةِ العِلْمِ والدِّينِ لتعليقِ شَرْحٍ لهذِهِ الأحاديثِ المُشارِ إليها، فاسْتَخَرْتُ اللَّهَ سبحَانَهُ وتعالَى في جَمْعِ كتابٍ يَتَضَمَّنُ شَرْحَ ما يُيَسِّرُهُ اللَّهُ تعالَى مِنْ مَعَانِيها، وتَقْييدَ ما يَفْتَحُ بِهِ سُبْحانَهُ منْ تَبْيِينِ قواعِدِها وَمَبَانِيهَا.
وإيَّاهُ أَسألُ العَوْنَ على ما قَصَدْتُ، والتَّوْفِيقَ لصلاحِ النِّيَّةِ والقَصْدِ فيما أَرَدْتُ، وَأُعَوِّلُ في أَمْرِي كُلِّهِ عَلَيْهِ، وأَبْرَأُ مِن الحَوْلِ والقُوَّةِ إِلا إِليهِ.
وقدْ كانَ بعضُ مَنْ شَرَحَ هذِهِ الأربعينَ قدْ تَعَقَّبَ على جامِعِهَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَرْكَهُ لحديثِ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ))، قالَ: (لأنَّهُ جامِعٌ لقواعِدِ الفرائِضِ التي هيَ نِصْفُ العِلْمِ، فكانَ يَنْبَغِي ذِكْرُهُ في هذهِ الأحاديثِ الجامِعَةِ).
كما ذَكَرَ حديثَ: ((الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ))؛ لجَمْعِهِ لأحكامِ القَضَاءِ.
فرأيتُ أنا أنْ أَضُمَّ هذا الحديثَ إلى أحاديثِ الأربعينَ التي جَمَعَهَا الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وأنْ أَضُمَّ إلى ذلكَ كُلِّهِ أحاديثَ أُخَرَ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ الجَامِعَةِ لأنواعِ العُلومِ والحِكَمِ؛ حتَّى تَكْمُلَ عِدَّةُ الأحاديثِ كُلِّها خمسينَ حديثًا.
وهذِهِ تسميَةُ الأحاديثِ المَزِيدَةِ على ما ذَكَرَهُ الشيخُ رحِمَهُ اللَّهُ في كتابِهِ:
- حديثُ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا)).
- حديثُ: ((يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)).
- حديثُ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ)).
- حديثُ:((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)).
- حديثُ: ((مَا مَلأََ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ)).
- حديثُ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا)).
- حديثُ: ((لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ)).
- حديثُ: ((لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
وسَمَّيْتُهُ:(جَامِعَ العُلُومِ والحِكَمِ في شَرْحِ خمسينَ حديثًا منْ جوامِعِ الكَلِمِ).
واعْلَمْ أنَّهُ ليسَ غَرَضِي إلا شْرْحُ الألفاظِ النَّبَوِيَّةِ التي تَضَمَّنَتْهَا هذِهِ الأحاديثُ الكُلِّيَّةُ؛ فلذلكَ لا أَتَقَيَّدُ بألفاظِ الشيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَرَاجِمِ رُوَاةِ هذِهِ الأحاديثِ مِن الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، ولا بألْفَاظِهِ في العَزْوِ إلى الكُتُبِ التي يَعْزُو إليها، وإنَّما آتِي بالمَعْنَى الذي يَدُلُّ على ذلكَ؛ لأَنِّي قدْ أَعْلَمْتُكَ أنَّهُ ليسَ لي غَرَضٌ إلا في شَرْحِ معاني كلماتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجوامِعِ، وما تَضَمَّنَتْهُ مِن الآدَابِ وَالحِكَمِ وَالمَعَارِفِ وَالأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ.
وأُشِيرُ إشارةً لطيفَةً قبلَ الكلامِ في شرحِ الحديثِ إلى إسنادِهِ ؛ لِيُعْلَمَ بذلكَ صِحَّتُهُ وقُوَّتُهُ وضَعْفُهُ.
وأَذْكُرُ بعضَ ما رُوِيَ في معناهُ من الأحاديثِ إنْ كانَ في ذلكَ البابِ شَيْءٌ غيرُ الحديثِ الذي ذَكَرَهُ الشيخُ، وإنْ لمْ يكُنْ في البابِ غَيْرُهُ، أوْ لمْ يَكُنْ يَصِحُّ فيهِ غَيْرُهُ، نَبَّهْتُ على ذلكَ كُلِّهِ.
وباللَّهِ المُسْتَعَانُ، وعليهِ التُّكْلانُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ.
***
(1) هذا الحديثُ تَفَرَّدَ بروايَتِهِ يَحْيَى بنُ سعيدٍ الأنصارِيُّ عنْ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ التَّيْمِيِّ، عنْ عَلْقَمَةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، عنْ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ.
وليسَ لَهُ طريقٌ تَصِحُّ غيرُ هذِهِ الطريقِ ، كذا قالَهُ عليُّ بنُ المَدِينِيِّ وغيرُهُ.
وقالَ الخَطَّابِيُّ: (لا أَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهلِ الحديثِ في ذَلِكَ)، معَ أنَّهُ قدْ رُوِيَ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ وغيرِهِ.
وقدْ قيلَ: إنَّهُ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ كثيرةٍ، لكنْ لا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ شيءٌ عندَ الحُفَّاظِ.
ثمَّ رَوَاهُ عن الأنصاريِّ الخَلْقُ الكثيرُ والجَمُّ الغفيرُ.
فقيلَ: رَوَاهُ عنهُ أكثرُ مِنْ مِائَتَيْ راوٍ.
وقيلَ: رَواهُ عنهُ سبعُمِائَةِ راوٍ، ومِنْ أعيانِهم: مالِكٌ، والثَّورِيُّ، والأَوْزَاعِيُّ، وابنُ المُبَارَكِ، واللَّيثُ بنُ سَعْدٍ، وحمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وشُعْبَةُ، وابنُ عُيَيْنَةَ، وغَيْرُهم.
واتَّفَقَ العُلماءُ على صِحَّتِهِ وتَلَقِّيهِ بالقَبُولِ، وبِهِ صَدَّرَ البُخَارِيُّ كِتَابَهُ (الصَّحيحَ)، وأَقَامَهُ مقامَ الخُطْبَةِ لَهُ؛ إشارةً مِنهُ إلى أنَّ كُلَّ عَمَلٍ لا يُرادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فهوَ باطلٌ، لا ثَمَرَةَ لهُ في الدُّنيا ولا في الآخِرَةِ؛ ولهذا: قالَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ: (لوْ صنَّفْتُ الأبوابَ لجَعَلْتُ حديثَ عُمَرَ في الأعمالِ بالنِّيَّةِ في كلِّ بابٍ).
وعنهُ أنَّهُ قالَ: (مَنْ أرادَ أنْ يُصَنِّفَ كتابًا فلْيَبْدَأْ بحديثِ ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))).
وهذا الحديثُ أَحَدُ الأحاديثِ التي يدُورُ الدِّينُ عليها :
فَرُوِيَ عن الشَّافِعِيِّ أنَّهُ قالَ: (هذا الحديثُ ثُلُثُ العِلْمِ، ويَدْخُلُ في سبعينَ بابًا مِن الفِقْهِ).
وعَن الإِمامِ أحمدَ قالَ:(أُصُولُ الإِسلامِ على ثلاثةِ أحاديثَ:
- حديثِ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثِ عائِشَةَ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
- وحديثِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ))
وقالَالحاكِمُ: (حَدَّثُونَا عَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ أحمدَ، عنْ أبيهِ، أنَّهُ ذَكَرَ قولَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
وقولَهُ: ((إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا)).
وقولَهُ:((مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
فقالَ: يَنْبَغِي أنْ يُبْدَأَ بهذِهِ الأحاديثِ في كُلِّ تَصْنِيفٍ؛ فإنَّها أُصُولُ الحديثِ).
وعن ْ إِسْحَاقَ بنِ رَاهُويَهْ قالَ: (أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ هيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ:
- حديثُ عُمَرَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثُ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
- وحديثُ: ((إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)).
- وحديثُ: ((مَنْ صَنَعَ فِي أَمْرِنَا شَيْئًا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ))).
ورَوَى عثمانُ بنُ سعيدٍ عنْ أبي عُبَيْدٍ قالَ: (جَمَعَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ جَمِيعَ أَمْرِ الآخِرَةِ في كَلِمَةٍ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
وجَمَعَ أمْرَ الدُّنْيَا كُلَّهُ في كَلِمَةٍ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، يدْخُلانِ في كلِّ بابٍ).
وعنْ أبي دَاودَ قالَ: (نَظَرْتُ في الحديثِ المُسْنَدِ، فإذا هوَ أَرْبَعَةُ آلافِ حديثٍ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإذا مَدَارُ الأربَعَةِ آلافِ حديثٍ على أربعةِ أحاديثَ:
- حديثِ النُّعْمَانِ بنِ بشيرٍ:((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
- وحديثِ عُمَرَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثِ أبي هُريرةَ: ((إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ، لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ)) الحديثَ.
- وحديثِ:((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
قالَ: فَكُلُّ حديثٍ مِنْ هذِهِ رُبْعُ العِلْمِ).
وعنْ أبي دَاودَ أيضًا قالَ: (كَتَبْتُ عنْ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَديثٍ، انْتَخَبْتُ مِنها ما ضَمَّنْتُهُ هذا الكِتَابَ -يَعْنِي كِتَابَ (السُّنَنِ)- جَمَعْتُ فيهِ أربعةَ آلافٍ وثَمَانَمِائَةِ حديثٍ، ويَكْفِي الإِنسانَ لدينِهِ مِنْ ذَلِكَ أربعةُ أحاديثَ:
أحدُها:قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
والثَّاني: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
والثالِثُ: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَكُونُ الْمُؤمِنُ مُؤْمِنًا حتَّى لا يَرْضَى لأَِخِيهِ إِلا مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ)).
والرَّابِعُ: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ))).
وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عنهُ، أنَّهُ قالَ: (الفِقْهُ يَدُورُ على خَمْسَةِ أحاديثَ:
((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بيِّنٌ)). وقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا ضَرَرَ، وَلا ضِرَارَ)). وقولِهِ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)). وقولِهِ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)).
وقولِهِ: ((وَمَا نَهْيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمْرتُكُمْ بِهِ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ))).
وفي روايَةٍ عنهُ قالَ: (أُصُولُ السُّنَنِ في كُلِّ فَنٍّ أربَعَةُ أحاديثَ:
- حديثُ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثُ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
- وحديثُ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
- وحديثُ:((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ))).
وللحافِظِ أبي الحَسَنِ طاهِرِ بنِ مُفَوِّزٍ المَعَافِرِيِّ الأنْدُلُسِيِّ:
عُمْدَةُ الدِّينِ عندَنَا كَلِمَاتٌ أَرْبعٌ = مِنْ كلامِ خـَيـْرِ البـَرِيَّهْ
اتَّقِ الـشُّبـُهَاتِ وازْهَدْ وَدَعْ = مَا لَيْسَ يَعْنِيكَ واعْمَلَنَّ بِنِيَّهْ
فقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) وفي روايَةٍ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
وكلاهُمَا يَقْتَضِي الحَصْرَ على الصَّحيحِ ، وليسَ غَرَضُنا هَا هُنَا تَوْجِيهَ ذَلِكَ، ولا بَسْطَ القَوْلِ فيهِ.
وقد اخْتُلِفَ في تقديرِ قولِهِ:((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)): فكثيرٌ مِن المُتَأَخِّرِينَ
يَزعُمُ أنَّ تقديرَهُ: الأَعْمَالُ صَحِيحَةٌ، أوْ مُعْتَبَرَةٌ، أوْ مَقْبُولَةٌ بالنِّيَّاتِ.
وعلى هذا، فالأعمالُ إنَّما أُرِيدَ بها الأعمالُ الشَّرْعِيَّةُ المُفْتَقِرةُ إلى النِّيَّةِ.
فأمَّا ما لا يَفْتَقِرُ إلى النِّيَّةِ كالعاداتِ مِن الأكلِ والشُّرْبِ واللُّبْسِ وغيرِها، أوْ مثلِ رَدِّ الأماناتِ والمَضْمُونَاتِ، كالودائِعِ والغُصُوبِ، فلا يَحتَاجُ شيءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَى نِيَّةٍ، فيُخَصُّ هذا كُلُّهُ مِنْ عُمُومِ الأعمالِ المذكَورَةِ هَا هُنا.
وقال آخرونَ: بل الأعمالُ هنا على عُمُومِهَا، لا يُخَصُّ منها شيءٌ.
وَحَكَاهُ بَعْضُهم عن الجمهورِ، وكأنَّهُ يُرِيدُ بِهِ جُمْهُورَ المُتَقَدِّمِينَ.
وقدْ وَقَعَ ذَلِكَ في كلامِ ابنِ جريرٍ الطَّبَرِيِّ وأبي طالِبٍ المَكِّيِّ وغيرِهِمَا مِن المُتَقَدِّمِين، وهوَ ظاهِرُ كلامِ الإِمامِ أَحْمَدَ.
قالَ في رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: (أُحِبُّ لكلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً مِنْ صلاةٍ، أوْ صيامٍ، أوْ صَدَقَةٍ، أوْ نوعٍ مِنْ أنواعِ البِرِّ، أنْ تكونَ النِّيَّةُ مُتَقَدِّمَةً في ذَلِكَ قبلَ الفِعْلِ؛ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، فهذا يَأْتِي على كُلِّ أمْرٍ مِن الأُمورِ).
وقال الفَضْلُ بنُ زِيَادٍ: سأَلْتُ أبا عبدِ اللَّهِ -يَعْنِي أحمدَ- عَن النِّيَّةِ في العَمَلِ، قلتُ: كيفَ النِّيَّةُ؟ قالَ: (يُعالِجُ نفسَهُ إذا أرادَ عَمَلاً لا يُرِيدُ بِهِ النَّاسَ).
وقالَ أحمدُ بنُ داودَ الحَرْبِيُّ: حَدَّثَ يزيدُ بنُ هارونَ بحديثِ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، وأحمدُ جالِسٌ، فقالَ أحمدُ ليَزيدَ: (يا أَبَا خَالِدٍ، هذا الْخِنَاقُ).
وعلى هذا القولِ: فقيلَ: تقديرُ الكلامِ : الأعمالُ واقِعَةٌ أوْ حاصِلَةٌ بالنِّيَّاتِ، فيكونُ إِخبارًا عن الأعمالِ الاخْتِيَارِيَّةِ أنَّها لا تَقَعُ إلا عَنْ قصْدٍ مِن العامِلِ هوَ سَبَبُ عمَلِها ووُجُودِها، ويكونُ قولُهُ بعدَ ذَلِكَ: ((وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى))، إِخبارًا عنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، وهوَ أنَّ حَظَّ العامِلِ مِنْ عَمَلِهِ نِيَّتُهُ، فإنْ كانَتْ صالِحَةً فعَمَلُهُ صالِحٌ، فَلَهُ أجرُهُ، وإنْ كانَت فاسِدَةً فعَمَلُهُ فاسِدٌ، فعليهِ وِزْرُهُ.
ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ التَّقديرُ في قولِهِ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))الأعمالُ صالِحَةٌ، أوْ فاسِدَةٌ، أوْ مَقْبُولَةٌ، أوْ مَرْدُودَةٌ، أوْ مُثَابٌ عليها، أوْ غيرُ مُثَابٍ عليها، بالنِّيَّاتِ، فيكونُ خَبَرًا عنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وهوَ أنَّ صلاحَ الأعمالِ وفسادَها بِحَسَبِ صلاحِ النِّيَّاتِ وفسادِها، كقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ))؛ أيْ: إنَّ صَلاحَها وفسَادَها وقَبُولَها وعَدَمَهُ بحَسَبِ الخاتِمَةِ.
وقولُهُ بعدَ ذَلِكَ: ((وَإِنَّما لِكل امْرِئٍ مَا نَوَى)) إِخْبارٌ أنَّهُ لا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ إلا ما نَوَاهُ بِهِ، فإنْ نَوَى خيرًا حَصَلَ لهُ خَيْرٌ، وإنْ نَوَى شرًّا حَصَلَ لهُ شَرٌّ.
وليسَ هذا تَكْرِيرًا مَحْضًا للجُمْلَةِ الأولى؛ فإنَّ الجُملةَ الأولى دلَّتْ على أنَّ صلاحَ العَمَلِ وفسادَهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ المُقْتَضِيَةِ لإِيجادِهِ، والجملةَ الثَّانِيَةَ دلَّتْ على أنَّ ثوابَ العامِلِ على عملِهِ بحسَبِ نِيَّتِهِ الصَّالِحَةِ، وأنَّ عِقَابَهُ عليهِ بحَسَبِ نِيَّتِهِ الفاسِدَةِ، وقدْ تَكُونُ نِيَّتُهُ مُبَاحَةً فيَكونُ العَمَلُ مُبَاحًا، فلا يَحْصُلُ لهُ بِهِ ثوابٌ ولا عِقَابٌ، فالعَمَلُ في نفسِهِ صلاحُهُ وفسادُهُ وإباحَتُهُ بحسَبِ النِّيَّةِ الحامِلَةِ عليهِ، المُقْتَضِيَةِ لوجودِهِ، وثوابُ العامِلِ وعقابُهُ وسلامتُهُ بحسَبِ نيَّتِهِ التي بها صارَ العَمَلُ صالِحًا، أوْ فاسِدًا، أوْ مُبَاحًا.
واعْلَمْ أنَّالنِّيَّةَ في اللُّغَةِ: نَوْعٌ مِن القَصْدِ والإرادَةِ ، وإنْ كانَ قدْ فُرِّقَ بينَ هذِهِ الألفاظِ بما ليسَ هذا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ.
والنِّيَّةُ في كلامِ العُلماءِ تَقَعُ بمَعْنَيَيْنِ:
أحدُهُمَا: بمعنى تمييزِ العَباداتِ بعضِها عنْ بَعضٍ،كتمييزِ صلاةِ الظُّهْرِ مِنْ صلاةِ العَصْرِ مَثَلاً، وتمييزِ صيامِ رمَضَانَ مِنْ صيامِ غيرِهِ، أوْ تمييزِ العِبَاداتِ مِن العَادَاتِ، كتمييزِ الغُسْلِ مِن الجَنَابَةِ مِنْ غُسْلِ التَّبَرُّدِ والتَّنَظُّفِ، ونحوِ ذَلِكَ.
وهذِهِ النِّيَّةُ هيَ التي تُوجَدُ كثيرًا في كلامِ الفُقَهَاءِ في كُتُبِهِمْ.
والمعنَى الثَّاني: بمعنَى تمييزِ المقصودِ بالعَمَلِ، وهلْ هوَ اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، أمْ غيرُهُ، أم اللَّهُ وغيرُهُ.
وهذِهِ النِّيَّةُ هيَ الَّتي يَتَكَلَّمُ فيها العارِفُونَ في كُتُبِهِم في كلامِهِم على الإِخلاصِ وتوابِعِهِ، وهيَ الَّتي تُوجَدُ كثيرًا في كلامِ السَّلَفِ المُتَقدِّمِينَ.
وقدْ صَنَّفَ أبو بَكْرِ بنُ أبِي الدُّنيا مُصَنَّفًا سَمَّاهُ: كتابَ (الإِخلاصِ والنِّيَّةِ)، وإنَّما أرادَ هذِهِ النِّيَّةَ، وهيَ النِّيَّةُ التي يَتَكَرَّرُ ذِكْرُها في كلامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
- تارَةً: بلَفْظِ النِّيَّةِ.
- وتارَةً: بلفْظِ الإِرادَةِ.
- وتارَةً: بلفْظٍ مُقَارِبٍ لذَلِكَ.
وقدْ جاءَ ذِكْرُها كثيرًا في كتابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ بغَيْرِ لفظِ النِّيَّةِ أيضًا مِن الأَلفاظِ المُقارِبَةِ لَهَا.
وإنَّما فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بينَ النِّيَّةِ وبينَ الإِرادَةِ والقَصْدِ ونحوِهما؛لظَنِّهِم اخْتِصَاصَ النِّيَّةِ بالمعنَى الأوَّلِ الذي يَذْكُرُهُ الفقهاءُ.
فمِنهمْ مَنْ قالَ: النِّيَّةُ تَخْتَصُّ بفعلِ النَّاوِي، والإِرادةُ لا تَخْتَصُّ بذَلِكَ، كما يُرِيدُ الإِنسانُ مِن اللَّهِ أنْ يَغْفِرَ لَهُ ولا يَنْوِي ذَلِكَ.
وقدْ ذَكَرْنَا أنَّ النِّيَّةَ في كلامِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسَلَفِ الأُمَّةِ إنَّما يُرادُ بها هذا المعنَى الثَّاني غالِبًا، فهيَ حينَئِذٍ بمعنَى الإِرادَةِ.
ولذَلِكَ يُعَبَّرُ عنها بلفظِ (الإِرادَةِ) في القرآنِ كثيرًا:
- كما في قولِهِ تعالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عِمْرَانَ: 152].
- وقولِهِ: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67].
- وقولِهِ :{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشُّورَى: 20].
- وقولِهِ:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإِسراء: 18-19].
- وقولِهِ تعالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هُود: 15-16].
- وقولِهِ:{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].
- وقولِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].
- وقولِهِ: {ذَلِكَ خَيرٌ لِلَّذينَ يُريدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
- وقولِهِ: {وَمَا آتَيتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}[الرُّوم: 38-39].
وقدْ يُعَبَّرُ عنها فِي القُرآنِ بلفْظِ (الابْتِغَاءِ):
- كما فِي قولِهِ تعالَى: {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}[اللَّيْل: 20].
- وقولِهِ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}[البقرة: 265].
- وقولِهِ: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272 ].
- وقولِهِ:{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 114].
فنَفَى الخَيْرَ عَنْ كثيرٍ مِمَّا يَتَنَاجَى بِهِ الناسُ إلا فِي الأمرِ بالمعروفِ، وخَصَّ منْ أفرادِهِ الصَّدَقَةَ والإِصلاحَ بينَ النَّاسِ؛ لعُمُومِ نَفْعِهِما، فدَلَّ ذَلِكَ على أنَّ التَّنَاجِيَ بذَلِكَ خَيْرٌ، وأمَّا الثوابُ عليهِ مِن اللَّهِ فخَصَّهُ بِمَنْ فعَلَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ.
وإنما جَعَلَ الأمرَ بالمعروفِ مِن الصَّدَقَةِ، والإِصلاحَ بينَ النَّاسِ وغَيْرَهُما خيرًا، وإنْ لمْ يُبْتَغَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ على ذَلِكَ مِن النَّفْعِ المُتَعَدِّي، فَيَحْصُلُ بِهِ لِلنَّاسِ إِحسانٌ وخيرٌ.
وأمَّا بالنِّسبَةِ إلى الأَمْرِ:
- فإنْ قَصَدَ بِهِ وجهَ اللَّهِ وابتغاءَ مَرْضَاتِهِ كانَ خيرًا لَهُ، وأُثِيبَ عليهِ.
- وإنْ لمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ لمْ يَكُنْ خيرًا لَهُ، ولا ثوابَ لهُ عليهِ.
وهذا بخلافِ مَنْ صامَ وصلَّى وذَكَرَ اللَّهَ، يَقْصِدُ بذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيا؛ فإنَّهُ لا خَيْرَ لهُ فيهِ بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّهُ لا نَفْعَ فِي ذَلِكَ لصاحِبِهِ؛ لِمَا يَتَرتَّبُ عليهِ مِن الإِثْمِ فيهِ، ولا لغيرِهِ؛ لأنَّهُ لا يَتَعَدَّى نفعُهُ إلى أحدٍ، اللَّهُمَّ إلا أَنْ يحصُلَ لأحدٍ بهِ اقْتِدَاءٌ فِي ذَلِكَ.
وأمَّا ما وَرَدَ فِي السُّنَّةِ وكلامِ السَّلفِ مِنْ تسميَةِ هذا المعنَى بالنِّيَّةِ، فكثيرٌ جدًّا، ونحنُ نَذْكُرُ بعضَهُ:
- كما خرَّجَ الإِمامُ أحمدُوالنَّسَائِيُّ مِنْ حديثِ عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قالَ: ((مَنْ غَزَا فِي سَبيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلا عِقَالاً، فَلَهُ مَا نَوَى)).
- وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ أَكْثَرَ شُهَدَاءِ أُمَّتِي لأََصْحَابُ الْفُرُشِ، وَرُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ)).
- وخَرَّجَ ابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ جَابِرٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ)).
- ومنْ حديثِ أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّمَا يُبْعَثُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ)).
- وخَرَّجَ ابنُ أبي الدُّنْيَا مِنْ حديثِ عُمَرَ، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّمَا يُبْعَثُ الْمُقْتَتِلُونَ عَلَى النِّيَّاتِ)).
- وفي (صحيحِ مُسْلِمٍ): عنْ أُمِّ سَلَمَةَ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ، فَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ)).
فَقُلْتُ: يَا رسولَ اللَّهِ، فكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كارِهًا؟
قالَ: ((يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ)).
- وفيهِ أَيضًا: عَنْ عائِشَةَ، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنَى هذا الحديثِ، وقالَ فيهِ: ((يَهْلِكُونَ مَهْلِكًا وَاحِدًا، ويَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ)).
- وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُوابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ زَيْدِ بنِ ثابتٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ)) لفْظُ ابنِ مَاجَهْ.
ولفْظُ أحمدَ: ((مَنْ كَانَ هَمُّهُ الآخِرَةَ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا)).
- وخرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنْيَا، وعندَهُ: ((مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الآخِرَةَ)).
- وفي (الصَّحيحيْنِ): عنْ سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُثِبْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ)).
- ورَوَى ابنُ أبي الدُّنيا: بإسنادٍ مُنْقَطِعٍ عنْ عُمرَ قالَ: (لا عَمَلَ لِمَنْ لا نِيَّةَ لَهُ، ولا أَجْرَ لِمَنَ لا حِسْبَةَ لهُ) يعنِي: لا أَجْرَ لِمَنْ لمْ يَحْتَسِبْ ثَوَابَ عَمَلِهِ عندَ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ.
-وبإ سنادٍ ضعيفٍ عن ابنِ مَسْعُودٍ قالَ: (لا يَنْفَعُ قَوْلٌ إلا بعَمَلٍ، ولا يَنْفَعُ قَوْلٌ وعَمَلٌ إلا بنِيَّةٍ، ولا يَنْفَعُ قَوْلٌ وعَمَلٌ ونيَّةٌ إلا بما وَافَقَ السُّنَّةَ).
- وعنْ يَحْيَى بنِ أبِي كثيرٍ قالَ: (تَعَلَّمُوا النِّيَّةَ؛ فإنَّها أَبْلَغُ مِن العَمَلِ).
- وَعنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ قالَ: (إِنِّي لأَُحِبُّ أنْ تكونَ لي نِيَّةٌ فِي كُلِّ شيءٍ، حتَّى فِي الطَّعامِ والشَّرَابِ).
- وعنهُ أنَّهُ قالَ: (انْوِ فِي كلِّ شيءٍ تُرِيدُهُ الخيرَ، حتَّى خُرُوجِكَ إلى الْكُنَاسَةِ).
- وعنْ داودَ الطَّائِيِّ قالَ: (رأيتُ الخَيْرَ كُلَّهُ إنَّما يَجْمَعُهُ حُسْنُ النِّيَّةِ، وكفاكَ بِهِ خيرًا وإنْ لَمْ تَنْصَبْ).
- قالَ داودُ: (والبِرُّ هِمَّةُ التَّقِيِّ، ولوْ تَعَلَّقَتْ جَمِيعُ جَوَارِحِهِ بحُبِّ الدُّنيا لرَدَّتْهُ يَوْمًا نِيَّتُهُ إلى أَصْلِهِ).
- وعنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قالَ: (ما عَالَجْتُ شيئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي؛ لأنَّها تَتَقَلَّبُ عَلَيَّ).
وعنْ يُوسُفَ بنِ أسْباطٍ قالَ: (تَخْلِيصُ النِّيَّةِ مِنْ فَسَادِها أشدُّ على العامِلِينَ مِنْ طُولِ الاجْتِهَادِ).
- وقيلَ لنافِعِ بنِ جُبَيْرٍ: أَلا تَشْهَدُ الجَنَازَةَ؟ قالَ: (كما أنْتَ حتَّى أَنْوِيَ)، قَالَ: فَفَكَّرَ هُنَيَّةً، ثُمَّ قالَ: (امْض)ِ.
- وعنْ مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللَّهِ قالَ: (صلاحُ القلبِ بصلاحِ العَمَلِ، وصلاحُ العَمَلِ بصلاحِ النِّيَّةِ).
- وعنْ بعضِ السَّلَفِ قالَ: (مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكْمُلَ لَهُ عَمَلُهُ فليُحْسِنْ نِيَّتَهُ؛ فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يأْجُرُ العَبْدَ إذا حَسُنَتْ نِيَّتُهُ حتَّى باللُّقْمَةِ).
- وعن ابنِ المُبَارَكِ قالَ: (رُبَّ عَمَلٍ صغيرٍ تُعَظِّمُهُ النِّيَّةُ، ورُبَّ عملٍ كبيرٍ تُصَغِّرُهُ النيَّةُ).
- وقالَ ابنُ عَجْلانَ: (لا يَصْلُحُ العمَلُ إلا بثلاثٍ: التَّقْوَى للَّهِ، والنِّيَّةِ الحسنَةِ، والإِصابَةِ).
- وقال الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ: (إنَّما يُرِيدُ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ مِنكَ نِيَّتَكَ وإِرادَتَكَ).
- وعنْ يُوسُفَ بنِ أَسْباطٍ قالَ: (إِيثَارُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ أفضلُ مِن القَتْلِ فِي سبيلِهِ).
خرَّجَ ذَلِكَ كُلَّه ُابنُ أبي الدُّنيا فِي كتابِ (الإِخلاصِ والنِّيَّةِ).
- ورَوَى فيهِ بإسنادٍ مُنْقَطِعٍ عنْ عُمَرَ رضِيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: (أفضَلُ الأعمالِ: أداءُ ما افْتَرَضَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، والوَرَعُ عمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ، وصِدْقُ النِّيَّةِ فيما عندَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ).
وبهذا يُعْلَمُ معنَى ما رُوِيَ عن الإِمامِ أحمدَ أن أُصولَ الإِسلامِ ثلاثةُ أحاديثَ: حديثِ:((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
وحديثِ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
وحديثِ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
فإنَّ الدِّينَ كلَّهُ يَرْجِعُ إلى:
- فِعْلِ المأموراتِ.
- وتَرْكِ المَحْظُوراتِ.
- والتَّوَقُّفِ عن الشُّبُهاتِ.
وهذا كُلُّهُ تَضَمَّنَهُ حديثُ النُّعْمانِ بنِ بَشِيرٍ.
وإِنَّما يَتِمُّ ذَلِكَ بأمريْنِ:
أحدُهما: أنْ يكونَ العمَلُ فِي ظاهِرِهِ على مُوَافَقَةِ السُّنَّةِ.
وهذا هوَ الذي تَضَمَّنَهُ حديثُ عائِشَةَ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
والثَّاني: أنْ يكونَ العَمَلُ فِي باطِنِهِ يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، كما تَضَمَّنَهُ حديثُ عُمَرَ:((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
وقالَ الفُضَيْلُ فِي قولِهِ تعالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[الْمُلْك: 2]،
قالَ: (أَخْلَصُهُ وأَصْوَبُهُ).وقالَ: (إنَّ العَمَلَ:- إذا كانَ خالِصًا، ولمْ يكُنْ صوَابًا ،لم يُقْبَلْ. وإذا كانَ صَوَابًا، ولمْ يكُنْ خالِصًا ، لمْ يُقْبَلْ. حتَّى يكونَ خالِصًا صوَابًا).
قالَ: (والخالِصُ إذا كانَ للَّهِ عزَّ وجلَّ، والصَّوابُ إذا كانَ على السُّنَّةِ).
وقدْ دَلَّ على هذا الَّذي قالَهُ الفُضَيْلُ: قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكَهف: 110].
وقالَ بعضُ العَارِفينَ: (إنَّما تَفَاضَلُوا بالإِراداتِ، ولم يَتَفَاضَلُوا بالصَّوْمِ والصَّلاةِ).
وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)).
لمَّا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الأَعمالَ بحسَبِ النِّيَّاتِ، وأنَّ حَظَّ العامِلِ مِنْ عَمَلِهِ نيَّتُهُ مِنْ خيرٍ أوْ شرٍّ، وهاتانِ كَلِمَتَانِ جامِعَتَانِ، قاعِدَتَانِ كُلِّيَّتَانِ لا يَخْرُجُ عنهُما شيءٌ، ذَكَرَ بعدَ ذَلِكَ مِثالاً مِنْ أمْثَالِ الأعمالِ الَّتي صُورَتُها واحِدَةٌ، ويَخْتَلِفُ صلاحُها وفسادُها باختلافِ النِّيَّاتِ، وكأنَّهُ يقولُ: سائِرُ الأعمالِ على حَذْوِ هذا المثالِ.
وأصْلُ الهِجْرَةِ: هِجرانُ بَلَدِ الشِّرْكِ، والانْتِقَالُ مِنهُ إلى دارِ الإِسلامِ،كما كانَ المُهَاجِرُونَ قبلَ فَتْحِ مَكَّةَ يُهَاجِرُونَ مِنها إِلى مدينةِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدْ هَاجَرَ مَنْ هاجَرَ مِنهم قبلَ ذَلِكَ إلى أرضِ الحَبَشَةِ إلى النَّجَاشِيِّ.
فأخْبَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ هذِهِ الهِجْرَةَ تَخْتَلِفُ باخْتِلافِ النِّيَّاتِ والمَقَاصِدِ بها ، فمَنْ هاجَرَ إلى دارِ الإِسلامِ حُبًّا للَّهِ ورسولِهِ، وَرَغْبَةً فِي تَعَلُّمِ دينِ الإِسلامِ، وإظهارِ دِينِهِ حيثُ كانَ يَعْجِزُ عنهُ فِي دارِ الشِّرْكِ، فهذا هوَ المُهَاجِرُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ حقًّا، وكفَاهُ شَرَفًا وفَخْرًا أنَّهُ حَصَلَ لَهُ ما نَوَاهُ مِنْ هِجْرَتِهِ إلى اللَّهِ ورسولِهِ.
ولهذا المَعْنَى اقْتَصَرَ فِي جَوَابِ هذا الشَّرْطِ على إِعَادَتِهِ بلفْظِهِ؛ لأنَّ حُصُولَ ما نَوَاهُ بهِجْرَتِهِ نِهَايَةُ المَطْلُوبِ فِي الدُّنيا والآخِرَةِ.
ومَنْ كانَت هِجْرَتُهُ مِنْ دارِ الشِّرْكِ إلى دارِ الإِسلامِ لطَلَبِ دُنْيا يُصِيبُها، أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُها فِي دارِ الإِسلامِ، فهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إليهِ مِنْ ذَلِكَ.
فالأوَّلُ: تاجِرٌ.
والثَّاني: خَاطِبٌ.
وليسَ واحِدٌ مِنهما بمُهَاجِرٍ.
وفي قولِهِ: ((إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ))تَحْقِيرٌ لِمَا طَلَبَهُ مِنْ أمرِ الدُّنيا، واسْتِهَانَةٌ بِهِ؛ حيثُ لَم يَذْكُرْهُ بلَفْظِهِ.
وأيضًا فالهِجْرَةُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ واحِدَةٌ، فلا تَعَدُّدَ فيها، فلذَلِكَ أعَادَ الجوابَ فيها بلَفْظِ الشَّرْطِ.
والهِجْرَةُ لأمورِ الدُّنيا لا تَنْحَصِرُ، فقدْ يُهَاجِرُ الإِنسانُ لطَلَبِ دُنيا مُباحَةٍ تَارَةً، ومُحَرَّمَةٍ أُخْرَى، وأفرادُ ما يُقْصَدُ بالهِجْرَةِ مِنْ أُمورِ الدُّنيا لا تَنْحَصِرُ؛ فلذَلِكَ قالَ: ((فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ))يعني: كائِنًا ما كانَ.
وقدْ رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُمَا فِي قولِهِ تعالَى:{إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامتَحِنُوهُنَّ} الآيَةَ [المُمْتَحِنَة: 10] قالَ: (كانَت المرأةُ إذا أَتَت النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّفَها باللَّهِ: ما خَرَجْتُ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ، وباللَّهِ: ما خَرَجْتُ رَغْبَةً بأَرْضٍ عنْ أرْضٍ، وباللَّهِ: ما خَرَجْتُ التِمَاسَ دُنْيا، وباللَّهِ: ما خَرَجْتُ إلا حُبًّا للَّهِ ورَسُولِهِ).
خَرَّجَهُ ابنُ أبي حاتِمٍ، وابنُ جَرِيرٍ، والبَزَّارُ فِي (مُسْنَدِهِ)، وخرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي بعضِ نُسَخِ كتابِهِ مُخْتَصَرًا.
وقدْ رَوَى وَكَيعٌ فِي كتابِهِ عن الأعمشِ، عنْ شَقِيقٍ -هُوَ أبو وائِلٍ- قالَ: (خَطَبَ أعرابِيٌّ مِن الحَيِّ امْرَأةً يُقَالُ لها: أُمُّ قَيْسٍ، فأَبَتْ أنْ تَزَوَّجَهُ حتَّى يُهَاجِرَ، فهَاجَرَ، فتَزَوَّجَتْهُ، فكُنَّا نُسمِّيهِ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ ).
قالَ: فقالَ عبدُ اللَّهِ، يَعْنِي ابنَ مسعودٍ: (مَنْ هاجَرَ يَبْتَغِي شيئًا فهوَ لَهُ).
وهذا السِّيَاقُ يَقْتَضِي أنَّ هذا لمْ يكُنْ فِي عهدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنَّما كانَ فِي عهدِ ابنِ مسعودٍ.
ولكِنْ رُوِيَ مِنْ طريقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَن الأعْمَشِ، عنْ أبي وَائِلٍ، عن ابنِ مسعودٍ قالَ: (كانَ فينا رجلٌ خَطَبَ امْرَأةً يُقالُ لها: أمُّ قَيْسٍ، فأَبَتَ أنْ تَزَوَّجَهُ حتَّى يُهَاجِرَ، فهَاجَرَ فَتَزَوَّجَهَا، فكُنَّا نُسَمِّيهِ مُهاجِرَ أُمِّ قيسٍ).
قالَ ابنُ مسعودٍ: (مَنْ هاجَرَ لشَيْءٍ فهوَ لَهُ).
وقد اشْتُهِرَ أنَّ قِصَّةَ مُهاجِرِ أُمِّ قيْسٍ هيَ كانَت سببَ قولِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا)).
وذَكَرَ ذَلِكَ كثيرٌ مِن المُتَأَخِّرِينَ فِي كُتُبِهِم، ولمْ نَرَ لذَلِكَ أصْلاً بإسنادٍ يَصِحُّ، واللَّهُ أعلمُ.
وسَائِرُ الأعمالِ كالهِجْرَةِ فِي هذا المعنَى ، فصَلاحُها وفسادُها بحسَبِ النِّيَّةِ الباعِثَةِ عليها، كالجِهَادِ والحَجِّ وغيرِهِما.
وقدْ سُئِلَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اخْتِلافِ نِيَّاتِ النَّاسِ فِي الجِهَادِ وما يُقصَدُ بهِ مِن الرِّياءِ وإظهارِ الشَّجاعَةِ والعصبِيَّةِ وغيرِ ذَلِكَ: أيُّ ذَلِكَ فِي سبيلِ اللَّهِ؟ فقالَ: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
فخَرَجَ بهذا كُلُّ ما سَأَلُوا عنهُ مِن المَقَاصِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
ففِي (الصَّحيحَيْنِ): عنْ أبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ للمَغْنَمِ، والرَّجُلُ يُقاتِلُ للذِّكْرِ، والرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فمَنْ فِي سبيلِ اللَّهِ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
وفي روايَةٍ لمسلِمٍ: سُئِلَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقَاتِلُ رِيَاءً، فأَيُّ ذَلِكَ فِي سبيلِ اللَّهِ؟ فذَكَرَ الحديثَ.
وفي روايَةٍ لهُ أيضًا: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ غَضَبًا، ويُقاتِلُ حَمِيَّةً.
وخَرَّجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حديثِ أبِيأُمَامَةَ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ والذِّكْرَ، ما لَهُ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا شَيْءَ لَهُ)) ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ)).
وخَرَّجَ أبو داودَ منْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَجُلاً قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، رَجُلٌ يُرِيدُ الجِهادَ وهوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا؟
فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا أَجْرَ لَهُ)).
فأعادَ عليهِ ثلاثًا، والنَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((لا أَجْرَ لَهُ)).
وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ وأبو داودَ مِنْ حديثِ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الغَزْوُ غَزْوَانِ: فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَأَطَاعَ الإِمَامَ، وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ، وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ، وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ، فَإِنَّ نَوْمَهُ وَنُبْهَهُ أَجْرٌ كُلُّهُ، وَأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَسُمْعَةً، وَعَصَى الإِمَامَ، وَأَفْسَدَ فِي الأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالْكَفَافِ)).
وخرَّجَ أبو داودَ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عن الجِهَادِ والغَزْوِ، فقالَ: ((إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا بَعَثَكَ اللَّهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا بَعَثَكَ اللَّهُ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا، عَلَى أَيِّ حَالٍ قَاتَلْتَ أَوْ قُتِلْتَ بَعَثَكَ اللَّهُ عَلَى تِيكَ الْحَالِ)). وخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَها.
قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ.
قالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَِنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ.
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وَعلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهَ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.
قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ.
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا.
قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ.
قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ.
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ)).
وفي الحديثِ: إنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا بَلَغَهُ هذا الحديثُ بَكَى حتَّى غُشِيَ عليهِ.
فلمَّا أفَاقَ قالَ: (صَدَقَ اللَّهُ ورسولُهُ، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ}[هُود: 15-16].
وقدْ وَرَدَ الوعيدُ على تَعَلُّمِ العِلْمِ لغيرِ وَجْهِ اللَّهِ ، كما خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ وأبو داودَ وابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لا يَتَعَلَّمُهُ إِلا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) يعني: رِيحَهَا.
وخرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حديثِ كَعْبِ بنِ مالِكٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ)).
وخرَّجَهُ ابنُ مَاجَهْ بمعناهُ مِنْ حَديثِ ابنِ عُمَرَ وحُذَيْفَةَ وجابِرٍ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولفظُ حديثِ جابِرٍ: ((لا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارَ النَّارَ)).
وقالَ ابنُ مسعودٍ: (لا تَعَلَّمُوا العِلمَ لثلاثٍ: لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهاءَ، أوْ لِتُجَادِلُوا بهِ الفُقَهَاءَ، أوْ لِتَصْرِفُوا بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إليْكُم، وابْتَغُوا بقَوْلِكُم وفِعْلِكم ما عندَ اللَّهِ؛ فإنَّهُ يَبْقَى ويَذْهَبُ ما سِوَاهُ).
وقدْ وَرَدَ الوعيدُ على العَمَلِ لغيرِ اللَّهِ عُمُومًا:
كما خرَّجَ الإمامُ أحمدُ منْ حديثِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيبٌ)).
واعْلَمْ أنَّ العَمَلَ لغيرِ اللَّهِ أقْسَامٌ:
فتَارَةً: يكونُ رِياءً مَحْضًا، بحيثُ لا يُرادُ بِهِ سِوَى مُرَاءَاةِ المَخْلُوقِينَ لغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، كحالِ المُنَافِقِينَ فِي صلاتِهِم.
كما قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ:
{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً}[النساء: 142].
وقالَ تَعَالَى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} الآيَةَ [المَاعُون: 4-6].
وكذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ الكُفَّارَ بالرِّياءِ فِي قولِهِ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنفال: 47].
وهذا الرِّياءُ المَحْضُ لا يَكَادُ يَصْدُرُ مِنْ مُؤمنٍ فِي فَرْضِ الصَّلاةِ والصِّيامِ،
وقدْ يَصْدُرُ فِي الصَّدَقَةِ الواجِبَةِ أو الحَجِّ، وغيرِهِمَا من الأعمالِ الظَّاهِرَةِ ، أو الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُها؛ فإنَّ الإخلاصَ فيها عَزِيزٌ، وهذا العَمَلُ لا يَشُكُّ مسلمٌ أنَّهُ حابِطٌ، وأنَّ صاحِبَهُ يَسْتَحِقُّ المَقْتَ مِن اللَّهِ والعُقُوبَةَ.
وتارَةً: يكونُ العَمَلُ للَّهِ، ويُشارِكُهُ الرِّياءُ: فإنْ شارَكَهُ مِنْ أَصْلِهِ فالنُّصوصُ الصَّحيحةُ تَدُلُّ على بُطْلانِهِ وحُبُوطِهِ أيْضًا.
وفي (صحيحِ مُسلمٍ): عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)).
وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، ولفْظُهُ: ((فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ)).
وخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ عنْ شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ صَلَّى يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ لِمَنْ أَشْرَكَ بِي شَيْئًا، فَإِنَّ جُدَّةَ عَمَلِهِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ لِشَرِيكِهِ الَّذِي أَشْرَكَ بِهِ، أَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ)).
وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ أبي سعيدِ بنِ أبي فَضَالَةَ -وكانَ مِن الصَّحابَةِ- قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدَ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ)).
وخرَّجَ البَزَّارُ فِي (مُسْنَدِهِ) منْ حديثِ الضَّحَّاكِ بنِ قَيسِ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي شَرِيكًا فَهُوَ لِشَرِيكِي يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنَ الأَعْمَالِ إِلا مَا أُخْلِصَ لَهُ، وَلا تَقُولُوا: هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ؛ فَإِنَّهَا لِلرَّحِمِ، وَلَيْسَ لِلَّهِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلا تَقُولُوا: هَذا لِلَّهِ وَلِوُجُوهِكُمْ؛ فَإِنَّهَا لِوُجُوهِكُمْ، وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا شَيْءٌ)).
وخَرَّجَ النَّسَائِيُّ بإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ، أنَّ رَجُلاً جاءَ إلى رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً غزا يَلْتَمِسُ الأجْرَ والذِّكْرَ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا شَيْءَ لَهُ)). فأعادَها ثلاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا شَيْءَ لَهُ)). ثمَّ قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ)).
وخرَّجَ الحاكِمُ مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: قالَ رَجُلٌ: يَا رسولَ اللَّهِ، إنِّي أَقِفُ المَوْقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وأُرِيدُ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي.
فلَمْ يَرُدَّ عليهِ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئًا حتَّى نَزَلَتْ:
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف: 110 ].
ومِمَّن رُوِيَ عنهُ هذا المَعْنَى ، وأنَّ العَمَلَ إذا خَالَطَهُ شيءٌ مِن الرِّياءِ كانَ باطِلاً، طائِفَةٌ مِن السَّلَفِ؛ مِنهمْ عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ، وأبو الدَّرْدَاءِ، والحَسَنُ، وسعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، وغيرُهم.
وفي مَرَاسِيلِ القاسِمِ بنِ مُخَيْمِرَةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلاً فِيهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ خَرْدَلٍ مِنْ رِيَاءٍ)).
ولا نَعْرِفُ عن السَّلَفِ فِي هذا خِلافًا، وإنْ كانَ فيهِ خِلافٌ عَنْ بعضِ المُتَأَخِّرِينَ.
فإنْ خَالَطَ نِيَّةَ الجِهَادِ مَثلاً نِيَّةٌ غيرُ الرِّياءِ، مِثْلُ أخْذِ أُجْرَةٍ للخِدْمَةِ، أوْ أَخْذِ شيءٍ مِن الغَنِيمَةِ، أو التِّجَارَةُ، نَقَصَ بذَلِكَ أجْرُ جِهَادِهِم، ولمْ يَبْطُلْ بالكُلِّيَّةِ.
وفي (صحيحِ مسلمٍ): عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ الْغُزَاةَ إِذَا غَنِمُوا غَنِيمَةً تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَغْنَمُوا شَيْئًا تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ)).
وقدْ ذَكَرْنَا فيما مَضَى أحادِيثَ تَدُلُّ على أنَّ مَنْ أرَادَ بجِهَادِهِ عَرَضًا مِن الدُّنيا أنَّهُ لا أَجْرَ لهُ، وهيَ مَحْمُولَةٌ على أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لهُ غَرَضٌ فِي الجِهَادِ إلا الدُّنيا.
وقالَ الإِمامُ أحمدُ: (التَّاجِرُ والمُسْتَأْجِرُ والمُكَارِي أَجْرُهُمْ على قَدْرِ ما يَخْلُصُ مِنْ نِيَّتِهِم فِي غَزَاتِهِم، ولا يكونُ مِثلَ مَنْ جَاهَدَ بنفسِهِ ومالِهِ لا يَخْلِطُ بِهِ غيرَهُ).
وقالَ أيضًا فيمَنْ يأَخْذُ جُعْلاً على الجِهَادِ: (إذا لمْ يَخْرُجْ لأجْلِ الدَّرَاهِمِ فلا بأسَ أنْ يَأْخُذَ، كأنَّهُ خَرَجَ لدِينِهِ، فإنْ أُعْطِيَ شيئًا أَخَذَهُ).
وكذا رُوِيَ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو قالَ: (إذا أَجْمَعَ أحدُكم على الغَزْوِ، فعَوَّضَهُ اللَّهُ رِزْقًا، فلا بأسَ بذَلِكَ.وأمَّا إِنْ أَحَدُكُم إنْ أُعْطِيَ دِرْهَمًا غَزَا، وإنْ مُنِعَ دِرْهَمًا مَكَثَ، فلا خيرَ فِي ذَلِكَ).
وكذا قالَ الأَوْزَاعِيُّ: (إِذا كانَتْ نِيَّةُ الغَازِي على الغَزْوِ فلا أَرَى بَأْسًا).
وهكذا يُقالُ فيمَنْ أَخَذَ شيئًا فِي الحَجِّ لِيَحُجَّ بِهِ: إمَّا عَنْ نفسِهِ، أوْ عَنْ غيرِهِ.
وقدْ رُوِيَ عنْ مُجَاهِدٍ أنَّهُ قالَ فِي حَجِّ الجَمَّالِ وحَجِّ الأَجِيرِ وحَجِّ التَّاجِرِ: (هوَ تَمَامٌ، لا يَنقُصُ مِنْ أُجُورِهِم شيءٌ)، وهوَ مَحْمولٌ على أنَّ قَصْدَهم الأصلِيَّ كانَ هوَ الحَجَّ دُونَ التَّكسُّبِ.
وأمَّا إنْ كانَ أصْلُ العَمَلِ لِلَّهِ، ثمَّ طَرَأَتْ عليهِ نِيَّةُ الرِّياءِ:
- فإنْ كانَ خَاطِرًا ودفَعَهُ فلا يَضُرُّهُ بغيرِ خِلافٍ.
- وإن اسْتَرْسَلَ معَهُ، فَهَلْ يُحْبَطُ بهِ عَمَلُهُ أمْ لا يَضُرُّهُ ذَلِكَ ويُجَازَى على أصْلِ نِيَّتِهِ؟
فِي ذَلِكَ اخْتِلافٌ بينَ العُلَمَاءِ مِن السَّلَفِ ، قدْ حكاهُ الإِمامُ أحمدُ وابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَرَجَّحَا أنَّ عمَلَهُ لا يَبْطُلُ بذَلِكَ، وأنَّهُ يُجَازَى بنِيَّتِهِ الأُولى.
وهوَ مَرْوِيٌّ عن الحسنِ البَصْرِيِّ وغيرِهِ.
ويُسْتَدَلُّ لهذا القولِ بما خَرَّجَهُ أبو داودَ فيِ (مراسيلِهِ) عنْ عطاءٍ الخُرَاسَانِيِّ، أنَّ رَجُلاً قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ بَنِي سَلِمَةَ كُلَّهُم يُقَاتِلُ، فمِنْهم مَنْ يُقاتِلُ للدُّنْيَا، ومِنهم مَنْ يُقاتِلُ نَجْدَةً، ومِنهم مَنْ يُقاتِلُ ابتغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فَأَيُّهُم الشَّهيدُ؟ قالَ: ((كُلُّهُمْ إِذَا كَانَ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)).
وذَكَرَ ابنُ جريرٍ: أنَّ هذا الاخْتِلافَ إنَّما هوَ:
- فِي عَمَلٍ يَرْتَبِطُ آخِرُهُ بأوَّلِهِ؛ كالصَّلاةِ والصِّيامِ والحَجِّ.
- فأمَّا ما لا ارْتِبَاطَ فيهِ، كالقِرَاءَةِ والذِّكْرِ وإِنْفَاقِ المالِ ونَشْرِ العِلْمِ؛ فإنَّهُ يَنْقَطِعُ بِنِيَّةِ الرِّياءِ الطَّارِئَةِ عليهِ، ويَحْتَاجُ إلى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ.
وكذَلِكَ رُوِيَ عنْ سُليمَانَ بنِ داودَ الهاشِمِيِّ أنَّهُ قالَ: (رُبَّما أُحَدِّثُ بحديثٍ ولي نِيَّةٌ، فإذا أَتَيْتُ على بعْضِهِ تغيَّرَتْ نِيَّتِي، فإذا الحديثُ الواحِدُ يَحْتَاجُ إلى نِيَّاتٍ).
ولا يَرِدُ على هذا الجِهَادُ ، كما فِي مُرْسَلِ عطاءٍ الخُرَاسَانِيِّ؛ فإنَّ الجِهَادَ يَلْزَمُ بِحُضُورِ الصَّفِّ، ولا يَجُوزُ تَرْكُهُ حينَئِذٍ، فيَصِيرُ كَالْحَجِّ.
فأمَّا إذا عَمِلَ العَمَلَ للَّهِ خالِصًا، ثمَّ أَلْقَى اللَّهُ لهُ الثَّناءَ الحَسَنَ فِي قُلُوبِ المؤمِنينَ بذَلِكَ، ففَرِحَ بفَضْلِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ، واسْتَبْشَرَ بذَلِكَ، لمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ.
وفي هذا المعنى جاءَ حديثُ أبِي ذَرٍّ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ سُئِلَ عن الرَّجُلِ يَعْمَلُ العَمَلَ للَّهِ مِن الخيرِ ويَحْمَدُهُ النَّاسُ عليهِ، فقالَ:((تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ))، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وخرَّجَهُ ابنُ مَاجَهْ، وعندَهُ: (الرَّجُلِ يَعْمَلُ العَمَلَ للَّهِ فيُحِبُّهُ النَّاسُ عليهِ).
وبهذا المَعْنَى فسَّرَهُ الإِمامُ أحمدُ، وإسحاقُ بنُ رَاهُويَهْ، وابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وغيرُهم.
وكذَلِكَ الحديثُ الذي خرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ، أنَّ رجُلاً قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَعْمَلُ العَمَلَ فَيُسِرُّهُ، فإِذا اطُّلِعَ عليهِ أَعْجَبَهُ، فقالَ: ((لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ، وَأَجْرُ الْعَلانِيَةِ)).
ولْنَقْتَصِرْ على هذا المِقْدَارِ مِن الكلامِ على الإِخلاصِ والرِّيَاءِ؛ فإنَّ فيهِ كِفَايَةً.
وبالجُمْلَةِ، فما أَحْسَنَ قَوْلَ سَهْلِ بنِ عبدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ: (ليسَ على النَّفسِ شيءٌ أَشَقَّ مِن الإخلاصِ؛ لأنَّهُ ليسَ لَهَا فيهِ نَصِيبٌ).
وقال َ يُوسُفُ بنُ الحُسَينِ الرَّازِيُّ: (أَعَزُّ شيءٍ فِي الدُّنيا الإخلاصُ، وكمْ أَجْتَهِدُ فِي إِسْقَاطِ الرِّياءِ عَنْ قلْبِي، وكأنَّهُ يَنْبُتُ فيهِ على لَوْنٍ آخَرَ).
وقالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: (كانَ مِنْ دُعاءِ مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللَّهِ: اللَّهُمَّ إنَّي أَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تُبْتُ إليكَ مِنهُ ثُمَّ عُدْتُ فيهِ، وأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا جَعَلْتُهُ لكَ على نَفْسِي ثُمَّ لمْ أَفِ لكَ بِهِ، وأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا زَعَمْتُ أنِّي أَرَدْتُ بِهِ وَجْهَكَ فَخَالَطَ قَلْبِي مِنهُ ما قدْ عَلِمْتَ).
فَصْلٌ
وأمَّا النِّيَّةُ بالمعنَى الَّذي يَذْكُرُهُ الفُقهاءُ، وهوَ أنَّهُ تَمْييزُ العِبَادَاتِ مِن العاداتِ، وتَمْييزُ العِبَاداتِ بعضِها مِنْ بعضٍ؛ فإنَّ الإمساكَ عن الأكْلِ والشُّرْبِ يَقَعُ:
- تارَةً: حَمِيَّةً.
- وتَارَةً: لعدَمِ القُدْرَةِ على الأكلِ.
- وتارَةً: تَرْكًا للشَّهَوَاتِ للَّهِ عزَّ وجلَّ.
فيُحْتَاجُ فِي الصِّيامِ إلى نِيَّةٍ؛ لِيتَمَيَّزَ بذَلِكَ عَنْ تَرْكِ الطَّعامِ على غيرِ هذا الوَجْهِ.
وكذَلِكَ العباداتُ؛ كالصَّلاةِ والصِّيامِ:
- مِنها: فَرْضٌ.
- ومِنها: نَفْلٌ.
والفرضُ يَتَنَوَّعُ أنواعًا؛ فإنَّ الصَّلواتِ المفروضاتِ خَمْسُ صلواتٍ كُلَّ يومٍ وليلةٍ.
والصَّومَ الواجِبَ:
- تارَةً: يكونُ صيامَ رمضانَ.
- وتارةً: صيامَ كفَّارَةٍ.
- أوْ: عنْ نَذْرٍ.
ولا يَتَمَيَّزُ هذا كُلُّهُ إلا بالنِّيَّةِ.
وكذَلِكَ الصَّدَقَةُ:
- تكونُ نَفْلاً.
- وتكونُ فَرْضًا.
والفَرْضُ:
- مِنه: زَكَاةٌ.
- ومِنهُ: كفَّارَةٌ.
ولا يَتَمَيَّزُ ذَلِكَ إلا بالنِّيَّةِ، فيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى)). وفي بعضِ ذَلِكَ اخْتِلافٌ مَشْهُورٌ بينَ العُلَمَاءِ؛ فإنَّ مِنهم مَنْ لا يُوجِبُ تَعْيِينَ النِّيَّةِ للصَّلاةِ المفروضَةِ، بلْ يَكْفِي عندَهُ أن يَنْوِيَ فَرْضَ الوَقْتِ، وإنْ لمْ يَسْتَحْضِرْ تَسْمِيَتَهُ فِي الحالِ، وهوَ رِوَايَةٌ عن الإِمامِ أحمدَ.
ويُبنَى على هذا القولِ: أنَّ مَنْ فاتَتْهُ صَلاةٌ مِنْ يومٍ وليلَةٍ، ونَسِيَ عَيْنَها، أنَّ عليهِ أن يَقْضِيَ ثلاثَ صَلَوَاتٍ: الفجرَ والمغرِبَ ورُبَاعِيَّةً واحِدَةً.
وكذَلِكَ: ذَهَبَ طائِفَةٌ مِن العُلماءِ إلى أنَّ صيامَ رمضانَ لا يَحْتَاجُ إلى نِيَّةٍ تَعْيِينِيَّةٍ أيضًأُمِّ قَيْسٍَةِ الصِّيامِ مُطلقًا؛ لأنَّ وَقْتَهُ غيرُ قابِلٍ لصيامٍ آخَرَ، وهوَ أيضًا رِوايَةٌ عن الإِمامِ أحمدَ.
ورُبَّما حُكِيَ عنْ بعْضِهِم أنَّ صيامَ رَمَضَانَ لا يَحْتَاجُ إلى نِيَّةٍ بالكُلِّيَّةِ؛ لِتَعيِينِهِ بنفسِهِ، فهوَ كَرَدِّ الودائِعِ.
وحُكِيَ عن الأَوْزَاعِيِّ أنَّ الزَّكاةَ كذَلِكَ.
وتأوَّلَ بعضُهم قولَهُ على أنَّهُ أرادَ أنَّها تُجْزِئُ بنِيَّةِ الصَّدَقَةِ المُطْلَقَةِ كالحَجِّ.
وكذَلِكَ: قالَ أبو حَنِيفَةَ: (لوْ تَصَدَّقَ بالنِّصَابِ كُلِّهِ مِنْ غيرِ نِيَّةٍ أَجْزَأَهُ عنْ زَكاتِهِ).
وقدْ رُوِيَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً يُلَبِّي بالحَجِّ عنْ رَجُلٍ، فقالَ لَهُ: ((أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟)) قالَ: لا، قالَ: ((هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنِ الرَّجُلِ)).
وقدْ تُكُلِّمَ فِي صِحَّةِ هذا الحديثِ، ولكنَّهُ صحيحٌ عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِهِ.
وأَخَذَ بذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وأحمدُ فِي المشهورِ عنهُ، وغيْرُهما، فِي أَنَّ حَجَّةَ الإِسلامِ تَسْقُطُ بِنِيَّةِ الحَجِّ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ نَوَى التَّطَوُّعَ أوْ غيرَهُ.
ولا يُشْتَرَطُ للحَجِّ تَعْيِينُ النِّيَّةِ، فمَنْ حَجَّ عنْ غيرِهِ ولمْ يَحُجَّ عنْ نفسِهِ، وَقَعَ عنْ نفسِهِ، وكذا لوْ حَجَّ عَنْ نَذْرِهِ أوْ نَفْلاً، ولمْ يَكُنْ حَجَّ حَجَّةَ الإسلامِ؛ فإنَّهُ يَنْقَلِبُ عنها.
وقدْ ثَبَتَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ أمَرَ أصحابَهُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بعدَمَا دَخَلُوا معَهُ وطَافُوا وسَعَوْا أنْ يَفْسَخُوا حَجَّهم، ويَجْعَلُوها عُمْرَةً، وكانَ مِنهم القارِنُ والمُفْرِدُ، وإنَّما كانَ طَوَافُهم عندَ قُدُومِهِم طوافَ القُدومِ وليسَ بفَرْضٍ، وقدْ أَمَرَهم أنْ يَجْعَلُوهُ طَوَافَ عُمْرَةٍ وهوَ فَرْضٌ.
وقدْ أَخَذَ بذَلِكَ الإمامُ أحمدُ فِي فَسْخِ الحَجِّ، وعَمِلَ بِهِ، وهوَ مُشْكِلٌ على أَصْلِهِ؛ فإنَّهُ يُوجِبُ تَعْيِينَ الطَّوَافِ الواجِبِ للحَجِّ والعُمْرَةِ بالنِّيَّةِ.
وخالفَهُ فِي ذَلِكَ أكثرُ الفُقَهَاءِ، كمالِكٍ والشَّافِعِيِّ وأبي حَنِيفَةَ.
وقدْ يُفَرِّقُ الإمامُ أحمدُ بينَ أنْ يكونَ طَوَافُهُ فِي إحرامٍ انْقَلَبَ، كالإحرامِ الَّذي يَفْسَخُهُ ويَجْعَلُهُ عُمْرَةً، فيَنْقَلِبُ الطَّوَافُ فيهِ تَبَعًا لانْقِلابِ الإحرامِ، كما يَنْقَلِبُ الطَّوافُ فِي الإحرامِ الَّذي نَوَى بِهِ التَّطَوُّعَ إذا كانَ عليهِ حَجَّةُ الإسلامِ، تَبَعًا لانقلابِ إِحْرَامِهِ مِنْ أصْلِهِ، وَوُقُوعِهِ عنْ فَرْضِهِ.
بخلافِ ما إذا طافَ للزيارَةِ بنِيَّةِ الوَدَاعِ أو التَّطوُّعِ، فإنَّ هذا لا يُجْزِئُهُ؛ لأنَّهُ لمْ يَنوِ بهِ الفَرضَ، ولم يَنْقَلِبْ فَرْضًا تَبَعًا لانْقِلابِ إحرامِهِ، واللَّهُ أعلمُ.
ومِمَّا يَدْخُلُ فِي هذا البابِ: أنَّ رَجُلاً فِي عهدِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ قدْ وَضَعَ صَدَقَتَهُ عندَ رجُلٍ، فجاءَ ابنُ صاحِبِ الصَّدَقَةِ فأخذَها مِمَّنْ هيَ عندَهُ، فعَلِمَ بذَلِكَ أَبُوهُ، فخَاصَمَهُ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: ما إيَّاكَ أَرَدْتُ، فقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمُتَصَدِّقِ: ((لَكَ مَا نَوَيْتَ))، وقالَ للآخِذِ: ((لَكَ مَا أَخَذْتَ)) خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ.
وقدْ أخَذَ الإِمامُ أحمدُ بهذا الحديثِ ، وعَمِلَ بِهِ فِي المنصوصِ عنهُ، وإنْ كانَ أكثرُ أصحابِهِ على خلافِهِ؛ فإنَّ الرَّجُلَ إنَّما يُمْنَعُ مِنْ دَفْعِ الصَّدَقَةِ إلى وَلَدِهِ خَشْيَةَ أنْ يكونَ مُحَابَاةً، فإِذا وَصَلَتْ إلى وَلَدِهِ مِنْ حيثُ لا يَشْعُرُ، فالمُحَابَاةُ مُنْتَفِيَةٌ، وهوَ مِنْ أهلِ اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ فِي نفسِ الأمرِ؛ ولهذا لوْ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا، وكان غَنِيًّا فِي نَفْسِ الأمْرِ، أجزأَتْهُ على الصَّحيحِ؛ لأنَّهُ إنَّما دفَعَ إلى مَنْ يَعْتَقِدُ اسْتِحْقَاقَهُ، والفَقْرُ أمْرٌ خَفِيٌّ لا يَكَادُ يُطَّلَعُ على حَقِيقَتِهِ.
وأمَّا الطَّهارةُ: فالخلافُ فِي اشتراطِ النِّيَّةِ لها مشهورٌ.
وهوَ يَرْجِعُ إلى أنَّ الطَّهَارَةَ للصَّلاةِ هلْ هيَ عبادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، أمْ هيَ شَرْطٌ منْ شروطِ الصَّلاةِ، كإزالةِ النَّجاسةِ وسَتْرِ العورةِ؟
- فمَنْ لمْ يَشْتَرِطْ لَها النِّيَّةَ: جعَلَها كسائِرِ شُروطِ الصَّلاةِ.
- ومَن اشْتَرَطَ لَهَا النِّيَّةَ: جعَلَها عبادةً مُسْتَقِلَّةً.
فإذا كانَت عِبَادَةً فِي نفسِها لمْ تَصِحَّ بدونِ نِيَّةٍ ، وهذا قولُ جمهورِ العلماءِ.
ويَدُلُّ على صِحَّةِ ذَلِكَ: تَكَاثُرُ النُّصوصِ الصَّحِيحَةِ عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنَّ الوُضُوءَ يُكَفِّرُ الذُّنوبَ والخطايا، وأنَّ مَنْ تَوَضَّأَ كما أُمِرَ كانَ كَفَّارةً لذُنُوبِهِ.
وهذا يَدُلُّ على أنَّ الوُضُوءَ المَأْمُورَ بِهِ فِي القرآنِ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بنفسِهَا
؛ حيثُ رُتِّبَ عليهِ تَكْفِيرُ الذُّنوبِ.
والوُضوءُ الخالي عن النِّيَّةِ لا يُكَفِّرُ شيئًا من الذُّنُوبِ بالاتِّفاقِ، فلا يكونُ مأمورًا بهِ، ولا تَصِحُّ بهِ الصَّلاةُ؛ ولهذا لمْ يَرِدْ فِي شيءٍ منْ بَقِيَّةِ شرائِطِ الصَّلاةِ؛ كإزالَةِ النَّجاسَةِ وسَتْرِ العَوْرَةِ، ما وَرَدَ فِي الوُضوءِ مِن الثَّوابِ.
ولوْ شَرَكَ بينَ نِيَّةِ الوُضُوءِ وبينَ قَصْدِ التَّبَرُّدِ، أوْ إزالةِ النَّجاسَةِ أوالوَسَخِ ، أَجْزَأَهُ فِي المنصوصِ عن الشَّافِعِيِّ، وهوَ قولُ أكثرِ أصحابِ أحمدَ؛ لأنَّ هذا القصدَ ليسَ بمُحَرَّمٍ ولا مَكْرُوهٍ؛ ولهذا لوْ قَصَدَ معَ رَفْعِ الحدَثِ تعليمَ الوُضُوءِ لمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ.
وقدْ كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ أحيانًا بالصَّلاةِ تعليمَها للنَّاسِ، وكذَلِكَ الحَجُّ، كما قالَ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)).
ومِمَّا تدخُلُ النِّيَّةُ فيهِ مِنْ أبوابِ العِلْمِ:
مسائِلُ الأيْمانِ. فلَغْوُ اليمينِ لا كَفَّارةَ فيهِ، وهوَ ما جَرَى على اللِّسانِ مِنْ غيرِ قَصْدٍ بالقَلْبِ إليهِ، كقولِهِ: (لا واللَّهِ، وبَلَى واللَّهِ)، فِي أثناءِ الكلامِ.
قالَ تعالى:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[ البقرة: 225].
وكذَلِكَ يُرْجَعُ فِي الأَيْمَانِ إلى نِيَّةِ الحالِفِ وما قَصَدَ بيَمِينِهِ.
فإنْ حَلَفَ بطلاقٍ أوْ عَتَاقٍ، ثمَّ ادَّعَى أنَّهُ نوَى ما يُخالِفُ ظاهِرَ لفْظِهِ، فإنَّهُ يُدَيَّنُ فيما بينَهُ وبينَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
وهلْ يُقْبَلُ مِنهُ فِي ظاهِرِ الحُكْمِ؟
فيهِ قولانِ للعُلَمَاءِ مشهورانِ، وهما روايتانِ عَنْ أحمَدَ.
وقدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ رُفِعَ إليهِ رَجُلٌ قالَتْ لهُ امْرَأَتُهُ: شَبِّهْنِي، قالَ: كَأَنَّكِ ظَبْيَةٌ، كأنَّكِ حَمَامةٌ، فقالَتْ: لا أَرْضَى حتَّى تَقُولَ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ طَالِقٌ.
فقالَ ذَلِكَ، فقالَ عُمَرُ: (خُذْ بِيَدِهَا؛ فهيَ امْرَأَتُكَ).
خرَّجَهُ أبو عُبَيْدٍ. وقالَ: أرادَ النَّاقَةَ تكونُ مَعْقُولَةً، ثُمَّ تُطْلَقُ مِنْ عِقَالِهَا ويُخلَّى عنها، فهيَ خَلِيَّةٌ مِن العِقَالِ، وهيَ طالِقٌ؛ لأنَّها قدْ طَلَقَتْ مِنهُ.
فأرَادَ الرَّجُلُ ذَلِكَ، فأَسْقَطَ عنهُ عُمَرُ الطَّلاقَ لنِيَّتَهِ.
قالَ: وهذا أَصْلٌ لكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بشيءٍ يُشْبِهُ لَفْظَ الطَّلاقِ والعَتَاقِ، وهوَ يَنْوِي غيْرَهُ، أنَّ القولَ فيهِ قولُهُ فيما بينَهُ وبينَ اللَّهِ، وفي الحُكْمِ على تأويلِ مَذْهَبِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ.
ويُرْوَى عنْ سُمَيْطٍ السَّدُوسِيِّ قالَ: (خَطَبْتُ امْرَأَةً، فقالُوا: لا نُزَوِّجُكَ حتَّى تُطَلِّقَ امْرَأَتَكَ، فقُلْتُ: إنِّي قدْ طَلَّقْتُها ثلاثًا، فَزَوِّجُونِي.
ثُمَّ نَظَرُوا فإِذا امْرَأَتِي عندِي، فقالُوا: ألَيْسَ قدْ طلَّقْتَها ثلاثًا؟
فقُلْتُ: كانَ عندِي فُلانَةٌ فَطَلَّقْتُها، وفُلانةٌ فطَلَّقْتُها، فأمَّا هذهِ فلمْ أُطلِّقْها، فأَتَيْتُ شَقِيقَ بنَ ثَوْرٍ وهوَ يُرِيدُ الخروجَ إلى عثمانَ وافِدًا، فقُلْتُ: سَلْ أميرَ المؤمنينَ عَنْ هذهِ، فخَرَجَ فسأَلَهُ، فقالَ:(نِيَّتُهُ).
خَرَّجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي (كتابِ الطَّلاقِ)، وحَكَى إجماعَ العُلماءِ على مِثلِ ذَلِكَ.
وقالَ إسحاقُ بنُ مَنْصُورٍ: (قُلْتُ لأحمدَ: حديثُ السُّمَيْطِ تَعْرِفُهُ؟
قالَ: نَعَمْ، السَّدُوسِيُّ، إنَّما جَعَلَ نِيَّتَهُ بذَلِكَ، فذَكَرَ ذَلِكَ شَقِيقٌ لعُثْمَانَ، فجَعَلَها نِيَّتَهُ).
فإنْ كانَ الحالِفُ ظالِمًا، ونوَى خِلافَ ما حَلَّفَهُ عليهِ غَرِيمُهُ، لمْ تَنْفَعْهُ نِيَّتُهُ.
وفي (صحيحِ مسلمٍ): عنْ أبي هُريرةَ، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ))، وفي روايَةٍ لهُ: ((الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ)).
وهذا مَحْمُولٌ على الظَّالِمِ، فأَمَّا المَظْلُومُ فيَنْفَعُهُ ذَلِكَ.
وقدْ خرَّجَ الإِمامُ أحمدُوابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ سُوَيْدِ بنِ حَنْظَلَةَ قالَ: خَرَجْنَا نُرِيدُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَعَنَا وائِلُ بنُ حُجْرٍ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لهُ، فتَحَرَّجَ النَّاسُ أنْ يَحْلِفُوا، فحَلَفْتُ أنا إنَّهُ أخي، فخَلَّى سبيلَهُ. فأَتَيْنَا النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ أنَّ القومَ تَحَرَّجُوا أنْ يَحْلِفُوا، وحَلَفْتُ أنا إنَّهُ أَخِي، فقالَ: ((صَدَقْتَ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ)).
وكذَلِكَ تَدْخُلُ النِّيَّةُ فِي الطَّلاقِ والعَتَاقِ، فإذا أَتَى بلفظٍ مِنْ ألفاظِ الكِنَايَاتِ المُحْتَمِلَةِ للطَّلاقِ أو العَتَاقِ، فلا بُدَّ لهُ مِن النِّيَّةِ.
وهلْ يَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ دَلالةُ الحالِ مِنْ غَضَبٍ أوْ سُؤَالِ الطَّلاقِ ونحوِهِ أمْ لا؟
فيهِ خلافٌ مَشْهورٌ بينَ العُلَماءِ.
وهلْ يَقَعُ بذَلِكَ الطَّلاقُ فِي الباطِنِ كما لوْ نَوَاهُ، أمْ يُلْزَمُ بهِ فِي ظاهِرِ الحُكْمِ فقطْ؟
فيهِ خِلافٌ مشهورٌ أيضًا.
ولوْ أوْقَعَ الطَّلاقَ بكنايَةٍ ظاهِرَةٍ، كَالْبَتَّةِ ونحوِها، فهلْ يَقَعُ بهِ الثَّلاثُ أوْ واحِدَةٌ؟
فيهِ قولان مشهورانِ.
وظاهِرُ مذهبِ أحمدَ أنَّهُ يَقَعُ بهِ الثَّلاثُ معَ إطلاقِ النِّيَّةِ.
فإنْ نوَى بِهِ ما دُونَ الثَّلاثِ وقَعَ بهِ مَا نوَاهُ.
وحُكِيَ عنهُ رِوَايَةٌ: أنَّهُ يَلْزَمُهُ الثَّلاثُ أيضًا.
ولوْ رأَى امرأةً فَظَنَّها امرَأَتَهُ فطلَّقَها، ثمَّ بانَتْ أجْنَبِيَّةً، طَلُقَت امْرأَتُهُ؛ لأنَّهُ إنَّما قَصَدَ طلاقَ امْرَأَتِهِ، نَصَّ على ذَلِكَ أحمدُ.
وحُكِيَ عنهُ روايَةٌ أُخْرَى: أنَّها لا تَطْلُقُ، وهوَ قولُ الشَّافِعِيِّ.
ولوْ كانَ العَكْسُ، بأنْ رأَى امْرَأَةً ظَنَّها أجْنَبِيَّةً فَطَلَّقَها، فَبَانَت امْرَأَتُهُ، فهلْ تَطْلُقُ؟
فيهِ قولانِ هما رِوَايتانِ عنْ أحمدَ.
والمشهورُ مِنْ مذهَبِ الشَّافِعِيِّ وغيرِهِ: أنَّها تَطْلُقُ.
ولوْ كانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فنَهَى إحداهُمَا عَن الخُرُوجِ، ثُمَّ رأَى امرَأَةً قدْ خَرَجَتْ، فَظَنَّها المَنْهِيَّةَ، فقالَ لها: فُلانةُ خَرَجْتِ؟أنتِ طالِقٌ.
فقد اخْتَلَفَ العُلماءُ فيها.
فقالَ الحسَنُ: تَطْلُقُ المَنْهِيَّةُ ؛ لأنَّها هيَ الَّتي نَوَاهَا.
وقالَ إبراهيمُ: تَطْلُقَانِ.
وقالَ عَطَاءٌ: لا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنهما.
ومذهَبُ أحمدَ: أنَّهُ تَطْلُقُ المَنْهِيَّةُ رِوايَةً واحِدَةً؛ لأنَّهُ نَوَى طَلاقَها.
وهلْ تَطْلُقُ الْمُوَاجِهَةُ؟ على رِوَايَتَيْنِ عنهُ.
واخْتَلَفَ الأصحابُ على القولِ بأنَّها تَطْلُقُ : هلْ تَطْلُقُ فِي الحُكْمِ فقطْ، أمْ فِي الباطِنِ أيضًا؟ على طريقتَيْنِ لهم.
وقد اسْتُدِلَّ بقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى))، على أنَّ العُقودَ الَّتي يُقصَدُ بها فِي الباطِنِ التَّوصُّلُ إلى ما هوَ مُحَرَّمٌ غيرُ صحيحةٍ.
كَعُقُودِ البُيوعِ الَّتي يُقْصَدُ بها معنَى الرِّبا ونحوِها، كما هوَ مذْهَبُ مالِكٍ وأحمدَ وغيرِهما؛ فإنَّ هذا العَقْدَ إنَّما نُوِيَ بِهِ الرِّبَا لا البيعَ، ((وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى)).
ومسائلُ النِّيَّةِ المُتَعَلِّقةُ بالفقْهِ كثيرةٌ جدًّا، وفيما ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ.
وقدْ تَقَدَّمَ عن الشَّافِعِيِّ أنَّهُ قالَ فِي هذا الحديثِ: (إنَّهُ يَدْخُلُ فِي سبعينَ بابًا من الفِقْهِ)، واللَّهُ أعْلَمُ.
والنِّيَّةُ: هيَ قَصْدُ القَلْبِ.
ولا يَجِبُ التَّلَفُّظُ بما فِي القَلْبِ فِي شيءٍ مِن العِبادَاتِ.
وخَرَّجَ بعضُ أصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَهُ قَوْلاً باشْتِرَاطِ التَّلَفُّظِ بالنِّيَّةِ للصَّلاةِ، وغَلَّطَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنهم.
واخْتَلَفَ المُتَأَخِّرونَ مِن الفُقَهَاءِ فِي التَّلَفُّظِ بالنِّيَّةِ فِي الصَّلاةِ وغيرِها.
- فمِنهم: مَن اسْتَحَبَّهُ.
- ومِنهم: مَنْ كَرِهَهُ.
ولا يُعْلَمُ فِي هذِهِ المسائِلِ نَقْلٌ خَاصٌّ عن السَّلَفِ، ولا عن الأئِمَّةِ إلا فِي الحَجِّ وَحْدَهُ؛ فإنَّ مُجَاهِدًا قالَ: (إذا أرادَ الحَجَّ يُسَمِّي ما يُهِلُّ بِهِ).
ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ: (يُسَمِّيهِ فِي التَّلْبِيَةِ).
وهذا ليسَ مِمَّا نحنُ فيهِ؛ فإنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَذْكُرُ نُسُكَهُ فِي تَلْبِيَتِهِ فيقولُ: ((لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا)).
وإنَّما كلامُنا فِي أنَّهُ يقولُ عندَ إرادَةِ عَقْدِ الإِحرامِ: اللَّهُمَّ إنِّي أُريدُ الحجَّ أو العُمْرَةَ، كما استَحَبَّ ذَلِكَ كثيرٌ مِن الفُقَهاءِ، وكلامُ مُجَاهِدٍ ليسَ صريحًا فِي ذَلِكَ.
وقالَ أكثرُ السَّلَفِ؛ مِنهم عطاءٌ وطاوُوسٌ والقاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ والنَّخَعِيُّ: تُجْزِئُهُ النِّيَّةُ عندَ الإِهلالِ.
وصحَّ عَن ابنِ عُمَرَ أنَّهُ سَمِعَ رجُلاً عندَ إحرامِهِ يقولُ: الَّلهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الحَجَّ أو العُمْرَةَ. فقالَ لهَ: (أَتُعْلِمُ النَّاسَ؟ أَوَلَيْسَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ؟!)
ونصَّ مالِكٌ على مِثْلِ هذا ، وأنَّهُ لا يُسْتَحَبُّ لهُ أنْ يُسَمِّيَ ما أَحْرَمَ بِهِ.
حَكَاهُ صاحِبُ كتابِ (تَهْذِيبِ المُدَوَّنَةِ) مِنْ أصحابِهِ.
وقالَ أبو داودَ: قُلْتُ لأحمدَ: (أَتَقُولُ قبلَ التَّكْبِيرِ-يَعْنِي فِي الصَّلاةِ- شيئًا؟) قالَ:(لا). وهذا قَد يَدْخُلُ فيهِ أنَّهُ لا يُتَلَفَّظُ بالنِّيَّةِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.