دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دروس التفسير لبرنامج إعداد المفسّر > دروس تفسير سورة آل عمران

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 7 ذو القعدة 1436هـ/21-08-2015م, 08:38 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تفسير سورة آل عمران[من الآية (159) إلى الآية (163) ]

تفسير قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)}


تفسير قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على اللّه إنّ اللّه يحبّ المتوكّلين}
{فبما رحمة من اللّه لنت}
" ما " بإجماع النحويين ههنا صلة لا تمنع الباء من عملها فيما عملت.
المعنى: فبرحمة من اللّه لنت لهم، إلا أن " ما " قد أحدثت بدخولها توكيد المعنى، ولو قرئت فبما رحمة من اللّه جاز، المعنى: فبما هو رحمة كما أجازوا... {مثلا ما بعوضة} ولا تقرأنّ بها، فإن القراءة سنة ولا يجوز أن يقرأ قارئ بما لم يقرأ به الصحابة أو التابعون أو من كان من قرّاء الأمصار المشهورين في القراءة.
والمعنى: أن ليّنك لهم مما يوجب دخولهم في الدين لأنك تأتيهم بالحجج والبراهين مع لين وخلق عظيم.
{ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك}
الفظ: الغليظ الجانب السيئ الخلق، يقال فظظت تفظّ فظاظة، وفظظا، إلا أن فظاظة أكثر لثقل التضعيف، وما كان من الأسماء على (فعل) في المضاعف فغير مدغم نحو المدد والشرر، وما كان على (فعل) فمدغم على كل حال نحو رجل صب، وأصله صبب وكذلك فظ وأصله فظظ، ومثله من غير المضاعف. قد فرقت تفرق، فرقا، وأنت فرق، " وإذا اضطر شاعر رد فعلا إلى أصله في المضاعف قال الشاعر:
مهلا أعاذل قد جربت من خلقي... أني أجود لأقوام وقد ضننوا
والفظ: ماء الكرش، والفرث وسمي فظا لغلظ مشربه.
وقوله عزّ وجلّ: {وشاورهم في الأمر} أي: شاورهم فيما لم يكن عندك فيه وحي، فأما ما فيه أمر من الله جلّ وعزّ ووحي فاشتراك الأراء فيه ساقط.
وإنما أراد اللّه عزّ وجلّ - بذلك السنة في المشاورة، وأن يكرم أصحابه بمشاورته إياهم، ثم أمر بعد الإجماع على الرأي بالتوكل على اللّه - عزّ وجلّ - قال: {فإذا عزمت فتوكل على اللّه} أي: لا تظن أنك تنال منالا تحبه إلّا باللّه جلّ وعزّ). [معاني القرآن: 1/482-483]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: فبما رحمةٍ من اللّه، معناه: فبرحمة من الله «وما» قد جرد عنها معنى النفي ودخلت للتأكيد وليست بزائدة على الإطلاق لا معنى لها، وأطلق عليها سيبويه اسم الزيادة من حيث زال عملها، وهذه بمنزلة قوله تعالى: فبما نقضهم ميثاقهم [النساء: 155] قال الزجاج: الباء بإجماع من النحويين صلة وفيها معنى التأكيد، ومعنى الآية: التقريع لجميع من أخل يوم- أحد- بمركزه، أي كانوا يستحقون الملام منك، وأن لا تلين لهم، ولكن رحم الله جميعكم، أنت يا محمد بأن جعلك الله على خلق عظيم، وبعثك لتتمم محاسن الأخلاق، وهم بأن لينك لهم وجعلت بهذه الصفات لما علم تعالى في ذلك من صلاحهم وأنك لو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك، وتفرقوا عنك، والفظ: الجافي في منطقه ومقاطعه، وفي صفة النبي عليه السلام في الكتب المنزلة: ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، وقال الجواري لعمر بن الخطاب: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله الحديث، وفظاظة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما كانت مستعملة منه آلة لعضد الحق والشدة في الدين، والفظاظة: الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا ومنه قول الشاعر: [البسيط]
أخشى فظاظة عمّ أو جفاء أخ = وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
وغلظ القلب: عبارة عن تجهم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة ومن ذلك قول الشاعر: [البسيط]
يبكى علينا ولا نبكي على أحد = لنحن أغلظ أكبادا من الإبل
والانفضاض: افتراق الجموع ومنه فض الخاتم.
قوله تعالى: ... فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على اللّه إنّ اللّه يحبّ المتوكّلين (159) إن ينصركم اللّه فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الّذي ينصركم من بعده وعلى اللّه فليتوكّل المؤمنون (160)
أمر الله تعالى رسوله بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عليه السلام عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة وحق، فإذا صاروا في هذه الدرجة، أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة، فإذا صاروا في هذه الدرجة كانوا أهلا للاستشارة في الأمور والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: وأمرهم شورى بينهم [الشورى: 38] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، وقال عليه السلام: المستشار مؤتمن، وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالما دينا، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل، فقد قال الحسن بن أبي الحسن: ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله، وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير، والشورى بركة، وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة- وهي أعظم النوازل- شورى، وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه، وقد قال في غزوة بدر: أشيروا عليّ أيها الناس، في اليوم الذي تكلم فيه المقداد، ثم سعد بن عبادة، ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحروب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل، وأما في حلال أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع. ما فرّطنا في الكتاب من شيءٍ [الأنعام: 38] وكأن الآية نزلت مؤنسة للمؤمنين، إذ كان تغلبهم على الرأي في قصة- أحد- يقتضي أن يعاقبوا بأن لا يشاوروا في المستأنف، وقرأ ابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر» وقراءة الجمهور إنما هي باسم الجنس الذي يقع للبعض وللكل، ولا محالة أن اللفظ خاص بما ليس من تحليل وتحريم، والشورى مبينة على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه، عزم عليه وأنفذه متوكلا على الله، إذ هي غاية الاجتهاد المطلوب منه، وبهذا أمر تعالى نبيه في هذه الآية، وقرأ جابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر بن محمد وعكرمة «عزمت» - بضم التاء سمى الله تعالى إرشاده وتسديده عزما منه، وهذا في المعنى نحو قوله تعالى: لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه [النساء: 105] ونحو قوله تعالى: وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى [الأنفال: 17] فجعل تعالى هزمه المشركين بحنين وتشويه وجوههم رميا، إذ كان ذلك متصلا برمي محمد عليه السلام بالحصباء. وقد قالت أم سلمة ثم عزم الله لي، والتوكل على الله تعالى من فروض الإيمان وفصوله، ولكنه مقترن بالجد في الطاعة والتشمير والحزامة بغاية الجهد: وليس الإلقاء باليد وما أشبهه بتوكل، وإنما هو كما قال عليه السلام: قيدها وتوكل). [المحرر الوجيز: 2/403-406]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فبما رحمةٍ من اللّه لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على اللّه إنّ اللّه يحبّ المتوكّلين (159) إن ينصركم اللّه فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الّذي ينصركم من بعده وعلى اللّه فليتوكّل المؤمنون (160) وما كان لنبيٍّ أن يغلّ ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة ثمّ توفّى كلّ نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون (161) أفمن اتّبع رضوان اللّه كمن باء بسخطٍ من اللّه ومأواه جهنّم وبئس المصير (162) هم درجاتٌ عند اللّه واللّه بصيرٌ بما يعملون (163) لقد منّ اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ (164)}
يقول تعالى مخاطبًا رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، ممتنًّا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمّته، المتّبعين لأمره، التّاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: {فبما رحمةٍ من اللّه لنت لهم} أي: أيّ شيءٍ جعلك لهم ليّنًا لولا رحمة اللّه بك وبهم.
قال قتادة: {فبما رحمةٍ من اللّه لنت لهم} يقول: فبرحمةٍ من اللّه لنت لهم. و"ما" صلةٌ، والعرب تصلها بالمعرفة كقوله: {فبما نقضهم ميثاقهم} [النّساء:155، المائدة:13] وبالنّكرة كقوله: {عمّا قليلٍ} [المؤمنون:40] وهكذا هاهنا قال: {فبما رحمةٍ من اللّه لنت لهم} أي: برحمةٍ من اللّه.
وقال الحسن البصريّ: هذا خلق محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم بعثه اللّه به.
وهذه الآية الكريمة شبيهةٌ بقوله تعالى: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ} [التّوبة:128].
وقال الإمام أحمد: حدّثنا حيوة، حدّثنا بقيّة، حدّثنا محمّد بن زيادٍ، حدّثني أبو راشدٍ الحبراني قال: أخد بيدي أبو أمامة الباهليّ وقال: أخذ بيدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال: "يا أبا أمامة، إنّ من المؤمنين من يلين لي قلبه". انفرد به أحمد.
ثمّ قال تعالى: {ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك} الفظّ: الغليظ، [و] المراد به هاهنا غليظ الكلام؛ لقوله بعد ذلك: {غليظ القلب} أي: لو كنت سيّئ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضّوا عنك وتركوك، ولكنّ اللّه جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفًا لقلوبهم، كما قال عبد اللّه بن عمرٍو: إنّه رأى صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الكتب المتقدّمة: أنّه ليس بفظٍّ، ولا غليظٍ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويصفح.
وروى أبو إسماعيل محمّد بن إسماعيل التّرمذيّ، أنبأنا بشر بن عبيد الدّارميّ، حدّثنا عمّار بن عبد الرّحمن، عن المسعوديّ، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ اللّه أمرني بمداراة النّاس كما أمرني بإقامة الفرائض" حديث غريب.
ولهذا قال تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} ولذلك كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تطييبًا لقلوبهم؛ ليكونوا فيما يفعلونه أنشط لهم [كما] شاورهم يوم بدرٍ في الذّهاب إلى العير فقالوا: يا رسول اللّه، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب، فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن [شمالك] مقاتلون.
وشاورهم -أيضًا-أين يكون المنزل؟ حتّى أشار المنذر بن عمرو المعتق ليموت، بالتّقدّم إلى أمام القوم، وشاورهم في أحدٍ في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدوّ، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم.
وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذٍ، فأبى عليه ذلك السعدان: سعد بن معاذٍ وسعد بن عبادة، فترك ذلك.
وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين، فقال له الصديق: إنا لم نجيء لقتال أحدٍ، وإنّما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال.
وقال عليه السّلام في قصّة الإفك: "أشيروا عليّ معشر المسلمين في قومٍ أبنوا أهلي ورموهم، وايم الله ما علمت على أهلي من سوءٍ، وأبنوهم بمن -والله-ما علمت عليه إلّا خيرًا". واستشار عليّا وأسامة في فراق عائشة، رضي اللّه عنها.
فكان [صلّى اللّه عليه وسلّم] يشاورهم في الحروب ونحوها. وقد اختلف الفقهاء: هل كان ذلك واجبًا عليه أو من باب النّدب تطييبًا لقلوبهم؟ على قولين.
وقد قال الحاكم في مستدركه: حدّثنا أبو جعفرٍ محمّد بن محمّدٍ البغداديّ، حدّثنا يحيى بن أيّوب العلّاف بمصر، حدّثنا سعيد بن [أبي] مريم، أنبأنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وشاورهم في الأمر} قال: أبو بكرٍ وعمر، رضي اللّه عنهما. ثمّ قال: صحيحٌ على شرط الشّيخين ولم يخرّجاه.
وهكذا رواه الكلبيّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: نزلت في أبي بكرٍ وعمر، وكانا حواري رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ووزيريه وأبوي المسلمين.
وقد روى الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا عبد الحميد، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرّحمن بن غنم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لأبي بكرٍ وعمر: "لو اجتمعنا في مشورةٍ ما خالفتكما".
وروى ابن مردويه، عن عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه، قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن العزم؟ قال "مشاورة أهل الرّأي ثمّ اتّباعهم".
وقد قال ابن ماجه: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا يحيى بن أبي بكيرٍ عن شيبان عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "المستشار مؤتمنٌ".
ورواه أبو داود والتّرمذيّ، وحسّنه [و] النّسائيّ، من حديث عبد الملك بن عمير بأبسط منه.
ثمّ قال ابن ماجه: حدّثنا أبو بكرٍ ابن أبي شيبة، حدّثنا أسود بن عامرٍ، عن شريكٍ، عن الأعمش، عن أبي عمرو الشّيبانيّ، عن أبي مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "المستشار مؤتمنٌ". تفرّد به.
[وقال أيضًا] وحدّثنا أبو بكرٍ، حدّثنا يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة وعليّ بن هاشمٍ، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه. تفرّد به أيضًا.
وقوله: {فإذا عزمت فتوكّل على اللّه} أي: إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكّل على اللّه فيه {إنّ اللّه يحبّ المتوكّلين} ).
[تفسير القرآن العظيم: 2/148-150]

تفسير قوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم ثبت تعالى المؤمنين بقوله: إن ينصركم اللّه فلا غالب لكم أي فالزموا الأمور التي أمركم بها ووعدكم النصر معها، و «الخذل»: هو الترك في مواطن الاحتياج إلى التارك، وأصله من خذل الظباء، وبهذا قيل لها: خاذل إذ تركتها أمها، وهذا على النسب أي ذات خذل لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى مخذولة، وقوله تعالى: فمن ذا الّذي ينصركم تقدير جوابه: لا من- والضمير في بعده يحتمل العودة على المكتوبة، ويحتمل العودة على الخذل الذي تضمنه قوله إن يخذلكم). [المحرر الوجيز: 2/406]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {إن ينصركم اللّه فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الّذي ينصركم من بعده وعلى اللّه فليتوكّل المؤمنون} وهذا كما تقدّم من قوله: {وما النّصر إلا من عند اللّه العزيز الحكيم} [آل عمران:126] ثمّ أمرهم بالتّوكّل عليه فقال: {وعلى اللّه فليتوكّل المؤمنون} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/150]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {وما كان لنبيّ أن يغلّ ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة ثمّ توفّى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}
{وما كان لنبيّ أن يغلّ} و {أن يغل} قرئتا جميعا.
فمن قرأ {أن يغلّ}فالمعنى: وما كان لنبي أن يخون أمّته وتفسير ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع الغنائم في غزاة، فجاءه جماعة من المسلمين فقالوا: ألا تقسم بيننا غنائمنا، فقال - صلى الله عليه وسلم - ((لو أن لكم عندي مثل أحد ذهبا ما منعتكم درهما أترونني أغلكم مغنمكم)).
ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال:
((ألا لا أعرفنّ رجلا يأتي يوم القيامة ومعه شاة قد غلّها لها ثغاء، ألا لا أعرفنّ رجلا يأتي يوم القيامة ومعه بعير قد غلّه له رغاء، ألا لا أعرفنّ رجلا يأتي يوم القيامة ومعه فرس قد غلّه له حمحمة)).
ومن قرأ {أن يغلّ} فهو جائز على ضربين:
أي: ما كان لنبي أن يغلّه أصحابه، أي: يخوّنوه - وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا يحبس أحدكم خيطا ولا مخيطا)).
وأجاز أهل اللغة: أن يغل أن يخوّن، ويقال: أغللت الجلد إذا سلخته فأبقيت فيه شيئا من الشحم، وقد غل الرجل يغلّ إذا خان لأنه أخذ شيئا في خفاء، فكل ما كان من هذا الباب فهو راجع إلى هذا، من ذلك الغال وهو الوادي الذي ينبت الشجر وجمعه غلّان، ومن ذلك الغل وهو الحقد، وتقول قد أغلّت الضيعة فهي مغلّة إذا أتت بشيء وأصلها باق - قال زهير -:
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها... قرى بالعراق من قفيز ودرهم
والغلالة: الثوب الذي يلبس " تحت الثياب " والذي يلبس تحت الدرع - درع الحديد - غلالة، وتغلّلت بالغالية " وتغليت " إنما هو جعلها في
أصول الشعر.
والغل: الماء الذي يجري في أصول الشجر.
ومعنى {وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزّى}
معنى (إذا): ههنا ينوب عما مضى من الزمان وما يستقبل جميعا والأصل في (إذ) الدلالة على ما مضى، تقول أتيتك إذ قمت وآتيك إذا جئتني.
ولم يقل ههنا " إذ ضربوا في الأرض " لأنه يريد شأنهم هذا أبدا، ومثل ذلك في الكلام: فلان إذا حدث صدق، وإذا ضرب صبر.
(فإذا) لما يستقبل، إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا بما خبر منه فيما مضى.
وقوله جلّ وعزّ: {وشاورهم في الأمر}
يقال شاورت الرجل مشاورة وشوارا، وما يكون من ذلك فاسمه المشورة، وبعضهم يقول المشورة. يقال فلان حسن الصورة والمشورة أي حسن الهيئة واللباس وإنه لشئر (صثن) وحسن الشارة والشوار متاع البيت.
ومعنى شاورت فلان: أظهرت في الرأي ما عندي وما عنده، وشرت الدابة أشورها إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها.
ويقال شرت العسل وأشرت العسل إذا أخذته من مواضع النحل وعسل مشور.
قال الأعشى.
كأنّ القرنفل والزّنجبيل... باتا بفيها وأريا مشورا
والأري العسل، ويقال عسل مشار.
قال الشاعر:
وغناء يأذن الشيخ له... وحديث مثل ماذيّ مشار). [معاني القرآن: 1/483-485]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: وما كان لنبيٍّ أن يغلّ ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة ثمّ توفّى كلّ نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون (161) أفمن اتّبع رضوان اللّه كمن باء بسخطٍ من اللّه ومأواه جهنّم وبئس المصير (162) هم درجاتٌ عند اللّه واللّه بصيرٌ بما يعملون (163)
تقدم القول في صيغة: وما كان لكذا أن يكون كذا، في قوله تعالى: وما كان لنفسٍ أن تموت [آل عمران: 145] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يغل» بفتح الياء وضم الغين، وبها قرأ ابن عباس وجماعة من العلماء، وقرأ باقي السبعة «أن يغل» بضم الياء وفتح الغين، وبها قرأ ابن مسعود وجماعة من العلماء، واللفظة: بمعنى الخيانة في خفاء، قال بعض اللغويين هي مأخوذة من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والدوح، قال أبو عمرو: تقول العرب: أغل الرجل يغل إغلالا: إذا خان، ولم يؤد الأمانة، ومنه قول النمر بن تولب: [الطويل]
جزى الله عنّي جمرة ابنة نوفل = جزاء مغلّ بالأمانة كاذب
وقال شريح: ليس على المستعير غير المغل ضمان، قال أبو علي: وتقول من الغل الذي هو الضغن: غل يغل بكسر الغين، ويقولون في الغلول من الغنيمة: غل يغل بضم الغين، والحجة لمن قرأ يغل أن ما جاء من هذا النحو في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل على نحو ما كان لنا أن نشرك باللّه من شيءٍ [يوسف: 38] ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك [يوسف: 76] وما كان لنفسٍ أن تموت [آل عمران: 145] وما كان اللّه ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم [التوبة: 115] وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب [آل عمران: 179] ولا يكاد يجيء: ما كان زيد ليضرب، فيسند الفعل فيه إلى المفعول به، وفي هذا الاحتجاج نظر، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «يغل» بضم الغين، فقيل له: إن ابن مسعود قرأ «يغل» بفتح الغين، فقال ابن عباس: بلى والله ويقتل، واختلف المفسرون في السبب الذي أوجب أن ينفي الله تعالى عن النبي أن يكون غالا على هذه القراءة- التي هي بفتح الياء وضم الغين، فقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم: نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم: لعل رسول الله أخذها فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: قيل: كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجا، وقيل كانت من منافقين، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفا، قال النقاش: ويقال: إنما نزلت لأن الرماة قالوا يوم أحد: الغنيمة الغنيمة أيها الناس، إنما نخشى أن يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئا فهو له، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: خشيتم أن نغل؟ ونزلت هذه الآية، وقال الضحاك: بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع، فأنزل الله تعالى عليه عتابا، وما كان لنبيٍّ أن يغلّ أي يقسم لبعض ويترك بعضا، وروي نحو هذا القول عن ابن عباس، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاما بعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه للغنائم، وردا على الأعراب الذين صاحوا به: اقسم علينا غنائمنا يا محمد، وازدحموا حتى اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه، ونحا إليه الزجّاج، وقال ابن إسحاق: الآية إنما نزلت إعلاما بأن النبي عليه السلام لم يكتم شيئا مما أمر بتبليغه.
قال القاضي: وكأن الآية على هذا في قصة- أحد- لما نزل عليه: وشاورهم في الأمر [آل عمران: 159] إلى غير ذلك مما استحسنوه بعد إساءتهم من العفو عنهم ونحوه، وبالجملة فهو تأويل ضعيف، وكان يجب أن يكون «يغل» بضم الياء وكسر الغين، لأنه من الإغلال في الأمانة، وأما قراءة من قرأ «أن يغل» بضم الياء وفتح الغين، فمعناها عند جمهور من أهل العلم: أن ليس لأحد أن يغله: أي يخونه في الغنيمة، فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظورا مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره، والولاة هم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلهم حظهم من التوقير، وقال بعض الناس: معنى «أن يغل» أن يوجد غالا، كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا، فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى «يغل» بفتح الياء وضم الغين، وقال أبو علي الفارسي: معنى «يغل» بضم الياء وفتح الغين يقال له: غللت وينسب إلى ذلك، كما تقول أسقيته، إذا قلت: سقاك الله كما قال ذو الرمة: [الطويل]
وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه = تكلّمني أحجاره وملاعبه
وهذا التأويل موقر للنبي عليه السلام، ونحوه في الكلام: أكفرت الرجل إذا نسبته إلى الكفر، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا آكل سمنا حتى يحيا الناس من أول ما يحيون: أي يدخلون في الحيا وقوله تعالى: ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة وعيد لمن يغل من الغنيمة، أو في زكاته، فيجحدها ويمسكها، فالفضيحة يوم القيامة بأن يأتي على رؤوس الأشهاد بالشيء الذي غل في الدنيا، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: ألا يخشى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ثم ذكر ذلك عليه السلام في بقرة لها خوار وجمل له رغاء، وفرس له حمحمة، وروى نحو هذا الحديث ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، الحديث بطوله، وروى نحوه أبو حميد الساعدي وعمر بن الخطاب وعبد الله بن أنيس، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أدوا الخياط والمخيط، فقام رجل فجاء بشراك أو شراكين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراك أو شراكان من نار، وقال في مدعم، إن الشملة التي غل من المغانم يوم خيبر لتشتعل عليه نارا.
قال القاضي: وهذه الفضيحة التي يوقع الله بالغالّ، هي نظيرة الفضيحة التي توقع بالغادر، في أن ينصب له لواء بغدرته حسب قوله عليه السلام، وجعل الله هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه، ألا ترى إلى قول الحارد: [الكامل]
أسميّ ويحك هل سمعت بغدرة = رفع اللّواء لنا بها في المجمع
وكانت العرب ترفع للغادر لواء، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته، وقد تقدم القول في نظير، ثمّ توفّى كلّ نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة: 281] ). [المحرر الوجيز: 2/407-411]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وما كان لنبيٍّ أن يغلّ} قال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، والحسن، وغير واحدٍ: ما ينبغي لنبيٍّ أن يخون.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا المسيّب بن واضح، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن سفيان [عن] خصيفٍ، عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ قال: فقدوا قطيفةً يوم بدرٍ فقالوا: لعلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أخذها. فأنزل اللّه: {وما كان لنبيٍّ أن يغلّ} أي: يخون.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن عبد الملك بن أبي الشّوارب، حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ، حدّثنا خصيف، حدّثنا مقسم حدّثني ابن عبّاسٍ أنّ هذه الآية: {وما كان لنبيٍّ أن يغلّ} نزلت في قطيفةٍ حمراء فقدت يوم بدرٍ، فقال بعض النّاس: أخذها قال فأكثروا في ذلك، فأنزل اللّه: {وما كان لنبيٍّ أن يغلّ ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة}
وكذا رواه أبو داود، رحمه اللّه، والتّرمذيّ جميعًا، عن قتيبة، عن عبد الواحد بن زيادٍ، به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ. ورواه بعضهم عن خصيف، عن مقسم -يعني مرسلًا.
وروى ابن مردويه من طريق أبي عمرو بن العلاء، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: اتّهم المنافقون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بشيءٍ فقد، فأنزل اللّه، عزّ وجلّ: {وما كان لنبيٍّ أن يغلّ}
وقد وروي من غير وجهٍ عن ابن عبّاسٍ نحو ما تقدّم. وهذا تبرئةٌ له، صلوات اللّه وسلامه عليه، عن جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك.
وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: {وما كان لنبيٍّ أن يغلّ} أي: بأن يقسم لبعض السّرايا ويترك بعضًا وكذا قال الضّحّاك.
وقال محمّد بن إسحاق: {وما كان لنبيٍّ أن يغلّ} بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلّغه أمّته.
وقرأ الحسن البصريّ وطاوسٌ، ومجاهدٌ، والضّحّاك: {وما كان لنبيٍّ أن يغلّ} بضمّ الياء أي: يخان.
وقال قتادة والرّبيع بن أنسٍ: نزلت هذه الآية يوم بدرٍ، وقد غلّ بعض أصحابه. رواه ابن جريرٍ عنهما، ثمّ حكى عن بعضهم أنّه قرأ هذه القراءة بمعنى يتّهم بالخيانة.
ثمّ قال تعالى: {ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة ثمّ توفّى كلّ نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون} وهذا تهديدٌ شديدٌ ووعيدٌ أكيدٌ. وقد وردت السّنّة بالنّهي عن ذلك أيضًا في أحاديث متعدّدةٍ.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الملك، حدّثنا زهيرٌ -يعني ابن محمّدٍ-عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيل، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي مالكٍ الأشجعيّ [رضي اللّه عنه] عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أعظم الغلول عند الله ذراعٌ من الأرض: تجدون الرّجلين جارين في الأرض -أو في الدّار-فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعًا، فإذا اقتطعه طوّقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة".
["وفي الصّحيحين عن سعيد بن زيدٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "من ظلم قيد شبرٍ من الأرض طوّقه يوم القيامة من سبع أرضين"] .
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا موسى بن داود، حدّثنا ابن لهيعة، عن ابن هبيرة والحارث بن يزيد عن عبد الرّحمن بن جبيرٍ. قال: سمعت المستورد بن شدّادٍ يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: "من ولي لنا عملا وليس له منزلٌ فليتّخذ منزلا أو ليست له زوجةٌ فليتزوّج، أو ليس له خادمٌ فليتّخذ خادمًا، أو ليست له دابّةٌ فليتّخذ دابّةً، ومن أصاب شيئًا سوى ذلك فهو غالٌّ".
هكذا رواه الإمام أحمد، وقد رواه أبو داود بسندٍ آخر وسياقٍ آخر فقال:
حدّثنا موسى بن مروان الرّقّي، حدّثنا المعافى، حدّثنا الأوزاعيّ، عن الحارث بن يزيد عن جبير بن نفير، عن المستورد بن شدّادٍ. قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "من كان لنا عاملا فليكتسب زوجةً، فإن لم يكن له خادمٌ فليكتسب خادمًا، فإن لم يكن له مسكنٌ فليكتسب مسكنًا". قال: قال أبو بكرٍ: أخبرت أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من اتّخذ غير ذلك فهو غالٌّ، أو سارقٌ".
قال شيخنا الحافظ المزّيّ [رحمه اللّه] رواه جعفر بن محمّدٍ الفريابي، عن موسى بن مروان فقال: عن عبد الرّحمن بن جبير بدل جبير بن نفيرٍ، وهو أشبه بالصّواب.
حديثٌ آخر: قال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا حفص بن بشر، حدّثنا يعقوب القمّي حدّثنا حفص بن حميدٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول الله صلى لله عليه وسلّم "لا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاةً لها ثغاءٌ، فينادي: يا محمّد، يا محمّد، فأقول: لا أملك [لك] من الله شيئًا، قد بلّغتك. ولا أعرفنّ أحدكم [يأتي] يوم القيامة يحمل جملا له رغاءٌ، فيقول: يا محمّد، يا محمّد. فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلّغتك. ولا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسًا له حمحمةٌ، ينادي: يا محمّد، يا محمّد. فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلّغتك. ولا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل [قشعًا] من أدمٍ، ينادي: يا محمّد، يا محمّد. فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلّغتك".
لم يروه أحدٌ من أهل الكتب السّتّة.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا سفيان، عن الزّهريّ، سمع عروة يقول: أخبرنا أبو حميدٍ السّاعديّ قال: استعمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجلا من الأزد يقال له: ابن اللّتبيّة على الصّدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على المنبر فقال: "ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي. أفلا جلس في بيت أبيه وأمّه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والّذي نفس محمّدٍ بيده لا يأتي أحدٌ منكم منها بشيءٍ إلا جاء به يوم القيامة على رقبته إن كان بعيرًا له رغاءٌ، أو بقرةً لها خوارٌ، أو شاةً تيعر" ثمّ رفع يديه حتّى رأينا عفرة إبطيه ثمّ قال: "اللّهمّ هل بلّغت" ثلاثًا.
وزاد هشام بن عروة: فقال أبو حميدٍ: بصر عيني، وسمع أذني، وسلوا زيد بن ثابتٍ.
أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة وعند البخاريّ: وسلوا زيد بن ثابتٍ. ومن غير وجهٍ عن الزّهريّ، ومن طريقٍ عن هشام بن عروة، كلاهما عن عروة، به.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا إسحاق بن عيسى، حدّثنا إسماعيل بن عيّاش، عن يحيى بن سعيدٍ، عن عروة بن الزّبير، عن أبي حميد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "هدايا العمّال غلولٌ".
وهذا الحديث من أفراد أحمد وهو ضعيف الإسناد، وكأنّه مختصرٌ من الّذي قبله، واللّه أعلم.
حديثٌ آخر: قال أبو عيسى التّرمذيّ في كتاب الأحكام، حدّثنا أبو كريب، حدّثنا أبو أسامة، عن داود بن يزيد الأودي، عن المغيرة بن شبل، عن قيس بن أبي حازمٍ، عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى اليمن، فلمّا سرت أرسل في أثري فرددت، فقال: "أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبنّ شيئًا بغير إذني فإنّه غلولٌ، {ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة} لهذا دعوتك، فامض لعملك".
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وفي الباب عن عديّ بن عميرة، وبريدة، والمستورد بن شداد، وأبي حميد، وابن عمر.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل بن عليّة، حدّثنا أبو حيّان يحيى بن سعيدٍ التّيميّ، عن أبي زرعة بن عمر بن جريرٍ، عن أبي هريرة، قال: قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومًا، فذكر الغلول فعظّمه وعظّم أمره، ثمّ قال: "لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعيرٌ له رغاءٌ، فيقول: يا رسول اللّه، أغثني. فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ له حمحمةٌ، فيقول: يا رسول اللّه، أغثني. فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاعٌ تخفق، فيقول: يا رسول اللّه، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامتٌ فيقول: يا رسول اللّه أغثني. فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلّغتك".
أخرجاه من حديث أبي حيّان، به.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، حدّثني قيسٌ، عن عديّ بن عميرة الكنديّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "يأيّها النّاس، من عمل لنا [منكم] عملًا فكتمنا منه مخيطا فما فوقه فهو غلّ يأتي به يوم القيامة" قال: فقال رجلٌ من الأنصار أسود -قال مجالد: هو سعيد بن عبادة -كأنّي أنظر إليه، فقال: يا رسول اللّه، اقبل عنّي عملك. قال: "وما ذاك؟ " قال: سمعتك تقول كذا وكذا. قال: "وأنا أقول ذاك الآن: من استعملناه على عملٍ فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذه. وما نهي عنه انتهى". وكذا رواه مسلمٌ، وأبو داود، من طرقٍ عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، به.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا أبو إسحاق الفزاري، عن ابن جريج، حدّثني منبوذٌ، رجلٌ من آل أبي رافعٍ، عن الفضل بن عبيد اللّه بن أبي رافعٍ، عن أبي رافعٍ قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا صلّى العصر ربّما ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدّث معهم حتّى ينحدر المغرب قال أبو رافعٍ: فبينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مسرعًا إلى المغرب إذ مرّ بالبقيع فقال: "أفٍّ لك.. أفٍّ لك" مرّتين، فكبر في [ذرعي] وتأخّرت وظننت أنّه يريدني، فقال: "ما لك؟ امش" قال: قلت: أحدثت حدثًا يا رسول اللّه؟ قال: "وما ذاك؟ " قلت: أفّفت بي قال: "لا ولكن هذا قبر فلانٍ، بعثته ساعيًا على آل فلانٍ، فغلّ نمرة فدرع الآن مثله من نارٍ".
حديثٌ آخر: قال عبد اللّه بن الإمام أحمد: حدّثنا عبد اللّه بن سالمٍ الكوفيّ المفلوج -وكان بمكّة- حدّثنا عبيدة بن الأسود، عن القاسم بن الوليد، عن أبي صادقٍ، عن ربيعة بن ناجدٍ، عن عبادة بن الصّامت، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم، ثمّ يقول: "ما لي فيه إلّا مثل ما لأحدكم، إيّاكم والغلول، فإنّ الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أدّوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل اللّه القريب والبعيد، في الحضر والسّفر، فإنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة، إنّه لينجي الله به من الهمّ والغمّ؛ وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائمٍ". وقد روى ابن ماجه بعضه عن المفلوج، به.
حديثٌ آخر: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ردّوا الخياط والمخيط، فإنّ الغلول عارٌ ونارٌ وشنارٌ على أهله يوم القيامة".
حديثٌ آخر: قال أبو داود: حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا جريرٌ، عن مطرّف، عن أبي الجهم، عن أبي مسعودٍ الأنصاريّ قال: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ساعيًا ثمّ قال: "انطلق -أبا مسعودٍ-لا ألفينّك يوم القيامة تجيء على ظهرك بعيرٌ من إبل الصّدقة له رغاءٌ قد غللته". قال: إذًا لا أنطلق. قال: إذًا لا أكرهك". تفرّد به أبو داود.
حديثٌ آخر: قال أبو بكر بن مردويه: أنبأنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم، أنبأنا محمّد بن عثمان بن أبي شيبة، أنبأنا عبد الحميد بن صالحٍ أنبأنا أحمد بن أبان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: إنّ الحجر ليرمى به [في] جهنّم فيهوي سبعين خريفًا ما يبلغ قعرها، ويؤتى بالغلول فيقذف معه"، ثمّ يقال لمن غلّ ائت به، فذلك قوله: {ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة}.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا عكرمة بن عمّارٍ، حدّثني سماكٌ الحنفي أبو زميل، حدّثني عبد اللّه بن عبّاسٍ، حدّثني عمر بن الخطّاب قال: لمّا كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: فلانٌ شهيدٌ، وفلانٌ شهيدٌ. حتّى أتوا على رجلٍ فقالوا: فلانٌ شهيدٌ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "كلا إنّي رأيته في النّار في بردةٍ غلّها -أو عباءةٍ". ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا ابن الخطّاب اذهب فناد في النّاس: إنّه لا يدخل الجنّة إلّا المؤمنون". قال: فخرجت فناديت: ألا إنّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
وكذا رواه مسلمٌ، والتّرمذيّ من حديث عكرمة بن عمّارٍ به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ.
حديثٌ آخر: قال ابن جريرٍ: حدّثنا سعيد بن يحيى الأمويّ، حدّثنا أبي، حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة مصدقًا، فقال: "إيّاك يا سعد أن تجيء يوم القيامة ببعيرٍ تحمله له رغاءٌ" قال: لا آخذه ولا أجيء به. فأعفاه. ثمّ رواه من طريق عبيد اللّه عن نافعٍ، به، نحوه.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو سعيدٍ، حدّثنا عبد العزيز بن محمّدٍ، حدّثنا صالح بن محمّد بن زائدة، عن سالم بن عبد اللّه، أنّه كان مع مسلمة بن عبد الملك في أرض الرّوم، فوجد في متاع رجلٍ غلول. قال: فسأل سالم بن عبد اللّه فقال: حدّثني أبي عبد اللّه، عن عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه: أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال: "من وجدتم في متاعه غلولا فأحرقوه": قال: وأحسبه قال: واضربوه قال: فأخرج متاعه في السوق، فوجد فيه مصحفا، فسأل سالم: بعه وتصدّق بثمنه.
وهكذا رواه عليّ بن المدينيّ، وأبو داود، والتّرمذيّ من حديث عبد العزيز بن محمد الأتدراوردي -زاد أبو داود: وأبو إسحاق الفزاريّ-كلاهما عن أبي واقدٍ اللّيثيّ الصّغير صالح بن محمّد بن زائدة، به.
وقد قال عليّ بن المدينيّ، رحمه اللّه، والبخاريّ وغيرهما: هذا حديثٌ منكرٌ من رواية أبي واقدٍ هذا. وقال الدّارقطنيّ: الصّحيح أنّه من فتوى سالمٍ فقط، وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام [أحمد] بن حنبلٍ، رحمه اللّه، ومن تابعه من أصحابه، وخالفه أبو حنيفة، ومالكٌ، والشّافعيّ، والجمهور، فقالوا: لا يحرق متاع الغالّ، بل يعزّر تعزير مثله. وقال البخاريّ: وقد امتنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الصّلاة على الغالّ، ولم يحرق متاعه، واللّه أعلم.
طريقٌ أخرى عن عمر: قال ابن جريرٍ: حدّثنا أحمد بن عبد الرّحمن بن وهبٍ، حدّثنا عبد اللّه بن وهبٍ، أخبرني عمرو بن الحارث: أنّ موسى بن جبير حدّثه: أنّ عبد اللّه بن عبد الرّحمن بن الحباب الأنصاريّ حدّثه: أنّ عبد اللّه بن أنيسٍ حدّثه: أنّه تذاكر هو وعمر بن الخطّاب يومًا الصّدقة فقال: ألم تسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين ذكر غلول الصّدقة: "من غلّ منها بعيرًا أو شاةً، فإنّه يحمله يوم القيامة"؟ قال عبد اللّه بن أنيسٍ: بلى.
ورواه ابن ماجه، عن عمرو بن سوّاد، عن عبد اللّه بن وهبٍ، به.
ورواه الأمويّ عن معاوية، عن أبي إسحاق، عن يونس بن عبيدٍ، عن الحسن قال: عقوبة الغال أن يخرج رحله ويحرق على ما فيه.
ثمّ روي عن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عثمان بن عطاءٍ، عن أبيه، عن عليٍّ [رضي اللّه عنه] قال: الغالّ يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حدّ [المملوك، ويحرم نصيبه، وخالفه أبو حنيفة ومالكٌ والشّافعيّ والجمهور فقالوا: لا يحرق متاع الغالّ، بل يعزّر تعزير مثله، وقد قال البخاريّ: وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصّلاة على الغالّ ولم يحرق متاعه، واللّه أعلم].
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أسود بن عامرٍ، أنبأنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن خمير بن مالكٍ قال: أمر بالمصاحف أن تغيّر قال: فقال ابن مسعودٍ: من استطاع منكم أن يغلّ مصحفًا فليغلّه، فإنّه من غلّ شيئًا جاء به يوم القيامة، ثمّ قال قرأت من فم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سبعين سورةً، أفأترك ما أخذت من في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟.
وروى وكيع في تفسيره عن شريكٍ، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن إبراهيم، قال: لمّا أمر بتحريق المصاحف قال عبد اللّه: يا أيّها النّاس، غلّوا المصاحف، فإنّه من غلّ يأت بما غلّ يوم القيامة، ونعم الغل المصحف. يأتي به أحدكم يوم القيامة.
وقال [أبو] داود عن سمرة بن جندب قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا غنم غنيمةً أمر بلالًا فينادي في النّاس، فيجيئون بغنائمهم يخمّسه ويقسمه، فجاء رجلٌ يومًا بعد النّداء بزمامٍ من شعرٍ فقال: يا رسول اللّه، هذا كان ممّا أصبنا من الغنيمة. فقال: "أسمعت بلالا ينادي ثلاثًا؟ "، قال: نعم. قال: "فما منعك أن تجيء به؟ " فاعتذر إليه، فقال: "كلا أنت تجيء به يوم القيامة، فلن أقبله منك").
[تفسير القرآن العظيم: 2/150-157]

تفسير قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (قوله جلّ وعزّ: {أفمن اتّبع رضوان اللّه كمن باء بسخط من اللّه ومأواه جهنّم وبئس المصير}
يقرأ رضوان بكسر الراء، ورضوان بضم الراء، وقد رويتا جميعا عن عاصم.
{كمن باء بسخط من اللّه}
يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أرمر المسلمين في أحد باتباعه، اتبعه المؤمنون وتخلف عنه جماعة من المنافقين، فأعلم الله جلّ وعزّ: - أن من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد اتبع رضوان اللّه، ومن تخلف عنه فقد باء بسخط من الله.
ومعنى باء لذنبه: احتمله، وصار المذنب مأوى الذنب، ولذلك بوأت فلانا منزلا أي جعلته ذا منزل). [معاني القرآن: 1/486]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: أفمن اتّبع رضوان اللّه الآية، توقيف على تباين المنزلتين وافتراق الحالتين، والرضوان: مصدر، وقرأه عاصم- فيما روي عنه- بضم الراء- وقرأ جميعهم بكسرها، وحكى أبو عمرو الداني عن الأعمش، أنه قرأها- بكسر الراء وضم الضاد، وهذا كله بمعنى واحد مصدر من الرضى، والمعنى، اتبعوا الطاعة الكفيلة برضوان الله، ففي الكلام حذف مضاف، وباء بسخطٍ- معناه: مضى متحملا له، والسخط: صفة فعل، وقد تتردد متى لحظ فيها معنى الإرادة، وقال الضحاك: إن هذه الآية مشيرة إلى أن من لم يغل واتقى فله الرضوان، وإلى أن من غل وعصى فله السخط، وقال غيره: هي مشيرة إلى أن من استشهد- بأحد- فله الرضوان، وإلى المنافقين الراجعين عن النبي صلى الله عليه وسلم فلهم السخط، وباقي الآية بيّن). [المحرر الوجيز: 2/411-412]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {أفمن اتّبع رضوان اللّه كمن باء بسخطٍ من اللّه ومأواه جهنّم وبئس المصير} أي: لا يستوي من اتّبع رضوان اللّه فيما شرعه، فاستحقّ رضوان اللّه وجزيل ثوابه وأجير من وبيل عقابه، ومن استحقّ غضب اللّه وألزم به، فلا محيد له عنه، ومأواه يوم القيامة جهنّم وبئس المصير.
وهذه لها نظائر في القرآن كثيرةٌ كقوله تعالى: {أفمن يعلم أنّما أنزل إليك من ربّك الحقّ كمن هو أعمى} [الرّعد:19] وكقوله {أفمن وعدناه وعدًا حسنًا فهو لاقيه كمن متّعناه متاع الحياة الدّنيا [ثمّ هو يوم القيامة من المحضرين]} [القصص:61]).
[تفسير القرآن العظيم: 2/157]

تفسير قوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {هم درجات عند اللّه واللّه بصير بما يعملون} أي: المؤمنون ذوو درجة رفيعة، - والكافرون ذوو درجة عند اللّه وضيعة.
ومعنى{هم درجات}: هم ذوو درجات، لأن الإنسان غير الدرجة كما تقول: الناس طبقات، أي: ذوو طبقات؛ وأنشد سيبويه:
أنصب للمنية تعتريهم... رجال أم همو درج السيول
أي: هم ذوو درج، ويجوز أم همو درج السيول على الظرف). [معاني القرآن: 1/486-487]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (واختلف المفسرون في قوله تعالى: هم درجاتٌ من المراد بذلك؟ فقال ابن إسحاق وغيره: المراد بذلك الجمعان المذكوران، أهل الرضوان وأصحاب السخط، أي لكل صنف منهم تباين في نفسه في منازل الجنة، وفي أطباق النار أيضا، وقال مجاهد والسدي ما ظاهره: إن المراد بقوله هم إنما هو لمتبعي الرضوان، أي لهم درجات كريمة عند ربهم، وفي الكلام حذف مضاف تقديره «هم درجات» والدرجات المنازل بعضها أعلى من بعض في المسافة أو في التكرمة، أو العذاب، وقرأ إبراهيم النخعي «هم درجة» بالإفراد، وباقي الآية وعيد ووعد). [المحرر الوجيز: 2/412]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {هم درجاتٌ عند اللّه} قال الحسن البصريّ ومحمّد بن إسحاق: يعني: أهل الخير وأهل الشّرّ درجاتٌ، وقال أبو عبيدة والكسائيّ: منازل، يعني: متفاوتون في منازلهم ودرجاتهم في الجنّة ودركاتهم في النّار، كما قال تعالى: {ولكلٍّ درجاتٌ ممّا عملوا} الآية [الأنعام:132]؛ ولهذا قال: {واللّه بصيرٌ بما يعملون} أي: وسيوفيهم إيّاها، لا يظلمهم خيرًا ولا يزيدهم شرًّا، بل يجازي كلًّا بعمله). [تفسير القرآن العظيم: 2/158]


* للاستزادة ينظر: هنا

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تفسير, سورة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:23 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir