دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دروس التفسير لبرنامج إعداد المفسّر > دروس تفسير سورة آل عمران

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 7 ذو القعدة 1436هـ/21-08-2015م, 08:28 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تفسير سورة آل عمران[من الآية (133) إلى الآية (138) ]

تفسير قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}

تفسير قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها السّماوات والأرض أعدّت للمتّقين}
{وجنّة عرضها السّماوات والأرض أعدّت للمتّقين}أي: لمن اتّقى المحارم، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّ بين مصراعي باب الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليه يوم يزدحم عليه الناس؛ كما تزدحم الإبل وردت خمصا. ظماء). [معاني القرآن: 1/468-469]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربّكم وجنّةٍ عرضها السّماوات والأرض أعدّت للمتّقين (133) الّذين ينفقون في السّرّاء والضّرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس واللّه يحبّ المحسنين (134)
قرأ نافع وابن عامر: «سارعوا» بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام، وقرأ باقي السبعة بالواو، قال أبو علي: كلا الأمرين شائع مستقيم، فمن قرأ بالواو فلأنه عطف الجملة على الجملة، ومن ترك الواو فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو، وأمال الكسائي الألف من قوله سارعوا ومن قوله يسارعون في الخيرات [المؤمنون: 61] ونسارع لهم في الخيرات [المؤمنون: 56] في كل ذلك، قال أبو علي: والإمالة هنا حسنة لوقوع الراء المكسورة بعدها، والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة، إذ الناس كأن كل واحد يسرع ليصل قبل غيره، فبينهم في ذلك مفاعلة، ألا ترى إلى قوله تعالى: فاستبقوا الخيرات [المائدة: 48] وقوله إلى مغفرةٍ معناه: سارعوا بالتقوى والطاعة والتقرب إلى ربكم إلى حال يغفر الله لكم فيها، أي يستر ذنوبكم بعفوه عنها وإزالة حكمها، ويدخلكم جنة، قال أنس بن مالك ومكحول في تفسير سارعوا إلى مغفرةٍ، معناه: إلى تكبيرة الإحرام مع الإمام.
قال الفقيه القاضي: هذا مثال حسن يحتذى عليه في كل طاعة، وقوله تعالى: عرضها السّماوات والأرض تقديره: كعرض السماوات والأرض، وهذا كقوله تعالى: ما خلقكم ولا بعثكم إلّا كنفسٍ واحدةٍ [لقمان: 28] أي كخلق نفس واحدة وبعثها، فجاء هذا الاقتضاب المفهوم الفصيح، ومنه قول الشاعر: [ذو الخرق الطهوي]: [الوافر]:
حسبت بغام راحلتي عناقا = وما هي ويب غيرك بالعناق
ومنه قول الآخر:
كأنّ غديرهم بجنوب سلي = نعام فاق في بلد قفار
التقدير صوت عناق وغدير نعام.
وأما معنى قوله تعالى: عرضها السّماوات والأرض فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تقرن السماوات والأرضون بعضها إلى بعض كما يبسط الثوب، فذلك عرض الجنة ولا يعلم طولها إلا الله، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن بين المصراعين من أبواب الجنة مسيرة أربعين سنة، وسيأتي عليها يوم يزدحم الناس فيها كما تزدحم الإبل إذا وردت خمصا ظماء وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: أن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام لا يقطعها فهذا كله يقوي قول ابن عباس وهو قول الجمهور، إن الجنة أكبر من هذه المخلوقات المذكورة وهي ممتدة عن السماء حيث شاء الله تعالى، وذلك لا ينكر، فإن في حديث النبي عليه السلام: ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة من الأرض، فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السماوات والأرض، وقدرة الله تعالى أعظم من ذلك كله، وروى يعلى بن أبي مرة قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص، شيخا كبيرا قد فند فقال قدمت على النبي عليه السلام، بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن يساره فقلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية، فإذا كتاب هرقل: إنك كتبت إليّ تدعوني إلى جنّةٍ عرضها السّماوات والأرض أعدّت للمتّقين، فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار؟ وروى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: جاء رجلان من اليهود من نجران إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال أحدهما: تقولون جنّةٍ عرضها السّماوات والأرض، أين تكون النار؟ فقال عمر رضي الله عنه أرأيت النهار إذا جاء أين يكون الليل؟ والليل إذا جاء أين يكون النهار؟ فقال اليهودي: إنه لمثلها في التوراة فقال له صاحبه: لم أخبرته؟ دعه إنه بكل موقن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذه الآثار كلها هي في طريق واحد، من أن قدرة الله تتسع لهذا كله،
وخص العرض بالذكر لأنه يدل متى ذكر على الطول، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض، بل قد يكون الطويل يسير العرض كالخيط ونحوه، ومن ذلك قول العرب بلاد عريضة، وفلاة عريضة، وقال قوم: قوله تعالى: عرضها السّماوات والأرض معناه: كعرض السماوات والأرض، كما هي طباقا، لا بأن تقرن كبسط الثياب، فالجنة في السماء، وعرضها كعرضها وعرض ما وراءها من الأرضين إلى السابعة، وهذه الدلالة على العظم أغنت عن ذكر الطول، وقال قوم: الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة، فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى، حسنت العبارة عنها بعرضها السماوات والأرض، كما تقول لرجل: هذا بحر، ولشخص كبير من الحيوان: هذا جبل، ولم تقصد الآية تحديد العرض.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وجلب مكي هذا القول غير ملخص، وأدخل حجة عليه قول العرب: أرض عريضة وليس قولهم، أرض عريضة، مثل قوله: عرضها السّماوات والأرض إلا في دلالة ذكر العرض على الطول فقط، وكذلك فعل النقاش وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفارين يوم أحد: لقد ذهبتم فيها عريضة، وقال ابن فورك: الجنة في السماء، ويزاد فيها يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال: إن الجنة لم تخلق بعد، وكذلك النار، وهو قول ضعيف، وجمهور العلماء على أنهما قد خلقتا، وهو ظاهر كتاب الله تعالى في قوله، أعدّت للمتّقين وأعدّت للكافرين [آل عمران: 131] وغير ذلك، وهو نص في الأحاديث كحديث الإسراء وغيره، مما يقتضي أن ثم جنة قد خلقت، وأما من يقول: يزاد فيهما فلا ترد عليه الأحاديث، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر، وأعدّت معناه: يسرت وانتظروا بها). [المحرر الوجيز: 2/353-357]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات، فقال: {وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربّكم وجنّةٍ عرضها السّماوات والأرض أعدّت للمتّقين} أي: كما أعدّت النّار للكافرين. وقد قيل: إنّ معنى قوله: {عرضها السّماوات والأرض} تنبيهًا على اتّساع طولها، كما قال في صفة فرش الجنّة: {بطائنها من إستبرقٍ} [الرّحمن:54] أي: فما ظنّك بالظّهائر؟ وقيل: بل عرضها كطولها؛ لأنّها قبّةٌ تحت العرش، والشّيء المقبّب والمستدير عرضه كطوله. وقد دلّ على ذلك ما ثبت في الصّحيح: "إذا سألتم اللّه الجنّة فاسألوه الفردوس، فإنّه أعلى الجنّة وأوسط الجنّة ومنه تفجّر أنهار الجنّة، وسقفها عرش الرّحمن".
وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد: {سابقوا إلى مغفرةٍ من ربّكم وجنّةٍ عرضها كعرض السّماء والأرض} الآية [رقم21].
وقد روّينا في مسند الإمام أحمد: أنّ هرقل كتب إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّك دعوتني إلى جنّةٍ عرضها السّماوات والأرض، فأين النّار؟ فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "سبحان الله! فأين اللّيل إذا جاء النّهار؟ ".
وقد رواه ابن جريرٍ فقال: حدّثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني مسلم بن خالدٍ، عن أبي خثيم، عن سعيد بن أبي راشدٍ، عن يعلى بن مرّة قال: لقيت التّنوخي رسول هرقل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بحمص، شيخًا كبيرًا فسد، قال: قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بكتاب هرقل، فناول الصّحيفة رجلا عن يساره. قال: قلت: من صاحبكم الّذي يقرأ؟ قالوا: معاوية. فإذا كتاب صاحبي: "إنّك كتبت تدعوني إلى جنّةٍ عرضها السّماوات والأرض أعدّت للمتّقين، فأين النّار؟ قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "سبحان اللّه! فأين اللّيل إذا جاء النّهار؟ ".
وقال الأعمش، وسفيان الثّوريّ، وشعبة، عن قيس بن مسلمٍ عن طارق بن شهابٍ، أنّ ناسًا من اليهود سألوا عمر بن الخطّاب عن جنّةٍ عرضها السّماوات والأرض، فأين النّار؟ فقال عمر [رضي اللّه عنه] أرأيتم إذا جاء اللّيل أين النّهار؟ وإذا جاء النّهار أين اللّيل؟ فقالوا: لقد نزعت مثلها من التّوراة.
رواه ابن جريرٍ من الثّلاثة الطّرق ثمّ قال: حدّثنا أحمد بن حازمٍ، حدّثنا أبو نعيمٍ، حدّثنا جعفر بن برقان، أنبأنا يزيد بن الأصمّ: أنّ رجلًا من أهل الكتاب قال: يقولون: {جنّةٍ عرضها السّماوات والأرض} فأين النّار؟ فقال ابن عبّاسٍ: أين يكون اللّيل إذا جاء النّهار، وأين يكون النّهار إذا جاء اللّيل؟.
وقد روي هذا مرفوعًا، فقال البزّار: حدّثنا محمّد بن معمر، حدّثنا المغيرة بن سلمة أبو هشامٍ، حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن الأصمّ، عن عمّه يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: أرأيت قوله تعالى: {جنّةٍ عرضها السّماوات والأرض} فأين النّار؟ قال: "أرأيت اللّيل إذا جاء لبس كلّ شيءٍ، فأين النّهار؟ " قال: حيث شاء اللّه. قال: "وكذلك النّار تكون حيث شاء اللّه عزّ وجلّ".
وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك: أنّه لا يلزم من عدم مشاهدتنا اللّيل إذا جاء النّهار ألّا يكون في مكانٍ، وإن كنّا لا نعلمه، وكذلك النّار تكون حيث يشاء اللّه عزّ وجلّ، وهذا أظهر كما تقدّم في حديث أبي هريرة، عن البزّار.
الثّاني: أن يكون المعنى: أنّ النّهار إذا تغشّى وجه العالم من هذا الجانب، فإنّ اللّيل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنّة في أعلى علّيّين فوق السّماوات تحت العرش، وعرضها كما قال اللّه، عزّ وجلّ: {كعرض السّماء والأرض} [الحديد:21] والنّار في أسفل سافلين. فلا تنافي بين كونها كعرض السّماوات والأرض، وبين وجود النار، والله أعلم).
[تفسير القرآن العظيم: 2/117-118]


تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذين ينفقون في السّرّاء والضّرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس واللّه يحبّ المحسنين} أي: أعدت للذين جرى ذكرهم وللذين يكظمون الغيظ، ويروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((ما من جرعة يتجرعها الإنسان أعظم أجرا من جرعة غيظ في اللّه)).
يقال كظمت الغيظ أكظمه كظما إذا أمسكت على ما في نفسي منه.
ويقال كظم البعير على جرته إذا ردها في حلقه، وكظم البعير والناقة كظوما إذا لم يجتر.
قال الراعي:
فأفضن بعد كظومهن بجرة... من ذي الأباطح أذرعين حقيلا.
والكظامة: سير يشد به الوتر على سية القوس العربية، والكظمية.
والكظائم حفائر تحفر من بئر إلى بئر ليجري الماء من بعضها إلى بعض وكاظمة موضع بالبادية). [معاني القرآن: 1/469]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم وصف تعالى المتقين الذين أعدت لهم الجنة بقوله: الّذين ينفقون الآية، وظاهر هذه الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: في السّرّاء والضّرّاء، معناه: في العسر واليسر.
قال القاضي: إذ الأغلب أن مع اليسر النشاط وسرور النفس، ومع العسر الكراهية وضر النفس، وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كاد أن يخرج من كثرته، فضبطه ومنعه كظم له، والكظام: السير الذي يشد به فم الزق والقربة، وكظم البعير جرته: إذا ردها في جوفه، وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه، كظم، حكاه الزجّاج، فقال: كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ومنه قول الراعي: [الكامل]
فأفضن بعد كظومهنّ بجرّة = من ذي الأباطح أذرعين حقيلا
والغيظ: أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان، ولذلك فسر بعض الناس الغيظ بالغضب وليس تحرير الأمر كذلك، بل الغيظ فعل النفس لا يظهر على الجوارح، والغضب حال لها معه ظهور في الجوارح وفعل ما ولا بد، ولهذا جاز إسناد الغضب إلى الله تعالى، إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم، ولا يسند إليه تعالى غيظ، وخلط ابن فورك في هذه اللفظة، ووردت في كظم الغيظ وملك النفس عند الغضب أحاديث، وذلك من أعظم العبادة وجهاد النفس، ومنه قول عليه السلام: ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، ومنه قول النبي عليه السلام: ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله، وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه، ملأه الله أمنا وإيمانا، والعفو عن الناس من أجل ضروب فعل الخير، وهذا حيث يجوز للإنسان ألا يعفو، وحيث يتجه حقه، وقال أبو العالية: والعافين عن النّاس، يريد المماليك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا حسن على جهة المثال، إذ هم الخدمة، فهم مذنبون كثيرا، والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل، فلذلك مثل هذا المفسر به، وذكر تعالى بعد ذلك أنه يحبّ المحسنين، فعم هذه الوجوه وسواها من البر، وهذا يدلك على أن الآية في المندوب إليه، ألا ترى إلى سؤال جبريل عليه السلام، فقال: ما الإيمان؟ ثم قال ما الإسلام؟ فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم المفروضات، ثم قال له: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، الحديث). [المحرر الوجيز: 2/357-359]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ ذكر تعالى صفة أهل الجنّة، فقال: {الّذين ينفقون في السّرّاء والضّرّاء} أي: في الشّدّة والرّخاء، والمنشط والمكره، والصّحّة والمرض، وفي جميع الأحوال، كما قال: {الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سرًّا وعلانيةً} [البقرة:274]. والمعنى: أنّهم لا يشغلهم أمر عن طاعة اللّه تعالى والإنفاق في مراضيه، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البرّ.
وقوله: {والكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس} أي: إذا ثار بهم الغيظ كظموه، بمعنى: كتموه فلم يعملوه، وعفوا مع ذلك عمّن أساء إليهم وقد ورد في بعض الآثار: "يقول اللّه تعالى: ابن آدم، اذكرني إذا غضبت، أذكرك إذا غضبت، فلا أهلكك فيمن أهلك" رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقد قال أبو يعلى في مسنده: حدّثنا أبو موسى الزّمن، حدّثنا عيسى بن شعيب الضّرير أبو الفضل، حدّثنا الرّبيع بن سليمان الجيزي عن أبي عمرو بن أنس بن مالكٍ، عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "من كفّ غضبه كفّ الله عنه عذابه، ومن خزن لسانه ستر الله عورته، ومن اعتذر إلى الله قبل عذره" [و] هذا حديثٌ غريبٌ، وفي إسناده نظرٌ.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّحمن، حدّثنا مالكٌ، عن الزّهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "ليس الشّديد بالصّرعة، ولكنّ الشّديد الّذي يملك نفسه عند الغضب". وقد رواه الشّيخان من حديث مالكٍ.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم التّيميّ، عن الحارث بن سويد، عن عبد اللّه، هو ابن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أيّكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟ " قال: قالوا: يا رسول اللّه، ما منّا أحدٌ إلّا ماله أحبّ إليه من مال وارثه. قال: "اعلموا أنّه ليس منكم أحدٌ إلا مال وارثه أحبّ إليه من ماله مالك من مالك إلّا ما قدّمت، ومال وارثك ما أخّرت". قال: وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما تعدّون فيكم الصّرعة؟ " قلنا: الّذي لا تصرعه الرّجال، قال: قال "لا ولكن الّذي يملك نفسه عند الغضب". قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما تعدّون فيكم الرّقوب؟ " قال: قلنا: الّذي لا ولد له. قال: "لا ولكنّ الرّقوب الّذي لم يقدّم من ولده شيئًا".
أخرج البخاريّ الفصل الأوّل منه وأخرج مسلمٌ أصل هذا الحديث من رواية الأعمش، به.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، سمعت عروة بن عبد اللّه الجعفيّ يحدّث عن أبي حصبة، أو ابن حصبة، عن رجلٍ شهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يخطب فقال: "تدرون ما الرّقوب؟ " قالوا الّذي لا ولد له. قال: "الرّقوب كلّ الرّقوب الّذي له ولدٌ فمات، ولم يقدّم منهم شيئًا". قال: "تدرون ما الصّعلوك؟ " قالوا: الّذي ليس له مالٌ. قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "الصّعلوك كلّ الصّعلوك الّذي له مالٌ، فمات ولم يقدّم منه شيئًا". قال: ثمّ قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما الصّرعة؟ " قالوا: الصّريع. قال: فقال صلّى اللّه عليه وسلّم الصّرعة كلّ الصّرعة الّذي يغضب فيشتدّ غضبه، ويحمرّ وجهه، ويقشعرّ شعره، فيصرع غضبه".
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا ابن نمير، حدّثنا هشامٌ -هو ابن عروة-عن أبيه، عن الأحنف بن قيسٍ، عن عمٍّ له يقال له: جارية بن قدامة السّعديّ؛ أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، قل لي قولًا ينفعني وأقلل عليّ، لعلّي أعيه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا تغضب". فأعاد عليه حتّى أعاد عليه مرارًا، كلّ ذلك يقول: "لا تغضب".
وكذا رواه عن أبي معاوية، عن هشامٍ، به. ورواه [أيضًا] عن يحيى بن سعيدٍ القطّان، عن هشامٍ، به؛ أنّ رجلًا قال: يا رسول اللّه، قل لي قولًا وأقلل عليّ لعلّي أعقله. قال: "لا تغضب".
الحديث انفرد به أحمد.
حديثٌ آخر: قال أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، عن الزّهريّ، عن حميد بن عبد الرّحمن، عن رجلٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: قال رجلٌ: يا رسول اللّه، أوصني. قال: "لا تغضب". قال الرّجل: ففكّرت حين قال صلّى اللّه عليه وسلّم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشّرّ كلّه.
انفرد به أحمد.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا داود بن أبي هند عن بن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود، عن أبي ذرّ قال: كان يسقي على حوضٍ له، فجاء قومٌ قالوا أيّكم يورد على أبي ذرٍّ ويحتسب شعراتٍ من رأسه فقال رجلٌ: أنا. فجاء الرّجل فأورد عليه الحوض فدقّه، وكان أبو ذرٍّ قائمًا فجلس، ثمّ اضطجع، فقيل له: يا أبا ذرٍّ، لم جلست ثمّ اضطجعت؟ فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لنا: "إذا غضب أحدكم وهو قائمٌ فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع".
ورواه أبو داود، عن أحمد بن حنبلٍ بإسناده، إلّا أنّه وقع في روايته: عن أبي حرب، عن أبي ذرٍّ، والصّحيح: ابن أبي حربٍ، عن أبيه، عن أبي ذرٍّ، كما رواه عبد اللّه بن أحمد، عن أبيه.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا إبراهيم بن خالدٍ: حدّثنا أبو وائلٍ الصّنعاني قال: كنّا جلوسًا عند عروة بن محمّدٍ إذ دخل عليه رجلٌ، فكلّمه بكلامٍ أغضبه، فلمّا أن غضب قام، ثمّ عاد إلينا وقد توضّأ فقال: حدّثني أبي، عن جدّي عطيّة -هو ابن سعدٍ السّعديّ، وقد كانت له صحبةٌ-قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "إنّ الغضب من الشّيطان، وإنّ الشّيطان خلق من النّار وإنّما تطفأ النّار بالماء، فإذا أغضب أحدكم فليتوضّأ".
وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالدٍ الصنعاني، عن أبي وائلٍ القاصّ المرادي الصّنعاني: قال أبو داود: أراه عبد اللّه بن بحير .
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد اللّه بن يزيد، حدّثنا نوح بن جعونة السّلمي، عن مقاتل بن حيّان، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من أنظر معسرًا أو وضع له وقاه الله من فيح جهنّم، ألا إنّ عمل الجنّة حزنٌ بربوةٍ -ثلاثًا-ألا إنّ عمل النّار سهلٌ بسهوة. والسّعيد من وقي الفتن، وما من جرعةٍ أحبّ إلى الله [عزّ وجلّ] من جرعة غيظٍ يكظمها عبدٌ، ما كظمها عبدٌ لله إلّا ملأ جوفه إيمانًا".
انفرد به أحمد، إسناده حسنٌ ليس فيه مجروحٌ، ومتنه حسنٌ.
حديثٌ آخر في معناه: قال أبو داود: حدّثنا عقبة بن مكرم، حدّثنا عبد الرّحمن -يعني ابن مهدي-عن بشرٍ -يعني ابن منصورٍ-عن محمّد بن عجلان، عن سويد بن وهب، عن رجلٍ من أبناء أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفذه ملأه الله أمنًا وإيمانًا، ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه -قال بشر: أحسبه قال: "تواضعًا"-كساه الله حلّة الكرامة، ومن زوّج لله كساه الله تاج الملك".
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد اللّه بن يزيد، حدّثنا سعيدٌ، حدّثني أبو مرحوم، عن سهل بن معاذ بن أنسٍ، عن أبيه؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق، حتّى يخيره من أيّ الحور شاء".
ورواه أبو داود والتّرمذيّ، وابن ماجه، من حديث سعيد بن أبي أيّوب، به. وقال الترمذي: حسن غريب.
حديثٌ آخر: قال: عبد الرّزّاق: أخبرنا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن رجلٍ من أهل الشّام -يقال له: عبد الجليل-عن عمٍّ له، عن أبي هريرة في قوله تعالى: {والكاظمين الغيظ} أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من كظم غيظًا، وهو يقدر على إنفاذه ملأه اللّه أمنًا وإيمانًا". رواه ابن جريرٍ.
حديثٌ آخر: قال ابن مردويه: حدّثنا أحمد بن محمّد بن زيادٍ، أخبرنا يحيى بن أبي طالبٍ، أخبرنا عليّ بن عاصمٍ، أخبرني يونس بن عبيدٍ عن الحسن، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما تجرّع عبدٌ من جرعةٍ أفضل أجرًا من جرعة غيظٍ كظمها ابتغاء وجه اللّه".
وكذا رواه ابن ماجه عن بشر بن عمر، عن حمّاد بن سلمة، عن يونس بن عبيد، به.
فقوله: {والكاظمين الغيظ} أي: لا يعملون غضبهم في النّاس، بل يكفّون عنهم شرّهم، ويحتسبون ذلك عند اللّه عزّ وجلّ.
ثمّ قال [تعالى] {والعافين عن النّاس} أي: مع كفّ الشّرّ يعفون عمّن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحدٍ، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال: {واللّه يحبّ المحسنين} فهذا من مقامات الإحسان.
وفي الحديث: "ثلاثٌ أقسم عليهنّ: ما نقص مالٌ من صدقةٍ، وما زاد اللّه عبدًا بعفوٍ إلّا عزا، ومن تواضع للّه رفعه اللّه ".
وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القرشي، عن عبادة بن الصّامت، عن أبيّ بن كعبٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من سرّه أن يشرف له البنيان، وترفع له الدّرجات فليعف عمّن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه".
ثمّ قال: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه وقد أورده ابن مردويه من حديث عليٍّ، وكعب بن عجرة، وأبي هريرة، وأمّ سلمة، بنحو ذلك. وروي عن طريق الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ يقول: أين العافون عن النّاس؟ هلمّوا إلى ربّكم، وخذوا أجوركم، وحقّ على كلّ امرئٍ مسلمٍ إذا عفا أن يدخل الجنّة").
[تفسير القرآن العظيم: 2/119-122]


تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {والّذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذّنوب إلّا اللّه ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون}
{ومن يغفر الذّنوب إلّا اللّه} الرفع محمول على المعنى، والمعنى وأي أحد يغفر الذنوب؛ ما يغفرها إلا اللّه.
{ولم يصرّوا على ما فعلوا} الإصرار: الإقامة على الشيء). [معاني القرآن: 1/469]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: والّذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذّنوب إلاّ اللّه ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون (135) أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربّهم وجنّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين (136)
ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفا دون الصنف الأول، فألحقهم بهم برحمته ومنه، فهؤلاء هم التوابون، وروي في سبب هاتين الآيتين: أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة على باب داره، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة وعوضا من ذلك الفعل ببني إسرائيل، ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية، وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبد يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين ويستغفر إلا غفر له، وقوله والّذين عطف جملة ناس على جملة أخرى، وليس الّذين بنعت كرر معه واو العطف، لأن تلك الطبقة الأولى تنزه عن الوقوع في الفواحش، و «الفاحشة» هنا صفة لمحذوف أقيمت الصفة مقامه، التقدير: فعلوا فعلة فاحشة، وهو لفظ يعم جميع المعاصي، وقد كثر اختصاصه بالزنا، حتى فسر السدي هذه الآية بالزنا، وقال جابر بن عبد الله لما قرأها: زنى القوم ورب الكعبة، وقال إبراهيم النخعي: الفاحشة من الظلم، والظلم من الفاحشة وقال قوم: الفاحشة في هذه الآية إشارة إلى الكبائر، وظلم النفس إشارة إلى الصغائر، وذكروا اللّه معناه: بالخوف من عقابه والحياء منه، إذ هو المنعم المتطول ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله صهيبا لو لم يخف الله لم يعصه، و «استغفروا» معناه: طلبوا الغفران، واللام معناها: لأجل «ذنوبهم»، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى: ومن يغفر الذّنوب إلّا اللّه، اعتراضا موقفا للنفس، داعيا إلى الله، مرجيا في عفوه، إذا رجع إليه، وجاء اسم اللّه مرفوعا بعد الاستثناء والكلام موجب، حملا على المعنى، إذ هو بمعنى وما يغفر الذنوب إلا الله، وقوله تعالى: ولم يصرّوا الإصرار معناه: اعتزام الدوام على الأمر، وترك الإقلاع عنه، ومنه صر الدنانير: أي الربط عليها، ومنه قول أبي السمال قعنب العدوي: «علم الله أنها مني صرى».
يريد: عزيمة. فالإصرار اعتزام البقاء على الذنب، ومنه قول النبي عليه السلام: لا توبة مع إصرار، وقال أيضا: ما أصر من استغفر، واختلفت عبارة المفسرين في الإصرار، فقال قتادة: هو الذي يمضي قدما في الذنب لا تنهاه مخافة الله. وقال الحسن: إتيان العبد الذنب هو الإصرار حتى يتوب، وقال مجاهد:
لم يصرّوا معناه: لم يمضوا وقال السدي: «الإصرار» هو ترك الاستغفار، والسكوت عنه مع الذنب، وقوله تعالى: وهم يعلمون قال السدي: معناه وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا، وقال ابن إسحاق: معناه، وهم يعلمون بما حرمت عليهم، وقال آخرون: معناه، وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح لهم وقيل:
المعنى، وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار). [المحرر الوجيز: 2/359-360]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {والّذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم} أي: إذا صدر منهم ذنبٌ أتبعوه بالتّوبة والاستغفار.
قال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد، حدّثنا همّام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة، عن عبد الرّحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ رجلًا أذنب ذنبًا، فقال: ربّ إنّي أذنبت ذنبًا فاغفره. فقال اللّه [عزّ وجلّ] عبدي عمل ذنبًا، فعلم أنّ له ربًّا يغفر الذّنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثمّ عمل ذنبا آخر فقال: رب، إني عملت ذنبا فاغفره. فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أنّ له ربا يغفر الذّنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي. ثمّ عمل ذنبًا آخر فقال: ربّ، إنّي عملت ذنبًا فاغفره لي. فقال عزّ وجلّ: علم عبدي أنّ له ربا يغفر الذّنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي ثمّ عمل ذنبًا آخر فقال: ربّ، إنّي عملت ذنبًا فاغفره فقال عزّ وجلّ: عبدي علم أنّ له ربا يغفر الذّنب ويأخذ به، أشهدكم أنّي قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء".
أخرجه في الصّحيح من حديث إسحاق بن أبي طلحة، بنحوه.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو النّضر وأبو عامرٍ قالا حدّثنا زهيرٌ، حدّثنا سعدٌ الطّائيّ، حدّثنا أبو المدلّة -مولى أمّ المؤمنين-سمع أبا هريرة، قلنا: يا رسول اللّه، إذا رأيناك رقّت قلوبنا، وكنّا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدّنيا وشممنا النّساء والأولاد، فقال لو أنّكم تكونون على كلّ حالٍ، على الحال الّتي أنتم عليها عندي، لصافحتكم الملائكة بأكفّهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء اللّه بقومٍ يذنبون كي يغفر لهم". قلنا: يا رسول اللّه، حدّثنا عن الجنّة ما بناؤها؟ قال:"لبنة ذهبٍ، ولبنة فضّةٍ، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللّؤلؤ والياقوت، وترابها الزّعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، ثلاثةٌ لا تردّ دعوتهم: الإمام العادل، والصّائم حتّى يفطر، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السّماء، ويقول الرّبّ: وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حينٍ".
ورواه الترمذي، وابن ماجة، من وجه آخر من سعدٍ، به.
ويتأكّد الوضوء وصلاة ركعتين عند التّوبة، لما رواه الإمام أحمد بن حنبلٍ:
حدّثنا وكيع، حدّثنا مسعر، وسفيان -هو الثّوريّ- عن عثمان بن المغيرة الثّقفيّ، عن عليّ بن ربيعة، عن أسماء بن الحكم الفزاريّ، عن عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه، قال: كنت إذا سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حديثًا نفعني اللّه بما شاء منه، وإذا حدّثني عنه [غيري استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإنّ أبا بكرٍ رضي اللّه عنه حدثني] وصدق أبو بكرٍ -أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ما من رجلٍ يذنب ذنبًا فيتوضّأ فيحسن -الوضوء -قال مسعر: فيصلّي. وقال سفيان: ثمّ يصلّي ركعتين -فيستغفر الله عزّ وجلّ إلّا غفر له".
كذا رواه عليّ بن المديني، والحميدي وأبو بكر بن أبي شيبة، وأهل السّنن، وابن حبّان في صحيحه والبزّار والدارقطني، من طرقٍ، عن عثمان بن المغيرة، به. وقال التّرمذيّ: هو حديثٌ حسنٌ وقد ذكرنا طرقه والكلام عليه مستقصًى في مسند أبي بكرٍ الصّدّيق، [رضي اللّه عنه] وبالجملة فهو حديثٌ حسنٌ، وهو من رواية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ [رضي اللّه عنه] عن خليفة النّبيّ [صلّى اللّه عليه وسلّم] أبي بكرٍ الصّدّيق، رضي اللّه عنهما وممّا يشهد لصحّة هذا الحديث ما رواه مسلمٌ في صحيحه، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ما منكم من أحدٍ يتوضّأ فيبلغ -أو: فيسبغ -الوضوء، ثمّ يقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، إلّا فتحت له أبواب الجنّة الثّمانية، يدخل من أيّها شاء".
وفي الصّحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفّان، رضي اللّه عنه، أنّه توضّأ لهم وضوء النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من توضّأ نحو وضوئي هذا، ثمّ صلّى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه غفر له ما تقدّم من ذنبه".
فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمّة الأربعة الخلفاء الرّاشدين، عن سيّد الأوّلين والآخرين ورسول ربّ العالمين، كما دلّ عليه الكتاب المبين من أنّ الاستغفار من الذّنب ينفع العاصين.
وقد قال عبد الرّزّاق: أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابتٍ، عن أنس بن مالكٍ قال: بلغني أنّ إبليس حين نزلت: {والّذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم} الآية، بكى.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا محرز بن عون، حدّثنا عثمان بن مطر، حدّثنا عبد الغفور، عن أبي نضيرة عن أبي رجاءٍ، عن أبي بكرٍ، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "عليكم بلا إله إلّا الله والاستغفار، فأكثروا منهما، فإنّ إبليس قال: أهلكت النّاس بالذّنوب، وأهلكوني بلا إله إلّا الله والاستغفار، فلمّا رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنّهم مهتدون".
عثمان بن مطرٍ وشيخه ضعيفان.
وروى الإمام أحمد في مسنده، من طريق عمرو بن أبي عمرٍو وأبي الهيثم العتواريّ، عن أبي سعيدٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "قال إبليس: يا ربّ، وعزّتك لا أزال أغوي [عبادك] ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الله: وعزّتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني".
وقال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا محمّد بن المثنّى، حدّثنا عمر بن أبي خليفة، سمعت أبا بدر يحدّث عن ثابتٍ، عن أنسٍ قال: جاء رجلٌ فقال: يا رسول اللّه، أذنبت ذنبًا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا أذنبت فاستغفر ربّك". [قال: فإنّي أستغفر، ثمّ أعود فأذنب. قال فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربّك] " فقالها في الرّابعة فقال: "استغفر ربّك حتّى يكون الشّيطان هو المحسور".
وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه.
وقوله: {ومن يغفر الذّنوب إلا اللّه} أي: لا يغفرها أحدٌ سواه، كما قال الإمام أحمد:
حدّثنا محمّد بن مصعب، حدّثنا سلّام بن مسكينٍ، والمبارك، عن الحسن، عن الأسود بن سريع؛ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أتي بأسيرٍ فقال: اللهم إنّي أتوب إليك ولا أتوب إلى محمّدٍ. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "عرف الحقّ لأهله".
وقوله: {ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون} أي: تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى اللّه عن قريبٍ، ولم يستمرّوا على المعصية ويصرّوا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرّر منهم الذّنب تابوا عنه، كما قال الحافظ أبو يعلى الموصليّ، رحمه الله، في مسنده:
حدّثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره قالوا: حدّثنا أبو يحيى عبد الحميد الحمّانيّ، عن عثمان بن واقدٍ عن أبي نصيرة، عن مولًى لأبي بكرٍ، عن أبي بكرٍ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرّةً".
ورواه أبو داود، والتّرمذيّ، والبزّار في مسنده، من حديث عثمان بن واقدٍ -وقد وثّقه يحيى بن معينٍ-به وشيخه أبو نصيرة الواسطيّ واسمه مسلم بن عبيدٍ، وثّقه الإمام أحمد وابن حبّان وقول عليّ بن المدينيّ والتّرمذيّ: ليس إسناد هذا الحديث بذاك، فالظّاهر إنّما [هو] لأجل جهالة مولى أبي بكرٍ، ولكنّ جهالة مثله لا تضرّ؛ لأنّه تابعيٌّ كبيرٌ، ويكفيه نسبته إلى [أبي بكرٍ] الصّدّيق، فهو حديث حسن والله أعلم.
وقوله: {وهم يعلمون} قال مجاهدٌ وعبد اللّه بن عبيد بن عمير: {وهم يعلمون} أنّ من تاب تاب اللّه عليه.
وهذا كقوله تعالى: {ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده} [التّوبة:104] وكقوله {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} [النّساء:110] ونظائر هذا كثيرةٌ جدًّا.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد أخبرنا جريرٌ، حدّثنا حبّان -هو ابن زيدٍ الشّرعبيّ-عن عبد اللّه بن عمرو، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال-وهو على المنبر-: "ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويلٌ لأقماع القول، ويلٌ للمصرّين الّذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون".
تفرّد به أحمد، رحمه اللّه).
[تفسير القرآن العظيم: 2/122-126]


تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم شرك تعالى الطائفتين المذكورتين في قوله أولئك جزاؤهم الآية، وهذه تؤذن بأن الله تعالى أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب، وليس يجب عليه تعالى من جهة العقل شيء، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره، وقوله: ونعم أجر العاملين بمنزلة قوله: ونعم الأجر، لأن نعم وبئس تطلب الأجناس المعرفة أو ما أضيف إليها وليست هذه الآية بمنزلة قوله تعالى: ساء مثلًا القوم [الأعراف: 177] لأن المثل هنا أضيف إلى معهود لا إلى جنس، فلذلك قدره أبو علي: ساء المثل مثل القوم، ويحتمل أن يكون مثل القوم مرتفعا «بساء» ولا يضمر شيء). [المحرر الوجيز: 2/361]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى -بعد وصفهم بما وصفهم به-: {أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربّهم وجنّاتٌ} أي: جزاؤهم على هذه الصّفات مغفرةٌ من اللّه وجنّاتٌ {تجري من تحتها الأنهار} أي: من أنواع المشروبات {خالدين فيها} أي: ماكثين فيها {ونعم أجر العاملين} يمدح تعالى الجنّة). [تفسير القرآن العظيم: 2/126]

تفسير قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين}
معنى{قد خلت}: قد مضت، ومعنى{سنن}: أهل سنن، أي: أهل طرائق.
والسّنّة الطّريقة، وقول الناس: فلان على السّنّة معناه على الطريقة، ولم يحتاجوا " أن يقولوا على السّنّة المستقيمة لأنّ في الكلام دليلا على ذلك، وهذا كقولنا " مؤمن " معناه مصدق وفي الكلام دليل على أنه مؤمن بأمور الله - عزّ وجلّ - التي أمر بالإيمان بها، والمعنى إنكم إذا سرتم في أسفاركم عرفتم أخبار قوم اهلكوا بتكذيبهم). [معاني القرآن: 1/469-470]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: قد خلت من قبلكم سننٌ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين (137) هذا بيانٌ للنّاس وهدىً وموعظةٌ للمتّقين (138) ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (139) إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله
الخطاب بقوله تعالى: قد خلت للمؤمنين، والمعنى: لا يذهب بكم إن ظهر الكفار المكذبون عليكم بأحد «فإن العاقبة للمتقين» وقديما أدال الله المكذبين على المؤمنين، ولكن انظروا كيف هلك المكذبون بعد ذلك، فكذلك تكون عاقبة هؤلاء، وقال النقاش: الخطاب ب قد خلت للكفار.
قال الفقيه القاضي أبو محمد رحمه الله: وذلك قلق، وخلت معناه: مضت وسلفت، قال الزجّاج: التقدير أهل سنن، و «السنن»: الطرائق من السير والشرائع والملك والفتن ونحو ذلك، وسنة الإنسان: الشيء الذي يعمله ويواليه، ومن ذلك قول خلد الهذلي، لأبي ذؤيب:
فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها = فأوّل راض سنّة من يسيرها
وقال سليمان بن قتة:
وإنّ الألى بالطّفّ من آل هاشم = تأسّوا فسنّوا للكرام التأسّيا
وقال لبيد:
من معشر سنّت لهم آباؤهم = ولكلّ قوم سنّة وإمامها
وقال ابن زيد: قد خلت من قبلكم سننٌ معناه: أمثال.
قال الفقيه الإمام: هذا تفسير لا يخص اللفظة، وقال تعالى: فسيروا وهذا الأمر قد يدرك بالإخبار دون السير لأن الإخبار إنما يكون ممن سار وعاين، إذ هو مما يدرك بحاسة البصر وعن ذلك ينتقل خبره، فأحالهم الله تعالى على الوجه الأكمل، وقوله: فانظروا، هو عند الجمهور من نظر العين، وقال قوم: هو بالفكر). [المحرر الوجيز: 2/361-362]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قد خلت من قبلكم سننٌ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين (137) هذا بيانٌ للنّاس وهدًى وموعظةٌ للمتّقين (138) ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (139) إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله وتلك الأيّام نداولها بين النّاس وليعلم اللّه الّذين آمنوا ويتّخذ منكم شهداء واللّه لا يحبّ الظّالمين (140) وليمحّص اللّه الّذين آمنوا ويمحق الكافرين (141) أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم اللّه الّذين جاهدوا منكم ويعلم الصّابرين (142) ولقد كنتم تمنّون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143)}
يقول تعالى مخاطبًا عباده المؤمنين الّذين أصيبوا يوم أحد، وقتل منهم سبعون: {قد خلت من قبلكم سننٌ} أي: قد جرى نحو هذا على الأمم الّذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثمّ كانت العاقبة لهم والدّائرة على الكافرين؛ ولهذا قال: {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين} ).
[تفسير القرآن العظيم: 2/126]


تفسير قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: هذا بيانٌ للنّاس قال الحسن: الإشارة إلى القرآن، وقال قتادة في تفسير الآية: هو هذا القرآن جعله الله بيانا للناس عامة وهدى وموعظة للمتقين خاصة، وقال بمثله ابن جريج والربيع.
قال القاضي: كونه بيانا للناس ظاهر، وهو في ذاته أيضا هدى منصوب وموعظة، لكن من عمي بالكفر وضل وقسا قلبه لا يحسن أن يضاف إليه القرآن، وتحسن إضافته إلى «المتقين» الذين فيهم نفع وإياهم هدى، وقال ابن إسحاق والطبري وجماعة: الإشارة ب هذا إلى قوله تعالى: قد خلت من قبلكم سننٌ الآية، قال ابن إسحاق: المعنى هذا تفسير للناس إن قبلوه، قال الشعبي: المعنى، هذا بيان للناس من العمى). [المحرر الوجيز: 2/362-363]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {هذا بيانٌ للنّاس} يعني: القرآن فيه بيانٌ للأمور على جليّتها، وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم {وهدًى وموعظةٌ} يعني: القرآن فيه خبر ما قبلكم و {هدًى} لقلوبكم و {موعظةٌ} أي: زاجرٌ [عن المحارم والمآثم] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/126]


* للاستزادة ينظر: هنا

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تفسير, سورة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:21 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir