قال: (فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد هو الشرك الذي أنزل فيه القرآن، وقاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النَّاس عليه).
قوله: (الذي يسميه المشركون في زماننا هذا الاعتقاد) أو الاعتقاد الكبير أو كبير الاعتقاد، يعني اعتقاد الناس في الأولياء ومالهم من الكرامات، فإن الاعتقاد قسمان عند الضُّلال، عند الخرافيين:
1- الاعتقاد العام: وهو الاعتقاد في الله -جل وعلا- العقيدة المعروفة كلٌّ بحسب مذهبه، الأشعري على أشعريته، والماتريدي على ماتريديته، بحسب البلد الذي هو فيه.
2-وهناك شيء يتفقون عليه وهو الاعتقاد الكبير، أو كبير الاعتقاد، وهو: الاعتقاد في الموتى وفي تصرف أرواحهم، وأن أرواحهم لها من التصرف والجَوَلان في الملكوت ما يمكنها أن تسمع نداء من يناديها، وأن تجيب طلب من يطلب منها، وأن لها التصرف في الكون، وأنها تطلب من الله، وأن الله -جل وعلا- لا يرد لها طلباً، إلى آخره.
ويدخلون هذا في الحديث عن الأولياء، بل يجعلون كرامات الأولياء منشأ هذا الاعتقاد، فيذكرون الكرامات، ثم يبعثون هذا الاعتقاد، وكان هذا موجوداً في نجد، وهناك كتب أورسائل مؤلفة في هذا في ذلك الزمان.
قال: (فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد، أو كبير الاعتقاد هو الشرك الذي أنزل فيه القرآن، وقاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-الناس عليه فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين):
الأول: التفريق ما بين حال المشركين في هذا الزمان وفي زمان العرب الأول، بأن أولئك لا يشركون إلا في السراء، وأما إذا جاءت الشدة والكرب يعلمون أنه لا منجي إلا الله، ويخافون أن يفوت الوقت عليهم باتخاذ الواسطة، فيقولون: هذا متى يصل إليه؟ ومتى يرفع؟ وهل سيرفع الآن؟ أم لا يرفع الآن حاجاتهم؟ فيجعلون التشفع في وقت السعة والإخلاص في وقت الضيق؛ كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم بقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} قال -جل وعلا- في الآيات التي ساقها الشيخ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً}.
وهذه المسألة مبينة على التفصيل في شرحنا (للقواعد الأربع) فهذه هي القاعدة الرابعة الأخيرة في (القواعد الأربع).
أهل هذا الزمان من المشركين عندهم أن الإشراك يكون في السراء والضراء على السواء،
بل ربما عَظُم الرغب في وقت الضر، فكانوا مثلاً: يعتقدون حتى في الكتب، مثل ما ذُكر في بعض التراجم أن أهل بلد -سموها- كانوا لا يرحلون في البحر إلا وقد وضعوا نسخة من (كتاب الشفا)للقاضي عياض المغربي المعروف في السفينة، فهو ليس اعتقاداً أيضاً في شخص، ولكن هو في كتابه؛ لما اشتمل عليه الكتاب من حقوق النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه تراجع في شرح (القواعد الأربع).
قال في آخرها: (ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً راسخاً ؟ والله المستعان) صحيح، فإن كثيرين ممن عارضوا الدعوة استغربوا من الشيخ أن يقول: شرك هؤلاء أعظم من شرك الأولين، قالوا: ما اكتفيت أن جعلتنا مساوين لأهل الجاهلية في الشرك حتى تجعل شرك أهل الإسلام أعظم من شرك أهل الجاهلية؟.
فقال: (أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً راسخاً؟).
وفي قول الشيخ: (أين من يفهم قلبه) فيه إشارة للمذهب الحق، وهو أن الفهم والإدراك وأشباه ذلك مردها إلى القلب، وليس إلى الذهن أو المخ أو العقل أو أشباه ذلك، يعني الذي هو الدماغ، ولكن العقل إدراكه من جهة القلب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))والقلب ليس محط الإدراك لأنه مضغة، ولكن لأنه المكان الذي فيه أصل انتشار الروح في البدن، تعلق الروح بالبدن، ومعلوم أن الإدراكات تبع للروح، فالروح هي المدركة، ووسيلة الإدراك الآلات التي في البدن، فكما أن اليد وسيلة تناول الشيء والمحرك الروح، فكذلك المحرك الروحُ للسان بالكلام الطيب، أو بالكلام الخبيث، المحرك الروح في التصرفات، والبدن أعضاؤه - هذه- وسائل لتنفيذ ما قام في النفس.
لهذا: المدرك في الحقيقة ليس هو البدن، إنما المدرك الروح، والبدن وسيلة، البدن آلات، العينان آلة، واللسان آلة، والشم آلة، والمخ والدماغ آلة، والقلب آلة، إلى آخره، آلة لتحصيل المعارف للروح، وهذه مسألة طويلة معروفة.
قال الشيخ -رحمه الله- هنا: (ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً راسخاً؟).
لا شك أن من فهم هذه المسألة فهماً راسخاً علم أن هذا الذي قاله الشيخ حق، وأن شرك هذا الزمان أعظم من شرك الأولين، لكن أين من يفهم؟
والمطلوب من كل طالب علم بعد معرفته لدلائل التوحيد، والحجج، أن يمرن نفسه على جواب الشبه بعد إحكام الأصل، الإخوة الذين لم يحكموا (كتاب التوحيد) ولم يحكموا (ثلاثة الأصول) ودخلوا في (كشف الشبهات) مباشرة، أو ما ضبطوا تلك الكتب، فلا يحسنوا أن يجيبوا عن الشبه إلا بعد أن يحكموا الأصول؛ لأن هذه فرع عن تلك، من أحكم تلك يدرب نفسه على جواب هذه الشبه على طريقة الشيخ رحمه الله، يتأنى ويكون حليماً، يعرف موقع الاحتجاج، يعرف كيف يجر المخالف إلى الحجة الصحيحة، يعرف كيف يخلي القلب - قلب المخالف - من الحجة، ثم يبتدئ يعطيه الحق، إلى آخر ذلك، فتحتاج إلى دربة.
والملاحظ أن كثيرين يغضبون، وهم محمود غضبهم لله جل وعلا، لكن يكون جوابهم للشبهات ليس على أصوله، فيوقعون المجادِل في شبهةٍ جديدة، بل قد يقتنع أن ما عليه حق؛ لأن هذا ما استطاع أن يجيب بجواب جيد.
فالواجب على طالب العلم أن يكون متأنياً في جواب الشبهات، حاذقاً يعرف كيف يسوق المجادَل أو يسوق الخصم إلى ميدان الحجة دون أن يَلزَمه شيء، فيقيده حتى نجمعه في الآخر يكون كالمقدمة أو الخاتمة لهذا الكتاب.
ذكرنا أربع أو خمس فيما مضى، وهذه الآن واحدة جديدة، لعل أحدكم تنهض همته فيجمع هذه الأصول العامة في كيفية المناقشة، يعني: كيف يجمع الموحد نفسيته ليواجه الخصوم.
----------------
قال: (والأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة، ويدعون أشجاراً أو أحجاراً مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناساً من أفسق الناس، والذين يدعون هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنى والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك، والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به).
هذه المسألة لأهل التوحيد وليست للجواب على أهل الشبهات، بل هذه ليفهمها أهل التوحيد فهماً راسخاً، وهي: أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله، أو يدعون أشياء مطيعة لله -جل وعلا-إما يدعون أنبياء مثل ما كان يدعى موسى، ويدعى عيسى، وتدعى أنبياء بني إسرائيل، ويدعى إبراهيم عليه السلام؛ أو أولياء من الصالحين كـاللات وكغيره، وإما الملائكة، ويدعون أشجاراً أو أحجاراً مطيعة لله ليست بعاصية، يدعون أشياء مسبحة لله مطيعة، لم تخرج عن توحيده وطاعته.
وأما أهل الزمان هذا فيدعون مع الله أناساً من أفسق الناس.
فمثلاً: قوله: (من أفسق الناس) قد يكون من جهة أنه عُرف عنه في حياته الفسق والفجور بدعوى أنه سقطت عنه التكاليف، أو بكونه كان مجنوناً وكان يفعل الأشياء بجنونه، يفعل أشياء من الفسق والمنكرات والكبائر لجنونه، أو لكونه محاداً معانداً فاسقاً فاجراً، أو كافراً في نفس الأمر، وهذا نوع.
والنوع الثاني: قد يدعون أشياء في محلات يكون الدعاء منصباً على نصراني، أو يكون الدعاء منصباً على حيوان أو يكون الدعاء منصباً على يهودي، أو نحو ذلك.
وهذه المسائل تختلف باختلاف التحقيق فيها، يعني أن يقال: هذا الذي يدعى ليس بصالح؛ بل هو نقل عنه أنه قال لأتباعه كذا وكذا، أو ذكر عن نفسه أنه سقطت عنه التكاليف، كان يعاشر المردان أو النساء فيفعل كذا وكذا من الفواحش، كان يشرب الخمر، كان لا يصلي، كان يسرق، كان يحتال، إلى آخر ذلك، وهؤلاء لا شك أنهم ليسوا بأولياء، وليسوا بصالحين، بل هم فسقة فجار، وقد يكونون كفاراً.
صنف من هؤلاء يُدعى الآن ويُسأل، وهذا عند التحقيق إذا جمعت الكلام وجدت هذا الكلام صحيحاً.
المعارضون أو الخرافيون ينقسمون تجاه هذا الكلام إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:من يقول: هذا الذي تقولون عنه ليس بصحيح أصلاً، الذي ينقل عن عبد الوهاب الشعراني أنه قال كذا وكذا وكذا، يقولون: هذا مدسوس على كتبه، ليس من كتبه أصلاً.
والصنف الثاني من المتأولين، من يقول: هذا الكلام لأهله فيه تأويل، فإن اصطلاحات الصوفية تختلف عن اصطلاحات غيرهم، فقد يقولون العبارات التي فيها كفر؛ وليسوا يعنون ظاهرها، إنما يعنون معاني باطنة أخرى يفهمها القوم، مثل ما اعتذر عن ابن عربي بأنه كذا وكذا أراد مقاصد طيبة، لكن فهم كلامه على ظاهره، وهو لم يرد الظاهر، ومثل ما ينقل عن العفيف التلمساني وابن سبعين وأشباه هؤلاء.
والطائفة الثالثة من تقول: هؤلاء سقطت عنهم التكاليف أصلاً، والتكليف يراد منه أن يصفو الباطن ويفنى عن شهود السِّوى، يفنى عن شهود غير الله جل وعلا، فإذا وصل إلى هذه المرتبة فلم ير إلا الله جل وعلا، ولم يتجه إلا إلى الله جل وعلا، فإن التكاليف: الصلاة وتحريم الفواحش إنما هي لإصلاح نفسه، ونفسه قد بلغت المرتبة العليا فليس لإصلاحها مجال، وهذا قول الغلاة منهم، فيقول: (لا بأس لو فعل هذه الأفعال، هو أصلاً وصل وسقطت عنه التكاليف).
وهؤلاء الطوائف الثلاثة موجود - حتى في المؤلفات - من يتجه إلى فئة من هذه الفئات الثلاث، وهناك من المدفونين من الموتى من يُتَّجه إليه على أن المدفون فلان الولي ويكون المدفون غيره، مثل ما ذكر شيخ الإسلام عن قبر الحسين بن علي -رضي الله- عنه في القاهرة، فقد حقق -والعلماء كذلك حققوا والمؤرخون- أنه لم يصل القاهرة، وإنما سيق من العراق إلى دمشق إلى يزيد بن معاوية رحمه الله تعالى، ودفن هناك، والآن تجد قبراً للحسين في العراق ومشهد عظيم، وفي الشام وفي القاهرة.
قال: (إن المدفون في القاهرة رجل يهودي في المكان هذا).
وقالت طائفة: المدفون حيوان أصلاً في هذا المكان.
فإذاً:هم اعتقدوا في يهود، اعتقدوا في حيوانات، وهذا الصنف لم يكن يحوم حوله ذهن أو قلب أهل الجاهلية أصلاً، فلهذا صار هؤلاء أعظم وأقبح.
وهناك عمود كان في دمشق يُذهب إليه بالحيوانات، أو بأنواع من الحيوانات، مثل البقر، أو الجاموس، أو الأغنام، أو الإبل، أو أشباه ذلك، التي لم تلد، يعني: طالت ولادتها أو صار فيها مرض أو أشباه ذلك، فيطوِّفونها على هذا العمود فتلقي ما في بطنها فوراً، فيظنون أن هذا من بركة ما تحت العمود، ويقولون: هذا العمود كان يتعبد عنده رجل صالح.
وشيخ الإسلام -رحمه الله- بَيَّن قال:(هذا العمود دفن تحته رجل نصراني وساق الأدلة على ذلك، والحيوانات تسمع تعذيب النصراني في قبره، فلذلك إذا سمعت العذاب لم تتحمل، فاستطلق بطنها؛ لأنه قد جاء في الحديث:((أنه إذا تولى عنه أهله طرق بمطرقة يسمعها من يليه إلا الثقلان)).فالجن والإنس لا يسمعون العذاب؛ لأنهم مكلفون، ولو سمعوا لهلكوا ولرعبوا ولما استقامت لهم الحياة، أما الحيوانات فربما وصلها من ذلك شيء، وربما سمعت).
فكان تعلقهم ليس بولي وليس بنبي، وإنما بمكان تحته رجل نصراني، وأشباه ذلك.
وهذه الأشياء لم يكن عليها شرك الأولين، فالأولون لم يسألوا رجلاً، يعني: ما اتخذوا لـعمرو بن لحي المشرك، الذي أول من سيب السوائب وساق الآلهة، ما اتخذوا له قبراً يعبدونه ولا سألوه، إلى آخر أصناف عظمائهم المشركين، لكن أهل الأزمنة المتأخرة اعتقدوا في أنواع من الناس من فسقة هذه الأمة، أو ممن ارتد، أو من النصارى، أو من اليهود؛ لهذا قال الشيخ -رحمه الله تعالى- هنا: (والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور) وفي النسخة التي عندي: (هم الذين يحلون لهم الفجور) ماذا عندك؟(يحكون عنهم الفجور) هذا الذي أعرفه، لكن هذه (يحلون لهم).
(يحكون عنهم الفجور من الزنى والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك، والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر، أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به) لا شك، يراه يزني ويعتقد أنه ولي من أولياء الله، يراه لا يصلي ويعتقد أنه من أولياء الله، هذا لاشك أنه ضلال فوق الضلال، ويسأله ويدعوه ويرى أنه يستشفع به، لا شك أن هذا أعظم وأبشع مما يذكر عن أهل الجاهلية.