دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دروس التفسير لبرنامج إعداد المفسّر > دروس تفسير سورة آل عمران

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 2 ربيع الثاني 1436هـ/22-01-2015م, 10:10 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تفسير سورة آل عمران[من الآية (7) إلى الآية (9) ]

تفسير قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}

تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلّا اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلّا أولو الألباب}
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما إنّه قال: المحكمات: الآيات في آخر الأنعام, وهي قوله تعالى:{قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم}, إلى آخر هذه الآيات، والآيات المتشابهات {الم}, و{المر}, وما اشتبه على اليهود من هذه , ونحوها.
وقال قوم: معنى{منه آيات محكمات} أي: أحكمت في الإبانة , فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها؛ لأنها ظاهرة بينة نحو : ما أنبأ الله من أقاصيص الأنبياء مما اعترف به أهل الكتاب, وما أخبر الله به من إنشاء الخلق من قوله عز وجل: {ثمّ خلقنا النّطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثمّ أنشأناه خلقاً آخر}, فهذا اعترف القوم به, وأقروا بأن الله هو خالقهم، وما أخبر اللّه به من خلقه من الماء كل شيء حي وما خلق لهم من الثمار, وسخر لهم من الفلك, والرياح , وما أشبه ذلك.
فهذا ما لم ينكروه، وأنكروا ما احتاجوا فيه إلى النظر , والتدبر من أن اللّه عزّ وجلّ يبعثهم بعد أن يصيروا تراباً, فقال: {وقال الّذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبّئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّق إنّكم لفي خلق جديد * أفترى على اللّه كذبا أم به جنّة}
{وكانوا يقولون أئذا متنا وكنّا ترابا وعظاما أإنّا لمبعوثون *أوآباؤنا الأوّلون }, فهذا الذي هو المتشابه عليهم، فأعلمهم اللّه الوجه الذي ينبغي أن يستدلوا به على أن هذا المتشابه عليهم كالظاهر إن تدبروه, ونظروا فيه، فقال عزّ وجلّ: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم* قل يحييها الّذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكلّ خلق عليم * الّذي جعل لكم من الشّجر الأخضر ناراً}
وقال: {أوليس الّذي خلق السّماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} أي: إذا كنتم قد أقررتم بالإنسان , والابتداء , فما تنكرون من البعث والنشور؛ وهذا قول كثير من الناس وهو بين واضح, والقول الأول حسن أيضاً, فأما (أخر) فغير مصروفة.
زعم سيبويه, والخليل أن (أخر) فارقت أخواتها, والأصل الذي عليه بناء أخواتها، لأن أخر أصلها أن تكون صفة بالألف واللام, كما تقول الصغرى والصّغر، والكبرى والكبر, فلما عدلت عن مجرى الألف واللام , وأصل " أفعل منك ", وهي مما لا تكون إلا صفة منعت الصرف.
وقوله عزّ وجلّ: {فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه}الزيغ: الجور والميل عن القصد، ويقال: زاغ, يزيغ إذا جار.
ومعنى (ابتغاء الفتنة) أي: يفعلون ذلك لطلب الفتنة, ولطلب التأويل.
والفتنة في اللغة على ضروب:
فالضرب الذي ابتغاه هؤلاء هو فساد ذات البين في الدّين والحروب، والفتنة في اللغة: الاستهتار بالشيء والغلو فيه.
يقال: فلان مفتون في طلب الدنيا، أي: قد غلا في طلبها , وتجاوز القدرة, والفتنة الاختبار كقوله عزّ وجلّ: {وكذلك فتنّا بعضهم ببعض} أي: اختبرنا، ومعنى ابتغائهم تأويله كأنهم طلبوا تأويل بعثهم , وإحيائهم، فأعلم الله أن تأويل ذلك, ووقته لا يعلمه إلا الله, والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {هل ينظرون إلّا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الّذين نسوه من قبل}أي: يوم يرون ما وعدوا به من البعث, والنشور, والعذاب.
{يقول الّذين نسوه من قبل} أي: الذين تركوه, وتركوا ما أنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم عن اللّه عزّ وجلّ من بعثهم، ومجازاتهم.
وقوله عزّ وجلّ: {قد جاءت رسل ربّنا بالحقّ} أي: قد رأينا ما أنبأتنا به الرسل.
فالوقف التام قوله: (وما يعلم تأويله إلّا اللّه) أي: لا يعلم أحد متى البعث(غير اللّه).
ومعنى: (والراسخون في العلم)أي: الثابتون.
يقال: رسخ الشيء , يرسخ, رسوخاً إذا ثبت, أي: يقولون صدقنا بأنّ اللّه يبعثنا، ويؤمنون بأنّ البعث حق كما أن الإنشاء حق، ويقولون: {كلّ من عند ربّنا}, ويدل على أن الأمر الذي اشتبه عليهم لم يتدبروه.
قوله عزّ وجلّ: {وما يذّكّر إلّا أولو الألباب} أي: ذوو العقول, أي: ما يتذكر القرآن , وما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم إلّا أولو الألباب).[معاني القرآن: 1/376-379]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والكتاب في هذه الآية القرآن بإجماع من المتأولين، والمحكمات: المفصلات المبينات الثابتات الأحكام، والمتشابهات هي التي فيها نظر وتحتاج إلى تأويل ويظهر فيها ببادئ النظر إما تعارض مع أخرى أو مع العقل، إلى غير ذلك من أنواع التشابه، فهذا الشبه الذي من أجله توصف ب متشابهاتٌ، إنما هو بينها وبين المعاني الفاسدة التي يظنها أهل الزيغ ومن لم يمعن النظر، وهذا نحو الحديث الصحيح، عن النبي عليه السلام: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات» أي يكون الشيء حراما في نفسه فيشبه عند من لم يمعن النظر شيئا حلالا وكذلك الآية يكون لها في نفسها معنى صحيح فتشبه عند من لم يمعن النظر أو عند الزائغ معنى آخر فاسدا فربما أراد الاعتراض به على كتاب الله، هذا عندي معنى الإحكام والتشابه في هذه الآية، ألا ترى أن نصارى نجران قالوا للنبي عليه السلام، أليس في كتابك أن عيسى كلمة وروح منه؟ قال: «نعم»، قالوا: فحسبنا إذا.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: «فهذا التشابه»، واختلفت عبارة المفسرين في تعيين المحكم والمتشابه المراد بهذه الآية، فقال ابن عباس: «المحكمات هي قوله تعالى:{قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم}[الأنعام: 151]إلى ثلاث آيات»، وقوله في بني إسرائيل: {وقضى ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه}[الإسراء: 23] وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات، وقال ابن عباس أيضا: «المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وما يؤمن به ويعمل، والمتشابه منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به»، وقال ابن مسعود وغيره: «المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات».
قال الفقيه الإمام: «وهذا عندي على جهة التمثيل أي يوجد الإحكام في هذا والتشابه في هذا، لا أنه وقف على هذا النوع من الآيات»، وقال بهذا القول قتادة والربيع والضحاك، وقال مجاهد وعكرمة:
المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو متشابه يصدق بعضه بعضا، وذلك مثل قوله: {وما يضلّ به إلّا الفاسقين}[البقرة: 26] وقوله: {كذلك يجعل اللّه الرّجس على الّذين لا يؤمنون}[الأنعام: 125].
قال الفقيه أبو محمد: «وهذه الأقوال وما ضارعها يضعفها أن أهل الزيغ لا تعلق لهم بنوع مما ذكر دون سواه»، وقال محمد بن جعفر بن الزبير: «المحكمات هي التي فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد».
قال الفقيه الإمام أبو محمد: «وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية»، وقال ابن زيد: «المحكم ما أحكم فيه قصص الأنبياء والأمم وبين لمحمد وأمته، والمتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور بعضها باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبعضه بعكس ذلك نحو قوله:{حيّةٌ تسعى}[طه: 20] و{ثعبانٌ مبينٌ}[الأعراف: 107]ونحو:{اسلك يدك}و{أدخل يدك}»، وقالت جماعة من العلماء منهم جابر بن عبد الله بن رئاب وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري، وغيرهما: «المحكمات من آي القرآن ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه» قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
قال القاضي رحمه الله: «أما الغيوب التي تأتي فهي من المحكمات، لأن ما يعلم البشر منها محدود وما لا يعلمونه وهو تحديد الوقت محدود أيضا، وأما أوائل السور فمن المتشابه لأنها معرضة للتأويلات ولذلك اتبعته اليهود وأرادوا أن يفهموا منه مدة أمة محمد عليه السلام»، وفي بعض هذه العبارات التي ذكرنا للعلماء اعتراضات، وذلك أن التشابه الذي في هذه الآية مقيد بأنه مما لأهل الزيغ به تعلق، وفي بعض عبارات المفسرين تشابه لا يقتضي لأهل الزيغ تعلقا.
وقوله تعالى: {أمّ الكتاب} فمعناه الإعلام بأنها معظم الكتاب وعمدة ما فيه إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل ولم يفرط في شيء منه، قال يحيى بن يعمر: «هذا كما يقال لمكة- أم القرى- ولمرو أم خراسان، وكما يقال أم الرأس لمجتمع الشؤون إذ هو أخطر مكان»، قال المهدوي والنقاش: «كل آية محكمة في كتاب الله يقال لها أمّ الكتاب»، وهذا مردود بل جميع المحكم هو أمّ الكتاب، وقال النقاش: «وذلك كما تقول: كلكم عليّ أسد ضار». قال الفقيه أبو محمد: «وهذا المثال غير محكم»، وقال ابن زيد: «أمّ الكتاب معناه جماع الكتاب»، وحكى الطبري عن أبي فاختة أنه قال: «هنّ أمّ الكتاب يراد به فواتح السور إذ منها يستخرج القرآن {الم ذلك الكتاب} منه استخرجت سورة البقرة {الم اللّه لا إله إلّا هو} منه استخرجت سورة آل عمران»، وهذا قول متداع للسقوط مضطرب لم ينظر قائله أول الآية وآخرها ومقصدها وإنما معنى الآية الإنحاء على أهل الزيغ والإشارة بذلك أولا إلى نصارى نجران وإلى اليهود الذين كانوا معاصرين لمحمد عليه السلام فإنهم كانوا يعترضون معاني القرآن، ثم تعم بعد ذلك كل زائغ، فذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب على محمد إفضالا منه ونعمة، وأن محكمه وبينه الذي لا اعتراض فيه هو معظمه والغالب عليه، وأن متشابه الذي يحتمل التأويل ويحتاج إلى التفهم هو أقله. ثم إن أهل الزيغ يتركون المحكم الذي فيه غنيتهم ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة وأن يفسدوا ذات البين ويردوا الناس إلى زيغهم، فهكذا تتوجه المذمة عليهم، وأخر جمع أخرى لا ينصرف لأنه صفة، وعدل عن الألف واللام في أنه يثنى ويجمع، وصفات التفضيل كلها إذا عريت عن الألف واللام لم تثن ولم تجمع كأفضل وما جرى مجراه، ولا يفاضل بهذه الصفات بين شيئين إلا وهي منكرة، ومتى دخلت عليه الألف واللام زال معنى التفضيل بين أمرين، وليس عدل أخر عن الألف واللام مؤثرا في التعريف كما هو عدل- سحر- بل أخر نكرة، وأما سحر فعدل بأنه زالت الألف واللام وبقي معرفة في قوله، جئت يوم الجمعة سحر، وخلط المهدوي في هذه المسألة وأفسد كلام سيبويه فتأمله.
قوله تعالى: {الّذين في قلوبهم زيغٌ} يعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل صاحب بدعة، والزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، والإشارة بالآية في ذلك الوقت كانت إلى نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى عليه السلام، قاله الربيع، وإلى اليهود، ثم تنسحب على كل ذي بدعة أو كفر، وبالميل عن الهدى فسر الزيغ محمد بن جعفر بن الزبير وابن مسعود وجماعة من الصحابة ومجاهد وغيرهم، وما تشابه منه هو الموصوف آنفا- بمتشابهات- وقال قتادة في تفسير قوله تعالى: {فأمّا الّذين في قلوبهم زيغٌ}:«إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج، فلا أدري من هم؟» وقالت عائشة: «إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن فهم الذي عنى الله فاحذروهم»، وقال الطبري: «الأشبه أن تكون الآية في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدته ومدة أمته بسبب حروف أوائل السور، وهؤلاء هم اليهود»، وابتغاء نصب على المفعول من أجله، ومعناه طلب الفتنة، وقال الربيع: «الفتنة هنا الشرك»، وقال مجاهد: «الفتنة الشبهات واللبس على المؤمنين»، ثم قال: «وابتغاء تأويله والتأويل هو مرد الكلام ومرجعه والشيء الذي يقف عليه من المعاني، وهو من آل يؤول، إذا رجع، فالمعنى وطلب تأويله على منازعهم الفاسدة. هذا فيما له تأويل حسن وإن كان مما لا يتأول بل يوقف فيه كالكلام في معنى الروح ونحوه، فنفس طلب تأويله هو اتباع ما تشابه». وقال ابن عباس: «ابتغوا معرفة مدة محمد صلى الله عليه وسلم النبي عليه السلام وأمته»، ثم قال: «وما يعلم تأويله إلّا اللّه فهذا على الكمال والتوفية فيما لا يتأول ولا سبيل لأحد إليه كأمر الروح وتعرف وقت قيام الساعة وسائر الأحداث التي أنذر بها الشرع، وفيما يمكن أن يتأوله العلماء ويصح التطرق إليه، فمعنى الآية: وما يعلم تأويله على الكمال إلا الله».
واختلف العلماء في قوله تعالى: {والرّاسخون في العلم} فرأت فرقة: «أن رفع والرّاسخون هو بالعطف على اسم الله عز وجل وأنهم داخلون في علم المتشابه في كتاب الله وأنهم مع علمهم به، يقولون آمنّا به الآية». قال بهذا القول ابن عباس، وقال: «أنا ممن يعلم تأويله»، وقال مجاهد: «والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به»، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير وغيرهم، ويقولون على هذا التأويل نصب على الحال، وقالت طائفة أخرى: «والرّاسخون رفع بالابتداء وهو مقطوع من الكلام الأول وخبره يقولون، والمنفرد بعلم المتشابه هو الله وحده بحسب اللفظ في الآية وفعل الراسخين قولهم آمنّا به» قالته عائشة وابن عباس أيضا، وقال عروة بن الزبير: «إن الراسخين لا يعلمون تأويله ولكنهم يقولون، آمنّا به»، وقال أبو نهيك الأسدي: «إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم آمنّا به كلٌّ من عند ربّنا» وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز، وحكى نحوه الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس.
قال القاضي رحمه الله: «وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق، وذلك أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين: - محكما ومتشابها- فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب لا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شيء يلبس ويستوي في علمه الراسخ وغيره والمتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم البتة، كأمر الروح، وآماد المغيبات التي قد أعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلك، ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب، فيتأول تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم كقوله في عيسى:{وروحٌ منه}[النساء: 171]إلى غير ذلك، ولا يسمى أحد راسخا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخا»، وقوله تعالى: {وما يعلم تأويله} الضمير عائد على جميع متشابه القرآن، وهو نوعان كما ذكرنا، فقوله إلّا اللّه مقتض ببديهة العقل أنه يعلمه على الكمال والاستيفاء، يعلم نوعيه جميعا، فإن جعلنا قوله: {والرّاسخون} عطفا على اسم الله تعالى، فالمعنى إدخالهم في علم التأويل لا على الكمال، بل علمهم إنما هو في النوع الثاني من المتشابه، وبديهة العقل تقضي بهذا، والكلام مستقيم على فصاحة العرب كما تقول: ما قام لنصرتي إلا فلان وفلان، وأحدهما قد نصرك بأن حارب معك، والآخر إنما أعانك بكلام فقط، إلى كثير من المثل، فالمعنى وما يعلم تأويل المتشابه إلا الله والرّاسخون كل بقدره، وما يصلح له، والرّاسخون بحال قول في جميعه آمنّا به، وإذا تحصل لهم في الذي لا يعلم ولا يتصور عليه تمييزه من غيره فذلك قدر من العلم بتأويله، وإن جعلنا قوله: {والرّاسخون} رفعا بالابتداء مقطوعا مما قبله، فتسميتهم راسخين يقتضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم، إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع، وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام وموارد الأحكام، ومواقع المواعظ، وذلك كله بقريحة معدة، فالمعنى وما يعلم تأويله على الاستيفاء إلى الله، والقوم الذين يعلمون منه ما يمكن أن يعلم يقولون في جميعه آمنّا به كلٌّ من عند ربّنا وهذا القدر هو الذي تعاطى ابن عباس رضي الله عنه، وهو ترجمان القرآن، ولا يتأول عليه أنه علم وقت الساعة وأمر الروح وما شاكله. فإعراب الرّاسخون يحتمل الوجهين، ولذلك قال ابن عباس بهما، والمعنى فيهما يتقارب بهذا النظر الذي سطرناه.
فأما من يقول: إن المتشابه إنما هو ما لا سبيل لأحد إلى علمه فيستقيم على قوله إخراج الراسخين من علم تأويله، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح، بل الصحيح في ذلك قول من قال: المحكم ما لا يحتمل إلا تأويلا واحدا والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها، وهذا هو متبع أهل الزيغ، وعلى ذلك يترتب النظر الذي ذكرته، ومن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه فإنما أرادوا هذا النوع وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال، وكذلك ذهب الزجاج إلى أن الإشارة بما تشابه منه إنما هي إلى وقت البعث الذي أنكره، وفسر باقي الآية على ذلك، فهذا أيضا تخصيص لا دليل عليه، وأما من يقول، إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس: «إلا الله ويقول: الراسخون في العلم آمنا به»، وقرأ ابن مسعود «وابتغاء تأويله» إن تأويله إلا عند الله، - والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به- والرسوخ الثبوت في الشيء، وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل أو الشجر في الأرض وسئل النبي عليه السلام عن «الراسخين في العلم»، فقال: «هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام»، وقوله: {كلٌّ من عند ربّنا} فيه ضمير عائد على كتاب الله، محكمه ومتشابهه، والتقدير، كله من عند ربنا، وحذف الضمير لدلالة لفظ كل عليه، إذ هي لفظة تقتضي الإضافة. ثم قال تعالى: {وما يذّكّر إلّا أولوا الألباب} أي ما يقول هذا ويؤمن به ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب، وهو العقل، وأولوا: جمع ذو). [المحرر الوجيز: 2/ 155-163]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهاتٌ فأمّا الّذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلا أولو الألباب (7) ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب (8) ربّنا إنّك جامع النّاس ليومٍ لا ريب فيه إنّ اللّه لا يخلف الميعاد (9)}
يخبر تعالى أنّ في القرآن آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب، أي: بيّناتٌ واضحات الدّلالة، لا التباس فيها على أحدٍ من النّاس، ومنه آياتٌ أخر فيها اشتباهٌ في الدّلالة على كثيرٍ من النّاس أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكّم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى. ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى:
{هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب} أي: أصله الّذي يرجع إليه عند الاشتباه {وأخر متشابهاتٌ} أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللّفظ والتّركيب، لا من حيث المراد.
وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه، فروي عن السّلف عباراتٌ كثيرةٌ، فقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال:
«المحكمات ناسخه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به».
وكذا روي عن عكرمة، ومجاهدٍ، وقتادة، والضّحّاك، ومقاتل بن حيّان، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّي أنّهم قالوا:
«المحكم الّذي يعمل به». وعن ابن عبّاسٍ أيضًا أنّه قال: «المحكمات في قوله تعالى:{قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم ألا تشركوا به شيئًا}[الأنعام: 151]والآيتان بعدها، وقوله تعالى:{وقضى ربّك ألا تعبدوا إلا إيّاه}[الإسراء: 23]إلى ثلاث آياتٍ بعدها». رواه ابن أبي حاتمٍ، وحكاه عن سعيد بن جبير ثمّ قال: حدّثنا أبي، حدّثنا سليمان بن حربٍ، حدّثنا حمّاد بن زيد، عن إسحاق بن سويد أنّ يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا في هذه الآية: {هنّ أمّ الكتاب} فقال أبو فاختة: «فواتح السّور». وقال يحيى بن يعمر: «الفرائض، والأمر والنّهي، والحلال والحرام».
وقال ابن لهيعة، عن عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ:
{هنّ أمّ الكتاب} يقول: «أصل الكتاب، وإنّما سمّاهنّ أمّ الكتاب؛ لأنّهنّ مكتوباتٌ في جميع الكتب». وقال مقاتل بن حيّان: «لأنّه ليس من أهل دينٍ إلّا يرضى بهنّ».
وقيل في المتشابهات:
«إنّهنّ المنسوخة، والمقدّم منه والمؤخّر، والأمثال فيه والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به». رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ. وقيل: «هي الحروف المقطّعة في أوائل السّور»، قاله مقاتل بن حيّان.
وعن مجاهدٍ:
«المتشابهات يصدّق بعضهنّ بعضًا. وهذا إنّما هو في تفسير قوله:{كتابًا متشابهًا مثاني}[الزّمر: 23]هناك ذكروا: أنّ المتشابه هو الكلام الّذي يكون في سياقٍ واحدٍ، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنّة وصفة النّار، وذكر حال الأبرار ثمّ حال الفجّار، ونحو ذلك فأمّا هاهنا فالمتشابه هو الّذي يقابل المحكم».
وأحسن ما قيل فيه الّذي قدّمناه، وهو الّذي نصّ عليه محمّد بن إسحاق بن يسارٍ، رحمه اللّه، حيث قال:
« {منه آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب}فيهنّ حجّة الرّبّ، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهنّ تصريفٌ ولا تحريفٌ عمّا وضعن عليه».
قال:
«والمتشابهات في الصّدق، لهنّ تصريفٌ وتحريفٌ وتأويلٌ، ابتلى اللّه فيهنّ العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألّا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرّفن عن الحق».
ولهذا قال تعالى:
{فأمّا الّذين في قلوبهم زيغٌ} أي: ضلالٌ وخروجٌ عن الحقّ إلى الباطل {فيتّبعون ما تشابه منه} أي: إنّما يأخذون منه بالمتشابه الّذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأمّا المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنّه دامغٌ لهم وحجّةٌ عليهم، ولهذا قال: {ابتغاء الفتنة} أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنّهم يحتجّون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجّةٌ عليهم لا لهم، كما لو احتجّ النّصارى بأنّ القرآن قد نطق بأنّ عيسى هو روح اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى {إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليه}[الزّخرف: 59] وبقوله: {إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون} [آل عمران: 59] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرّحة بأنّه خلقٌ من مخلوقات اللّه، وعبدٌ، ورسولٌ من رسل اللّه.
وقوله:
{وابتغاء تأويله} أي: تحريفه على ما يريدون وقال مقاتلٌ والسّدّيّ: «يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن».
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل، حدّثنا أيّوب عن عبد اللّه بن أبي مليكة، عن عائشة قالت:
«قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهاتٌ فأمّاالّذين في قلوبهم زيغٌ} إلى قوله: {أولو الألباب} فقال: «فإذا رأيتم الّذين يجادلون فيه فهم الّذين عنى الله فاحذروهم». هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد، رحمه اللّه، من رواية ابن أبي مليكة، عن عائشة، ليس بينهما أحدٌ. وهكذا رواه ابن ماجه من طريق إسماعيل بن عليّة وعبد الوهّاب الثّقفيّ، كلاهما عن أيّوب، عن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن أبي مليكة، عنها.
ورواه محمّد بن يحيى العبديّ في مسنده عن عبد الوهّاب الثّقفيّ، عن أيّوب، به. وكذا رواه عبد الرّزّاق، عن معمر عن أيّوب. وكذا رواه غير واحدٍ عن أيّوب. وقد رواه ابن حبّان في صحيحه، من حديث أيّوب، به.
وتابع أيّوب أبو عامرٍ الخزّاز وغيره عن ابن أبي مليكة، فرواه التّرمذيّ عن بندار، عن أبي داود الطّيالسيّ، عن أبي عامرٍ الخزّاز، فذكره. وهكذا رواه سعيد بن منصورٍ في سننه، عن حمّاد بن يحيى الأبحّ، عن عبد اللّه بن أبي مليكة، عن عائشة. ورواه ابن جريرٍ، من حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجمحيّ، كلاهما عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، به. وقال نافعٌ في روايته عن ابن أبي مليكة: حدثتني عائشة، فذكره.
وقد روى هذا الحديث البخاريّ، رحمه اللّه، عند تفسير هذه الآية، ومسلمٌ في كتاب القدر من صحيحه، وأبو داود في السّنّة من سننه، ثلاثتهم، عن القعنبيّ، عن يزيد بن إبراهيم التّستريّ، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمّدٍ، عن عائشة، رضي اللّه عنها، قالت:
«تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهاتٌ} إلى قوله: {وما يذّكّر إلا أولو الألباب} قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «فإذا رأيت الّذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الّذين سمّى الله فاحذروهم» لفظ البخاريّ.
وكذا رواه التّرمذيّ أيضًا، عن بندارٍ، عن أبي داود الطّيالسيّ، عن يزيد بن إبراهيم التّستريّ، به. وقال: حسنٌ صحيحٌ. وذكر أنّ يزيد بن إبراهيم التّستريّ تفرّد بذكر القاسم في هذا الإسناد، وقد رواه غير واحدٍ عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، ولم يذكروا القاسم. كذا قال.
ورواه ابن المنذر في تفسيره من طريقين عن النّعمان بن محمّد بن الفضل السّدوسيّ -ولقبه عارمٌ-حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، حدّثنا أيّوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، به.
وقد رواه ابن أبي حاتمٍ فقال: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو الوليد الطّيالسيّ، حدّثنا يزيد بن إبراهيم التّستريّ وحمّاد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمّدٍ، عن عائشة قالت:
«سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن قول اللّه عزّ وجلّ: {فأمّا الّذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه} فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا رأيتم الّذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الّذين سمّى الله، فاحذروهم».
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا عليّ بن سهلٍ حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، عن حمّاد بن سلمة، عن عبد الرّحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: نزع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بهذه الآية:
{فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة} فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «قد حذّركم الله، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم». ورواه ابن مردويه من طريقٍ أخرى، عن القاسم، عن عائشة به.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو كاملٍ، حدّثنا حمّادٌ، عن أبي غالبٍ قال: سمعت أبا أمامة يحدّث، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله:
{فأمّاالّذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه} قال: «هم الخوارج»، وفي قوله: {يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوهٌ}.[آل عمران: 106] قال: «هم الخوارج». وقد رواه ابن مردويه من غير وجهٍ، عن أبي غالبٍ، عن أبي أمامة مرفوعا، فذكره.
وهذا الحديث أقلّ أقسامه أن يكون موقوفًا من كلام الصّحابيّ، ومعناه صحيحٌ؛ فإنّ أوّل بدعةٍ وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدّنيا حين قسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غنائم حنين، فكأنّهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنّه لم يعدل في القسمة، ففاجؤوه بهذه المقالة، فقال قائلهم -وهو ذو الخويصرة-بقر اللّه خاصرته-اعدل فإنّك لم تعدل، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني». فلمّا قفا الرّجل استأذن عمر بن الخطّاب -وفي روايةٍ: خالد بن الوليد-ولا بعد في الجمع -رسول اللّه في قتله، فقال: «دعه فإنّه يخرج من ضئضئ هذا-أي: من جنسه -قومٌ يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجرًا لمن قتلهم».
ثمّ كان ظهورهم أيّام عليّ بن أبي طالبٍ، وقتلهم بالنّهروان، ثمّ تشعّبت منهم شعوبٌ وقبائل وآراءٌ وأهواءٌ ومقالاتٌ ونحلٌ كثيرةٌ منتشرةٌ، ثمّ نبعت القدريّة، ثمّ المعتزلة، ثمّ الجهميّة، وغير ذلك من البدع الّتي أخبر عنها الصّادق المصدوق في قوله:
«وستفترق هذه الأمّة على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، كلّها في النّار إلّا واحدةً» قالوا: من هم يا رسول اللّه؟ قال: «من كان على ما أنا عليه وأصحابي» أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزّيادة.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا أبو موسى، حدّثنا عمرو بن عاصمٍ، حدّثنا المعتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن عن جندب بن عبد اللّه أنّه بلغه، عن حذيفة -أو سمعه منه-يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه ذكر:
«إنّ في أمّتي قومًا يقرؤون القرآن ينثرونه نثر الدّقل، يتأوّلونه على غير تأويله». لم يخرّجوه.
وقوله:
{وما يعلم تأويله إلا اللّه} اختلف القرّاء في الوقف هاهنا، فقيل: على الجلالة، كما تقدّم عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: «التّفسير على أربعة أنحاءٍ: فتفسيرٌ لا يعذر أحدٌ في فهمه، وتفسيرٌ تعرفه العرب من لغاتها، وتفسيرٌ يعلمه الرّاسخون في العلم، وتفسيرٌ لا يعلمه إلّا اللّه عزّ وجلّ». ويروى هذا القول عن عائشة، وعروة، وأبي الشّعثاء، وأبي نهيك، وغيرهم.
وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير: حدّثنا هاشم بن مرثدٍ حدّثنا محمّد بن إسماعيل بن عيّاشٍ، حدّثني أبي، حدّثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيدٍ، عن أبي مالكٍ الأشعريّ أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول:
«لا أخاف على أمّتي إلّا ثلاث خلالٍ: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله، {وما يعلم تأويله إلا اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلا أولو الألباب} الآية، وأن يزداد علمهم فيضيّعوه ولا يبالون عليه» غريبٌ جدًّا وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم، أخبرنا أحمد بن عمرٍو، أخبرنا هشام بن عمّارٍ، أخبرنا ابن أبي حاتمٍ عن أبيه، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن ابن العاص، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به».
وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا معمر، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه قال: كان ابن عبّاسٍ يقرأ:
«{وما يعلم تأويله إلّا اللّه}ويقول الرّاسخون: آمنّا به» وكذا رواه ابن جريرٍ، عن عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنسٍ: «أنّهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله». وحكى ابن جريرٍ أنّ في قراءة عبد اللّه بن مسعودٍ: "إن تأويله إلّا عند اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به". وكذا عن أبيّ بن كعبٍ. واختار ابن جريرٍ هذا القول.
ومنهم من يقف على قوله:
{والرّاسخون في العلم} وتبعهم كثيرٌ من المفسّرين وأهل الأصول، وقالوا: الخطاب بما لا يفهم بعيدٌ.
وقد روى ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، عن ابن عباس أنّه قال:
«أنا من الرّاسخين الّذين يعلمون تأويله». وقال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «والرّاسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنّا به». وكذا قال الرّبيع بن أنسٍ.
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن جعفر بن الزّبير:
«{وما يعلم تأويله}الّذي أراد ما أراد{إلا اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به}ثمّ ردّوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة الّتي لا تأويل لأحدٍ فيها إلّا تأويلٌ واحدٌ، فاتّسق بقولهم الكتاب، وصدّق بعضه بعضًا، فنفذت الحجّة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودفع به الكفر».
وفي الحديث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دعا لابن عبّاسٍ فقال:
«اللّهمّ فقّهه في الدّين وعلّمه التّأويل».
ومن العلماء من فصّل في هذا المقام، فقال: التّأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان،
أحدهما: التّأويل بمعنى حقيقة الشّيء، وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: {ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجّدًا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربّي حقًّا}[يوسف: 100] وقوله: {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله}[الأعراف: 53] أي: حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتّأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأنّ حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجليّة إلّا اللّه عزّ وجلّ، ويكون قوله: {والرّاسخون في العلم} مبتدأً و {يقولون آمنّا به} خبره. وأمّا إن أريد بالتّأويل المعنى الآخر وهو التّفسير والتّعبير والبيان عن الشّيء كقوله تعالى: {نبّئنا بتأويله}[يوسف: 36] أي: بتفسيره، فإنّ أريد به هذا المعنى، فالوقف على: {والرّاسخون في العلم} لأنّهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله: {يقولون آمنّا به} حالًا منهم، وساغ هذا، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه، كقوله: {للفقراء المهاجرين الّذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} إلى قوله: {والّذين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان} الآية [الحشر: 8-10]، وكقوله تعالى: {وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا}[الفجر: 22] أي: وجاءت الملائكة صفوفًا صفوفًا.
وقوله إخبارًا عنهم أنّهم
{يقولون آمنّا به} أي: بالمتشابه {كلٌّ من عند ربّنا} أي: الجميع من المحكم والمتشابه حقٌّ وصدقٌ، وكلّ واحدٍ منهما يصدّق الآخر ويشهد له؛ لأنّ الجميع من عند اللّه وليس شيءٌ من عند اللّه بمختلفٍ ولا متضادٍّ لقوله: {أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}[النّساء: 82] ولهذا قال تعالى: {وما يذّكّر إلا أولو الألباب} أي: إنّما يفهم ويعقل ويتدبّر المعاني على وجهها أولو العقول السّليمة والفهوم المستقيمة.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عوفٍ الحمصيّ، حدّثنا نعيم بن حمّادٍ، حدّثنا فيّاضٌ الرّقّيّ، حدّثنا عبد اللّه بن يزيد -وكان قد أدرك أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أنسًا، وأبا أمامة، وأبا الدّرداء، رضي اللّه عنهم، قال: حدّثنا أبو الدّرداء، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن الرّاسخين في العلم، فقال:
«من برّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن أعفّ بطنه وفرجه، فذلك من الرّاسخين في العلم».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، حدّثنا معمر، عن الزهري، عن عمر بن شعيبٍ عن أبيه، عن جدّه قال: سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قومًا يتدارءون فقال:
«إنّما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعضٍ، وإنّما أنزل كتاب اللّه ليصدّق بعضه بعضًا، فلا تكذّبوا بعضه ببعضٍ، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه».
و قد تقدّم رواية ابن مردويه لهذا الحديث، من طريق هشام بن عمّارٍ، عن ابن أبي حازمٍ عن أبيه، عن عمرو بن شعيبٍ، به.
وقد قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن عليّ بن المثنّى الموصليّ في مسنده، حدّثنا زهير بن حربٍ، حدّثنا أنس بن عياضٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي سلمة قال: لا أعلمه إلّا عن أبي هريرة، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«نزل القرآن على سبعة أحرفٍ، والمراء في القرآن كفرٌ -ثلاثًا-ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه». وهذا إسنادٌ صحيحٌ، ولكن فيه علّةٌ بسبب قول الرّاوي: «لا أعلمه إلّا عن أبي هريرة».
وقال ابن المنذر في تفسيره: أخبرنا محمّد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهبٍ قال: أخبرني نافع بن يزيد قال: يقال:
«الرّاسخون في العلم المتواضعون للّه، المتذلّلون للّه في مرضاته، لا يتعاطون من فوقهم، ولا يحقّرون من دونهم. ولهذا قال تعالى:{وما يذّكّر إلا أولو الألباب}أي: إنّما يفهم ويعقل ويتدبّر المعاني على وجهها أولو العقول السّليمة أو الفهوم المستقيمة»). [تفسير القرآن العظيم: 2/ 6-13]


تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب}أي: لا تملها عن الهدى والقصد، أي: لا تضلّنا بعد إذ هديتنا.
وقيل أيضاً {لا تزغ قلوبنا}: لا تتعبّدنا بما يكون سبباً لزيغ قلوبنا, وكلاهما جيد). [معاني القرآن: 1/379]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب (8) ربّنا إنّك جامع النّاس ليومٍ لا ريب فيه إنّ اللّه لا يخلف الميعاد (9)}
يحتمل أن تكون هذه الآية حكاية عن الراسخين في العلم، أنهم يقولون هذا مع قولهم: {آمنّا به}[آل عمران: 7] ويحتمل أن يكون المعنى منقطعا من الأول لما ذكر أهل الزيغ وذكر نقيضهم، وظهر ما بين الحالتين عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء إليه في أن لا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت وهي أهل الزيغ، وهذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم، إن الله لا يضل العباد، ولو لم تكن الإزاغة من قبله لما جاز أن يدعي في دفع ما لا يجوز عليه فعله وتزغ معناه، تمل قلوبنا عن الهدى والحق، وقرأ أبو واقد، والجراح «ولا تزغ قلوبنا» بإسناد الفعل إلى القلوب، وهذه أيضا رغبة إلى الله تعالى. وقال أبو الفتح: «ظاهر هذا ونحوه الرغبة إلى القلوب وإنما المسئول الله تعالى»، وقوله الرغبة إلى القلوب غير متمكن، ومعنى الآية على القراءتين، أن لا يكن منك خلق الزيغ فيها فتزيغ هي. قال الزجاج: «وقيل: إن معنى الآية لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ منها قلوبنا».
قال الفقيه الإمام: «وهذا قول فيه التحفظ من خلق الله تعالى الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد»، ومن لدنك معناه: من عندك ومن قبلك، أي تكون تفضلا لا عن سبب منا ولا عمل، وفي هذا استسلام وتطارح، والمراد هب لنا نعيما صادرا عن الرحمة لأن الرحمة راجعة إلى صفات الذات فلا تتصور فيها الهبة). [المحرر الوجيز: 2/ 163-164]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى عنهم مخبرًا أنّهم دعوا ربّهم قائلين: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} أي: لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه ولا تجعلنا كالّذين في قلوبهم زيغٌ، الّذين يتّبعون ما تشابه من القرآن ولكن ثبّتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم {وهب لنا من لدنك} أي: من عندك {رحمةً} تثبّت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيمانًا وإيقانًا {إنّك أنت الوهّاب}
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عمرو بن عبد اللّه الأودي -وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب -قالا جميعًا: حدّثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أمّ سلمة، رضي اللّه عنها، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول:
«يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» ثمّ قرأ: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب}» رواه ابن مردويه من طريق محمّد بن بكّار، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشبٍ، عن أمّ سلمة، وهي أسماء بنت يزيد بن السّكن، سمعها تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه: «اللّهمّ مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك» قالت: قلت: يا رسول اللّه، وإنّ القلب ليتقلّب ؟ قال: «نعم، ما خلق اللّه من بني آدم من بشرٍ إلّا أنّ قلبه بين أصبعين من أصابع اللّه عزّ وجلّ، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه». فنسأل اللّه ربّنا ألّا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمةً، إنّه هو الوهّاب.
وهكذا رواه ابن جريرٍ من حديث أسد بن موسى، عن عبد الحميد بن بهرام، به مثله. ورواه أيضًا عن المثنّى، عن الحجّاج بن منهال، عن عبد الحميد بن بهرام، به مثله، وزاد:
«قلت يا رسول الله، ألا تعلّمني دعوةً أدعو بها لنفسي؟ قال: «بلى قولي: اللّهمّ ربّ النّبيّ محمّدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن».
ثمّ قال ابن مردويه: حدّثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا محمّد بن هارون بن بكارٍ الدّمشقيّ، أخبرنا العبّاس بن الوليد الخلّال، أخبرنا يزيد بن يحيى بن عبيد اللّه، أخبرنا سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة، عن أبي حسّان الأعرج عن عائشة، رضي اللّه عنها، قالت:
«كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كثيرًا ما يدعو: «يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك»، قلت: يا رسول اللّه، ما أكثر ما تدعو بهذا الدّعاء. فقال: «ليس من قلبٍ إلّا وهو بين أصبعين من أصابع الرّحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، أما تسمعين قوله: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب}». غريبٌ من هذا الوجه، ولكنّ أصله ثابتٌ في الصّحيحين، وغيرهما من طرقٍ كثيرةٍ بدون زيادة ذكر هذه الآية الكريمة.
وقد روى أبو داود والنّسائيّ وابن مردويه، من حديث أبي عبد الرحمن المقري -زاد النّسائيّ وابن حبّان: وعبد اللّه بن وهبٍ، كلاهما عن سعيد بن أبي أيّوب حدّثني عبد اللّه بن الوليد التّجيبي، عن سعيد بن المسيّب، عن عائشة، رضي اللّه عنها، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا استيقظ من اللّيل قال:
«لا إله إلّا أنت سبحانك، اللّهمّ إنّي أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمةً، اللّهمّ زدني علمًا، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب» لفظ ابن مردويه.
وقال عبد الرّزّاق، عن مالكٍ، عن أبي عبيدٍ -مولى سليمان بن عبد الملك-عن عبادة بن نسيّ، أنّه أخبره، أنّه سمع قيس بن الحارث يقول: أخبرني أبو عبد اللّه الصنابحي:
«أنّه صلّى وراء أبي بكرٍ الصّدّيق المغرب، فقرأ أبو بكرٍ في الرّكعتين الأوليين بأمّ القرآن وسورتين من قصار المفصّل، وقرأ في الرّكعة الثّالثة، قال: فدنوت منه حتّى إنّ ثيابي لتكاد تمسّ ثيابه، فسمعته يقرأ بأمّ القرآن وهذه الآية: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب}».
قال أبو عبيدٍ: وأخبرني عبادة بن نسيّ: أنّه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلافته، فقال عمر لقيسٍ:
«كيف أخبرتني عن أبي عبد اللّه الصّنابحيّ فأخبره بما سمع أبا عبد اللّه ثانيًا. قال عمر: فما تركناها منذ سمعناها منه، وإن كنت قبل ذلك لعلى غير ذلك. فقال له رجلٌ: على أيّ شيءٍ كان أمير المؤمنين قبل ذلك؟ قال: كنت أقرأ{قل هو اللّه أحدٌ}[الإخلاص: 1]» وقد روى هذا الأثر الوليد بن مسلمٍ، عن مالكٍ والأوزاعيّ، كلاهما عن أبي عبيدٍ، به. ورواه الوليد أيضًا، عن ابن جابرٍ، عن يحيى بن يحيى الغسّانيّ، عن محمود بن لبيدٍ، عن الصّنابحي: «أنّه صلّى خلف أبي بكرٍ، رضي اللّه عنه، المغرب فقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورةٍ قصيرةٍ، يجهر بالقراءة، فلمّا قام إلى الثّالثة ابتدأ القراءة فدنوت منه حتّى إنّ ثيابي لتمسّ ثيابه، فقرأ هذه الآية:{ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/ 13-15]


تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ربّنا إنّك جامع النّاس ليوم لا ريب فيه إنّ اللّه لا يخلف الميعاد (9)}
يدل على تأويل قوله: {وما يعلم تأويله إلّا اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به}, فقولهم: {إنّك جامع النّاس ليوم لا ريب فيه}, إقرار بالبعث, ودليل أنهم خالفوا من يتبع المتشابه؛ لأن الذين ابتغوا المتشابه هم الذين أنكروا البعث.
{لا ريب فيه}لا شك فيه, وقد شرح باستقصاء فيما تقدم من كتابنا.
وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه لا يخلف الميعاد}, جائز أن يكون:
1- حكاية عن الموحدين.
2- وجائز أن يكون إخباراً عن اللّه وجائز فتح { أن اللّه لا يخلف الميعاد }, فيكون المعنى: جامع الناس ؛ لأنك لا تخلف الميعاد, أي: قد أعلمتنا ذلك , ونحن غير شاكّين فيه). [معاني القرآن: 1/379]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ربّنا إنّك جامع النّاس} إقرار بالبعث ليوم القيامة، قال الزجاج: «هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون فأقروا به، وخالف الذين اتبعوا ما تشابه عليهم من أمر البعث حين أنكروه»، والريب: الشك، والمعنى أنه في نفسه حق لا ريب فيه وإن وقع فيه ريب عند المكذبين به فذلك لا يعتد به إذ هو خطأ منهم، وقوله تعالى: {إنّ اللّه لا يخلف الميعاد} يحتمل أن يكون إخبارا منه محمدا عليه السلام وأمته، ويحتمل أن يكون حكاية من قول الداعين، ففي ذلك إقرار بصفة ذات الله تعالى، والميعاد مفعال من الوعد). [المحرر الوجيز: 2/ 164-165]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ربّنا إنّك جامع النّاس ليومٍ لا ريب فيه إنّ اللّه لا يخلف الميعاد} أي: يقولون في دعائهم: إنّك -يا ربّنا-ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلًّا بعمله، وما كان عليه في الدنيا من خير وشر). [تفسير القرآن العظيم: 2/ 15]


* للاستزادة ينظر: هنا

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تفسير, سورة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:40 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir