التمييزُ: اسمٌ نَكِرَةٌبمعنَى "مِن" مُبيِّنٌ لإبهامِ اسمٍ أو نسبةٍ([2]).
فخرَجَ بالفصلِ الأولِ نحوُ([3]): "زَيْدٌ حَسَنٌ وَجْهَهُ".
وقدْ مَضَى أنَّ قولَه:
* صَدَدْتَ وطِبْتَ النَّفْسَ يَا قَيْسُ عن عَمْرِو *([4]) [63] محمولٌ على زيادةِ: "أل".
وبالثاني الحالُ؛ فإنَّه بمعنَى في حالِ كذا, لا بمعنَى مِن.
وبالثالثِ نحوُ([5]): "لا رَجُلَ" ونحوُ:
283- أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ([6]) فإنَّهما وإنْ كانا على معنَى "مِن" لكنَّها ليستْ للبيانِ, بل هي في الأولِ للاستغراقِ وفي الثاني للابتداءِ.
وحُكْمُ التمييزِ النصْبُ, والناصِبُ لمبيِّنِ الاسمِ هو ذلك الاسمُ المُبْهَمُ([7])؛كـ "عِشْرِينَ دِرْهماً", والناصِبُ لمُبيِّنِ النسبةِ المُسْنَدش من فعلٍ أو شَبَهِه([8]) كـ "طَابَ نَفْساً", و"هو طَيِّبٌ أُبُوَّةً" وعُلِمَ بذلِكَ بُطْلانُ عُمومِ قولِه([9]):
يُنْصَبُ تَمْيِيزاً بمَا قَدْ فَسَّرَهْ([10]) فصلٌ: والاسمُ المُبْهَمُ أربعةُ أنواعٍ:
أحدُها: العَدَدُ كـ {أحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً}([11]).
والثاني: المقدارُ, وهو إمَّا مِساحةٌ؛ كـ "شِبْرٍ أرْضاً", أوكَيْلٌ؛ كـ "قَفِيزٍ بُرًّا", أو وزنٌ؛ كـ "مَنَوَيْنِ عَسَلاً" وهو تثنيةُ مَنَا, كعَصَا, ويُقالُ فيهِ: مَنٌّ. بالتشديدِ, وتثنيتُه مَنَّانِ.
والثالِثُ: ما يُشْبِهُ المقدارَ نحوُ: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً}([12]) و"نِحْيٌ سَمْناً", {ولَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}([13]) وحُمِلَ على هذا: "إنَّ لَنَا غَيْرَها إِبِلاً".
والرابعُ: ما كانَ فَرْعاً للتمييزِ نحوَ: "خَاتَمٌ حَدِيداً" فإنَّ الخاتَمَ فرعُ الحديدِ, ومثلُه: "بابٌ سَاجاً", و:"جُبَّةٌ خَزًّا", وقيلَ: إنَّه حالٌ([14]).
والنِّسبةُ المُبْهَمَةُ نوعانِ: نسبةُ الفعلِ للفاعلِ؛ نحوُ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}([15]) ونسبتُه للمفعولِ نحوُ: {وفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً}([16]).
ولك في تمييزِ الاسمِ أنَّ تَجُرَّه بإضافةِ الاسمِ؛ كـ "شِبْرِ أرْضٍ" و"قَفِيزِ بُرٍّ" و"مَنَوِيِّ عَسَلٍ" إِلاَّ إذا كانَ الاسمُ عَدَداً؛ كـ "عِشْرِينَ دِرْهماً" أو مُضافاً نحوَ: {بِمِثْلِهِ مَدَداً}([17]) و{مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً}([18]).
فصلٌ: "مِن" مُمَيِّزُ النسبةِ الواقعُ بعدَ"ما" يُفِيدُ التعَجُّبَ نحوَ: "أكْرِمْ بهِ أباً", و"مَا أشْجَعَهُ رَجُلاً", و"للَّهِ دَرُّهُ فَارِساً" والواقِعُ بعدَ اسمِ التفضيلِ, وشَرْطُ نصبِ هذا كونُه فاعِلاً معنًى نحوَ: "زَيْدٌ أكثرُ مالاً" بخلافِ: "مالُ زيدٍ أكْثَرُ مالٍ" وإنَّما جازَ: "هو أكْرَمُ الناسِ رَجُلاً"؛ لتَعَذُّرِ إضافةِ أفعَلَ مرَّتيْنِ.
فصلٌ: ويجوزُ جَرُّ التمييزِ بمِن كـ "رَطْلٍ مِن زَيْتٍ", إلا في ثلاثِ مَسائِلَ:
إحداها: تمييزُ العددِ كـ "عشرينَ دِرهماً".
الثانيةُ: التمييزُ المُحوَّلُ عن المفعولِ كـ "غَرَسْتُ الأرضَ شَجَراً" ومنه: "ما أحْسَنَ زَيْداً أدَباً" بخلافِ: "ما أحْسَنَه رَجُلاً".
الثالثةُ: ما كانَ فاعلاً في المعنَى إنْ كانَ مُحوَّلاً عن الفاعلِ صِناعَةً؛ كـ "طَابَ زَيْدٌ نَفْساً", أو عن مُضافٍ غَيْرِه نحوَ: "زَيْدٌ أكثرُ مَالاً"؛ إذ أصلُه: "مالُ زَيْدٍ أكْثَرُ"؛ بخلافِ: "للَّهِ دَرُّهُ فَارِساً.
284- *......... وأبْرَحْتِ جَارَا *([19]) فإنَّهما وإنْ كانا فاعليْنِ معنًى؛ إذ المعنَى عَظُمْتَ فَارِساً وعَظُمْتَ جَاراً, إلا أنَّهما غيرُ مُحوَّليْنِ فيجوزُ دُخولُ "مِن" عليهما, ومن ذلك "نِعْمَ رَجُلاً زَيْدٌ" يجوزُ "نِعْمَ مِن رَجُلٍ" قالَ:
285- فنِعْمَ المَرْءُ مِن رَجُلٍ تَهَامِ([20]) فصلٌ([21]): لا يَتقَدَّمُ التَّمْيِيزُ على عاملِه إذا كانَ اسْماً كـ "رَطْلٍ زَيْتاً", أو فعلاً جامداً نحوَ: "ما أحْسَنَه رَجُلاً", ونَدُرَ تَقدُّمُه على المُتصَرِّفِ؛ كقولِه:
286- أنَفْساً تَطِيبُ بنَيلِ المُنَى([22]) وقاسَ على ذلك المازنِيُّ والمُبَرِّدُ والكِسائيِّ.
([1]) التمييزُ في اللغةِ: مَصْدَرُ مَيَّزَ – بتشديدِ الياءِ– وتقولُ: "مَيَّزْتُ كَذَا من كذا". إذا خَلَّصْتَ أحَدُهما من الآخرِ، وتقولُ: "مَيَّزْتُ كذا عن كذا". إذا كانَا مُتشابهَيْنِ ففرَّقْتَ بينَ أحَدِهما والآخرِ، وهو في اصطلاحِ النحاةِ ما ذكَرَه المُؤلِّفُ بقولِه: (اسْمٌ نَكِرَةٌ ... إلخ). ومن هذا الكلامِ تُدْرِكُ أنَّ النحاةَ نَقَلَوهُ من معنَى المصدرِ إلى معنَى اسمِ الفاعلِ؛ لأنَّ الاسمَ النكرةَ عندَ التحقيقِ مُمَيِّزٌ، لكنَّ اسمَ التمييزِ صَارَ عندَهم حقيقةً عُرفِيَّةً عليه؛ ولهذا يقالُ: تَمْيِيزٌ ومُمَيِّزٌ، وتَفْسِيرٌ ومُفَسِّرٌ، وتَبْيِينٌ ومُبَيِّنٌ.
([2]) الاسمُ: جِنْسٌ في التعريفِ، والمرادُ الاسمُ الصريحُ فلم يدخُلْ فيه الجملةُ ولا الظرفُ ولا الجارُّ والمجرورُ؛ لأنَّ التمييزَ لا يكونُ واحداً من هذه الثلاثةِ، وهذا أحَدُ الفُروقِ بينَه وبينَ الحالِ؛ لأنَّ الحالَ يَكُونُ جُمْلَةً نحوَ: جَاءَ زَيْدٌ يَضْحَكُ، ويَكُونُ ظَرْفاً نحوَ:"رأيْتُ العُصفورَ فوقَ الغُصْنِ", ويكونُ جَارًّا ومَجْروراً نَحْوَ: "رَأَيْتُ الهِلالَ فِي وَسَطِ السحابِ".
([3]) أرادَ بنحوِ هذا المثالِ كُلَّ ما هو مُشَبَّهٌ بالمفعولِ به, وقد بُيِّنَ في بابِ الصفةِ المُشبَّهَةِ معنَى كونِه مُشبَّهاً بالمفعولِ به.
([4]) تَقدَّمَ ذِكْرُ هذا الشاهدِ في بابِ المُعرَّفِ بأداةِ التعريفِ (وهو الشاهدُ رقْمُ 63) وذكَرْنا هناكَ نِسْبَتَه إلى قائلِه وتَكْمِلَتَه، فارْجِعْ إليه هناكَ إنْ شِئْتَ، ومَحَلُّ الشاهدِ فيه هنا قولُه: (النفْسَ). فإنَّه تَمْيِيزٌ، والبصْرِيُّونَ على أنَّ التمييزَ يَجِبُ أنْ يكُونَ نكرةً؛ فلذلك الْتَزَموا ادِّعاءَ أنَّ "أل" فيه زائدةٌ، فأمَّا الكُوفِيُّونَ فلم يُوجِبُوا تنكيرَه؛ فلذلك ذَهَبوا إلى أنَّ"أل" هذهِ مفيدةٌ للتعريفِ.
([5]) اعلَمْ أنَّ المرادَ بـ"مِن" التي يَكُونُ التمييزُ على معناها "مِن" البيانِيَّةُ، وضَابِطُها: أنْ يكُونَ المجرورُ بها هو المُبَيَّنَ بها عينُه، والمرادُ هنا أنَّ التمييزَ يُبَيِّنُ جنسَ المُمَيَّزِ, كما أنَّ"مِن" البَيَانِيَّةَ تُبَيِّنُ ما قبلَها، واسمَ لا النافيةِ للجِنْسِ على معنَى "مِن" الاستغراقيَّةِ، والاسمُ الثاني المنصوبُ في (أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً) إذا قُلْنا: إنَّه على تقديرِ"مِن". كانتْ"مِن" هذه ابتدائيَّةً، فلا يَكُونُ واحِدٌ من اسمِ لا, وهذا الاسمُ المنصوبُ دَاخِلاً في التعريفِ؛ لاختلافِ مَعْنَى "مِن" التي يَكُونُ التمييزُ على معناها ومعنى "مِن" في هذيْنِ النوعَيْنِ، ولنا أنْ نقولَ: إِنَّ (أسْتَغْفِرُ) يَتعدَّى إلى مفعوليْنِ؛ لأنَّ غَفَرَ الثلاثيَّ يَتعدَّى لواحدٍ، والسِّينُ والتاءُ المَزِيدتيْنِ تُعدِّيانِ الفعلَ إلى مفعولٍ، فلا يَكُونُ المنصوبُ الثاني في (أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً) على معنَى "مِن" أصالةً، ومِمَّا يَنْبَغِي أنْ تَتَنَبَّهَ له أنَّ معنَى قولِهم في تعريفِ التمييزِ: (بمعنَى مِن). أنَّه قدْ جِيءَ به لتَبْيِينِ جنسِ المُمَيَّزِ, كما أنَّ"مِن" تَجِيءُ لبيانِ جِنْسِ ما قبلَها، وليسَ المرادُ به أنَّ (مِن) مُقدَّرَةٌ قبلَ التمييزِ، فإنَّ هذا المعنَى لا يَطَّرِدُ في كلِّ أنواعِ التمييزِ, فلا يَكُونُ مُراداً.
([6]) 283- لم أقِفْ لهذا الشاهدِ على نِسْبَةٍ إلى قائِلٍ مُعَيَّنٍ، والذي ذكَرَه المُؤلِّفُ صَدْرُ بيتٍ من البَسيطِ، وعَجُزُه قولُه:
*رَبَّ العبادِ إليهِ الوَجْهُ والعَمَلُ*
اللغةُ: (أستَغْفِرُ) أطْلُبُ المغفرةَ، فالسِّينُ والتاءُ في هذهِ الكلمةِ للطَّلَبِ, (ذَنْباً) الذنبُ: الجريمةُ والإثمُ، تقولُ: أذْنَبَ فلانٌ. إذا صَارَ ذا ذَنْبٍ، قالَ الأعلَمُ: (الذَّنْبُ: هنا اسمُ جِنْسٍ بمعنَى الجَمْعِ؛ فلذلك قالَ: لَسْتَ مُحْصِيَهُ). اهـ. والإحصاءُ: مُنْتَهَى العَدَدِ، واشتقاقُه مِن الحَصَى، وأصلُه أنَّهم كانوا يَضَعُونَ المعدودَ على الحَصَى، فإذا نَفَذَ المَعدُودُ قالوا: أحْصَيْنَا، يُرِيدُونَ: بَلَغْنَا الحَصَى، وتقولُ: أحْصَيْتُ الشيءَ أُحْصِيهِ. إذا كُنْتَ قد ضَبَطْتَ عَدَدَه,"الوَجْهُ" القصدُ والتوَجُّهُ، "إليهِ القَصْدُ والقبلُ".
الإعرابُ: (أسْتَغْفِرُ) فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ؛ لتَجَرُّدِه من الناصبِ والجازمِ وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، وفاعلُه ضميرٌ مُستتِرٌ فيه وُجوباً تقديرُه: أنا, (اللهَ) منصوبٌ على التعظيمِ, (ذَنْباً) مفعولٌ ثانٍ لأستغفِرُ، منصوبٌ وعلامةُ نصبهِ الفتحةُ الظاهرةُ وستَعرِفُ ما فيه, (لَسْتُ) ليسَ: فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وتاءُ المُتكَلِّمِ اسمُه مَبنِيٌّ على الضمِّ في مَحلِّ رفعٍ, (مُحْصِيَهُ) مُحْصِيَ: خَبَرُ لَيْسَ منصوبٌ, وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ، و"مُحْصِيَ" مُضافٌ, وضميرُ الغائبِ العائدُ إلى الذنبِ مضافٌ إليه مَبنِيٌّ على الضمِّ في مَحلِّ جَرٍّ,"رَبَّ" بدَلٌ من لفظِ الجلالةِ، وهو مضافٌ, و"العبادِ" مضافٌ إليه مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ,"إليه" جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ خَبرٌ مُقدَّمٌ,"الوَجْهُ" مبتدأٌ مُؤخَّرٌ، مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ,"والعمَلُ" الواوُ حرفُ عطفٍ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، والعَمَلُ: معطوفٌ على "الوَجْهُ"، والمعطوفُ على المرفوعِ مرفوعٌ, وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ.
الشاهدُ فيه قولُه: (أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً). فإنَّ المُؤلِّفَ وجَماعةٌ من النحاةِ ذَكَروا أنَّ قولَه: (ذَنْباً). منصوبٌ على نَزْعِ الخافضِ الذي هو (مِن), ومعَ أنَّ انتصابَه على معنَى (مِن), فإِنَّه ليسَ تَمْيِيزاً؛ لكونِه غيرَ مُبَيِّنٍ لإبهامِ اسمِ مُجْمَلِ الحقيقةِ قد ذُكِرَ قبلَه، ولا هو مُبَيِّنٌ لنسبةٍ في جملةٍ مذكورةٍ مِن قَبْلِه، فخرَجَ بذلك على أنْ يكُونَ تَمْيِيزاً.
ولا شَكَّ أن ادِّعاءَ قولِه: (ذَنْباً) منصوبٌ على نَزْعِ الخافضِ إِنَّما هو على تَضمِينِ قولِه: (أسْتغفِرُ) معنَى أسْتَتِيبُ، فهو حينَئذٍ شِبيهٌ بقولِكَ: "اخْتَرْتُ الرِّجَالَ مُحمَّداً". أي: اخْتَرْتُ من الرجالِ هذا الرجُلَ، ومثلُه قولُه تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً}.
لكنَّ الذي رَجَّحَه كثيرٌ من العلماءِ أنَّ (أسْتَغْفِرُ) يَتعَدَّى بنفسِه إلى مفعوليْنِ، فيكونُ انتصابُ قولِه: (ذَنْباً). على أنه مفعولٌ به حَقِيقةً، لا على نزعِ الخافضِ، قالَ المُؤلِّفُ في (مُغْنِي اللبيبِ): (وقدْ يُنْقَلُ- الصَّوْغُ على زِنَةِ اسْتَفْعَلَ- ذا المفعولُ الواحِدُ إلى اثنيْنِ، نحوُ: اسْتَكْتَبْتُهُ الكِتَابَ، واسْتَغْفَرْتُ اللهَ الذنْبَ). اهـ.
([7]) لا يَخْتَلِفُ النحاةُ في أنَّ نَاصِبَ التمييزِ المُبيِّنِ لإبهامِ اسمٍ غيرِ جُملةٍ هو ذلكَ الاسمُ المُبيِّنُ الذي فَسَّرَه التمييزُ, وإنَّما يَختلِفُونَ في توجيهِ كونِ هذا الاسمِ الجَامِدِ قد عَمِلَ النصْبَ، فذَهَبَ جمهورُهم إلى أنَّ هذا الاسمَ الجامدَ في نحوِ قَوْلِكَ: "اشْتَرَيتُ رَطْلاً زَيْتاً". قد أشْبَهَ اسمَ الفاعلِ المفردِ في نحوِ قولِكَ: "زَيدٌ ضَارِبٌ عَمْراً" وفي نحوِ قولِكَ: "اشْتَرَيْتُ عِشْرِينَ ثَوباً". أشَبَهَ اسمَ الفاعلِ المجموعِ في نحوِ قولِكَ: "هؤلاءِ الضاربونَ عَمْراً". وإنما أشْبَهَ الاسمُ الجامِدُ اسمَ الفاعلِ المذكورِ في ثلاثةِ أشياءَ: كونُ كلِّ واحدٍ منهما اسْماً مُشْتَمِلاً على ما بهِ تَمامُ الاسمِ, وهو التنوينُ إذا كانَ مُفْرَداً, أو النونُ التي تُشْبِهُ التنوينَ وهي نونُ التثنيةِ والجَمْعِ، وكونُ كُلِّ واحدٍ من الاسمِ الجامدِ واسمِ الفاعلِ طَالِباً لِمَا بعدَه، وقدْ عَلِمْتَ مِراراً أنَّ الشيءَ إذا أشْبَهَ الشيءَ جازَ أنْ يأخُذَ بعضَ أحكامِه، فهذا وَجْهُ شَبَهِ الاسمِ الجامدِ لاسمِ الفاعلِ عندَ هؤلاءِ.
وذهَبَ قومٌ منهم إلى أنَّ وجْهَ عَمَلِ هذا الاسمِ الجامدِ النصْبَ في التمييزِ هو أنَّه أشْبَهَ أفعلَ التفضيلِ، وقدْ رتَّبَ الشيخُ خَالِدٌ العواملَ فجعَلَها خمسَ درجاتٍ: أوَّلُها: الفعلُ؛ لأنه يعمَلُ بالأصالةِ، ثم إنَّه يعمَلُ مُعتمِداً وغيرَ معتمدٍ، وثانيها: اسْمُ الفاعلِ؛ لأنَّه يَعمَلُ بالحَمْلِ على الفعلِ، ثم إِنَّه لا يَعْمَلُ إلاَّ مُعْتمِداً على نفيٍ أو شِبْهِ نفيٍ، ثم إنَّه يعمَلُ في السببيِّ نحوُ:"زَيْدٌ ضَارِبٌ ابنَه", وفي الأجنبيِّ نحوُ"زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْراً"، وثالثُها: الصفةُ المُشبَّهةُ؛ لأنَّها لا تعمَلُ إلاَّ في السببيِّ نحوُ:"زَيْدٌ حَسَنٌ وَجْهُهُ", ثم إنَّها ترفَعُ الظاهرَ نحوُ:"زيدٌ حَسَنٌ وَجْهُهُ" وترفَعُ الضميرَ نحوَ:"زَيْدٌ حَسَنٌ", ورابعُها: أفعلُ التفضيلِ؛ لأنه يرفَعُ الضميرَ باطِّرادٍ، ولا يرفَعُ الظاهرَ إِلاَّ في مسألةِ الكُحْلِ، وخَامِسُها: هذا الاسمُ الجَامِدُ معَ التَّمْيِيزِ؛ لأنَّه لا يَتحمَّلُ ضَمِيراً مُسْتَتِراً في حينِ أنَّ أفعلَ التفضيلِ يَتحمَّلُه.
([8]) اختلَفَ النحاةُ في ناصبِ تَمْيِيزِ النسبةِ، فذَهَبَ سِيبَوَيْهِ والمازنيُّ والمُبرِّدُ إلى أنَّ الناصبَ له هو المُسْنَدُ في الجملةِ, سواءٌأكانَ هذا المسندُ فِعْلاً؛ كما في قولِكَ: "طَابَ مُحمدٌ نَفْساً". أم كانَ وصفاً كما في قولِكَ: "زيدٌ كرِيمٌ خُلُقاً" ومنه مثالُ المُؤلِّفِ: (هو طَيِّبٌ أُبُوَّةً).
وذهَبَ قومٌ منهم إلى أنَّ الناصبَ له هو الجملةُ التي انتصَبَ التمييزُ عن تمامِها، وليسَ الفِعلُ, ولا ما أشْبَهَ الفعلَ، وهذا الرأْيُ هو الذي اخْتارَه ابنُ عُصفورٍ ونَسَبَه إلى المُحَقِّقِينَ، وحُجَّتُهم في ذلك أنَّه قد لا يَكُونُ في الجملةِ المُمَيَّزَةِ فعلٌ ولا وَصْفٌ؛ كما لو قُلْتَ: "هذا أَخُوكَ إِخْلاصاً" أو قُلْتَ: "هذا أبوكَ عَطْفاً". فالقولُ بأنَّ ناصبَه هو الجملةُ, مُطَّرِدٌ، بخلافِ القولِ الأولِ, فإنَّه غيرُ مُطَّرِدٍ؛ لتخَلُّفِه فيما ذَكَرْنا.
([9]) هذا من كلامِ ابنِ مالكٍ في الألفيَّةِ.
([10]) لا شَكَّ أنك لو جَرَيْتَ على ما اختارَه ابنُ عُصفورٍ ونَسَبَه إلى المُحقِّقينَ– أنَّ ناصِبَ تمييزِ النسبةِ هو الجملةُ, كانَ عُمومُ قولِ الناظمِ: (بمَا قَدْ فَسَّرَه). صحيحاً وعليهِ يَكونُ. ابنُ مالكٍ يرَى أنَّ ناصِبَ تَميِيزِ المفردِ هو الاسمَ الجامدَ المُمَيَّزَ، وهذا مِمَّا لم يَختلِفْ فيه أحَدٌ، كما يرَى أنَّ ناصِبَ تَمْيِيزِ النسبةِ هو الجملةُ، ويَكُونُ في هذا مُوافِقاً لابنِ عُصفورٍ، وكم من المسائلِ يختارُ ابنُ مالكٍ فيها رأياً في أحَدِ كُتُبِه, ويرَى في المسألةِ نَفْسِها رَأْياً آخَرَ في كتابٍ آخَرَ، لكن يَمْنَعُ من حَمْلِ كلامِه في الألفيَّةِ على ذلك أنَّ عِباراتِه في النظمِ تدُلُّ على أنَّه يَرَى في هذهِ المسألةِ رَأْيَ سِيبَوَيْهِ وأصحابِه, وأنَّ الناصِبَ لتمييزِ النسبةِ هو الفعلُ أو الوَصْفُ، انظُرْ إلى قولِه: (والفَاعِلُ المعنَى انْصِبَنْ بأفْعَلاَ) فهذا نصٌّ صريحٌ على أنَّ الناصِبَ للتمييزِ في نحوِ:"أنتَ أعْلَى مَنْزِلاً" هو أفعلُ التفضيلِ الذي اشتملَتْ عليه الجملةُ، ثم انظُرْ إلى قولِه:
وعَامِلُ التَّمْيِيزِ قَدِّمْ مُطْلقَا = والفِعْلُ ذُو التصريفِ نَزْراً سُبِقَا
فإنَّه يدُلُّ على أنَّه يَخْتارُ هنا في الألفيَّةِ مذهَبَ سِيبَوَيْهِ؛ ولهذا كانَ للمُؤَلِّفِ الحقُّ في الاعتراضِ على عبارتِه بأنَّها عامَّةٌ, وأنَّ عُمومَها غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّه يَقْتَضِي أنَّ نَاصِبَ تَمييزِ النسبةِ بينَ السندِ والمُسْنَدِ إليه؛ لأنَّها هي المُفَسَّرَةُ بهِ, وذلك غيرُ مُرادٍ له لِمَا ذَكَرْنا، وأُجِيبَ عن هذا بأنَّ التمييزَ لَمَّا فَسَّرَ إبهامَ نسبةِ الفعلِ إلى فاعلِه أو مفعولِه, فكأنَّه فَسَّرَ الفعلَ نفسَه، فكانَ التمييزُ مَنصوباً بهِ؛ لأنَّه الذي يَصِحُّ أنْ يكُونَ عاملاً.
([11]) سورة يُوسُفَ، الآية:4.
([12]) سورة الزلزلةِ، الآية:7.
([13]) سورة الكهفِ، الآية: 109.@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
([14]) مذهَبُ المُبرِّدِ، وعليه ابنُمالكٍ، والمُؤلِّفُ ههنا تابِعٌ له – أنَّ نَحْوَ قولِكَ: "لِي خَاتَمٌ حَدِيداً". إذا نَصَبْتَ (حَدِيداً) تَمْيِيزٌ، وذلك رَاجِحٌ على كونِه حَالاً، مِن قِبَلِ أنَّ الاسمَ المنصوبَ جامدٌ مُلازِمٌ، والأصلُ في الحالِ أنْ يكُونَ مُشْتَقًّا ومُنْتَقِلاً على ما عَرَفْتَ، ومن قِبَلِ أنَّ الاسمَ المُبَيَّنَ بهِ نَكِرَةٌ، فلو جَعَلْتَه حالاً للزِمَ مُخالفةُ الأصلِ من ثلاثةِ أَوْجُهٍ: الأولُ: جَعْلُ الحالِ جَامِداً، والثاني: جَعْلُه لازِماً، والثالثُ: جَعْلُ صَاحِبِه نَكِرَةً من غيرِ مُسَوِّغٍ، ومذهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّ هذا الاسمَ المنصوبَ مُتَعَيِّنٌ للحاليَّةِ لا يَجوزُ جَعْلُه تَمْيِيزاً؛ لأنَّ الاسمَ الذي يَنْتصِبُ تَمْيِيزاً إِنَّما يقَعُ بعدَ مقدارٍ أو ما يُشْبِهُ المِقْدارَ، وليسَ هذا الاسمُ وَاحِداً منهما.
([15]) سورة مَرْيَمَ، الآية: 4.
([16]) سورة القمرِ، الآية: 12.
([17]) سورة الكَهْفِ، الآية: 109.
([18]) سورة آلِ عِمْرَانَ، الآية: 91.
([19]) 284-هذه قطعةٌ من بيتِ الأعْشَى مَيْمُونِ بنِ قَيْسٍ، من قَصيدةٍ له يَمْدَحُ فيها قيسَ بنَ مَعْدِ يَكْرِبَ الكِنْدِيَّ، وهو بتَمَامِه هكذا:
أقُولُ لَهَا حِينَ جَدَّ الرَّحِيلُ = أبْرَحْتِ رَبًّا، وأبْرَحْتِ جَارًّا
وكثيرٌ مِن النُّحاةِ يُغيِّرونَ في روايةِ هذا البيتِ، ويَرْوُونِه هكذا:
تَقُولُ ابْنَتِي حِينَ جَدَّ الرَّحِيلُ = أبْرَحْتَ رَبًّا، وأبْرَحْتَ جَارَا
وليسَ كما يَرْوُونَه، ولكنَّه كما رُوِّيناهُ أَوَّلاً عن ديوانِ الأعْشَى مَيْمُونٍ.
اللغةُ: "جَدَّ الرَّحِيلُ" معناهُ: اشْتَدَّ وأمْعَنَ فيه، و(أبْرَحْتِ) معناه: عَظَّمْتِ، وقيلَ: أعَجَبْتِ، وقيلَ: اخْتَرْتِ. (رَبًّا) إذا فُسِّرَ أبْرَحْتِ بعَظَّمْتِ, فالربُّ هو المَلِكُ الذي يَقْصِدُه الشاعرُ بسَفَرِه ليَمْدَحَهُ، ويكونُ نَصْبُ رَبٍّ حينَئذٍ على التَّمْيِيزِ، وكأنَّه قالَ: عَظَّمْتِ مَلِكاً. أي: ما أعظَمَ المَلِكَ الذي تَقْصدِينَهُ في سَفَرِكِ هذا! وإذا فَسَّرْتَ أبْرَحْتِ بأعْجَبْتِ, فالربُّ هو صاحبُ الناقةِ ومَالِكُها، وأبْرَحْتِ – على هذا – فعلٌ مُتعَدٍّ، فنَصَبَ "رَبًّا" على أنه مَفْعولٌ به، وكأنَّه قد قالَ: أعْجَبْتِ صَاحِبَكِ. وإذا فَسَّرْتَ أبْرَحْتِ باخْتَرْتِ فالربُّ المَلِكُ الذي تَقْصِدُه، ونَصَبَه على أنه مفعولٌ به, (جَارَا) بمعنَى الربِّ.
المعنَى: الضميرُ المُؤنَّثُ في قولِه: "لَهَا". يَعودُ إلى ناقتِه التي عَبَّرَعنها بزَيَّافةٍ. وذلك في قولِه:
وشَوْقِ عُلُوقٍ تَنَاسَيْتُهُ = بزَيَّافَةٍ تَسْتَخِفُّ الضِّفَارَا
(العُلُوقُ– بفتحِ العينِ المُهملةِ– يُطْلَقُ على الناقةِ التي لا تألَفُ الفَحْلَ, ولا تَرْأَمُ الوَلَدَ، وهي أيضاً المرأةُ التي لا تُحِبُّ غيرَ زَوْجِها، وهذا هو المُرادُ هنا، الزَّيَّافَةُ – بفتحِ الزايِ وتشديدِ المُثنَّاةِ– الناقةُ المُسْرعةُ أو المُتَبَخْتِرَةُ في مَشْيِها، الضِّفَارُ – بكسرِ الضادِ المُعْجَمَةِ – جمعُ ضَفِيرةٍ، وهي حِزامُ القَتَبِ الذي يُجْعَلُ تحتَ بَطْنِ البعيرِ، ويُسَمَّى البِطَانَ أيضاً).
يَتحدَّثُ عن ناقتِه التي ارتَحَلَ عليها إلى مَمدوحُه بأنَّها شَكَتْ لَه طولَ سَفَرِها وبُعْدَ شُقَّتِها وشِدَّةَ ما احتمَلَتْه في هذا الطريقِ الذي تَسْلُكُه، ويقولُ: إِنَّنِي قُلْتُ لهذه الناقةِ: لا تَسْتعظِمِي ما تُلاقِينَه من الجَهْدِ والمشقَّةِ؛ فإِنَّكِ تَسيرِينَ إلى مَلِكٍ عَظِيمٍ يَكْثُرُ رِفْدُه حَتَّى تَنْسِي بما تَنالِينَه من عطائِه كلَّ جَهْدٍ ومَشقَّةٍ.
الإعرابُ: "أقولُ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ؛ لتجرُّدِه من الناصبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ,"لَهَا" اللامُ حرفُ جرٍّ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وضميرُ الغائبةِ العائدُ إلى الناقةِ مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ جَرٍّ باللامِ، والجارُّ والمجرورُ مُتعلِّقٌ بأقولُ,"حِينَ" ظرفُ زمانٍ منصوبٌ بأقولُ، وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ,"جَدَّ" فعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ,"الرَّحِيلُ" فاعلُ جَدَّ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وجملةُ هذا الفعلِ الماضي وفاعلِه في مَحلِّ جَرٍّ بإضافةِ حِينَ إليها,"أبْرَحْتِ" أبْرَحَ: فعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ على فتحٍ مُقدَّرٍ على آخرِه لا مَحلَّ من الإعرابِ، وتاءُ المخاطبةِ فَاعِلُه مَبنِيٌّ على الكسرِ في مَحلِّ رفعٍ، فإذا فَسَّرْتَ أبْرَحْتِ – كما فَسَّرَه المُؤلِّفُ– بعَظَّمْتِ كانَ قولُه: "رَبًّا". تَمْيِيزاً منصوباً بالفتحةِ الظاهرةِ، وإذا فَسَّرْتَ أبْرَحْتِ باخْتَرْتِ أو بأعْجَبْتِ كانَ قولُه: "رَبًّا" مفعولاً به منصوباً بالفتحةِ الظاهرةِ أيضاً، وعلى كلِّ حالٍ تَكُونُ جُمْلَةُ "أبْرَحْتِ رَبًّا" في محلِّ نصبٍ, مقولُ القولِ, (وأبْرَحْتِ) الواوُ حرفُ عطفٍ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، أبْرَحَ: فعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ على فتحٍ مُقدَّرٍ علىآخرِه لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وتاءُ المُخاطَبَةِ فَاعِلُه مَبنِيٌّ على الكسرِ في مَحلِّ رفعٍ, (جَارَا) فيهِ الإعرابانِ السابقانِ على الاختلافِ في تفسيرِ أبْرَحَ، وجُمْلةُ (أبْرَحْتِ جَارَا) في مَحَلِّ نَصْبٍ, مَعْطوفَةٌ بالواوِ على جُمْلَةِ (أبْرَحْتِ رَبًّا) السابقةِ.
وقالَ ابنُ حَبِيبٍ: (يُرِيدُ أنَّ ناقتَه تقولُ له: أعْظَمْتَ وأكْرَمْتَ. أي: اخْتَرْتَ رَبًّا كَرِيماً وجَاراً عظيمَ القدرِ يَبْرَحُ بمَن طَلَبَ شَأْوَهُ). والظاهرُ من عبارةِ ابنِ حَبيبٍ هذه في حَلِّ معنَى البيتِ أنه يرَى جعْلَ "رَبًّا" مفعولاً بهِ لأبْرَحْتَ، ألا ترَى أنَّه فَسَّرَه بقولِه: "أي: اخْتَرْتَ رَبًّا".
الشاهدُ فيه قولُه: "رَبًّا". وقولُه: (جَارَا). فإِنَّهما تَمْيِيزانِ يَجوزُ جَرُّهما بمِن؛ لأنَّهما وإنْ كانا في المعنَى فاعلَيْنِ، إذْ معنَى الكلام عَظُمَ رَبٌّ وعَظُمَ جَارٌ، لكنَّهما غيرُ مُحوَّليْنِ عن الفاعلِ صناعةً.
([20]) 285-اختَلَفوا في نسبةِ هذا الشاهدِ إلى قائلِه، فقالَ قَوْمٌ: هو لأبي بَكرِ بنِ الأسودِ اللَّيْثِيِّ، وقالَ آخرونَ: هو من كلامِ بُجَيْرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ سَلَمَةَ الخيرِ، والشاهدُ من كلمةٍ في رِثَاءِ هشامِ بنِ المُغيرةِ أحَدِ أشرافِ مَكَّةَ، والذي ذكَرَه المُؤلِّفُ عَجُزُ بَيْتٍ من الوافرِ، ونحن نذكُرُه لك معَ بيتٍ سابقٍ عليه، وهما قولُه:
فدَعْنِي أصْطَبِحْ يَا بَكْرُ، إِنِّي = رَأَيْتُ المَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشَامِ
تَخَيَّرَهُ فَلَم يَعْدِلْ سِوَاهُ = فَنِعْمَ المَرْءُ مِنْ رَجُلٍ تِهَامِ
ومن العلماءِ مَن يَرْوِي صدرَ هذا الشاهدِ:
*تَعَمَّدَهُ وَلَمْ يَعْظُمْ عَلَيْهِ*
اللغةُ: "فدَعْنِي" هو فعلُ أمْرٍ، والكثيرُ من العلماءِ يذكُرُ أنَّ مَاضِيَه مَهْجورٌ في الاستعمالِ، ومنهم مَن قالَ: مَاضِيهِ وَدَعَ مثلُ وَصَفَ، وقُرِئَ في قولِه تعالى: (مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) بالتخفيفِ على هذا، ورُوِيَ:"فذَرْني", والفعلانِ بمعنَى ترَكَ، ويُرْوَى "ذَرِينِي أصْطَبِحْ يَا بَكْرُ" وأصْطَبِحْ: أشْرَبُ الصَّبُوحَ– والصَّبُوحُ– بفتحِ الصادِ وضمِّ الباءِ مُخفَّفةً– شُرْبُ الخمرِ صَباحاً، ويُقابِلُه الغَبُوقُ– بفتحِ الغينِ المُعجمةِ وضَمِّ الباءِ– وهو شُرْبُها في الغَداةِ، وبكرُ: اسمُ قبيلةٍ,"نَقَّبَ" أرادَ أنه هجَمَ عليه وتَتَبَّعَ آثارَه، وأصْلُ التَّنقيبِ الذَّهابُ في الأرضِ أو البحثِ عن الأخبارِ,"تَعَمَّدَه" قصَدَه وتكَلَّفَ ذلك,"ولَمْ يَعظُمْ عَلَيْهِ" معناه: أنَّه لم يَشُقَّ على الموتِ أنْ يَقْصِدَه وينزِلَ به، ويُرْوَى "ولَمْ يَعْدِلْ سِوَاهُ" كما رَأَيْتَ، وفي هذهِ الروايةِ حَذْفٌ، فإِمَّا أنْ يكُونَ قدْ أرادَ: ولم يَعْدِلْ إلى سِواهُ، يعني لم يَمِلْ ولم يَتوَجَّهْ إلى غيرِ هشامٍ، وإِمَّا أنْ يكُونَ قد أرَادَ: ولم يَعْدِلْ بهِ سِوَاهُ، وعلى هذا يَكُونُ المعنَى: أنَّ الموتَ لم يُسَوِّ بينِ هشامٍ وغيرِه، ومن مَجِيءِ عَدَلَ بمعنَى مالَ أو بمعنى سِوَى, قولُ اللهِ تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}. إذا جَعَلْتَ الجارَّ والمجرورَ وهو قولُه سبحانَه: {برَبِّهِمْ}. مُتعَلِّقاً بقولِه: {يَعْدِلُونَ}. فإنَّ المعنَى على هذا: أنَّ الكُفَّارَ يُسوُّونَ الأصنامَ وسَائِرَ معبوداتِهم برَبِّهم؛ فإنْ جَعَلْتَ الجارَّ والمجرورَ مُتعلِّقاً بقولِه: {كَفَرُوا} كانَ يَعْدِلُونَ بمعنَى يَمِيلُونَ, والمرادُ أنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّهم وجَحَدُوه يَميلونَ ويَنحرِفونَ عن إفرادِ اللهِ تعالى بالوَحْدانيَّةِ, (تَهَامِ) هو بفتحِ التاءِ– المنسوبِ إلى تِهَامَةَ – بكسرِ التاءِ– وكانَ مِن حَقِّه أنْ يَقُولَ: "تِهَامِيٌّ". بكسرِ التاءِ وتشديدِ ياءِ النسَبِ قياساً على أمثالِه؛ كما تقولُ: عِراقِيٌّ وحِجازِيٌّ. ولكنَّهم خَصُّوا هذه الكلمةَ عندَ النسَبِ إليها بحَذْفِ إحْدَى ياءَيِ النسَبِ وفَتَحوا أوَّلَه عِوَضاً عن هذهِ الياءِ المحذوفةِ وإِشْعاراً من أولِ الأمرِ بمُخالفةِ المَهْيَعِ.
الإعرابُ: "تَخَيَّرَهُ" تَخَيَّرَ: فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُستتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه: هو, يَعودُ إلى الموتِ، وضميرُ الغائبِ العائدُ إلى هشامٍ مفعولٌ به,"فلَمْ" الفاءُ عَاطِفَةٌ، ولم: نافيةٌ جَازِمَةٌ, "يَعْدِلْ" فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بلَمْ، وفاعِلُه ضميرٌ مُستتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه: هو, يَعود إلى الموتِ,"سِوَاهُ" سِوَى: مفعولٌ به منصوبٌ بفَتْحَةٍ مُقدَّرَةٍ على الألفِ، وضميرُ الغائبِ العائدُ إلى هشامٍ مضافٌ إليه (فنِعْمَ) الفاءُ حرفُ عطفٍ، ونِعْمَ: فعلٌ ماضٍ دالٌّ على إنشاءِ المدحِ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (المرءُ) فاعلُ نِعْمَ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (مِن) حرفُ جَرٍّ زائِدٌ, (رَجُلٍ) تَمْيِيزٌ لفاعلِ نِعْمَ منصوبٌ بفتحةٍ مُقدَّرةٍ, منَعَ من ظُهورِها اشتغالُ المَحَلِّ بحركةِ حرفِ الجَرِّ الزائدِ, (تَهَامِ) نَعْتٌ لرجُلٍ مَجْرُورٌ بكسرةٍ مُقدَّرَةٍ على الياءِ.
والشاهدُ فيه قولُه: (رجُلٍ) فإِنَّه تَمْيِيزٌ، وهو فاعِلٌ في المعنَى، لكنَّه لَمَّا كانَ غيرَ مُحوَّلٍ عن الفاعلِ جازَ فيه أنْ يَجُرَّه بمِن.
([21]) اعْلَمْ أنَّ الأمرَ في هذا الموضوعِ يَشْتَمِلُ على مَبحثيْنِ: الأولُ: في الكلامِ على تَوَسُّطِ التَّمْيِيزِ بينَ العاملِ ومعمولِه، والثاني: في الكلامِ على تَقَدُّمِ التمييزِ على العاملِ والمعمولِ جميعاً.
أمَّا الأولُ فقدْ نقَلَ جماعةٌ إجماعَ العلماءِ على جوازِه، فتَقولُ: "طَابَ نَفْساً مُحمَّدٌ". كما تقولُ:"طَابَ مُحمَّدٌ نفْساً".
ومن تَوَسُّطِ التمييزِ بينَ العاملِ والمعمولِ قولُ الشاعرِ:
رُبَّ مَن أنْضَجْتَ غَيْظاً قَلْبَهُ = قَدْ تَمَنَّى لِي مَوْتاً لَمْ يُطَعْ
وأمَّا الثاني فمذهَبُ سِيبَوَيْهِ والفرَّاءِ وأكثرِ البصْرِيِّينَ والكُوفِيِّينَ أنه لا يَجوزُ أنْ يَتقدَّمَ التمييزُ على عاملِه، سواءٌ أكانَ العاملُ اسماً, كما في تَمييزِ المفردِ, أم كانَ فِعْلاً كما في تمييزِ النسبةِ، وسواءٌ أكانَ الفعلُ جَامداً؛ كفعلِ التعَجُّبِ في نحوِ:"ما أحْسَنَه رَجُلاً", أم كانَ مُتصَرِّفاً نحوَ:"طَابَ مُحمَّدٌ نَفْساً".
فأمَّا عِلَّةُ امتناعِ تَقَدُّمِه على العاملِ إذا كانَ اسْماً أو فعلاً جَامِداً, فظَاهِرةٌ؛ لأنَّ معمولَ هذيْنِ لا يَتقدَّمُ عليهما في غيرِ هذا البابِ، فعَدَمُ جوازِ تَقَدُّمِه هنا هو من طَرْدِ الحكمِ على وَتيرةٍ واحدةٍ.
وأما إذا كانَ العاملُ فِعْلاً مُتصَرِّفاً فعَدَمُ جوازِ تقديمِ التمييزِ عليه من جِهَةِ أنَّ أكثرَ ما ورَدَ من تمييزِ النسبةِ أصْلُ التمييزِ فيه فاعِلٌ، وقدْ عَلِمْنا أنَّ الفاعلَ لا يَجوزُ تَقْدِيمُه على فعلِه, فما كانَ أصلُه الفاعلَ, خَلِيقٌ بأنْ يَأْخُذَ ما استَقَرَّ له.
وذهَبَ المازنِيُّ والكِسائيُّ والمُبرِّدُ والجَرمِيُّ إلى جوازِ تقديمِ التمييزِ على عاملِه إذا كانَ العاملُ فِعْلاً مُتصَرِّفاً، وارتضَى هذا القولَ ابنُ مالكٍ في بعضِ كُتُبِه، واسْتَدَلُّوا على ذلكَ بالسماعِ وبالقياسِ، أمَّا السماعُ فقولُه:
* أنَفْساً تَطِيبُ...البيتَ*
وسيأتي معَ نظائرِه، وأمَّا القياسُ فإنَّ التمييزَ– وهو مَنْصوبٌ– كالمفعولِ به وسائِرِ الفَضَلاتِ، وكُلُّهُنَّ يَجوزُ تَقْدِيمُهُنَّ على العاملِ إذا كانَ فِعْلاً مُتصَرِّفاً، ولم يَعْبَؤُوا بأصلِه، ولم يُبالُوا به.
([22]) 286-نَسَبوا هذا الشاهدَ لرجُلٍ من طَيِّئٍ، ولم يُسَمُّوه، والذي ذكَرَه في صَدْرِ بيتٍ من المُتقارِبِ، وعَجُزُه قولُه:
*ودَاعِي المَنُونِ يُنَادِي جِهَارَا*
اللغةُ: (تَطِيبُ) أي: تَطْمئِنُّ، و(نَيْلِ المُنَى): إداركُ المأمولِ، ونيلُ مَصْدَرُ "نَالَ الشيءَ يَنالُه نَيْلاً ومَنالاً": إذا حصَلَ عليه، و(المُنَى) بضمِّ الميمِ– جمعُ مُنْيَةٍ، والمُنْيَةُ – بضمٍّ فسكونٍ– اسمٌ لِمَا يَتَمَنَّاهُ الإنسانُ ويَرْغَبُ فيه، و"المَنُونِ": الموتُ.
الإعرابُ: (أنَفْساً) الهمزةُ حرفُ استفهامٍ تَوبيخِيٍّ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، نَفْساً: تَمْيِيزٌ تقدَّمَ على العاملِ فيه, وهو قولُه: (تَطِيبُ). الآتي، مَنْصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ, (تَطِيبُ) فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ؛ لتجَرُّدِه من الناصبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، وفاعِلُه ضميرٌ مُسْتتِرٌ فيه وُجوباً تَقْدِيرُه: أنتَ, (بنَيْلِ) الباءُ حرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على الكسرِلا مَحلَّ له من الإعرابِ، ونَيْلِ: مجرورٌ بالباءِ, وعلامةُ جرِّه الكسرةُ الظاهرةُ، والجارُّ والمجرورُ مُتعلِّقٌ بقولِه: تَطِيبُ، و"نَيْلِ" مضافٌ, و(المُنَى) مضافٌ إليه مجرورٌ بكسرةٍ مقدَّرةٍ على الألف منَعَ من ظهورِها التعَذُّرُ, "ودَاعِي" الواوُ واوُ الحالِ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، دَاعِي: مبتدأٌ مَرْفوعٌ بضَمَّةٍ مُقدَّرَةٍ على الياءِ منَعَ من ظهورِها الثِّقَلُ، ودَاعِي مضافٌ, و"المَنُونِ" مضافٌ إليه مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ,"يُنادِي" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ بضَمَّةٍ مُقدَّرَةٍ على الياءِ, منَعَ من ظهورِها الثِّقَلُ، وفاعلُه ضميرٌ مُستتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه: هو, يعودُ إلى داعي المَنُونِ، وجملةُ الفعلِ المضارعِ وفَاعِلِه في مَحلِّ رفعٍ خَبَرُ المبتدأِ، وجملةُ المبتدأِ وخَبَرِه في مَحَلِّ نصبٍ, حالٌ,"جِهَارَا" مفعولٌ مُطْلَقٌ, عاملُه يُنادِي، وأصلُه صِفةٌ لمَصدرٍ محذوفٍ، وتقديرُ الكلامِ: يُنادِي نِدَاءً جِهارَا.
الشاهدُ فيه قولُه: (أنَفْساً). فإنه تَميِيزٌ، وقدْ قدَّمَه على العاملِ فيه وهو قولُه: (تَطِيبُ). لأنَّه فعلٌ مُتصرِّفٌ، وهذا نَادِرٌ عندَ سِيبَوَيْهِ، والجمهورُ كما قَرَّرْناهُ سَابِقاً، وهو موضِعٌ قياسيٌّ عندَ الكِسائيِّ والمُبرِّدِ ومَن ذَكَرْنا معَهما.
ومثلُ البيتِ قولُ المَجْنونِ– وقيلَ: أعْشَى هَمْدَانَ، وقيلَ: المُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ -:
أتَهْجُرُ لَيْلَى بالفِرَاقِ حَبِيبَهَا = وَمَا كَانَ نَفْساً بالفِرَاقِ تَطِيبُ؟!
وقولُ الآخرِ:
ضَيَّعْتُ حَزْمِي فِي إِبْعَادِيَ الأمَلاَ = وَمَا أَرْعَوَيْتُ وَشَيْباً رَأْسِيَ اشْتَعَلاَ
تَمَّ بحمدِ اللهِ تعالى وتوفيقِه –
الجزءُ الثاني من كتابِ (أَوْضَحِ المسالكِ، إلى ألفيَّةِ ابنِ مَالِكٍ) لابنِ هشامٍ الأنصاريِّ،
معَ شَرْحِنا عليهِ المُسَمَّى (عُدَّةَ السَّالِكِ، إلى تَحْقِيقِ أوضحِ المَسالِكِ) ويَلِيهِ– إنْ شَاءَ اللهُ تعالى – الجزءُ الثَّالِثُ، وأوَّلُه (بابُ حروفِ الجَرِّ)
نَسْأَلُ اللهَ تعالى أنْ يُعِينَ على إكمالِه على هذا الوَجْهِ الذي اخْتَرْناه لهذه الطبعةِ، إِنَّه – جَلَّتْ قُدْرَتُه – وَلِيُّ ذلك، وهو حَسْبُنا ونِعْمَ الوكيلِ.