تفسير سورة البروج
(1-10) {بسم الله الرحمن الرحيم وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)}
{وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ} أي: المنازلِ المشتملةِ على منازلِ الشمسِ والقمرِ، والكواكبِ المنتظمةِ في سيرهَا على أكملِ ترتيبٍ، ونظامٍ دالٍّ على كمالِ قدرةِ اللهِ تعالَى ورحمتهِ، وسعةِ علمهِ وحكمتهِ.
{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} وهوَ يومُ القيامةِ، الذي وعدَ اللهُ الخلقَ أنْ يجمعهمْ فيهِ، ويضمَّ فيهِ أولهمْ وآخرَهمْ، وقاصيهمْ ودانيهمْ، الذي لا يمكنُ أنْ يتغير، ولا يُخْلِفُ اللهُ الميعادَ.
{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}وشملَ هذا كلَّ منِ اتصفَ بهذا الوصفِ أي: مُبصِر ومُبْصَر، وحاضِر ومحضورٍ، وراءٍ ومَرئي.
والمقسمُ عليهِ،ما تضمنهُ هذا القسمُ من آياتِ اللهِ الباهرةِ، وحكمهِ الظاهرةِ، ورحمتهِ الواسعةِ، وقيلَ: إنَّ المقسمَ عليهِ قولهُ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} وهذا دعاءٌ عليهمْ بالهلاكِ. و(الأخدودِ) الحُفَرُ التي تُحْفَرُ في الأرضِ.
وكانَ أصحابُ الأخدودِ هؤلاءِ قوماً كافرينَ، ولديهمْ قومٌ مؤمنونَ، فراودوهمْ للدخولِ في دينهمْ، فامتنعَ المؤمنونَ منْ ذلكَ، فشقَّ الكافرونَ أخدوداً ، وقذفوا فيهَا النارَ، وقعدوا حولهَا، وفتنوا المؤمنينَ، وعرضوهمْ عليهَا، فمنِ استجابَ لهمْ أطلقوهُ، ومنِ استمرَّ على الإيمانِ قذفوهُ في النارِ، وهذا في غايةِ المحاربةِ للهِ ولحزبهِ المؤمنينَ، ولهذا لعنَهمُ اللهُ وأهلكمْ وتوعدهمْ فقالَ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} ثمَّ فسرَ الأخدودَ بقولهِ: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} وهذا من أعظمِ ما يكونُ منَ التجبُّرِ وقساوةِ القلبِ، لأنَّهمْ جمعوا بينَ الكفرِ بآياتِ اللهِ ومعاندتِها، ومحاربةِ أهلهَا وتعذيبهمْ بهذا العذابِ، الذي تنفطرُ منهُ القلوبُ، وحضورهمْ إياهمْ عندَ إلقائهمْ فيهَا، والحالُ أنَّهمْ ما نقموا منَ المؤمنينَ إلا خصلةً يُمدحونَ عليهَا، وبها سعادتهمْ، وهيَ أنَّهمْ كانوا يؤمنونَ باللهِ العزيزِ الحميدِ أي: الذي لهُ العزةُ التي قهرَ بهَا كلَّ شيءٍ، وهو حميدٌ في أقوالهِ وأوصافهِ وأفعالهِ.
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}خلقاً وعبيداً، يتصرفُ فيهمْ تصرفَ المالكِ بملكهِ.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}علماً وسمعاً وبصراً، أفلا خافَ هؤلاءِ المتمردونَ على اللهِ، أنْ يبطشَ بهمُ العزيزُ المقتدرُ، أو مَا علمُوا أنَّهمْ جميعهمْ مماليكُ للهِ، ليسَ لأحدٍ على أحدٍ سلطةٌ، منْ دونِ إذنِ المالكِ؟ أو خفيَ عليهمْ أنَّ اللهَ محيطٌ بأعمالهمْ، مجازٍ لهمْ على فعالهمْ؟ كلاَّ إنَّ الكافرَ في غرورٍ، والظالمَ في جهلٍ وعمى عنْ سواءِ السبيلِ.
ثمَّ وعدَهمْ وأوعدَهمْ، وعرضَ عليهمُ التوبةَ، فقالَ: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} أي: العذابُ الشديدُ المحرقُ.
قالَ الحسنُ رحمهُ اللهُ: (انظرُوا إلى هذا الكرمِ والجودِ، همْ قتلُوا أولياءَهُ وأهلَ طاعتهِ، وهوَ يدعُوهمْ إلى التوبةِ).