(4)
السَّابقُ واللاَّحِقُ:
أنْ يكونَ هناكَ رَاوِيَانِ اشْتَرَكَا في الروايَةِ عنْ شيخٍ مُعَيَّنٍ، فنَجِدُ أحدَهما يُتَوَفَّى في سنَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وقَرينُه وقَرينَهُ الآخَرُ الآخَرَ يُتوفَّى بعدَهُ بِمُدَّةٍ طويلةٍ جدًّا، قدْ تَصِلُ إلى مِائةٍ وخمسينَ سَنَةً، فإذا جاءَ أحَدٌ ورَوَى عن الذي تُوُفِّيَ في الأَوَّلِ، وجاءَ آخَرُ يَرْوِي عن الذي تَأَخَّرَتْ وَفاتُهُ، ألا يُصْبِحُ الاثنانِ بِمَنْزِلَةٍ واحدةٍ مِنْ حيثُ السَّنَدُ؟
مِثالٌ:
لوْ سَمِعَ شَخْصٌ مِن الشيخِ ابنِ بَازٍ قولاً مِن الأقوالِ في عامِ (1350هـ)، وهناكَ أُناسٌ وُلِدُوا عامَ (1400هـ)، وأَخَذُوا عن الشيخِ القولَ نفْسَهُ عامَ (1414هـ)، فهذا نوعٌ مِنْ أنواعِ العُلُوِّ.
مثالٌ وَاقِعِيٌّ:
عبدُ الرزَّاقِ بنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ
رحَلَ إليهِ الإمامُ أحمدُ، ويَحْيَى بنُ مَعينٍ؛ فسَمَعَا منهُ بعضَ الأحاديثِ.
تُوُفِّيَ يَحْيَى بنُ مَعينٍ سَنةَ (235هـ)، والإمامُ أحمدُ سنَةَ (241هـ)، جاءَ إسحاقُ بنُ إبراهيمَ الدَّبَرِيُّ؛ فأَدْرَكَ عبدَ الرزَّاقِ، وهوَ صغيرُ السِّنِّ، فتَحَمَّلَ عنهُ كتابَهُ العظيمَ (الْمُصَنَّف)، وهوَ في سِنِّ العاشرةِ، وتُوُفِّيَ عبدُ الرَّزَّاقِ سنةَ (211هـ)، وتُوُفِّيَ بعدَهُ الإمامُ أحمدُ بثلاثينَ سنةً، وتُوُفِّيَ الدَّبَرِيُّ في سنةِ (280هـ)، فتأَخَّرَتْ وَفاتُهُ عن الإمامِ أحمدَ بنَحْوِ أربعينَ سَنَةً.
ثمَّ جاءَ الطَّبَرَانِيُّ؛ فأَدْرَكَ الدَّبَرِيَّ، والطَّبَرَانيُّ وُلِدَ سَنَةَ (260هـ)، وكانَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- احْتَارَ في بِدايَةِ الطَّلَبِ مِنْ أيِّهِمَا يَسْمَعُ؟
- مِنْ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ الدَّبَرِيِّ، أوْ مِنْ أبي العبَّاسِ محمَّدِ بنِ يَعقوبَ الأصمِّ، وكِلاهُمَا عالِمٌ؟
فرَأَى رُؤْيَا في مَنامِهِ وكأنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ- يَقُولُ لهُ: الْزَمْ إسحاقَ بنَ إبراهيمَ الدَّبَرِيَّ، وقدْ تُوُفِّيَ الدَّبَرِيُّ سنَةَ (280هـ)، وأبو العبَّاسِ الأَصَمُّ تَأخَّرَتْ وَفاتُهُ عن الدَّبَرِيِّ بنَحْوِ 65 سنةً، تُوُفِّيَ سنةَ (345هـ)، فأدْرَكَ الطَّبَرَانِيُّ الدَّبَرِيَّ، وكذلكَ: الأَصَمَّ.
فحَصَلَ لهُ عُلُوُّ السَّنَدِ، حيثُ إنَّهُ صارَ مُشارِكاً للبُخارِيِّ في رِوايَةِ (الْمُصَنَّفُ)؛ لأنَّ البُخَارِيَّ يَرْوِي عنْ عبدِ الرزَّاقِ بوَاسطةٍ، والبُخاريُّ تُوُفِّيَ سنةَ (256هـ)، والطَّبَرَانِيَّ تُوُفِّيَ سنَةَ (360هـ).
ويُمَثِّلُ الحافظُ لهذا هنا بِمِثَالٍ: فالحافظُ السِّلَفِيُّ هناكَ أحاديثُ رَواها عنْ شيخِهِ البَرَدَانِيِّ، ثمَّ امْتَدَّتْ حياةُ السِّلَفِيِّ حتَّى أَدْرَكَهُ أُناسٌ آخَرونَ تُوُفُّوا بعدَ وفاةِ البَرَدَانِيِّ بمِائةٍ وخمسينَ سنةً، ويَشترِكونَ معَ البَرَدَانِيِّ في هذهِ الأحاديثِ، وهذا مِن النَّوَادِرِ.
(5)
الرَّاوِي الْمُهْمَلُ:
هوَ الذي لا يُنْسَبُ،
كأنْ يقولَ: يقولَُ البُخاريُّ:حدَّثَنَا محمَّدٌ، فلا يُدْرَى هلْ هوَ الذُّهَلِيُّ، أوْ محمَّدُ بنُ بشَّارٍ، أوْ محمَّدُ بنُ إدريسَ، أوْ أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ؟
وقيلَ:
إنَّهُ مُهْمَلٌ؛ لأنَّهُ أُهْمِلَ نَسَبُهُ فلم يُنْسَبْ.
إنْ كانَ جميعُ شيوخِهِ ثِقاتٍ فلا إشكالَ، لكنَّ الإشكالَ إنْ كانَ بعضُهم ثِقاتٍ وبعضُهم غيرَ ثِقاتٍ؛ لذلكَ أحياناً يُتَوَقَّفُ عن الحُكْمِ على الإسنادِ بالصحَّةِ نَتيجةَ هذا اللَّبْسِ الحاصِلِ.
لكنْ إذا وُجِدَ هذا الرجُلُ يَخْتَصُّ يُخْتَصُّ بفُلانٍ معَ كونِهِ رَوَى عنْ فُلانٍ الآخَرِ، لكنَّ الأكثرَ أنْ يَرويَ عن الأَوَّلِ، فهنا يَتميَّزُ الراوي الْمُهْمَلُ.
مثالُهُ:
وَكيعُ بنُ الْجَرَّاحِ يَرْوِي عن السُّفْيَانَيْنِ: سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ، وسُفيانَ الثَّوْرِيِّ، لكنَّهُ اخْتُصَّ بسُفيانَ الثوريِّ، ولم يُخْتَصَّ بسُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ؛ فإذا أَطْلَقَ وَكيعٌ وقالَ: حدَّثَنَا سُفيانُ، فهوَ الثوريُّ، وإنْ رَوَى عن ابنِ عُيَيْنَةَ نَجِدُهُ يَنْسِبُه يَنْسُبُهُ فيقولُ: حدَّثَنا سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ.
صُنِّفَ فيهِ كتابُ: (تَقْيِيدُ الْمُهْمَلِ)للجَيَّانِيِّ الغَسَّانِيِّ، وأُخِذَ رسالةً في جامعةِ الإمامِ ولم يُطْبَعْ بَعْدُ.