خلاصة الدرس
ذكرتُ في هذا الدرس بيانَ معنى الاستعاذة، ومعنى تخصيص الربوبية للفلق، ومناسبته للاستعاذة من أنواع الشرور كلها، وأن الله تعالى هو رب الفلق، لا رب له سواه، وأنه لا يملك الفلق إلا الله جل وعلا، وأنه يقع على معانٍ كثيرة متعددة في الخلق والأمر، وذكرتُ بعض آثار ربوبية الله تعالى للفلق في عالم الخلق وعالم الأمر، وأن تفسير بعض أهل العلم للفلق بأنه الصبح تفسير بالمثال، وهو مسلك من مسالك التفسير المعتبرة.
وممن نص على عموم معنى الفلق وأنه لا يقصر على فلق الصبح: ابن جرير الطبري وأبو إسحاق الزجاج وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم .
قال ابن جرير: (ولم يكن -جلَّ ثناؤه- وضع دلالة على أنه عنى بقوله: {رب الفلق} بعضَ ما يُدعى الفلق دون بعض، وكان الله -تعالى ذكره- ربَّ كلِّ ما خلق من شيء : وجب أن يكون معنياً به كل ما اسمه الفلق) ا.هـ.
وقال أبو إسحاق الزجاج (ت:311هـ): (ومعنى الفلق: الخلق، قال الله عز وجل: {فالق الإصباح}، {فالق الحبّ والنوى} ، وكذلك فَلَقَ الأرض بالنبات والسحاب بالمطر، وإذا تأمّلت الخلق تبيّن لك أن خلقَه أكثره عن انفلاق؛ فالفلق جميع المخلوقات وفلق الصبح من ذلك) ا.هـ.
وقال ابن تيمية: (الفَلَق فعل بمعنى مفعول ، كالقبض بمعنى المقبوض ، فكل ما فلقه الرب فهو فلق).
وقال ابن القيم: (واعلمْ أنَّ الخلقَ كلَّه فَلَقٌ، وذلك أنَّ فَلَقًا فَعَلٌ بمعنى مَفعولٍ: كقَبَضٍ وسَلَبٍ وقَنَصٍ بمعنى مَقبوضٍ ومَسلوبٍ ومَقنوصٍ.
واللهُ - عزَّ وجَلَّ - فالِقُ الإصباحِ وفالقُ الحَبِّ والنَّوى وفالِقُ الأرضِ عن النباتِ، والجبالِ عن العُيونِ، والسَّحابِ عن المطَرِ، والأرحامِ عن الأَجِنَّةِ، والظلامِ عن الإصباحِ، ويُسَمَّى الصبْحُ الْمُتَصَدِّعُ عن الظُّلْمَةِ: فَلَقًا وفَرَقًا، يُقالُ: هو أبيضُ من فَرَقِ الصُّبْحَ وفَلَقِه.
وكما أنَّ في خَلْقِه فَلْقًا وفَرْقًا؛ فكذلك أمْرُه كلُّه فُرْقَانٌ يَفْرُقُ الحقَّ والباطلَ فيَفْرُقُ بينَ ظلامِ الباطلِ بالحَقِّ كما يفْرُقُ ظلامَ الليلِ بالإصباحِ، ولهذا سَمَّى كتابَه الفُرْقَانَ، ونَصْرَه فُرْقَانًا لتَضَمُّنِه الفَرْقَ بينَ أوليائِه وأَعدائِه، ومنه فَلْقُه البَحْرَ لموسى فَلْقًا وسَمَّاهُ، فظَهَرَتْ حِكمةُ الاستعاذةِ برَبِّ الفَلَقِ في هذه الْمَواضعِ، وظَهَرَ بهذا إعجازُ القرآنِ وعَظَمَتُه وجَلالتُه، وأنَّ العِبادَ لا يَقْدِرون قَدْرَه، وأنه {تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ})ا.هـ.
وتفطَّن إلى أن قول ابن القيم فيه أن الفلق يعمّ الخلق والأمر ، وهذا له ما يؤيده من الإطلاق اللغوي كما سبق نقله عن أبي منصور الأزهري، وقد تقدّم شرح ذلك.
بل شيخ الإسلام ابن تيمية له كلام في أن الفلق يعمّ الخلق والأمر.
والمقصود أن ربوبية الله تعالى للفلق ربوبيّة عظيمة القدر ، عظيمة الآثار في الخلق والأمر، وأنها من معاني ملك الله عز وجل وتصرفه وتدبيره؛ فلا يكون فلق إلا بإذنه، ولا يخرج شيء من شيء إلا بإذنه، ولا يكشف حجاب عن حق إلا بإذنه، ((يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)) وهذا يعمّ الهداية العامة لدين الإسلام والهدايات التفصيلية في شؤون العلم والعمل والدعوة بل في شؤون الدين والدنيا.
فإنه إذا لم يكشف الحجاب بين العبد وبين الحق لم يَره ولم يهتدِ إليه، وإذا لم يكشف له الحجاب بينه وبين ما ينفعه في أمور دنياه لم يهتدِ له، بل ربما أضاع الإنسان من جهده ووقته وماله شيئاً كثيراً في تحصيل ما يريد ويتعسر عليه، وهو في حقيقة الأمر قريب المتناول لكنه لا يبصره ولا يهتدي إليه.
ولا يملك هدايته لذلك إلا رب الفلق جل وعلا، ومن يضلل الله فلا هادي له، ومن يهده الله فلا مضلّ له.
والعبد إذا أيقن بهذا استراح من عناء كثير من جانب التعلق بالخلق وما يترتب على التعلق بهم من آثار سيئة كبيرة قد تفسد الدين والعقل والمروءة والخلق.
ومن جانب آخر تقتضي منه استشعار مسؤولية القيام بأمر الله كما يحب الله عز وجل، وأن فلاحه وسعادته وضمان أمره إنما هو بالقيام بأمر الله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله}.
ومن قام بأمر الله لم يضره من خذله ولا من خالفه، بل له عهد الهداية والنصر من الله جل وعلا.
فيكون الشأن كل الشأن؛ كيف يقوم العبد بأمر الله؟
والجواب: أن العبد لا يكلف من ذلك إلا ما يستطيع، وليبدأ بإصلاح قلبه ونيته، فإنه إذا صلح القلب صلح سائر الجسد.
ولذلك فإن العناية بالعبادات القلبية لها أثر عظيم في صلاح العبد.
قوله تعالى: {من شر ما خلق} هذا يعمّ جميع الشرور، ويفيد بأن الشر مختص بعالم الخلق دون عالم الأمر؛ فإن الله تعالى لا يكون في أمره شر، وإنما يكون الشر في بعض مخلوقاته.
وفي هذه الآية استعاذة من جميع الشرور ؛ فلا يخرج منها شرّ من الشرور؛ فهي تشمل شر النفس، وشر سيئات الأعمال، وشر الشيطان، وشر السحرة والحسدة والبغاة، وشرور كل دابةّ ، بل ما في الكون كله من شرور.
وقد ذكرنا لكم أن الشرور تنقسم إلى نوعين:
شرور حجب وإمساك للخير، وشرور عدوان وهجوم بالشر.
وأن الشرور منها شرور حسية، ومنها شرور معنوية.
وأن الجسد والروح كلاهما بحاجة إلى غذاء يقوّي ، ووقاية تحمي، فإذا حجب الغذاء أو خرقت الوقاية لم يأمن العبد من الضرر والتعرض للآفات بسبب ذلك.
وأن هذا كما ينطبق على الفرد فهو كذلك ينطبق على الجماعة، وعلى ما يكون بينهما من الأواصر والروابط والمؤاخاة.
وفهم هذه التقسيمات يعين على فهم كلام أهل العلم في تفسير هذه الآيات، ويعين على الترجيح بين ما اختلف فيه من الأقوال.