أجمع العلماء على مشروعية القصاص في القتل العمد إذا توفرت شروطه؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى}، وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، وهذا في شريعة التوراة وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "أي: لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة؛ لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصا إذا قتل آخر؛ كف عن القتل؛ وانزجر عن التسرع إليه والوقوع فيه، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية، وهذا نوع من البلاغة بليغ، وجنس من الفصاحة رفيع؛ فإنه جعل القصاص الذي هو موت حياة باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضا؛ إبقاء على أنفسهم، واستدامة لحياتهم، وجعل هذا الخطاب موجها إلى أولي الألباب؛ لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب، ويتحامون ما فيه الضرر الآجل، وأما من كان مصابا بالحمق والطيش والخفة؛ فإنه لا ينظر عند سورة غضبه وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة، ولا يفكر في أمر مستقبل؛ كما قال بعض فتاكهم:
سأغسل عني العار بالسيف جالبا.=.. عليَّ قضاء الله ما كان جالبا
ثم علل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أن: تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص، فيكون ذلك سببا للتقوى..." انتهى.
وجاءت السنة النبوية بأن ولي القصاص يخير بين استيفائه، وبين العفو إلى أخذ الدية، أو العفو مجانا، وهو أفضل؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((من قتل له قتيل؛ فهو بخير النظرين: إما أن يودى، وإما أن يقاد))، رواه الجماعة إلا الترمذي.
وقال الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}.
فدلت الآية الكريمة والحديث على أن الولي يخير بين القصاص والدية، فإن شاء؛ اقتص وإن شاء؛ أخذ الدية، وعفوه مجانا أفضل؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، ولحديث أبي هريرة: "ما عفا رجل عن مظلمة؛ إلا زاده الله بها عزًا"، رواه أحمد ومسلم والترمذي.
فالعفو عن القصاص أفضل ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة؛ فقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن العفو لا يصلح في قتل الغيلة؛ لتعذر الاحتراز منه؛ كالقتل مكابرة، وذكر القاضي وجها أن قاتل الأئمة يقتل حدّاً لأن فساده عام.
وذكر العلامة ابن القيم على قصة العرنيين: "أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدّاً؛ فلا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة، وهو مذهب أهل المدينة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، واختيار الشيخ، وأفتى به رحمه الله..." انتهى.
[الملخص الفقهي:2/471-473]