قولُهُ:
وَقَارَبَهُمْ طائفةٌ ثالثةٌ مِن أهلِ الكلامِ، مِن المعتزلةِ ومَن اتَّبَعَهُمْ, فَأَثْبَتُوا للهِ الأسماءَ دونَ ما تَتَضَّمَنُهُ مِن الصفاتِ:
فمنهم مَن جَعَلَ العليمَ، والقديرَ، والسميعَ، والبصيرَ، كالأعلامِ المَحْضَةِ المُتَرَادِفَاتِ.
ومنهم مَن قالَ: عليمٌ بِلاَ عِلْمٍ، قديرٌ بلا قُدْرَةٍ، سميعٌ بصيرٌ بلا سَمْعٍ ولا بَصَرٍ، فَأَثْبَتُوا الاسمَ دونَ ما تَضَمَّنَهُ مِن الصفاتِ.
والكلامُ على فسادِ مَقَالَةِ هؤلاءِ وبيانِ تَنَاقُضِهَا بصريحِ المعقولِ المطابقِ لصحيحِ المنقولِ مذكورٌ في غيرِ هؤلاءِ الكلماتِ.
الشرحُ:
(الطائِفَةُ): الجماعةُ، و (أهلُ الكلامِ): أصحابُهُ، وَسُمُّوا بذلكَ؛ لأنَّهُم كانوا يَسْلُكُونَ الطُرُقَ الصعبةَ الطويلةَ، والعباراتِ المُتَكَلِّفَةَ الهائِلَةَ، وليسَ لذلكَ فائدةٌ إلا تَضْيِيعُ الزمانِ وإتعابُ الأذهانِ، وكثرةُ الهَذَيَانِ، ودَعَوَى التحقيقِ بالكَذِبِ والبُهْتَانِ؛ وَلِكَوْنِ هذه الطرقِ التي سَلَكُوهَا، والحدودِ التي ذَكَرُوهَا لا تُفِيدُ الإنسانَ عِلْماً لم يَكُنْ عِنْدَهُ، وإنَّمَا تُفِيدُهُ كثرةَ كلامٍ فقطْ سُمُّوا أَهْلَ الْكَلاَمِ.
(والمُعْتَزِلَةُ): سببُ تَسْمِيَتِهِمْ بالمعتزلةِ أنَّهُ دَخَلَ رجلٌ على الحسنِ البصريِّ فقالَ: (يا إمامَ الدينِ! لقد ظَهَرَتْ في زمانِنَا جماعةٌ يُكَفِّرُونَ أصحابَ الكبائرِ، والكبيرةُ عندَهُم يُخْرَجُ بِهَا عن المِلَّةِ، وهم وَعِيدِيَّةُ الخوارجِ، وجماعةٌ يُرْجِئُونَ أصحابَ الكبائرِ، والكبيرةُ عندَهم لا تَضُرُّ مع الإيمانِ، بل العَمَلُ على مَذْهَبِهِمْ ليسَ رُكْنًا من الإيمانِ، ولا يَضُرُّ مع الإيمانِ معصيةٌ، كما لا يَنْفَعُ مع الكُفْرِ طاعةٌ، وهم مُرْجِئَةُ الْأُمَّةِ، فكيفَ تَحْكُمُ لَنَا في ذلكَ اعْتِقَاداً؟ ) فَتَفَكَّرَ الحسنُ في ذلكَ, وقبلَ أنْ يُجِيبَ قالَ وَاصِلُ بنُ عَطَاءٍ الغَزَّالُ: أَنَا لا أقولُ: إِنَّ صاحبَ الكبيرةِ مُؤْمِنٌ مُطْلَقاً ولا كَافِرٌ، ثم قامَ واعْتَزَلَ إلى أُسْطُوانةٍ من أُسْطُواناتِ المسجدِ يُقَرِّرُ ما أَجَابَ بهِ على جماعةٍ من أصحابِ الحسنِ، فقالَ الحسنُ: (اعْتَزَلَ عَنَّا وَاصِلُ بنُ عطاءٍ) فَسُمِّيَ هو وأصحابُهُ (مُعْتَزِلَةً) وقيلَ: هُم سَمَّوا أَنْفُسَهُمْ (مُعْتَزِلَةً) وذلكَ عندما بايعَ الحسنُ بنُ عليٍّ معاويةَ, وَسَلَّمَ إليهِ الأمْرَ, واعْتَزَلُوا الحسنَ ومعاويةَ.
وقولُهُ: (ومَن اتَّبَعَهُمْ) يعني:كالخوارجِ وكثيرٍ من المُرْجِئَةِ، وبعضِ الزَّيْدِيَّةِ.
وقولُهُ: (فَمِنْهُمْ مَن جَعَلَ العليمَ) إلخ يعني:أنَّ بعضَ المعتزلةِ قالوا: العليمُ والقديرُ ونحوَ ذلكَ أعلامٌ للهِ، وليستْ دَالَّةً على أوصافٍ، وهي بالنسبةِ إلى دَلاَلَتِهَا على ذاتٍ واحدةٍ، هي مُتَرَادِفَةٌ، وذلكَ مثلَ تَسْمِيَتِكَ ذاتًا واحدةً بزيدٍ، وعمرٍو، ومحمدٍ، وعليٍّ، فهذهِ الأسماءُ مترادفةٌ، وهي أَعْلاَمٌ خالِصَةٌ، لا تَدُلُّ على صفةٍ لهذهِ الذاتِ المُسَمَّاةِ بها، وبعضُهُم قالَ: كلُّ عِلْمٍ منها مُسْتَقِلٌّ؛ فاللهُ يُسَمَّى عليماً، وقديراً، وليستْ هذه الأسماءُ مُتَرَادِفَةً، ولكنْ ليسَ معنى ذلكَ أنَّ هناك حياةً أو قُدْرَةً، وهذا معنى قولِ المُؤَلِّفِ: (وَقَارَبَهُم طائفةٌ ثالثةٌ مِن أهلِ الكلامِ مِن المُعْتَزِلَةِ ومَن تَبِعَهُم).
فالمعتزلةُ مُجْمِعُونَ على تسميةِ اللهِ بالاسمِ، ونَفْيِ الصفةِ عنهُ، وكذلكَ مَن تَبِعَهُم مِن الطوائفِ المُشَارِ إليها.
والترادُفُ سيأتي لهُ ذِكْرٌ في غيرِ هذا الموضوعِ.
(والعِلَمُ) اسمٌ يُعَيِّنُ مُسَمَّاهُ مُطْلَقاً (والمَحْضَةُ) الخالِصَةُ الخاليَةُ مِن الدلالةِ على شَيْءٍ آخَرَ.
وقولُهُ: (والكلامُ على فسادِ مقالةِ هؤلاءِ وبيانِ تَنَاقُضِهَا) إلخ... معناهُ أنَّ بَسْطَ الكلامِ في إيضاحِ بُطْلاَنِ أقوالِ المعتزلةِ ومَن على شَاكِلَتِهِمْ, بَسْطَ القولِ في ذلكَ مذكورٌ في غيرِ هذهِ الرسالةِ، وقد بَسَطَهُ – رَحِمَهُ اللهُ – في كتابَيْهِ (موافقةِ صريحِ المعقولِ لصحيحِ المنقولِ,ومِنْهاجِ السُّنَّةِ) وغيرِهِما مِن مؤلفاتِهِ، وبَيَّنَ فيها وَجْهَ التناقضِ والفسادِ؛ مُوَضِّحاً بُطْلاَنَ ذلكَ بالحُجَجِ العقليَّةِ والنَّقْلِيَّةِ. وقولُهُ: (بصريحِ المعقولِ) يعني (بالمعقولِ) الصريحِ، وكذلكَ قولُهُ: (وصحيحِ المنقولِ) يعني (بالمنقولِ) الصحيحِ، فهو من إضافةِ الصفةِ إلى الموصوفِ، (والصريحُ) هو السليمُ الخالي مِن المُعَارَضَةِ،(والصحيحُ) السليمُ مِن الأمراضِ، وهي عِلَلُ التَّجْرِيحِ. وَوَجْهُ تناقُضِ مقالَتِهِم أنَّهُمْ يقولونَ القَوْلَيْنِ المُتَضَادَّيْنِ في المسألةِ الواحدةِ، فَيُفَرِّقُونَ بينَ المُتَمَاثِلَيْنِ، وَيُسَوُّونَ بينَ المُخْتَلِفَيْنِ.
وقولُهُ: (المطابقِ) يُشِيرُ إلى أنَّهُ لا اختلافَ بينَ العقلِ الصريحِ والنقلِ الصحيحِ، بلْ هُمَا مُتَّفِقَانِ تمامَ الاتفاقِ.