عنِ ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنهُ قال: جاءَ حَبْرٌ من الأحبارِ إلَى رسولِ اللهُ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فقالَ: (يا مُحَمَّدُ، إنَّا نَجِدُ أنَّ اللهَ يجعلُ السَّماواتِ علَى إصْبعٍ، والأرَضينَ علَى إصْبعٍ، والشَّجَرَ علَى إصْبعٍ، والماءَ علَى إصْبعٍ، والثَّرَى علَى إصْبعٍ، وسائرَ الخلْقِ علَى إصْبعٍ فيقول: أَنا الْمَلِكُ؟!)فَضَحِكَ النبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حتَّى بَدَتْ نواجِذُهُ تصديقًا لقولِ الْحَبْرِ، ثمَّ قرأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآيَةَ. متَّفقٌ عليهِ.
وفي روايَةٍ لمسلمٍ: (والجِبالَ والشَّجَرَ علَى إصبعٍ، ثُمَّ يهُزُّهنَّ فيقولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا اللهُ).
وفي رِوايَةٍ للبُخاريِّ: (يَجْعَلُ السَّماواتِ عَلَى إصبَعٍ، والماءَ والثَّرَى علَى إصبَعٍ، وسائرَ الْخَلْقِ علَى إصبعٍ) أخرجاهُ.
قولُهُ: (بابُ ما جاءَ في قولِ اللهِ تعالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًـا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}) أيْ: من الأحاديثِ والآثارِ في مَعنَى هذه الآيَةِ الكريمةِ.
قالَ العِمادُ ابنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: يقولُ تعالَى: (ما قَدَرَ الْمُشرِكونَ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ، حتَّى عَبَدُوا معه غيرَهُ، وهوَ العظيمُ الذي لا أَعْظَمَ منهُ؛ القادرُ علَى كلِّ شيءٍ، المالِكُ لكلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ تحتَ قَهْرِهِ وقُدرتِهِ).
قالَ السُّدِّيُّ: (ما عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمتِهِ).
وقالَ مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ: (لوْ قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ ما كَذَّبُوهُ).
وقالَ عليُّ بنُ أبي طَلحةَ، عن ابنِ عَبَّاسٍ: (هم الكُفَّارُ الذينَ لم يُؤْمِنوا بقُدرَةِ اللهِ عليهم، فمَنْ آمَنَ أنَّ اللهَ علَى كلِّ شيءٍ قديرٌ، فقدْ قَدَرَ اللهَ حقَّ قَدْرِهِ؛ ومَنْ لم يُؤْمِنْ بذلكَ فلم يَقْدِرِ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
وقدْ وَرَدَتْ أحاديثُ كثيرةٌ مُعَلَّقَةٌ بهذه الآيَةِ، الطريقُ فيها وفي أمثالِها منْ مَذْهَبِ السلَفِ؛ وهوَ إِمرارُها كما جَاءتْ منْ غيرِ تَكييفٍ ولا تَحريفٍ، وذَكَرَ حديثَ ابنِ مَسعودٍ كما ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ في هذا البابِ، قالَ: ورواهُ البخاريُّ في (صحيحِهِ) في غيرِ مَوْضِعٍ.
ومسلمٌ، والإِمامُ أحمدُ، والتِّرمِذِيُّ، والنَّسائيُّ، كلُّهم منْ حديثِ سُليمانَ بنِ مِهرانَ وهوَ الأَعْمَشُ، عنْ إبراهيمَ، عنْ عَبِيدَةَ، عن ابنِ مَسعودٍ، بنحوِهِ.
قالَ الإمامُ أحمدُ: حَدَّثَنا مُعاويَةُ، حَدَّثَنا الأعمشُ، عنْ إبراهيمَ، عنْ عَلقمةَ، عنْ عبدِ اللهِ قالَ: (جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ إِلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا أَبا القاسِمِ، أَبَلَغَكَ أنَّ اللهَ تعالَى يَحمِلُ الخلائِقَ عَلَى إِصبعٍ، والسَّماواتِ عَلَى إِصْبعٍ، والأَرَضِينَ علَى إِصْبَعٍ، والشَّجَرَ علَى إِصْبَعٍ، والثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ؟ فَضَحِكَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَى بَدَتْ نواجِذُهُ).
قالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآيَةَ.
وهكذا رواهُ البخاريُّ، ومسلِمٌ، والنَّسائيُّ، منْ طُرُقٍ عن الأَعْمَشِ بهِ.
وقالَ الإِمامُ أَحمدُ: حَدَّثَنا الْحُسَيْنُ بنُ حَسَنٍ الأَشْقَرُ، حَدَّثَنا أبو كُدَيْنَةَ، عنْ عَطاءٍ، عنْ أبي الضُّحَى، عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: (مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جالِسٌ، فقالَ: كَيْفَ تقولُ يا أبا القاسِمِ يومَ يَجْعَلُ اللهُ السَّماواتِ علَى ذِهِ - وَأَشارَ بالسَّبَّابةِ - والأرضَ عَلَى ذِهِ، والجبالَ عَلَى ذِهِ، وسائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهِ؟ كلُّ ذلكَ يُشيرُ بِأُصْبُعِهِ) فَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وكذا رواهُ التِّرمذيُّ في التفسيرِ بسَنَدِهِ، عنْ أبي الضُّحَى مسلمِ بنِ صُبَيْحٍ بهِ، وقالَ: حَسَنٌ صحيحٌ غَريبٌ، لا نَعْرِفُهُ إلاَّ منْ هذا الوَجْهِ.
ثم قالَ البخاريُّ: حَدَّثَنَا سعيدُ بنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنا الليثُ، حَدَّثَني عبدُ الرحمنِ بنُ خالدِ بنِ مُسافِرٍ، عن ابنِ شِهابٍ، عنْ أبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، أنَّ أبا هُريرةَ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ:((يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ، وَيطْوِي السَّماءَ بِيَمينِهِ، فَيقولُ: أَنا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟)) تَفَرَّدَ بهِ مِنْ هذا الوَجْهِ، ورواهُ مُسلِمٌ منْ وَجْهٍ آخَرَ.
وقالَ البُخارِيُّ في مَوْضِعٍ آخَرَ: حَدَّثَنا مُقدَّمُ بنُ محمَّدٍ، حَدَّثَنا عَمِّي القاسمُ بنُ يَحْيَى، عنْ عُبَيْدِ اللهِ، عنْ نافعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، قالَ: إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:((إِنَّ اللهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَرَضِينَ، وتَكُونُ السَّماءُ بِيمينِهِ، ثُمَّ يقولُ: أَنَا الْمَلِكُ))تَفَرَّدَ بهِ أيضًا منْ هذا الوجهِ، ورواهُ مُسلِمٌ منْ وَجْهٍ آخَرَ.
وقدْ رواهُ الإِمامُ أحمدُ منْ طريقٍ آخَرَ بلَفْظٍ أَبْسَطَ منْ هذا السياقِ وأَطولَ، فقالَ: حَدَّثَنا عَفَّانُ، حَدَّثَنا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ؛ أنبأنا إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أبي طَلْحَةَ، عنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ مِقْسَمٍ، عن ابنِ عُمَرِ: (أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرأَ هَذهِ الآيَةَ ذاتَ يومٍ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـًا قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ورسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ هَكَذا - بِيَدِهِ يُحَرِّكُها، يُقْبِلُ بِها ويُدْبِرُ - ((يُمَجِّدُ الرَّبُّ تَعَالَى نَفْسَهُ: أَنَا الْجَبَّارُ، أَنَا الْمُتَكَبِّرُ، أَنَا الْمَلِكُ؛ أَنَا الْعَزِيزُ، أَنَا الْكَريِمُ)) فَرَجَفَ برسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرُ حَتَى قُلْنا: لَيَخِرَّنَّ بِهِ)). انتهَى.
(4) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: ولِمُسْلِمٍ، عن ابنِ عمَرَ مرفوعًا: ((يَطْوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذْهُنَّ بيَدِهِ الْيُمنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَينَ الْجَبَّارُونَ؟ أينَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ السَّبْعَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟))
ورُويَ عنِ ابنِ عباسٍ قال: (ما السَّماواتُ السبْعُ، والأَرْضونَ السَّبْعُ في كَفِّ الرّحمنِ إلاَّ كَخَرْدَلةٍ في يَدِ أحَدِكُم).
وقال ابنُ جريرٍ: حدَّثني يونُس، أخبرنا ابنُ وهبٍ قال: قال ابنُ زيدٍ: حدَّثني أبي قالَ: قال رسولُ اللهِ صلَى اللهُ عليهِ وسلم: ((مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إلاَّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ)).
وقال: قال أبو ذرٍّ رضيَ اللهُ عنهُ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: ((مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إلاَّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ)).
وعَنِ ابنِ مسعودٍ قال: ( بَيْنَ السَّماءِ الدُّنيا والَّتي تَليها خَمسُمائةِ عامٍ، وبَيْنَ كلِّ سماءٍ وسماءٍ خمسُمائةِ عامٍ، وبينَ السماءِ السابعةِ والكرسيِّ خمسُمائةِ عامٍ، وبينَ الكرسيِّ والماءِ خمسُمائةِ عامٍ، والعرشُ فوْقَ الماءِ، واللهُ فوْقَ العرشِ، لا يَخْفَى عَليْهِ شيءٌ مِنْ أعمالِكُم ) أخرجهُ ابنُ مهديٍّ، عنْ حمَّادِ بنِ سلَمةَ، عنْ عاصِمٍ، عَنْ زرٍّ، عنْ عبد اللهِ.
ورواهُ بنحوِهِ المسعوديُّ، عنْ عاصمٍ، عنْ أبي وائلٍ، عَنْ عبدِ اللهُ؛ قالَهُ الحافِظُ الذَّهبيُّ رحمه اللهُ تعالَى، قال: (ولَهُ طُرُقٌ).
وعنِ العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ رضي اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:((هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟))
قُلنا: اللهُ ورسولُهُ أعلمُ.
قالَ: ((بيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، ومِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْعَرْشِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ)) أخرجه أبو داودَ وغيرُهُ.
قولُهُ: (ولِمسلمٍ عن ابنِ عُمَرَ - الحديثَ) كذا في روايَة مسلِمٍ، وقالَ الْحُمَيْدِيُّ: وهيَ أَتَمُّ، وهيَ عندَ مُسلِمٍ منْ حديثِ سالِمٍ، عنْ أبيهِ.
وأَخْرَجَهُ البخاريُّ منْ حديثِ عُبَيْدِ اللهِ، عنْ نافعٍ، عن ابنِ عمرَ قالَ: ((إِنَّ اللهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَرَضِينَ وتَكُونُ السَّماءُ بِيمِينِهِ)) وأخرَجَهُ مسلِمٌ منْ حديثِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ مِقْسَمٍ.
قلتُ: وهذه الأحاديثُ وما في معناها تَدُلُّ علَى عَظَمَةِ اللهِ، وعَظيمِ قُدْرَتِهِ، وعِظَمِ مَخلوقاتِهِ.
وقدْ تَعَرَّفَ سُبحانَهُ وتعالَى إلَى عِبادِهِ بصِفاتِهِ، وعَجائبِ مَخلوقاتِهِ، وكُلُّها تُعَرِّفُ وتَدُلُّ علَى كَمالِهِ، وأنَّهُ هوَ الْمَعبودُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لهُ في رُبوبِيَّتِهِ وإلَهِيَّتِهِ، وتَدُلُّ علَى إثباتِ الصفاتِ علَى ما يَليقُ بجَلالِ اللهِ وعَظَمَتِهِ، إثباتًا بلا تَمثيلٍ، وتَنزيهًا بلا تَعطيلٍ؛ وهذا هوَ الذي دَلَّتْ عليهِ نُصوصُ الكتابِ والسنَّةِ، وعليهِ سَلَفُ الأُمَّةِ وأَئِمَّتُها، ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ، واقْتَفَى آثَارَهم علَى الإِسلامِ والإِيمانِ.
وتَأَمَّلْ ما في هذه الأحاديثِ الصحيحةِ منْ تَعظيمِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ بِذِكْرِ صِفاتِ كَمالِهِ علَى ما يَليقُ بعَظَمَتِهِ وجَلالِهِ، وتَصديقِهِ اليهودَ فيما أَخْبَرُوا بهِ عن اللهِ من الصفاتِ التي تَدُلُّ علَى عَظَمَتِهِ، وتَأَمَّلْ ما فيها منْ إثباتِ عُلُوِّ اللهِ علَى عَرْشِهِ، ولم يَقُل النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شيءٍ منها: إنَّ ظاهرَها غيرُ مُرادٍ، أوْ أنَّها تَدُلُّ علَى تَشبيهِ صِفاتِ اللهِ بصِفاتِ خَلْقِهِ، فلوْ كان هذا حقًّا بَلَّغَهُ أَمِينُهُ أُمَّتَهُ، فإنَّ اللهَ أَكْمَلَ بهِ الدِّينَ، وأَتَمَّ بهِ النِّعْمَةَ، فبَلَّغَ البَلاغَ الْمُبينَ، صَلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عليهِ، وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، ومَنْ تَبِعَهُم إلَى يومِ الدِّينِ.
وتَلَقَّى الصحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم عنْ نَبِيِّهِم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما وَصَفَ بهِ رَبَّهُ منْ صِفاتِ كَمالِهِ، ونُعوتِ جَلالِهِ، فآمَنُوا بهِ، وآمَنُوا بكتابِ اللهِ ومَا تَضَمَّنَهُ منْ صِفاتِ رَبِّهم جَلَّ وعَلاَ؛ كما قالَ تعالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل عمران:7] وكذلكَ التابعونَ لهم بإحسانٍ وتابِعُوهُم، والأَئِمَّةُ من الْمُحَدِّثينَ والفُقَهاءِ، كلُّهم وَصَفَ اللهَ بما وَصَفَ بهِ نفسَهُ، ووَصَفَهُ بهِ رسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يَجْحَدوا شيئًا من الصفاتِ، ولا قالَ أحدٌ منهم: إنَّ ظاهِرَها غيرُ مُرادٍ، ولا أنَّهُ يَلْزَمُ منْ إثباتِها التشبيهُ، بلْ أَنْكَرُوا علَى مَنْ قالَ ذلكَ غايَةَ الإنكارِ، فصَنَّفُوا في ردِّ هذه الشُّبُهاتِ الْمُصَنَّفَاتِ الكِبارَ المعروفةَ الموجودةَ بأَيْدِي أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ.
قالَ شيخُ الإِسلامِ أحمدُ ابنُ تَيميَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: (وهذا كِتابُ اللهِ منْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ، وسُنَّةُ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلامُ الصحابةِ والتابعينَ، وكلامُ سائرِ الأَئِمَّةِ، مملوءٌ بما هوَ نصٌّ أوْ ظاهِرٌ أنَّ اللهَ تعالَى فوقَ كلِّ شيءٍ، وأنَّهُ فوقَ العَرْشِ فوقَ السماواتِ مُسْتَوٍ علَى عَرْشِهِ، مثلُ قولِهِ تعالَى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر:10].
- وقولِهِ تعالَى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}[آل عمران:55].
- وقولِهِ تعالَى: {بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ}[النساء:158].
- وقولِهِ تعالَى: {ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}[المعارج:3،4].
- وقولِهِ تعالَى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}[السجدة:5].
- وقولِهِ تعالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}[النحل:50].
- وقولِهِ تعالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}[البقرة:29].
- وقولِهِ تعالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:54].
- وقولِهِ تعالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}[يونس:3].
- فذَكَرَ التوحِيدَيْنِ في هذه الآيَةِ، وقولِهِ تعالَى: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الرعد:2].
- وقولِهِ تعالَى: {تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:4،5].
- وقولِهِ تعالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَـنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}[الفرقان:58،59].
- وقولِهِ تعالَى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِن دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}[السجدة:4،5].
- وقولِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الحديد:4].
- فذَكَرَ عُمومَ عِلْمِهِ، وعُمومَ قُدْرَتِهِ، وعُمومَ إحاطتِهِ، وعُمومَ رُؤْيَتِهِ، وقولِهِ:{أَأَمِنْتُمْ مَن فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}[المُلك: 16 - 17].
- وقولِهِ تعالَى: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: 42].
- وقولِهِ تعالَى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الجاثيَة: 2].
- وقولِهِ تعالَى: {وَقَالَ فَرْعَوْنُ يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَـلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا}[غافر: 36 - 37] ) انتهَى كلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ.
قلتُ: وقدْ ذَكَرَ الأئِمَّةُ رَحِمَهم اللهُ تعالَى فيما صَنَّفُوهُ في الردِّ علَى نُفاةِ الصفاتِ -من الْجَهْمِيَّةِ والمعتزِلةِ والأشاعرةِ ونحوِهم- أقوالَ الصحابةِ والتابعينَ.
فمِنْ ذلكَ ما رواهُ الحافظُ الذهبيُّ في كتابِ (العُلُوِّ) وغيرِهِ بالأسانيدِ الصحيحةِ، عنْ أمِّ سَلَمَةَ زوجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّها قالَتْ في قولِهِ تعالَى: {الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قالتْ: (الاستواءُ غيرُ مَجهولٍ، والكَيْفُ غيرُ مَعقولٍ، والإقرارُ بهِ إيمانٌ، والْجُحودُ بهِ كُفْرٌ) رواهُ ابنُ الْمُنْذِرِ واللالكائيُّ وغيرُهما، بأسانيدَ صِحاحٍ، قالَ: وثَبَتَ عنْ سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ أنَّهُ قالَ - لَمَّا سُئِلَ رَبيعةُ بنُ أبي عبدِ الرحمنِ: كيفَ الاستواءُ؟
قالَ: (الاستواءُ غيرُ مَجهولٍ، والكيْفُ غيرُ مَعقولٍ؛ ومن اللهِ الرسالةُ، وعلَى الرسولِ البَلاغُ؛ وعلينا التصديقُ).
وقالَ ابنُ وَهْبٍ: (كُنَّا عندَ مالِكٍ، فدَخَلَ رجُلٌ فقالَ: يا أبا عبدِ اللهِ {الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيفَ استوَى؟
فأَطْرَقَ مالِكٌ وأَخَذَتْهُ الرُّحَضاءُ وقالَ: الرحمنُ علَى العرشِ استوَى، كما وَصَفَ نفسَهُ.
ولا يُقالُ: كيفَ؟
و(كيفَ) عنه مرفوعٌ، وأنت صاحبُ بِدعةٍ، أَخْرِجُوهُ) رواهُ البيهقيُّ بإسنادٍ صحيحٍ، عن ابنِ وَهْبٍ، ورواهُ عنْ يَحْيَى بنِ يَحْيَى أيضًا، ولَفْظُهُ قالَ: (الاستواءُ غيرُ مَجهولٍ؛ والكيفُ غيرُ مَعقولٍ، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسؤالُ عنه بِدعةٌ).
قالَ الذهبيُّ: (فانْظُرْ إليهم كيفَ أَثْبَتُوا الاستواءَ للهِ، وأَخْبَرُوا أنَّهُ مَعلومٌ لا يَحتاجُ لفْظُهُ إلَى تفسيرٍ، ونَفَوْا عنه الكَيْفِيَّةَ).
قالَ البخاريُّ في (صحيحِهِ): (قالَ مُجاهِدٌ: {استوَى} علا علَى العَرْشِ).
وقالَ إسحاقُ بن رَاهُويَهُ: (سَمِعْتُ غيرَ واحدٍ من الْمُفَسِّرِينَ يقولُ: {الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: ارْتَفَعَ).
وقالَ مُحَمَّدُ بنُ جَريرٍ الطبريُّ في قولِهِ تعالَى: {الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أيْ: علا وارْتَفَعَ.
وشواهدُهُ في أقوالِ الصحابةِ والتابعينَ وأتباعِهم، فمِنْ ذلكَ قولُ عبدِ اللهِ بنِ رَواحةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
شـَهـِدْتُ