والقدرُ بالفَتْحِ والسُّكُونِ: ما يُقَدِّرُهُ اللهُ من القضاءِ، ولمَّا كانَ توحيدُ الرُّبُوبِيَّةِ لا يَتِمُّ إلاَّ بإثباتِ القدرِ قالَ القرطبيُّ:(القدرُ مصدرُ قَدَرْتُ الشيءَ بتخفيفِ الدَّالِ أَقْدُرُهُ، وأقدِرُهُ قَدْرًا وقَدَرًا، إذا حَصلت بمقدارِهِ، ويُقالُ فيهِ: قَدَّرْتُ أُقَدِّرُ تقديرًا، مُشَدَّدَ الدالِ، فإذا قُلْنَا: إنَّ اللهَ تعالَى قَدَّرَ الأشياءَ، فمعناهُ: إنَّهُ تعالَى عَلِمَ مقاديرَها وأحوالَهَا وأزمانَهَا قبلَ إيجادِها، ثمَّ أَوْجَدَ منها ما سبقَ في علمِهِ أنَّهُ يُوجِدُه علَى نحوِ ما سبقَ في عِلْمِهِ، فلا مُحْدَثَ في العالَمِ العلويِّ والسفليِّ إلاَّ هُوَ صادرٌ عنْ علمِهِ تعالَى وقدرتِهِ وإرادتِهِ، هذا هوَ المعلومُ منْ دينِ السَّلَفِ الماضينَ الذي دلَّتْ عليهِ البراهينُ).
ذكرَ المُصَنِّفُ ما جاءَ في الوعيدِ فيمَنْ أنكرَهُ تنبيهًا علَى وجوبِ الإيمانِ، ولهذا عدَّهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منْ أركانِ الإيمانِ كما ثبتَ في حديثِ جبريلَ عليهِ السلامُ لمَّا سُئِلَ عن الإيمانِ، فقالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) قَالَ: صَدَقْتَ.
وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمْرِو بنِ العاصِ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ))
قالَ: ((وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)).
وعن ابنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى العَجْزُ والكَيْسُ)) رواهُمَا مسلمٌ في (صحيحِهِ).
وعنْ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، وَيُؤْمِنُ بِالْمَوْتِ، والبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ)) رواهُ الترمذيُّ، وابنُ مَاجَه، والحاكمُ في (مُسْتَدْرَكِهِ).
والأحاديثُ في ذلكَ كثيرةٌ جدًّا، قدْ أفرَدَها العلماءُ بالتصْنِيفِ.
قالَ الْبَغَوِيُّ في (شرحِ السُّنَّةِ): (الإيمانُ بالقدرِ فرضٌ لازمٌ، هُوَ أَنْ يعتقدَ أَنَّ اللهَ تعالَى خالقُ أعمالِ العبادِ خيْرِها وشرِّها، كتبَها عليهم في اللوحِ المحفوظِ قبلَ أنْ يخْلُقَهُم، قالَ اللهُ تعالَى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافَّات:96]، فالإيمانُ والكفرُ، والطاعةُ والمعصيةُ، كلُّها بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ وإرادتِهِ ومشيئتِهِ، غيرَ أَنَّهُ يَرْضَى الإيمانَ والطاعةَ ووعدَ عليهما الثوابَ، ولا يَرْضَى الكفرَ والمعصيةَ وأوعدَ عليهما بالعقابِ، قالَ اللهُ تعالَى: {وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ}[إبراهيم:27].
قالَ: والقدرُ سِرٌّ منْ أسرارِ اللهِ تعالَى لمْ يُطْلِعْ عليهِ ملَكًا مُقَرَّبًا، ولا نَبِيًّا مُرْسَلاً، ولا يجوزُ الخوضُ فيهِ والبحثُ عنهُ بطريقِ العقلِ، بلْ يعتقدُ أنَّ اللهَ تعالَى خلقَ الخلقَ، فجعلَهُم فريقَيْنِ: أهلُ يمينٍ خلقَهُم للنعيمِ فضلاً، وأهلُ شمالٍ خلقَهُم للجحيمِ عدلاً، قالَ اللهُ تعالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ}[الأعراف:178].
وقدْ سألَ رَجُلٌ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ، أخْبِرْنِي عن القدرِ، قالَ:(طريقٌ مظلمٌ؛ فلا تَسْلُكْهُ)
فأعادَ السؤالَ، فقالَ: (بحرٌ عميقٌ؛ لا تَلِجْهُ)
فأعادَ السؤالَ، فقالَ:(سرُّ اللهِ خَفِيَ عليكَ؛ فلا تُفْشِهِ)).
وقالَ شيخُ الإسلامِ: (مذهبُ أهلِ السنَّةِ في هذا البابِ وغيْرِهِ ما دلَّ عليهِ الكتابُ والسنَّةُ، وكانَ عليهِ السابقونَ الأوَّلُونَ مِن المهاجرينَ والأنصارِ والذينَ اتَّبعوهُم بإحسانٍ، وهوَ أَنَّ اللهَ خالقُ كلِّ شيءٍ ورَبُّهُ ومَلِيكُهُ، وقدْ دخلَ في ذلكَ جميعُ الأعيانِ القائمةِ بأنفسِها وصفاتِها القائمةِ بها منْ أفعالِ العبادِ وغيرِ أفعالِ العبادِ، وأنَّهُ سبحانَهُ ما شاءَ كانَ، وما لمْ يشَأْ لمْ يَكُنْ، فلا يكونُ في الوجودِ شيءٌ إلاَّ بمشيئتِهِ وقدرتِهِ، لا يمتنعُ عليهِ شيءٌ شاءهُ، بلْ هُوَ قادرٌ علَى كلِّ شيءٍ، ولا يشاءُ شيئًا إلاَّ وهوَ قادرٌ عليهِ، وأَنَّهُ سبحانَهُ يعلمُ ما كانَ وما يكونُ، وما لمْ يَكُنْ لوْ كانَ كيفَ كانَ يكونُ، فقدْ دخلَ في ذلكَ أفعالُ العبادِ وغيرُها.
وقدْ قدَّرَ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أنْ يخلقَهُم، قَدَّرَ أرْزَاقَهُم وآجالَهُمْ وأعمالَهُمْ، وكتبَ
ذلكَ وكتبَ ما يصيرونَ إليهِ منْ سعادةٍ وشقاوةٍ، فهمْ يؤمنونَ بخَلْقِهِ لكلِّ شيءٍ، وقدرَتِهِ علَى كلِّ شيءٍ، ومشيئتِهِ لكلِّ ما كانَ، وعلمِهِ بالأشياءِ قبلَ أنْ تكونَ، وتقديرِهِ لها وكتابتِهِ إيَّاهَا قبلَ أنْ تكونَ.
وغُلاةُ القدرِيَّةِ يُنْكِرُونَ عِلْمَهُ المُتَقَدِّمَ وكتابتَهُ السابقةَ، ويزعمونَ أنَّهُ أمرٌ ونهيٌ، وهوَ لا يعلمُ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يعصيهِ، بل الأمرُ أُنُفٌ؛ أيْ: مستأنَفٌ.
وهذا القولُ أوَّلَ ما حدثَ في الإسلامِ بعدَ انقراضِ عصرِ الخلفاءِ الراشدينَ، وبعدَ إمارةِ معاويةَ بنِ أبي سفيانَ، في زمنِ الفتنةِ التي كانتْ بينَ ابنِ الزُّبَيْرِ وبني أُمَيَّةَ في آخرِ عصرِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ وعبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، وغيْرِهِما من الصحابةِ.
وكانَ أوَّلَ منْ ظَهَرَ ذلكَ عنهُ بالبصرةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فلمَّا بلغَ الصحابةَ قولُ هؤلاءِ تبَرَّؤُوا منهم وأنْكَرُوا مقالتَهم، ثمَّ لمَّا كثُرَ خوضُ الناسِ في القدرِ صارَ جمهورُهم يُقِرُّ بالعلمِ المتقدِّمِ والكتابِ السابقِ، ولكنْ ينكرونَ عمومَ مشيئةِ اللهِ وعمومَ خلْقِهِ وقدرتِهِ، ويظُنُّونَ أنَّهُ لا معنَى لمشيئتِهِ إلاَّ أمرُهُ، فما شاءَ فقدْ أمرَ بهِ، وما لمْ يشأْ لمْ يأْمُرْ بهِ؛ فلَزِمَهُم أنَّهُ قدْ يشاءُ ما لا يكونُ، ويكونُ ما لا يشاءُ.
وأنكرُوا أَنْ يكونَ اللهُ خالقًا لأفعالِ العبادِ، أوْ قادرًا عليها، أوْ أَنْ يَخُصَّ بعضَ عبادِهِ من النِّعَمِ ممَّا يقتضي إيمانَهم بهِ وطاعتَهم لهُ، وزعمُوا أَنَّ نعمتَهُ التي بها يُمَكِّنُ الإيمانَ والعملَ الصالحَ علَى الكُفَّارِ - كأبي جهلٍ وأبي لهبٍ - مثلُ نعمتِهِ بذلكَ علَى أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، بمنزلةِ رجلٍ دفعَ إلَى والِدَيْهِ بمالٍ قَسَّمَهُ بينهم بالسَّوِيَّةِ، ولكنَّ هؤلاءِ أحدثُوا أعمالَهُم الصالحةَ، وهؤلاءِ أحدثُوا أعمالَهُم الفاسدةَ منْ غيرِ نعمةٍ خصَّ اللهُ بها المؤمنينَ.
وهذا قولٌ باطِلٌ؛ وقدْ قالَ اللهُ تعالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] وقالَ: {وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَـئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الحجرات:7 - 8]).
وقالَ ابنُ القيِّمِ ما معناهُ: (مراتبُ القضاءِ والقدرِ أربعُ مراتبَ:
الأولَى: عِلْمُ الرَّبِّ سبحانَهُ بالأشياءِ قبلَ كوْنِها.
الثانيةُ: كتابةُ ذلكَ عندَهُ في الأزَلِ قبلَ خلقِ السماواتِ والأرضِ.
الثالثةُ: مشيئتُهُ المُتَنَاوِلَةُ لكلِّ موجودٍ، فلا خروجَ لكائنٍ كما لا خروجَ لهُ عنْ علمِهِ.
الرابعةُ: خلقُهُ لها وإيجادُهُ وتكوينُهُ، فاللهُ خالقُ كلِّ شيءٍ، وما سِوَاهُ مخلوقٌ).
(2) قولُهُ: ((وقالَ ابنُ عمرَ)) هوَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بنِ الخَطَّابِ.
قولُهُ: ((لوْ كانَ لأحَدِهِم مثلُ أُحُدٍ ذهبًا، ثمَّ أنفقَهُ في سبيلِ اللهِ، ما قَبِلَهُ اللهُ منهُ))إلخ، هذا قولُ ابنِ عمرَ لغُلاةِ القدرِيَّةِ الذينَ أنْكَرُوا أَنْ يكونَ اللهُ تعالَى عالمًا بشيءٍ منْ أعمالِ العبادِ قبلَ وقوعِهَا منهُم، وإنَّما يعلمُهَا بعد كونِهَا منهُم كما تقدَّمَ عنهم.
قالَ القرطبيُّ: (ولا شكَّ في تكفيرِ مَنْ يَذْهَبُ إلَى ذلكَ؛ فإنَّهُ جَحْدُ معلومٍ من الشرعِ بالضرورةِ؛ ولذلكَ تبرَّأَ منهم ابنُ عمرَ، وأفْتَى بأنَّهُم لا تُقْبَلُ منهم أعمالُهم ولا نفقاتُهُم، وأنَّهُم كمَنْ قالَ اللهُ فيهم: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ}[التوبة:55]).
وهذا المذهبُ قدْ تُرِكَ اليومَ، فلا يُعْرَفُ مَنْ يُنْسَبُ إليهِ من المتأخِّرِينَ منْ أهلِ البدعِ المشهورينَ.
فقالَ شيخُ الإسلامِ لمَّا ذَكَرَ كلامَ ابنِ عمرَ هذا: (وكذلكَ كلامُ ابنِ عبَّاسٍ، وجابرِ بنِ عبدِ اللهِ، ووَاثِلَةَ بنِ الأَسْقَعِ، وغيْرِهِم من الصحابةِ والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدينِ، وسائرِ أئِمَّةِ المسلمينَ، فيهم كثيرٌ، حتَّى قالَ فيهم الأئِمَّةُ - كمالكٍ، والشافعيِّ، وأحمدَ بنِ حَنْبَلٍ وغيْرِهِم -: إنَّ المُنْكِرِينَ لعلمِ اللهِ المُتَقَدِّمِ يُنْكِرُونَ القدرَ).
وقولُهُ: ((ثمَّ استدلَّ بقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) فجعلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديثِ كأَنَّهُ لمَّا سُئِلَ عن الإسلامِ ذكرَ أركانَ الإسلامِ الخمسةَ؛ لأنهَّا أصلُ الإسلامِ.
ولمَّا سُئِلَ عن الإيمانِ أجابَ بقوْلِهِ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ)) إلَى آخرِهِ.
فيكونُ المرادُ حينئذٍ بالإيمانِ جنسُ تصديقِ القلبِ، وبالإسلامِ جنسُ العملِ، والقرآنُ والسُّنَّةُ مملُوءَانِ بإطلاقِ الإيمانِ علَى الأعمالِ، كما هما مملوءانِ بإطلاقِ الإسلامِ علَى الإيمانِ الباطنِ، معَ ظهورِ دَلالَتِهِما أيضًا علَى الفَرْقِ بينَهُما، ولكنْ حيثُ أُفْرِدَ أحدُ الاسْمَيْنِ دَخَلَ فيهِ الآخَرُ، وإنَّما يُفَرَّقُ بينَهُما حيثُ فُرِّقَ بينَ الاسمَيْنِ، ومَنْ أرادَ تحقيقَ ما أَشَرْنَا إليهِ فَلْيُرَاجِعْ كتابَ (الإيمانِ) الكبيرِ لشيخِ الإسلامِ.
إذا تبيَّنَ هذا، فَوَجْهُ استدلالِ ابنِ عمرَ بالحديثِ منْ جهةِ أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدَّ الإيمانَ بالقدرِ منْ أركانِ الإيمانِ، فمَنْ أنكرَهُ لم يكُنْ مؤمنًا؛ إذِ الكافرُ بالبعضِ كافرٌ بالكُلِّ، فلا يكونُ مؤمنًا مُتَّقِيًا، واللهُ لا يقبلُ إلاَّ مِن المُتَّقِينَ.
وهذا قطعةٌ منْ حديثِ جبريلَ عليهِ السلامُ، وقدْ أخرجَهُ مسلمٌ بطُولِهِ أوَّلَ كتابِ الإيمانِ في (صحيحِهِ)، منْ حديثِ يحيَى بنِ يَعْمَرَ، عن ابنِ عمرَ، ولفظُهُ:
عنْ يحيَى بنِ يَعْمَرَ قالَ: كانَ أوَّلَ مَنْ قالَ في القَدَرِ بالبصرةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فانطَلَقْتُ أنَا وحُمَيْدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الْحِمْيَرِيُّ حاجَّيْنِ أوْ مُعْتَمِرَيْنِ، فَقُلْنَا: لوْ لَقِينَا أحدًا منْ أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأَلْنَاهُ عَمَّا يقولُ هؤلاءِ في القدرِ، فَوُفِّقَ لنا عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بنِ الخَطَّابِ داخلاً المسجدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أنا وصاحِبِي - أحدُنا عنْ يمينِهِ، والآخَرُ عنْ شِمَالِهِ - فظَنَنْتُ أَنَّ صاحِبِي سَيَكِلُ الكلامَ إِلَيَّ، فقُلْتُ: يا أبا عبدِ الرحمنِ، إنَّهُ قدْ ظهرَ قَبْلَنَا أُنَاسٌ يَقْرَؤُونَ القرآنَ ويَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وذَكَرَ منْ شأْنِهِمْ وأَنَّهُم يزْعُمونَ أَنْ لا قَدَرَ، وأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ.
قالَ: فإذا لَقِيتَ أُولئكَ فأَخْبِرْهُم أنِّي بَرِيءٌ منهم، وأنَّهُمْ بَرَاءٌ منِّي، والَّذِي يَحْلِفُ بهِ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ: لوْ أَنَّ لأحدِهِم مِثْلُ أُحُدٍ ذهبًا فأنْفَقَهُ، ما قَبِلَهُ اللهُ منهُ حتَّى يُؤْمِنَ بالقدرِ.
ثمَّ قالَ: حدَّثَنِي أبي عمرُ بنُ الخطَّابِ قالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوادِ الشَّعرِ، لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَن الإِسْلامِ) وذكرَ الحديثَ.
وقولُهُ: (خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) أيْ: خيرِ القدرِ وشرِّهِ؛ أيْ: أنَّهُ تعالَى قدَّرَ الخيرَ والشَرَّ قبلَ خَلْقِ الخَلْقِ، وأَنَّ جميعَ الكائناتِ بقضائِهِ وقدَرِهِ وإرادتِهِ؛ لقولِهِ تعالَى: {وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[الفرقان:2]، {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96]، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:49]، وغيرِ ذلكَ.
فإنْ قُلْتَ: كيفَ قالَ:((وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) وقدْ قالَ في الحديثِ: ((وَالشَرَّ لَيْسَ إِلَيْكَ))؟!
قيلَ: إثباتُ الشرِّ في القضاءِ والقدرِ إنَّما هوَ بالإضافةِ إلَى العبدِ، والمفعولُ إنْ كانَ مُقَدَّرًا عليهِ، فهوَ بسببِ جهْلِهِ وظُلْمِهِ وذنوبِهِ، لا إلَى الخالقِ، فلهُ في ذلكَ من الحِكَمِ ما تَقْصُرُ عنهُ أفهامُ البشرِ؛ لأنَّ الشرَّ إنَّما هوَ بالذنوبِ وعقوباتِها في الدنيا والآخرةِ، فهوَ شَرٌّ بالإضافةِ إلَى العبدِ، أمَّا بالإضافةِ إلَى الرَّبِّ سبحانَهُ وتعالَى، فكلُّهُ خيرٌ وحكمةٌ؛ فإنَّهُ صادرٌ عنْ حكمِهِ وعلمِهِ، وما كانَ كذلكَ فهوَ خيرٌ مَحْضٌ بالنسبةِ إلَى الرَّبِّ سبحانَهُ وتعالَى؛ إذ هوَ مُوجَبُ أسمائِهِ وصفاتِهِ.
ولهذا قالَ:((وَالشَرَّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) أيْ: تمتنعُ إضافتُهُ إليكَ بوجهٍ من الوجوهِ، فلا يُضَافُ الشَرَّ إلَى ذاتِهِ وصفاتِهِ، ولا أسمائِهِ ولا أفعالِهِ، فإنَّ ذاتَهُ مُنَزَّهَةٌ عنْ كلِّ شرٍّ، وصفاتُهُ كذلكَ؛ إذْ كلُّها صفاتُ كمالٍ، ونعوتُ جلالٍ، لا نقصَ فيها بوجهٍ من الوجوهِ، وأسماؤُهُ كلُّها حُسْنَى ليسَ فيها اسمُ ذمٍّ ولا عَيْبٍ، وأفعالُهُ حكمةٌ ورحمةٌ ومصلحةٌ وإحسانٌ وعدلٌ، لا تخرجُ عنْ ذلكَ الْبَتَّةَ، وهوَ المحمودُ علَى ذلكَ كلِّهِ، فتستحيلُ إضافةُ الشرِّ إليهِ؛ فإنَّهُ ليسَ شرٌّ في الوجودِ إلاَّ الذنوبُ وعقوبتُها.
وكونُها ذنوبًا تأتي منْ نفسِ العبدِ، فإنَّ سببَ الذنبِ الظلمُ والجهلُ، وهما في نفسِ العبدِ؛ فإنهُ ذاتٌ مُسْتَلْزِمَةٌ للجهلِ والظلمِ، وما فيهِ من العلمِ والعدلِ فإنَّمَا حَصَلَ لهُ بفضلِ اللهِ عليهِ، وهوَ أمرٌ خارجٌ عنْ نفْسِهِ.
فمَنْ أرادَ اللهُ بهِ خيرًا أعطاهُ الفضلَ، فصدرَ منهُ الإحسانُ والبِرُّ والطاعةُ.
ومَنْ أرادَ بهِ شَرًّا أمسكَهُ عنهُ وخلاَّهُ ودواعيَ نفسِهِ وطبعِهِ ومُوجَبَها، فصدرَ عنهُ مُوجَبُ الجهلِ والظلمِ منْ كلِّ شرٍّ وقبيحٍ، وليسَ مَنْعُهُ مِنْ ذلكَ شرًّا.
وللهِ في ذلكَ الحكمةُ التَّامَّةُ، والحُجَّةُ البالغةُ، فهذا عدلُهُ، وذلكَ فضلُهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يشَاءُ، واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ، وهوَ العليُّ الحكيمُ، هذا معنَى كلامِ ابنِ القَيِّمِ، وهوَ الحقُّ.
وحاصلُهُ أنَّ الشَّرَّ راجعٌ إلَى مفعولاتِهِ، لا إلَى ذاتِهِ وصفاتِهِ، ويتَبَيَّنُ ذلكَ بمثالٍ، وللهِ المَثَلُ الأعلَى: لوْ أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ العدلِ كانَ معروفًا بقَمْعِ المخالفينَ وأهلِ الفسادِ، مقيمًا للحدودِ والتعزيراتِ الشرعِيَّةِ علَى أربابِ أصحابِهَا، لَعَدُّوا ذلكَ خيرًا يحْمَدُهُ عليهِ الملوكُ، ويمدحُهُ الناسُ ويشكرونَهُ علَى ذلكَ، فهوَ خيرٌ بالنسبةِ إلَى الملوكِ، يُمْدَحُ ويُثْنَى بهِ ويُشْكَرُ عليهِ وإنْ كانَ شرًّا بالنسبةِ إلَى مَنْ أُقيمَ عليهِ، فرَبُّ العالمينَ أَوْلَى بذلكَ؛ لأنَّ لهُ الكمالَ المُطْلَقَ منْ جميعِ الوجوهِ والاعتباراتِ.
وأيضًا فلولا الشَّرُّ: هلْ كان يُعْرَفُ الخيرُ؟
فإنَّ الضِّدَّ لا يُعْرَفُ إلاَّ بِضِدِّهِ، فإنْ لمْ تُحِطْ بهِ خُبْرًا فاذْكُرْ كلامَ ابنِ عقيلٍ في البابِ الذي قبلَ هذا، وأَسلِمْ تَسْلَمْ، واللهُ أعلمُ.
(3) قولُهُ: ((يا بُنيَّ، إنَّكَ لَنْ تَجِدَ طعمَ الإيمانِ)) إلَى آخرِهِ، ابنُهُ هذا هوَ: الوليدُ بنُ عُبَادَةَ، كما صَرَّحَ بهِ الترمذيُّ في روايتِهِ.
وفيهِ: إِنَّ للإيمانِ طَعْمًا، وهوَ كذلكَ، فإنَّ لهُ حلاوةً وطعمًا، مَنْ ذاقَهُ تسلَّى بهِ عن الدنيا وما عليها، وقدْ قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ …)) الحديثَ.
وإنمَّا يكونُ العبدُ كذلكَ إذا كانَ مؤمنًا بالقدرِ، إذْ يمتَنِعُ أَنْ تُوجَدَ الثلاثُ فيهِ وهُوَ لا يؤمنُ بالقدرِ، بلْ يُكَذِّبُ بهِ ويَرُدُّ علَى اللهِ كلامَهُ وعلَى الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقالتَهُ؛ فإنَّ المحبَّةَ التامَّةَ تقتضي المتابعةَ التامَّةَ، فمَنْ لمْ يُؤْمِنْ بالقدرِ لمْ يكن اللهُ ورسولُهُ أحبَّ إليهِ ممَّا سِوَاهُمَا، فلا يجدُ حلاوةَ الإيمانِ ولا طعمَهُ، بلْ إنْ كانَ منكِرًا للعلمِ القديمِ فهوَ كافرٌ كما تقدَّمَ.
ولهذا رُوِيَ عنْ بعضِ الأئِمَّةِ القدرِيَّةِ الكبارِ بإسنادٍ صحيحٍ أنَّهُ قالَ لمَّا ذُكِرَ حديثُ ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (حَدَّثَنِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) الحديثَ: لوْ سمعتُ الأعمشَ يقولُ هذا لكَذَّبْتُهُ، ولوْ سمعْتُ زيدَ بنَ وهبٍ يقولُ هذا لأجَبْتُهُ، ولوْ سَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ يقولُ هذا ما قَبِلْتُهُ، ولوْ سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ هذا لَرَدَدْتُهُ، وذكرَ كلمةً بعْدَهَا، فهذا كفرٌ صريحٌ نعوذُ باللهِ منْ مُوجِبَاتِ غضبِهِ، وأليمِ عقابِهِ.
وقدْ بُيِّنَ في الحديثِ كيفِيَّةُ الإيمانِ بالقدرِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ما أصابَهُ لم يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وما أَخْطَأَهُ لمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ.
وهذا كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثِ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حَتَّى أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ)) رواهُ الترمذيُّ، والمعنَى: أَنَّ العبدَ لا يُؤْمِنُ حتَّى يَعْلَمَ أَنَّ ما يُصِيبُهُ إنمَّا أصابَهُ في القدَرِ؛ أيْ: ما قُدِّرَ عليهِ من الخيرِ والشَّرِّ لمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ؛ أيْ: يُجَاوِزَهُ فلا يُصِيبَهُ.
وأَنَّ مَا أخطأَهُ من الخيرِ والشَّرِّ في القدرِ؛ أيْ: لم يُقَدَّرْ عليهِ، لمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، كما قالَ تعالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}[الحديد:22]، وقالَ تعالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[التوبة:52].
قولُهُ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ) قالَ شيخُ الإسلامِ: (قدْ ذَكَرْنَا أَنَّ للسَّلَفِ في العرشِ والقلمِ -أيُّهُما خُلِقَ قبلَ الآخرِ- قولَيْنِ، كما ذَكَرَ ذلكَالحافظُ أبو العلاءِ الْهَمْدَانِيُّ وغيْرُهُ.
أحدُهُما: أَنَّ القلمَ خُلِقَ أوَّلاً، كما أَطلقَ ذلكَ غيرُ واحدٍ، وهذا هُوَ الذي يُفْهَمُ منْ ظاهرِ كُتُبِ المُصَنِّفِ في(الأوَائِلِ)للحافِظِ أبي عَرُوبَةَ الْحَرَّانِيِّ وَلَدِ القاسمِ الطَّبَرَانِيِّ؛ للحديثِ الذي رَوَاهُأبو داودَ في (سُنَنِهِ)، عنْ عُبادةَ بنِ الصامتِ، وذكَرَ الحديثَ المشروحَ.
والثاني: أَنَّ العرشَ خُلِقَ أوَّلاً).
قالَ الإمامُ عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِمِيُّ في تَصْنِيفِهِ في (الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ): حدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ كثيرٍ الْعَبْدِيُّ، أنبأنَا سفيانُ الثوريُّ، ثنا أبو هاشمٍ، عنْمجاهدٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى عَرْشِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا، فَكَانَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا هُوَ كَائِنٌ، وَأَنَّ مَا يَجْرِي عَلَى النَّاسِ عَلَى أَمْرٍ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ).
وكذلكَ ذكرَ الحافظُ أبو بكرٍ الْبَيْهَقِيُّ في كتابِ (الأسماءِ والصفاتِ) لمَّا ذكرَ بَدْءَ الخلقِ، ثمَّ ذكرَ حديثَ الأعمشِ، عن المنهالِ بنِ عمرٍو، عنْ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، أنَّهُ سُئِلَ عنْ قولِ اللهِ تعالَى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}[هود:7]، علَى أيِّ شيءٍ؟
قالَ: (علَى مَتْنِ الريحِ).
وَرَوَى حديثَ القاسمِ بنِ مُرَّةَ، عنْ سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ أَنَّهُ كانَ يُحَدِّثُ، أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ القَلَمُ، وَأَمَرَهُ فَكَتَبَ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ)).
قالَ البيهقيُّ: (وإنَّما أرادَ - واللهُ أعلمُ - أوَّلَ شيءٍ خلقَهُ بعدَ خَلْقِ الماءِ والريحِ والعرشِ، وذلكَ في حديثِ عمرانَ بنِ حُصَيْنٍ الذي أشارَ إليهِ، وهوَ ما رواهُ البخاريُّ منْ غيرِ وجهٍ مرفوعًا عنهُ: ((كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ)).
ورواهُ البيهقيُّ كما رواهُ مُحَمَّدُ بنُ هارونَ الرُّويَانِيُّ في (مُسْنَدِهِ)وعثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِمِيُّ وغيرُهما، منْ حديثِ الثقاتِ المُتَّفَقِ علَى ثِقَتِهِم، عنْ أبي إسحاقَ، عن الأعمشِ، عنْ جامعِ بنِ شَدَّادٍ، عنْ صفوانَ بنِ مِحْرِزٍ، عنْ عمرانَ بنِ حصينٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ كَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ)) وذكَرَ أحاديثَ وآثارًا، ثمَّ قالَ ما معناهُ: (فَثَبَتَ في النصوصِ الصحيحةِ أَنَّ العرشَ خُلِقَ أوَّلاً).
وقالَ ابنُ كثيرٍ: (قالَ قائلونَ: خُلِقَ القلمُ أوَّلاً، وهذا اختيارُ ابنِ جريرٍ، وابنِ الْجَوْزِيِّ، وغيرِهما).
قالَ ابنُ جريرٍ: (وبعدَ القلمِ السحابُ الرقيقُ، وبعدَهُ العرشُ) واحتجُّوا بحديثِ عُبَادَةَ.
والذي عليهِ الجمهورُ أَنَّ العرشَ مخلوقٌ قبلَ ذلكَ، كما دلَّ علَى ذلكَ الحديثُ الذي رواهُ مسلمٌ في (صحيحِهِ)، يعني حديثَ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ الذي تقدَّمَ.
قالُوا: (وهذا التقديرُ هوَ كتابَتُهُ بالقلمِ المقاديرَ، وقدْ دلَّ الحديثُ أنَّ ذلكَ بعدَ خَلْقِ العرشِ، فثبتَ تقديمُ العرشِ علَى القلمِ الذي كُتِبَ بهِ المقاديرُ، كما ذهبَ إلَى ذلكَ الجماهيرُ.
ويُحْمَلُ حديثُ القلمِ علَى أنَّهُ أَوَّلُ المخلوقاتِ منْ هذا العالَمِ). انتهَى بمعناهُ.
قولُهُ: ((اكْتُبْ مقاديرَ كلِّ شيءٍ حتَّى تقومَ الساعةُ)) قالَ شيخُ الإسلامِ:(وكذلكَ في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ وغيْرِهِ، وهذا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنَّما أمَرَهُ حينئذٍ أنْ يَكْتُبَ مقدارَ هذا الخلقِ إلَى قيامِ الساعةِ، لمْ يَكُنْ حينئذٍ ما يكونُ بعدَ ذلكَ).
قولُهُ: ((مَنْ ماتَ علَى غَيْرِ هذا لمْ يَكُنْ مِنِّي)) أَيْ: لأنَّهُ إذا كانَ جاحدًا للعلمِ القديمِ فهوَ كافرٌ، كما قالَ كثيرٌ منْ أئِمَّةِ السلفِ: (نَاظِرُوا القدريَّةَ بالعلمِ، فإنْ أقرُّوا بهِ خُصِمُوا، وإنْ جَحَدُوا كفرُوا).
يُرِيدُونَ أنَّ منْ أنكرَ العلمَ القديمَ السابقَ بأفعالِ العبادِ، وأنَّ اللهَ قسَّمَهُم قبلَ خلقِهم إلَى شقيٍّ وسعيدٍ، وكتبَ ذلكَ عندَهُ في كتابٍ حفيظٍ، فقدْ كذَّبَ القرآنَ، فيَكْفُرُ بذلكَ، كما نصَّ عليهِ الشافعيُّ وأحمدُ وغيرُهما، وإنْ أقرُّوا بذلكَ وأنكرُوا أَنَّ اللهَ خلقَ أفعالَ العبادِ، وشاءَها وأرادهَا بينَهُم إرادةً كونيَّةً قدرِيَّةً، قدْ خُصِمُوا؛ لأنَّ ما أقَرُّوا بهِ حُجَّةٌ عليهم فيما أنكرُوهُ.
وفي تكفيرِ هؤلاءِ نزاعٌ مشهورٌ، وبِالْجُمْلَةِ فَهُمْ أهلُ بدعةٍ شنيعةٍ، والرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بريءٌ منهم، كما هوَ بريءٌ من الأوَّلِينَ، وقدْ بَيَّضَ المُصَنِّفُ آخِرَ هذا الحديثِ لِيَعْزُوَهُ، وقدْ رواهُ أبو داودَ وهذا لفظُهُ، ورواهُ أحمدُ والترمذيُّ وغيرُهما.
(4) قولُهُ: ((وفي روايةٍ لابنِ وهبٍ)) هوَ الإمامُ الحافظُ عبدُ اللهِ بنُ وهبِ بنِ مسلمٍ الْقُرَشِيُّ مَوْلاهُم المصريُّ الفقيهُ، ثقةٌ إمامٌ مشهورٌ عابدٌ، لهُ مُصَنَّفَاتٌ، منها (الجامعُ) وغيرُهُ، ماتَ سنةَ سبعٍ وتسعينَ ومائةٍ ولهُ اثنانِ وسبعونَ سنةً.
قولُهُ: ((أَحْرَقَهُ اللهُ بِالنَّارِ)) أيْ: لِكُفْرِهِ أوْ بدعتِهِ، إنْ كانَ مِمَّنْ يُقِرُّ بالعلمِ السابقِ ويُنْكِرُ خلقَ أفعالِ العبادِ، فإنَّ صاحبَ البدعةِ مُتَعَرِّضٌ للوعيدِ كأصحابِ الكبائرِ، بلْ أعظمُ.
(5) قولُهُ: وفي (المُسْنَدِ) أيْ: (مسندِ الإمامِ أحمدَ)، و(السُّنَنِ) أيْ: (سننِ أبي داودَ)وابنِ مَاجَه فقطْ، بمعنَى ما ذكرَ المُصَنِّفُ، وفيهِ زيادةٌ اختصرَها المصنِّفُ، ولفظُ ابنِ ماجه: حدَّثنا عليُّ بنُ محمَّدٍ، حدَّثنا إسحاقُ بنُ سليمانَ قالَ: سَمِعْتُ أبا سِنَانٍ، عنْ وهبِ بنِ خالدٍ الْحِمْصِيِّ، عنْ أبي الدَّيْلَمِيِّ قالَ: (وقعَ في نفسي شيءٌ منْ هذا القدرِ خَشِيتُ أَنْ يُفْسِدَ عليَّ دِينِي وأمْرِي، فأتيتُأُبيَّ بنَ كعبٍ فَقُلْتُ: ياأبا الْمُنْذِرِ، إنَّهُ قدْ وقعَ في قلبي شيءٌ منْ هذا القدرِ، فخشيتُ علَى ديني وأمري، فحَدِّثْنِي منْ ذلكَ بشيءٍ لعلَّ اللهَ أَنْ ينفعَنِي.
فقالَ: (لوْ أَنَّ اللهَ عذَّبَ أهلَ سماواتِهِ وأهلَ أرضِهِ لعذَّبَهم وهوَ غيرُ ظالمٍ لهُم، ولوْ رَحِمَهُم لكانَتْ رحمتُهُ خيرًا لهم منْ أعمالِهم، ولوْ كانَ لكَ مثلُ أُحُدٍ ذهبًا - أوْ مِثلُ جبلِ أُحُدٍ - تُنْفِقُهُ في سبيلِ اللهِ ما قُبِلَ منكَ حتَّى تؤمنَ بالقدرِ، فتعلمَ أَنَّ ما أصابَكَ لمْ يكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وما أخطأكَ لمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وأنَّكَ إنْ مُتَّ علَى غيرِ هذا دَخَلْتَ النارَ، ولا عليكَ أنْ تأتيَ يا أخي عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ فتسألَ).
فأتيتُ عبدَ اللهِ فسألتُهُ، فذكرَ مثلَ ما قالَ أُبيٌّ، وقالَ لي: لا عليكَ أنْ تأتيَ حُذَيْفَةَ.
فأتيتُ حذيفةَ فسألتُهُ، فقالَ مثلَ ما قالَ، ائْتِ زيدَ بنَ ثابتٍ فاسألْهُ.
فأتيتُ زيدَ بنَ ثابتٍ فسألتُهُ، فقالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ:((لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ مِثْلُ أُحُدٍ - أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ - ذَهَبًا تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ كُلِّهِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ))هذا حديثُ ابنِ مَاجَه.
ولفظُ أبي داودَ كما ذَكَرَهُ المصنِّفُ، إلاَّ أَنَّهُ قالَ: ثمَّ أتيتُ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ، فقالَ مثلَ ذلكَ، ثمَّ أتيتُ حُذَيْفَةَ بنَ الْيَمَانِ، فقالَ مثلَ ذلكَ، ثمَّ أتيتُ زيدَ بنَ ثابتٍ فحدَّثَنِي عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثلِ ذلكَ.
قولُهُ: (عنْ أبي الدَّيْلَمِيِّ)، هوَ عبدُ اللهِ بنُ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيُّ، وفَيْرُوزُ قَاتِلُ الأسودِ الْعَنْسِيِّ الْكَذَّابِ، وعبدُ اللهِ هذا ثقةٌ منْ كبارِ التابعينَ، بلْ ذكرَهُ بعضُهُم في الصحابةِ، والدَّيْلَمِيُّ نسبةٌ إلَى جبلِ الدَّيْلَمِ، وهوَ منْ أبناءِ الفرسِ الذينَ بعثَهُم كِسْرَى إلَى اليمنِ.
قولُهُ: ((وقعَ في نفسِي شيءٌ من القدرِ)) أيْ: شكٌّ أو اضْطِرَابٌ يُؤَدِّي إلَى شكٍّ فيهِ، أوْ جَحْدٍ لهُ.
قولُهُ: ((لوْ أنفقْتَ مِثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما قَبِلَهُ اللهُ منكَ)) هذا تمثيلٌ علَى سبيلِ الفرضِ لا تحديدٌ، إذ لوْ فُرِضَ إنفاقُ مِلْءِ السماواتِ والأرضِ كانَ ذلكَ.
قولُهُ: ((حتَّى تُؤْمِنَ بالقدرِ)) أيْ: بأَنَّ جميعَ الأمورِ الكائنةِ خَيْرِها وشَرِّهَا، وحُلْوِهَا ومُرِّهَا، ونَفْعِها وضُرِّها، وقليلِها وكثيرِها، وكبيرِها وصغيرِها، بقضائِهِ وقدَرِهِ، وإرادتِهِ ومشيئتِهِ وأمرِهِ، كما ذُكِرَ عنْ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.