دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > زاد المستقنع > كتاب الصلاة

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21 ذو القعدة 1429هـ/19-11-2008م, 09:03 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي التشهد الأول، والتشهد الأخير

ثم يَجلِسُ مُفتَرِشًا ويَداهُ على فَخِذَيْهِ يَقْبِضُ خِنْصَرَ الْيُمْنَى وبِنْصَرَها ويُحَلِّقُ إبهامَها مع الوُسْطَى ويُشيرُ بسَبَّابَتِها في تَشَهُّدِه ويَبْسُطُ اليُسرَى ويَقولُ " التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ والصلواتُ والطيِّباتُ، السلامُ عليك أيُّها النبيُّ ورَحمةُ اللهِ وبركاتُه، السلامُ علينا وعلى عِبادِ اللهِ الصالحينَ، أَشْهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأَشْهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبْدُه ورسولُه " هذا التَّشَهُّدُ الأَوَّلُ. ثم يقولُ " اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما صَلَّيْتَ على آلِ إبراهيمَ إنك حَميدٌ مَجيدٌ، وبارِكْ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما بارَكْتَ على آلِ ابراهيمَ إنك حَميدٌ مَجيدٌ " ويَستعيذُ من عذابِ جَهنَّمَ وعذابِ القَبْرِ وفِتنةِ الْمَحْيَا والْمَمَاتِ وفِتنةِ المسيحِ الدَّجَّالِ، ويَدعو بما وَرَدَ، ثم يُسَلِّمُ عن يمينِه " السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ " وعن يَسارِه كذلك، وإن كان في ثُلَاثِيَّةٍ أو رُباعيَّةٍ نَهَضَ مُكَبِّرًا بعدَ التشَهُّدِ الأَوَّلِ وصَلَّى ما بَقِيَ كالثانيةِ بـ(الحمدُ) فقط ثم يَجْلِسُ في تَشَهُّدِه الأخيرِ مُتَوَرِّكًا. والمرأةُ مثلُه لكن تَضُمُّ نفسَها وتُسْدِلُ رِجْلَيْهَا في جانِبِ يَمِينِها.


  #2  
قديم 24 ذو القعدة 1429هـ/22-11-2008م, 06:37 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي المقنع لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي

................

  #3  
قديم 24 ذو القعدة 1429هـ/22-11-2008م, 06:37 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي الروض المربع للشيخ: منصور بن يونس البهوتي

(ثُمَّ) بعدَ فَرَاغِه مِن الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (يَجْلِسُ مُفْتَرِشاً)؛ كجُلُوسِه بينَ السَّجْدَتَيْنِ, (ويَدَاهُ على فَخِذَيْهِ), ولا يُلْقِمُهُمَا رُكْبَتَيْهِ، (ويَقْبِضُ خِنْصِرَ) يَدِه (اليُمْنَى وبِنْصِرَها, ويُحَلِّقُ إِبْهَامَهَا معَ الوُسْطَى)؛ بأن يَجْمَعَ بينَ رَأْسِ الإبهامِ والوُسْطَى, فتُشْبِهُ الحَلْقَةَ مِن حَدِيدٍ ونَحْوِه، (ويُشِيرُ بسَبَّابَتِهَا) مِن غَيْرِ تَحْرِيكٍ (في تَشَهُّدِه) ودُعَائِه في الصَّلاةِ وغَيْرِها عندَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ تَنْبِيهاً على التَّوْحِيدِ، (ويَبْسُطُ) أَصَابِعَ (اليُسْرَى) مَضْمُومَةً إلى القِبْلَةِ، (ويقولُ) سِرًّا: (التَّحِيَّاتُ للَّهِ)؛ أي: الألفاظُ التي تَدُلُّ على السَّلامِ والمُلْكِ والبَقَاءِ والعَظَمَةِ للَّهِ تَعَالَى؛ أي: مَمْلُوكَةٌ له ومُخْتَصَّةٌ به، (والصَّلَوَاتُ)؛ أي: الخَمْسُ، أو الرَّحْمَةُ، أو المَعْبُودُ بها، أو العِبَادَاتُ كُلُّهَا، أو الأَدْعِيَةُ، (والطَّيِّبَاتُ)؛ أي: الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، أو مِنَ الكَلِمِ، (السَّلامُ)؛ أي: اسمُ السَّلامِ, وهو اللَّهُ، أو سَلامُ اللَّهِ (علَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ), بالهَمْزِ مِن النَّبَأِ؛ لأنَّه مُخْبِرٌ عَن اللَّهِ، وبلا هَمْزٍ؛ إِمَّا تَسْهِيلاً أو مِن النُّبُوَّةِ، وهي: الرِّفْعَةُ، وهو: مَن ظَهَرَتِ المُعْجِزَاتُ على يَدِه، (ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكَاتُه), جَمْعُ برَكَةٍ: وهي النَّمَاءُ والزِّيَادَةُ، (السَّلامُ عَلَيْنَا)؛ أي: على الحَاضِرِينَ مِن الإمامِ والمأمومِ والمَلائِكَةِ، (وعلى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) جَمْعُ صَالِحٍ: وهو القَائِمُ بما علَيْهِ مِن حُقُوقِ اللَّهِ وحُقُوقِ عِبَادِه، وقيلَ: المُكْثِرُ مِن العَمَلِ الصَّالِحِ, ويَدْخُلُ فيه النِّسَاءُ ومَن لم يُشَارِكْهُ في الصَّلاةِ، (أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ)؛ أي: أُخْبِرُ بأنِّي قَاطِعٌ بالوَحْدَانِيَّةِ، (وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه) المُرْسَلُ إلى النَّاسِ كَافَّةً. (هذا التَّشَهُّدُ الأوَّلُ) عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ابنَ مَسْعُودٍ, وهو في الصَّحِيحَيْنِ، (ثُمَّ يَقُولُ) في التَّشَهُّدِ الذي يَعْقُبُه السَّلامُ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كمَا صَلَّيْتَ علَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٍ)؛ لأمْرِه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بذلك في المُتَّفَقِ عليهِ مِن حديثِ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ، ولا يَجْزِي لو أَبْدَلَ (آل) بـ(أَهْل), ولا تَقْدِيمُ الصَّلاةِ على التَّشَهُّدِ، (ويَسْتَعِيذُ) نَدْباً فيَقُولُ: أعوذُ باللَّهِ (مِن عَذَابِ جَهَنَّمَ و) مِن عَذَابِ القَبْرِ, ومِن فِتْنَةِ المَحْيَا والمَمَاتِ, ومِن فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ.
والمَحْيَا والمَمَاتُ: الحَيَاةُ والمَوْتُ، والمَسِيحُ بالحَاءِ المُهْمَلَةِ على المَعْرُوفِ، (و) يَجوزُ أنْ (يَدْعُوَ بما وَرَدَ)؛ أي: في الكِتَابِ والسُّنَّةِ أو عَن الصَّحَابَةِ والسَّلَفِ أو بأَمْرِ الآخِرَةِ, ولو لم يُشْبِهْ ما وَرَدَ، وليسَ له الدُّعَاءُ بشَيْءٍ ممَّا يُقْصَدُ به مَلاذُّ الدُّنْيَا وشَهَوَاتُهَا؛ كقَوْلِه: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي جَارِيَةً حَسْنَاءَ, أو طَعَاماً طَيِّباً, وما أَشْبَهَهُ، وتَبْطُلُ بهِ، (ثُمَّ يُسَلِّمُ) وهو جالِسٌ؛ لقَوْلِه عليهِ السَّلامُ: ((وتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ)). وهو منها, فيَقولُ: (عَن يَمِينِه: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. وعن يَسارِه كذلكَ)، وسُنَّ التِفَاتُه عَن يَسَارِه أَكْثَرَ، وأنْ لا يُطَوِّلَ السَّلامَ, ولا يُمِدَّهُ في الصَّلاةِ ولا على النَّاسِ، وأنْ يَقِفَ على آخِرِ كُلِّ تَسْلِيمَةٍ، وأنْ يَنْوِيَ به الخُرُوجَ مِن الصَّلاةِ، ولا يَجْزِي إنْ لم يَقُلْ: ورَحْمَةُ اللَّهِ في غَيرِ صَلاةِ جِنَازَةٍ، والأَوْلَى أن لا يَزِيدَ: وبَرَكَاتُه.
(وإن كانَ) المُصَلِّي (في ثُلاثِيَّةٍ)؛ كمَغْرِبٍ, (أو رُبَاعِيَّةٍ)؛ كظُهْرٍ, (نَهَضَ مُكَبِّراً بعدَ التَّشَهُّدِ الأوَّلِ), ولا يَرْفَعُ يَدَيْهِ, (وصَلَّى ما بَقِيَ)؛ (كـ) الرَّكْعَةِ (الثَّانِيَةِ بـ"الحَمْدُ")؛ أي: بالفَاتِحَةِ (فَقَطْ), ويُسِرُّ بالقِرَاءَةِ, (ثُمَّ يَجْلِسُ في تَشَهُّدِهِ الأَخِيرِ مُتَوَرِّكاً), يَفْرِشُ رِجْلَهُ اليُسْرَى ويَنْصِبُ اليُمْنَى، ويُخْرِجُهُمَا عَن يَمِينِه، ويَجْعَلُ أَلْيَتَيْهِ على الأَرْضِ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ويُسَلِّمُ، (والمَرْأَةُ مِثْلُه)؛ أي: مِثْلُ الرَّجُلِ في جَمِيعِ ما تقدَّمَ حتَّى رَفْعِ اليَدَيْنِ، (لكنْ تَضُمُّ نَفْسَهَا) في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ وغَيْرِهِمَا, فلا تَتَجَافَى، (وتَسْدِلُ رِجْلَيْهَا في جَانِبِ يَمِينِهَا) إذا جَلَسَتْ, وهو أَفْضَلُ، أو مُتَرَبِّعَةً, وتُسِرُّ القِرَاءَةَ وُجُوباً إِنْ سَمِعَهَا أَجْنَبِيٌّ وخُنْثَى كأُنْثَى، ثُمَّ يُسَنُّ أن يَسْتَغْفِرَ ثَلاثاً ويَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ ومِنْكَ السَّلامُ, تَبَارَكْتَ وتَعَالَيْتَ يَا ذَا الجَلالِ والإِكْرَامِ، ويَقْوُلَ: سُبْحَانَ اللَّهِ, والحَمْدُ للَّهِ, واللَّهُ أَكْبَرُ. معاً ثَلاثاً وثَلاثِينَ، ويَدْعُوَ بعدَ كُلِّ مَكْتُوبَةٍ مُخْلِصاً في دُعَائِه.


  #4  
قديم 26 ذو القعدة 1429هـ/24-11-2008م, 04:34 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي حاشية الروض المربع للشيخ: عبد الرحمن بن محمد ابن قاسم

(ثم) بعد فراغه من الركعة الثانية (يجلس مفترشًا) كجلوسه بين السجدتين([1]) (ويداه على فخذيه)([2]) ولا يلقمهما ركبتيه([3]).و(يقبض خنصر) يده (اليمنى وبنصرها([4]) ويحلق إبهامها مع الوسطى) بأن يجمع بين رأس الإبهام والوسطى، فتشبه الحلقة من حديد ونحوه([5]) (ويشير بسبابتها)([6]) من غير تحريك([7]).(في تشهده) ([8]) ودعائه في الصلاة وغيرها([9]) عند ذكر الله تعالى([10]) تنبيها على التوحيد([11]) (ويبسط) أصابع (اليسرى) ([12]).مضمومة إلى القـبلة([13]) (ويقـول) سرًّا([14]) (التحيات لله) أي الألفاظ التي تدل على السلام والملك([15]) والبقاء والعظمة لله تعالى، مملوكة له ومختصة به([16]).(والصلوات) أي الخمس([17]) أو الرحمة، أو المعبود بها، أو العبادات كلها، أو الأدعية([18]) (والطيبات) أي الأعمال الصالحة([19]) أو من الكلم([20]) (السلام) أي اسم السلام وهو الله([21]).أو سلام الله (عليك([22]) أيها النبي) بالهمز من النبأ، لأنه مخبر عن الله، وبلا همز، إما تسهيلا أو من النبوة وهي الرفعة([23]) وهو: من ظهرت المعجزات على يده([24]).(ورحمة الله وبركاته) جمع بركة وهي: النماء والزيادة([25]) (السلام علينا) أي على الحاضين من الإمام والمأموم والملائكة([26]) (وعلى عباد الله الصالحين) جمع صالح وهو القائم بما عليه من حقوق الله، وحقوق عباده([27]).وقيل: المكثر من العمل الصالح، ويدخل فيه النساء، ومن لم يشاركه في الصلاة([28]) (أشهد أن لا إله إلا الله) أي أخبر بأني قاطع بالوحدانية([29]) (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)([30]).المرسل إلى الناس كافة([31]) (هذا التشهد الأول) ([32]) علمه النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، وهو في الصحيحين([33]).(ثم يقول) في التشهد الذي يعقبه السلام([34]) (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد([35]).وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)([36])، لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك في المتفق عليه من حديث كعب بن عجرة([37]).ولا يجزئ لو أبدل آل بأهل([38])، ولا تـقديم الصلاة على التشهد([39]) (ويستعيذ) ندبًا([40]) فيقول: أعوذ بالله (من عذاب جهنم([41]) و) من (عذاب القبر)([42]).(و) من (فتنة المحيا والممات([43]) و) من (فتنة المسيح الدجال)([44]) والمحيا والممات الحياة والموت([45])، والمسيح بالحاء المهملة على المعروف([46]).(و) يجوز أن (يدعو بما ورد)([47]) أي في الكتاب والسنة([48]).أو عن الصحابة والسـلف([49]) أو بـأمر الآخرة، ولو لم يشبه ما ورد([50]) وليس له الدعاء بشيء مما يقصد به ملاذ الدنيا وشهواتها([51]) كقوله: اللهم ارزقني جارية حسناء، أو طعاما طيبا، وما أشبهه([52]).وتبطل به([53]) (ثم يسلم) وهو جالس([54]) لقوله عليه السلام: «وتحليلها التسليم»([55]).وهو منها([56]) فيقول: (عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله([57]) وعن يساره كذلك)([58]) وسن التفاته عن يساره أكثر([59]).وأن لا يطول السلام([60]) ولا يمده في الصلاة([61]) ولا على الناس([62]) وأن يقف على آخر كل تسليمة([63]) وأن ينوي به الخروج من الصلاة([64]) ولا يجزئ إن لم يقل: ورحمة الله. في غير صلاة الجنازة([65]).والأولى أن لا يزيد: وبركاته([66]) (وإن كان) المصلي (في ثلاثية) كمغرب (أو رباعية) كظهر (نهض مكبرا بعد التشهد الأول)([67]) ولا يرفع يديه([68]).(وصلى ما بقي([69]) كـ) الركعة (الثانية بالحمد) أي الفاتحة (فقط)([70]) ويسر بالقراءة([71]) (ثم يجلس في تشهده الأخير متوركا)([72]) يفرش رجله اليسرى([73]).وينصب اليمنى، ويخرجهما عن يمينه، ويجعل أليتيه على الأرض([74]) ثم يتشهد ويسلم([75]) (والمرأة مثله) أي مثل الرجل في جميع ما تقدم([76]) حتى رفع اليدين([77]) (لكن تضم نفسها) في الركوع والسجود وغيرهما، فلا تتجافى([78]).(وتسدل رجليها في جانب يمينها) إذا جلست([79]) وهو أفضل([80]) أو متربعة([81])، وتسر بالقراءة وجوبا إن سمعها أجنبي([82]) وخنثى كأنثى([83]) ثم يسن أن يستغفر ثلاثا([84]).ويقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام([85]) ويقول: سبحان الله، والحمد لله والله أكبر، معا ثلاثا وثلاثين([86]).ويدعو بعد كل مكتوبة، مخلصا في دعائه([87]).




([1]) أي يجلس للتشهد إجماعا، لنقل الخلف عن السلف، نقلا متواترا وقال الوزير اتفقوا على أن الجلسة في آخر الصلاة فرض من فروض الصلاة اهـ، وجلوسه للتشهد كجلوسه بين السجدتين سواء وتقدم، وفي الصحيح: «كان إذا جلس للتشهد، جلس على رجله اليسرى، ونصب الأخرى»، وفيهما: «إذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى»، ولم يرو عنه في هذه الجلسة غير هذه الصفة، والحكمة في ذلك والله أعلم أن المصلي مستوفز في الأول للحركة ببدنه بخلاف الثاني، والحركة عن الافتراش أهون، وكيفما جلس في التشهدين وبين السجدتين جاز إجماعًا.

([2]) اليمنى على الفخذ اليمنى، باسطًا ذراعه على فخذه، ولا يجافيها، فيكون حد مرفقه عند آخر فخذه، واليسرى على الفخذ اليسرى، ممدودة، وأطراف الأصابع على الركب.

([3]) لورود الأحاديث بوضع يديه على فخذيه،وهو مجمع عليه.

([4]) بكسر الخاء والباء مؤنثتان، الأولى الإصبع الصغرى، والثانية بينها وبين الوسطى، أي يقبض من يمناه عند وضعها على فخذه الأيمن عند الركبة خنصرها وبنصرها، لحديث وائل: ثم قبض ثنتين من أصابعه، رواه أحمد وغيره.

([5]) لحديث وائل: وحلق إبهامه مع الوسطى، والإبهام الإصبع العظمى، وهي مؤنثة، والجمع أباهيم، ويحلق بتشديد اللام، والحلقة بسكونها، وجمعها حلق، كقصعة وقصع، وقيل بفتحتين على غير قياس، وفي السنن وحلق حلقة ولمسلم وقبض أصابعه الثلاث، وله أيضا وعقد ثلاثة وخمسين في أعداد كانت معروفة عند العرب، بأن تكون الثلاث مضمومة إلى أدنى الكف لا مقبوضة والإبهام مفتوحة تحت المسبحة على طرف الراحة، ويسمونها تسعة وتسعين، وآثر الفقهاء الأول، تبعا للخبر، ولو فعل غير ذلك مما ورد أتى بالسنة، والأول أفضل، ورواته أفقه.

([6]) سميت بذلك لتحريكها في وقت السب، وسباحة لأنه يشير بها للتوحيد، وخصت بالإشارة والله أعلم لاتصالها بنياط القلب، فتحريكها سبب لحضوره، والحكمة في الإشارة بها ليجمع في توحيده بين القول والفعل والاعتقاد.

([7]) فلا يوالي حركتين عند الإشارة، لأنه يشبه العبث، لحديث ابن الزبير: «ويشير بسبابته ولا يحركها».وقال ابن القيم: في صحته نظر، وليس في الحديث أن هذا كان في الصلاة اهـ، وفي حديث وائل: «ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها»، ورواه أهل السنن وغيرهم، قال ابن القيم: كان لا ينصبها نصبا ولا ينيمها بل يحنيها شيئا، ويحركها كما تقدم اهـ وقيل: يديم نظره إليها، لخبر ابن الزبير عند أحمد وغيره، قال في الفروع: إسناده جيد، وأحاديث الإشارة بالسبابة في التشهد قد بلغت حد التواتر.

([8]) في الصلاة، متعلق بيشير، للخبر المتقدم وغيره، ولمسلم: ورفع إصبعه التي تلي الإبهام فدعا بها، وسمي بالتشهد من باب إطلاق الجزء وهو الشهادة على الكل.

([9]) أي يشير بسبابته إذا دعا في صلاة وغيرها، لحديث عبد الله بن الزبير: «كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها»، ورواه أبو داود والنسائي: وفيه عن سعد بن أبي وقاص مر بي وأنا أدعو بأصابعي، فقال: أحد أحد يا سعد، وأشار بالسبابة.

([10]) وصحح في شرح الهداية للحنفية وغيرها عند الشهادة، وكذا عند الشافعية، فيكون رفعها مرة في التشهد، قال في الفروع: ولعله أظهر، وهي أفضل الذكر فيكون موضع الإشارة لا إله إلا الله، لما رواه البيهقي من فعله صلى الله عليه وسلم وفي المقنع والإنصاف وغيرهما: مرارا لقوله: إذا دعا.

([11]) والتوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وسئل ابن عباس فقال: هو الإخلاص، ولأبي داود عنه أنه قال: هكذا الإخلاص، يشير بإصبعه التي تلي الإبهام، وروي مرفوعا.

([12]) لحديث ابن عمر: وضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى، وفي لفظ ويده اليسرى على ركبته، باسطها عليها.

([13]) ليستقبل القبلة بأطراف أصابعه، وهذه الجلسة على هذه الهيئة تمثل في الخدمة بين يدي ربه جاثيا على ركبتيه، كهيئة الملقي نفسه بين يدي سيده، راغبا راهبا، معتذرا إليه، مستعديا إليه على نفسه آتيا بأكمل التحيات وأفضلها، وأسنى الثنا ثم بالشهادة له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، ثم بالصلاة عليه، متخيرا من الدعاء أحبه إليه.

([14]) ندبًا إجماعًا لقول ابن مسعود: «من السنة إخفاء التشهد»، رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.قال النووي: وأجمعوا على كراهة الجهر بالتشهدين، لخبر ابن مسعود، وقال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، وقال الشارح وغيره: السنة إخفاء التشهد كالتسبيح، لا نعلم فيه خلافًا.

([15]) ملكًا واختصاصا، أو كل ما يحيي به من الثناء والمدح بالملك والعظمة لله تعالى، وهو سبحانه يحيي ولا يسلم عليه، وفي الصحيحين كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام» لأن السلام دعاء بالسلامة، والله سبحانه هو المدعو، وهو السالم من كل نقص وعيب، وله الملك المطلق، وكانوا إذا نال أحد الملك قيل: نال فلان التحية، أي نال الملك الذي يستدعي له التحية، فهو سبحانه المستحق أن يحيي بأعلى التحيات، لتمام ملكه، ولا يسلم عليه لكماله وغناه المطلق.

([16]) فجميع التعظيمات لله سبحانه وتعالى، ومنه الخضوع والركوع والسجود والكتوف والخشوع، وأمثال ذلك، والبقاء الدوام، والعظمة والكبرياء، وإنما جمع التحية لأن ملوك الأرض يحيون بتحيات مختلفة، فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ولبعضهم: أنعم صباحا، ولبعضهم: أسلم كثيرًا، وغير ذلك، فقيل للمسلمين، قولوا: التحيات لله إلخ، فهو سبحانه أولى بالتحيات من كل ما سواه، فإنها تتضمن الحياة والبقاء والدوام، ولا يستحق هذه التحيات إلا الحي الباقي الذي لا يموت ولا يزول ملكه سبحانه وتعالى.

([17]) وما هو أعم من الفرض والنفل لله تعالى، فإنه لا يستحق أحد الصلاة إلا الله عز وجل.

([18]) التي يراد بها تعظيم الله لله تعالى، ومنها الشهادتان، والخوف، والرجاء والتوكل والإنابة والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادة لله تعالى، وهو مستحقها ولا تليق بأحد سواه.

([19]) لله، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، والطيبات صفة لموصوف محذوف أي الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء ونحو ذلك، مما هو ثناء على الله تعالى، وذكر له، وأولها الصلاة والزكاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل عمل كالجهاد والنفقة وأمثال ذلك لله تعالى.

([20]) أي: الطيبات من الكلم، وحسن أن يثنى به على الله وكل عمل تعمله، فهذا كله لا حق فيه لغيره، وطيبه كونه خالصا من الشوائب.

([21]) إذ كان اسم الله يذكر على الأعمال، توقعا لاجتماع معاني الخيرات فيه، وانتفاء عوارض الشر منه، والسلام في الأصل مصدر بمعنى السلامة، واسم من التسليم، والسلام اسم من أسماء الله لسلامته من كل نقص وعيب، فإن اسمه السلام متضمن لكل ما يتنزه عنه، وحقيقته البراءة والخلاص والنجاة من الشرور والعيوب، والسلام التحية.

([22]) حكاه الأزهري وغيره، ولفظه: أو سلم الله عليك تسليما، فتضمن معنيين، ذكر الله وطلب السلامة، وأتى بلفظ الحاضر المخاطب تنزيلا له منزلة المواجه، لقربه من القلب، حتى أنه لأدنى إلى العبد من روحه.

([23]) فعيل بمعنى فاعل، وفي الحديث لا تنبزوا باسمي إنما أنا نبي الله وتركها هو المختار عند العرب، وقيل: مأخوذ من النبي الذي هو الطريق الواضح، لأنه الطريق إلى الله تعالى.

([24]) معجزة النبي ما أعجز به الخصم عند التحدي، وتسمى آيات النبوة، ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم لا تنحصر، ولم يؤت نبي قبله ولا رسول معجزة إلا وله مثلها وزيادة.

([25]) والمراد نزلت عليه السلامة والرحمة والبركة.

([26]) وقاله النووي وغيره.

([27]) من الملائكة ومؤمن الإنـس والجـن، قـاله الـزجاج والقـاضي وغيرهما ودرجاتهم متفاوتة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع القديم على تفضيل صالحي البشر على الملائكة، وعباد جمع عبد، وتقدم أنه لا أشرف ولا أتم للمؤمن من وصفه بالعبودية لله تعالى.

([28]) لقوله في رواية لهما: «فإنكم إذا قلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح، في السماء والأرض»، ويقصد بألفاظ التشهد معانيها، مرادة له على وجه الإنشاء، كأنه يحي الله ويسلم على نبيه، وعلى نفسه، وعلى كل عبد صالح في السماء والأرض، قال الترمذي، من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة، فليكن عبدا صالحا، وإلا حرم هذا الفضل العظيم.

([29]) أي: نفي الألوهية عما سوى الله، وإفراده بالعبادة، والشهادة خبر قاطع، والقطع من فعل القلب، واللسان مخبر عن ذلك، والمشاهدة المعاينة، فتشهد شهادة اليقين أن لا معبود بحق إلا الله، وإن كان ابتداء هذه الكلمة العظيمة نفيًا، فالمراد به غاية الإثبات، ونهاية التحقيق، ومن خواصها أن حروفها مهملة، تنبيها على التجرد من كل معبود سوى الله، وكلها جوفية، تنبيهًا على أن المراد بها الإخلاص للإتيان بها من خالص جوفه، وهو القلب لا من الشفتين وفي الحديث: «أفضل الذكر لا إله إلا الله»، وذكر جماعة أنه لا بأس بزيادة «وحده لا شريك له».

([30]) بصدق ويقين، وذلك يقتضي متابعته، وأتى بهاتين الصفتين، رفعا للإفراط والتفريط، ولفظهما ثبت في جميع الأمهات الست، وإضافتهما إلى الله إضافة تشريف وتكريم.

([31]) قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} بل إلى جميع الثقلين الجن والإنس بالإجماع.

([32]) في المغرب، والرباعية ونحوهما، وهو مشروع بغير خلاف، نقله الخلف عن السلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، نقلا متواترا يفيد القطع ويشترط موالاته، وذكر العاطف بين الشهادتين، ولفظ أشهد، ورعاية حروفه، وتشديداته، والإعراب المخل بالمعنى، وإسماع نفسه، ويكتفي بالنطق بالحروف كما تقدم، فإنه متى حرك لسانه كان متكلما، وصحح في تصحيح الفروع أنه إذا أتى بالألفاظ المتفق عليها أجزأه، وإن كان الساقط ثابتا في حديث ابن مسعود وغيره، والأولى الإتيان بالوارد دون التلفيق، وتخفيفه وعدم الزيادة عليه، لحديث كان يجلس في الأوليين كأنه على الرضف، رواه أبو داود وغيره، والرضف الحجارة المحماة، وحديث: «نهض حين فرغ من تشهده»، قال الطحاوي: من زاد عليه فقد خالف الإجماع، وقال أحمد: من زاد فقد أساء، ولو فرغ المؤتم قبل إمامه سكت وفاقا، وقيل يتمهل، وقيل: يكرره اختاره شيخنا وغيره، ولم يشرع في الصلاة سكوت إلا لمستمع لقراءة إمامه، ولا يخلو موضع من الصلاة من قول أو عمل.

([33]) وقال البزار والذهلي وغيرهما: أصح حديث في التشهد حديث ابن مسعود، روي من نيف وعشرين طريقًا، قال الحافظ والبغوي: لا خلاف في ذلك، وقال مسلم: اتفق الناس عليه، وقال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء: التشهد به أفضل، لمرجحات كثيرة: منها الاتفاق على صحته، وتواتره بل هو أصح التشهدات، وأشهرها، ولأمره أن يعلمه الناس، وكونه محفوظ الألفاظ، لم يختلف في حرف منه، وكون غالبها يوافق ألفاظه، فاقتضى أنه الذي يأمر به
غالبا واتفق العلماء على جواز التشهدات كلها، الثابتة من طريق صحيح، قال الشيخ: كلها سائغة باتفاق المسلمين، وتقدم أن أصل أحمد استحسان كل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.


([34]) سواء كان من واحدة كالوتر، أو اثنتين كالفجر، أو ثلاث كالمغرب، أو أربع كالظهر، أو خمس كمن يوتر بها، أو أكثر، وهو ركن فيه، وفاقا للشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك: هو مستحب، لحديث المسيء، وحجتنا قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} والأحاديث الصحيحة المتواترة.

([35]) قال ابن عبد البر: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رويت من طرق متواترة بألفاظ متقاربة اهـ. والصلاة من الله ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما تقدم، وأمرنا تعالى أن نصلي عليه، ليجتمع له صلى الله عليه وسلم ثناء أهل السماء والأرض وهو ركن في هذا الموضع، وتقدم الكلام في آل محمد وآل إبراهيم إسماعيل وإسحاق وأولادهما، وقد جمع الله لهم الرحمة والبركة بقوله: {رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}فسأل صلى الله عليه وسلم إعطاء ما تضمنته الآية واستشكل التشبيه هنا بعض العلماء، وذكروا فيه أقوالا، ولعل المراد بالتشبيه التشبيه في الصلاة لا في القدر كقوله {كما أوحينا إلى إبراهيم}وقد انعقد الإجماع على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق على الإطلاق، وقال ابن القيم: شرعت الصلاة على آله مع الصلاة عليه تكميلا لقرة عينه،
بإكرام آله، والصلاة عليهم، وأن يصلي عليه وعلى آله كما صلى على أبيه إبراهيم، وآله، والأنبياء كلهم بعد إبراهيم من آله، ولذلك كان المطلوب لـرسول الله صـلى الله عليه وسلم صـلاة مثل الصلاة على إبراهيم، وعلى جميع الأنبياء من بعده، وآله المؤمنين، فلهذا كانت هذه الصلاة أكمل ما يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم بها وأفضل اهـ فحصل له أعظم ما لإبراهيم وغيره، وإذا كان المطلوب بالدعاء إما هو مثل المشبه به، وله نصيب وافر من المشبه، ظهر به فضله على كل من النبيين، ما هو اللائق به، وإبراهيم هو الخليل عليه الصلاة والسلام ابن آزر، ولد قبل المسيح بألفي عام، ومعناه بالسريانية: أب رحيم.

([36]) البركة هي الثبوت والدوام، أي: أثبت له وأدم ما أعطيته من الشرف والكرامة و(حميد) أي محمود على كل حال، مستحق لجميع المحامد و(مجيد) أي ماجد، والماجد هو العظيم الواسع المتصف بالمجد، وهو كمال الشرف والكرم والصفات المحمودة.

([37]) ولفظه: قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: «قولوا اللهم صلى على محمد» إلخ، ويجوز أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بغيره مما ورد، كما في الصحيحين وغيرهما، وفي رواية «كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم»، وتجوز الصلاة على غيره مفردا نص عليه، واختاره الشيخ، إلا أن يتخذ شعارا فيحرم، وقال: السلام على غيره باسمه جائز من غير تردد، وكعب بن عجرة هو ابن أمية بن عدي بن عبيد بن خالد بن عمرو بن عوف بن غنم البلوي ثم القضاعي، حليف الأنصار، نزل الكوفة، ومات بالمدينة قبل الستين.

([38]) وصوبه في تصحيح الفروع: وقال في الإقناع وشرحه، الصواب عدم إبدال آله بأهله، لأن أهل الرجل أقاربه أو زوجته، وآله أتباعه على دينه فتغايرا وفي الصحيحين قولوا: «اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته»، وقيل: هم القرابة من غير تقييد، وإليه ذهب جماعة من أهل العلم، وقيل الأمة، ولا شك أن القرابة أخص الآل، فتخصيصهم بالذكر ربما كان لمزايا لا يشاركهم فيها غيرهم.

([39]) لفوات الترتيب بينهما.

([40]) إجماعًا وقيل بوجوبه، لحديث أبي هريرة: «إذا فرغ أحدكم من التشهد فليستعذ بالله من أربع»، فذكره رواه أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم، ولمسلم إذا فرغ من الشتهد الأخير، والتعوذ الالتجاء والاعتصام وتقدم، وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة: «كان يدعو في صلاته اللهم إني أعوذ بك» إلخ، وفيه وأعوذ بك من المأثم والمغرم، والمغرم الدين وذلك لأن المأثم يوجب خسارة الآخرة، والمغرم يوجب خسارة الدنيا، وقول بعضهم بوجوبه يدل على تأكده.

([41]) اسم لنار الآخرة، وهي لفظة أعجمية وقيل عربية، سميت به لبعد قعرها، من الجهومة وهي الغلظ، وتواترت الأحاديث بالاستعاذة منها، والعذاب في الأصل الضرب والنكار والعقوبة، ثم استعمل في كل عقوبة مؤلمة، وسمي عذابا لأن صاحبه يحبس ويمنع عنه ما يلائمه من الخير، ويقرن به ما يؤلمه، ولأنه يمنعه من المعاودة ويمنع غيره من مثل ما فعله.

([42]) وتواترت أيضـا بالاستعاذة من عـذاب القبر، وعـذابه ونـعيمه متواتر والإيمان به من أصول أهل السنة والجماعة، قال الشيخ: ويقع على الأبدان والأرواح إجماعا، وقد ينفرد أحدهما عن الآخر بالألم.

([43]) هذا من باب ذكر العام مع الخاص، وأصل الفتنة الامتحان والاختبار وفتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته، من الافتتان بالدنيا وشهواتها، والجهالات أو الابتلاء مع زوال الصبر ونحو ذلك، فأمرنا بالاستعاذة من ذلك، وفتنة الممات قيل عند الموت، ومنه سكرات الموت، أضيف إليه لقربه منه، أو فتنة القبر وعذابه، وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة منه، وفي حديث الكسوف «إنكم تفتنون في قبوركم»، ومنه سؤال الملكين، ولا يكون تكرار لعذاب القبر، لأن عذاب القبر متفرع على ذلك.

([44]) وهذه الأربع هي مجامع الشر كله، فإن الشر إما عذاب الآخرة وإما سببه، والعذاب نوعان عذاب في البرزخ وعذاب في الآخرة، وأسبابه الفتنة، وهي نوعان: كبرى وصغرى، فالكبرى: فتنة الدجال، وفتنة الممات، والصغرى: فتنة الحياة التي يمكن تداركها بالتوبة، بخلاف فتنة الممات وفتنة الدجال، فإن المفتون فيهما لا يتداركها، والجمع بينها من ذكر الخاص مع العام.

([45]) فالمحيا نقيض الممات، مفعل من الحياة، وكذا الممات مفعل من الموت عدم الحياة، والموضع الذي يحيا فيه ويموت فيه، ومنه: {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} جمعه محاي وممايت.

([46]) المشهور، سمي بذلك لمسحه الأرض ذهابه فيها، أو لكونه ممسوحًا عن كل خير، أو لأنه ممسوح العين اليمنى أعورها، قال عليه الصلاة والسلام: «إنه أعور»، وسمي دجالاً لخداعه أو لكذبه، أو لتمويهه على الناس، وتغطيته الحق بالباطل وتلبيسه من الدجال، وهو التغطية والخداع، وقيل: إنه بالخاء المعجمة، وهو بمعنى الخداع والكذب، وأما المسيح ابن مريم فلحسنه، أو لسياحته، أو لخروجه من بطن أمه ممسوحا بالدهن، أو لكونه لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، وقال أبو الهيثم وغيره: المسيح بالمهملة ضد المسيخ، بالمعجمة، عيسى مسحه الله إذ خلقه خلقًا حسنًا، ومسخ الدجال إذ خلقه خلقًا ملعونًا.

([47]) بل يسن أن يدعو بما ورد، فقد شرع له من الدعاء ما يختاره من مصالح دنياه وآخرته، ما لم يشق على مأموم ففي الصحيح: «وليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به»، ولمسلم «ثم ليتخير من المسألة ما شاء»، أو «ما أحب» والمأثور أفضل، قال الشيخ الإسلام: والدعاء في آخرها قبل الخروج مشروع، مسنون، بالسنة المستفيضة وإجماع المسلمين وقد ذهب طائفة إلى وجوب المأمور به فيه اهـ وقد كان غالب دعائه صلى الله عليه وسلم بعد التشهد قبل السلام، وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، وهو اللائق بحالة المصلي، فإنه مقبل على ربه، يناجيه ما دام في الصلاة، فلا ينبغي للعبد أن يترك سؤال مولاه، في حال مناجاته، والقرب منه، والإقبال عليه، وآكده عند خروجه من هذه العبادة على هذه الهيئة، وقد شرع له أمام استعطافه كلمات التحية، مقدمة بين يدي سؤاله، بمنزلة خطبة الحاجة أمامها، ثم يتبعها بالصلاة على من نالت أمته هذه النعمة على يديه، فكأنه توسل إلى الله بعبوديته، وبالثناء عليه، والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، ثم الصلاة على رسوله، ثم قيل له: تخير من الدعاء أحبه إليك، فهذا الحق الذي عليك وهذا الحق الذي لك، وليكن منك بأدب وخشوع، وحضور قلب ورغبة ورهبة، فإنه لا يستجاب الدعاء من قلب غافل.

([48]) كقوله {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *} وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»، وكقوله: «اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وماأسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت» قال علي وكان آخر ما يقول بين التشهد والسلام، والأول علمه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليدعو به في صلاته، وكقوله: «اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره» وغير ذلك مما ورد.

([49]) مما ثبت عنهم، فهم القدوة، نحو: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن المسألة لغيرك.

([50]) نحو: اللهم أحسن خاتمتي، وكالدعاء بالرحمة والعصمة من الفواحش، وكالدعاء بالرزق الحلال، ونحو ذلك، لحديث ابن مسعود «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه»، وحديث: «ثم ليدع بما شاء» صححه الترمذي.

([51]) لحديث «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم، والدنيا اسم لهذه الدار، وما فيها، ما سميت به بدنوها وقربها، والملاذ المشتهيات، والشهوات مفردها شهوة، وهي اللذة، واللذة إدراك الملائم من حيث أنه ملائم، وكذا الشهوة حركة النفس طلبا للملائم أو الملذ.

([52]) كبستانا أنيقا، وكحلة خضراء، أو دابة هملاجة، أو دارا واسعة، ونحو ذلك.

([53]) أي تبطل الصلاة بالدعاء به، لأنه من كلام الآدميين، وعنه يجوز الدعاء بحوائج دنياه وملاذها، مما ذكره ونحوه، قال أحمد: لا بأس أن يدعو الرجل بجميع حوائجه من حوائج دنياه وأخراه، قال الشارح: وهو الصحيح، اختاره شيخنا، لظواهر الأخبار اهـ، ولا بأس بالدعاء لشخص معين، ما لم يأت بكاف الخطاب فتبطل به، وفي الفروع، وظاهر كلامهم لا تبطل بقوله: لعنه الله، عند ذكر الشيطان على الأصح، لقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم العن فلانا وفلانا».

([54]) بلا نزاع قاله في المبدع ملتفتا يبدأ السلام مع ابتداء التفاته وينهيه معه، وهو تحليلها وليس لها تحليل سواه.

([55]) أخرجه أصحاب السنن بإسناد صحيح، أي وتحليل ما كان حراما فيها حاصل بالتسليم جعل تحليلا لها يخرج به المصلي، كما يخرج بتحليل الحج منه، وكل عبادة وهو بابها الذي يخرج به منها، وليس لها تحليل سواه، قال في محاسن الشريعة: فيه معنى لطيف، كأن المصلي مشغول عن الناس، ثم أقبل عليهم كغائب حضر اهـ. والحكمة أنه ما دام في صلاته فهو في حمى مولاه، فإذا انصرف ابتدرته الآفات، فإذا انصرف مصحوبا بالسلام الذي جعل تحليلا لها لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقت الأخرى، وجعل هذا التحليل دعاء الإمام لمن وراءه بالسلامة التي هي أصل كل خير وأساسه وشرع لمن وراءه أن يتحلل بمثل ما تحلل به، وذلك دعاء له، وللمصلي معه ثم شرع لكل مصل، وإن كان منفردا، لتوقف الخروج منها إلا به، قال عليه الصلاة والسلام: «إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك».

([56]) أي من الصلاة وركن من أركانها، عند جمهور العلماء للخبر.

([57]) يبتدئ السلام متوجها إلى القبلة، وينهيه مع تمام الالتفات وفاقا للشافعي وغيره، ويكون مرتبا معرفا وجوبا، لأن الأحاديث صحت بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول كذلك ولم ينقل خلافه، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي».

([58]) أي ويقول عن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، لحديث سعد أنه رآه يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى يرى بياض خده، رواه مسلم، ولأهل السنن نحوه عن ابن مسعود، وقال الترمذي: حسن صحيح، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، قال العقيلي: والأسانيد صحيحة ثابتة في حديث ابن مسعود في التسليمتين، ولا يصح في تسليمة واحدة شيء اهـ وقد أجمع العلماء على مشروعيتهما، وهو فعله الراتب، وقال ابن القيم: ثبتت بهما السنة الصحيحة المحكمة عن خمسة عشر صحابيا، ما بين صحيح وحسن اهـ. ونص الطحاوي وغيره على تواتر التسليمتين عنه صلى الله عليه وسلم وقال البغوي، وغيره: التسليمة الثانية زيادة من ثقات يجب قبولها، والواحدة غير ثابتة عند أهل النقل.

([59]) بحيث يرى خده، لفعله عليه الصلاة والسلام، رواه يحيى بن محمد، عن عمار، وفيه وإذا سلم عن يساره يرى بياض خده الأيمن والأيسر، والالتفات سنة فيهما لما تقدم، وقال أحمد: ثبت عندنا من غير وجه أنه كان يسلم عن يمينه ويساره، حتى يرى بياض خده.

([60]) أي لا يمد به صوته.

([61]) عطف تفسير، والمد إطالة الصوت بحرف من حروف المد، لقول أبي هريرة: حذف السلام سنة، وروي مرفوعا، عنه صلى الله عليه وسلم وصححه الترمذي وعليه أهل العلم، وقال ابن سيد الناس: قال العلماء: يستحب أن يدرج لفظ السلام، ولا يمد مدا، لا أعلم في ذلك خلافا بين العلماء اهـ وحذفه تخفيفه، واختصاره، أي عدم تطويله ومده، يقال حذف في قوله: أوجز واختصر.

([62]) أي لا يطول السلام ولا يمده إذا سلم على الناس.

([63]) فيسكن الهاء من لفظ الجلالة، قال النخعي: السلام جزم.

([64]) لتكون النية شاملة لطرفي الصلاة، وينوي به السلام على الحفظة وعلى الحاضرين، لحديث سمرة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسلم على أئمتنا وأن يسلم بعضنا على بعض، رواه أحمد وأبو داود والحاكم، وإسناده ثقات، والبزار وزاد، في الصلاة قال الحافظ: وإسناده حسن، وقال النووي: السلام على الملائكة والمقربين، ومن تبعهم من المسلمين، اعتضدت طرقه، فصار حسنا أو صحيحا، وعند مالك يجب نية الخروج منها، واختاره ابن حامد، وهو قول الشافعي وغيره.

([65]) لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقوله، ولأنه سلام في صلاة ورد مقرونا بالرحمة، فلم يجزئه بدونها، كالسلام في التشهد، وأما صلاة الجنازة فيجزئه.

([66]) لعدم وروده في أكثر الأخبار، وإن زاد جاز، لما رواه أبو داود من حديث وائل، كان يسلم عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله كذلك، ما لم يتخذ ذلك عادة فلا، لمخالفة السنة المستفيضة.

([67]) قائما على صدور قدميه، لأنه انتقال إلى قيام، فأشبه القيام من سجود الأولى، وثلاثية أي ثلاث ركعات أي المغرب، ورباعية أي أربع ركعات أي الظهر والعصر والعشاء، نسبة إلى رباع المعدول عن أربعة، كثلاث تقول في المذكر رباعي، وفي المؤنث رباعية.

([68]) حكاه بعضهم وفاقا، وعليه جماهير الأصحاب، وعنه يرفع يديه، قال الشيخ: مندوب إليه عند محققي العلماء العاملين بالسنة، وقد ثبت في الصحاح والسنن، ولا معارض لها ولا مقاوم، واختاره هو والمجد وصاحب الفائق وابن عبدوس، واستظهره في المبدع والفروع، وصوبه في الإنصاف، وهو أصح الروايتين عن أحمد، ومذهب أهل الحديث، لما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر أنه كان يرفع يديه في هذا الموضع، وهي في بعض طرق البخاري أيضا، وجاء ذكرها مصرحا به في حديث أبي حميد الساعدي. قال: ثم إذا قام من الركعتين رفع يديه، حتى يحاذي بهما منكبيه، كما صنع عند افتتاح الصلاة، رواه مسلم وابن أبي حاتم في صحيحه وغيرهما، وصححه الترمذي وغيره من حديث علي، وهو عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه، ولأبي داود نحوه بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر، وصححه البخاري في جزء رفع اليدين، وقال: ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة صحيح لأنهم لم يحكوا صلاة واحدة فاختلفوا فيها، وإنما زاد بعضهم على بعض والزيادة مقبولة من أهل العلم، وقال ابن بطال: هذه زيادة يجب قبولها اهـ وقد رواه جماعة من الصحابة بحضرة أصحابهم، وصدقوهم على ذلك، وثبت عن خلائق من السلف والخلف فتعين استحبابه.

([69]) أي من صلاته، وهو ركعة من مغرب،ووتر، وركعتان من رباعية.

([70]) هذا قول أكثر أهل العلم، وقال ابن سيرين: لا أعلمهم يختلفون فيه اهـ ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في الركعتين الأخيرتين بعد الفاتحة شيئا، وحديث أبي قتادة المتفق عليه ظاهر في الاقتصار على الفاتحة في الركعتين الأخيرتين، وربما قرأ في الأخيرتين بشيء فوق الفاتحة لما رواه مسلم من حديث أبي سعيد وغيره، وهو قول للشافعي.

([71]) إجماعا، نقله الخلف عن السلف، وصرح في المبدع والإنصاف وغيرهما أنه لا يجهر في الثالثة والرابعة بلا خلاف.

([72]) بلا نزاع متفعلا من الورك، والورك ما فوق الفخذ، والتورك الإتكاء على إحدى وركيه، وهو في الصلاة القعود على الورك اليسرى.

([73]) بضم الراء على المشهور، وحكى القاضي كسرها ولم يحك الضم، ومعنى فرشها جعل ظهرها على الأرض، وعند الخرقي يجعل باطن اليسرى تحت فخذه اليمنى، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يفعله، رواه مسلم، واختاره المجد والقاضي، والشارح، وقال: أيهما فعل فحسن.

([74]) لقول أبي حميد: فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة. رواه أبو داود، وللبخاري عنه قال: وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته، ونحوه عند مسلم من حديث أبي سعيد، وغيره، وهذا التورك جعل فرقا بين الجلوس في التشهد الأول الذي يسن تخفيفه، فيكون الجالس فيه متهيئا للقيام، وبين الجلوس في التشهد الثاني الذي يكون الجالس فيه على هيئة المستقر، وأيضا تكون هيئات الجلوسين فارقة بين التشهدين، مذكرة للمصلي حاله فيهما، وإن سجد لسهو بعد السلام في ثلاثية فأكثر تورك، قال في الإنصاف، بلا خلاف أعلمه، وفي ثنائية ووتر يفترش، والسنة في القدم اليمنى أن تكون منصوبة باتفاق أهل العلم، وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة، وأليتيه بفتح اللام، وقال ابن السكيت وجماعة، لا تكسر الهمزة والتثنية أليان بحذف التاء على غير قياس، وبإثباتها في لغة، ولا يقال لية، والجمع أليات، مثل سجدة وسجدات.

([75]) وهو جالس بلا نزاع، كما تقدم.

([76]) من أركان وواجبات ومندوبات، قولية أو فعلية، لشمول الخطاب لها، سوى ما استثنى في حقها.

([77]) في مواضع. وقال المجد: ترفع قليلا، وهو أوسط الأقوال.

([78]) ندبا بل تجمع نفسها، وتنخفض وتلصق مرفقيها بجنبيها وبطنها بفخذيها، وغيرهما في جمـيع الصلاة، لأنـه أستر لهـا، قال في الإنصاف: بلا نزاع والنفل كالفرض في الجلوس، وهو مذهب مالك والشافعي، والجمهور، ومثلها الخنثى احتياطا.

([79]) أي تسدلهما في جميع الجلسات، لوجود المعنى الذي لأجله شرع الجلوس على هذه الكيفية، ولم يصرحوا بحكم جلوسها على غير هذه الكيفية، المشروعة في حقها، إلا ما يفهم بالكراهة في الفروع، حيث قال: ولا تجلس كالرجل، لكن قال البخاري: كانت أم الدرداء تجلس كالرجل وهي فقيهة.

([80]) أي من تربعها، قال في المبدع وغيره: لأنه فعل عائشة، وأشبه بجلسة الرجل، وأبلغ في الإكمال والضم، وأسهل عليها.

([81]) لأن ابن عمر كان يأمر النساء أن يتربعن في الصلاة، والتربع هو الجلوس المعروف، اسم فاعل من تربع، سمي بذلك لأنه قد ربع نفسه كما يربع الشيء، إذا جعل أربعا، والأربع هنا الساقان والفخذان، ربعها أي أدخل بعضها تحت بعض.

([82]) خشية الفتنة بها،و لأن صوت المرأة عورة، وقال الشيخ في المرأة، إذا صلت بالنساء جهرت بالقراءة وإلا فلا.

([83]) فيما تقدم احتياطا إن سمعها أجنبي، لاحتمال أن يكون امرأة.

([84]) فيقول: استغفر الله، ثلاث مرات، للخبر الآتي وغيره.

([85]) لما في الصحيح وغيره، كان إذا سلم استغفر ثلاثا، وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام»، وفي الصحيحين ثم يقول: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون»، وهو في الصحيحين أيضا من حديث ابن الزبير، أنه كان يقوله، وفي الصحيح أنه كان يهلل بهن، وفي لفظ: حين يسلم، ولمسلم: بأعلى صوته، ففيه تقديمه يلي السلام، مقدما على غيره، وفي الصحيح: أن رفع الناس أصواتهم بالذكر بعد الصلاة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين أنه كان يقول: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»، أي لا ينفع ذا الحظ منك حظه وغناه، إنما ينفعه العمل الصالح، وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ: لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك».

([86]) أي يقولها جميعا ثلاثا وثلاثين مرة، لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: «تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وتمام المائة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»، قال الشيخ: ويستحب الجهر بالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلاة وقال بعض السلف والخلف، ويعقده والاستغفار، بيده لحديث يسيره عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس، واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وسواء ضبط عدده بأصابعه أو برءوسها أو بمفاصلها بأن يضع إبهامه في كل ذكر على مفصل، قال الشيخ: وعد التسبيح بالأصابع سنة وبالنوى والحصى ونحو ذلك حسن، وأما ما يجعل في نظام الخرز ونحوه فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا حسنت فيه النية فهو حسن، وأما اتخاذه من غير حاجة أو إظهاره للناس، مثل تعليقه في العنق، أو جعله كالسوار في اليد، ونحو ذلك، فهذا إما رئاء الناس، أو مظنة المراءة ومشابهة المرائين من غير حاجة، الأول محرم، والثاني أقل أحواله الكراهة اهـ.وروى الخمسة وصححه الترمذي من حديث ابن غنم عن أبي ذر: «من قال بعد صلاة الصبح وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، عشر مرات كتب له كذا وكذا»، الحديث ولأحمد والنسائي وغيرهما عن معاذ نحوه، وفيه «وصلاة المغرب والصبح»، ولأحمد وغيره نحوه من حديث أم سلمة وأخرجه الرافعي بلفظ: «إذا صليتم صلاة الفرض فقولوا عقب كل صلاة عشر مرات» والحديث، وذكر بعضهم أنه لا خلفا في استحبابه بعد الصبح والمغرب، وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، من حديث الحارث: «اللهم أجرني من النار» سبع مرات، ولأحمد وغيره عن أبي أمامة وغيره: يقرأ سرا بعد كل صلاة آية الكرسي وصححه في المختارة، وقال ابن القيم: له طرق تدل على أن له أصلا اهـ، ويقرأ سرا سورة الإخلاص والمعوذتين، لحديث عقبة رواه أحمد وأهل السنن.

([87]) لأن الدعاء عبادة، والإخلاص ركنها الأعظم قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ومجتنبا للحرام قال الشيخ: إذا لم يخلص الداعي في الدعاء، ولم يجتنب الحرام تبعد إجابته إلا مضطرا أو مظلوما ويكون بخوف وخشوع، وحضور قلب، وعزم ورغبة ورهبة، ورجاء، وينتظر الإجابة، ولا يعجل، والحاصل أنه يستحب للعبد إذا فرغ من صلاته واستغفر الله، وذكره وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقب الصلاة مما تقدم، ونحوه، أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو بما شاء، فإن الدعاء عقب هذه العبادة من أحرى أوقات الإجابة لا سيما بعد ذكر الله وحمده والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومن أبلغ الأسباب لجلب المنافع ودفع المضار، وفي حديث فضالة: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء»، صححه الترمذي، والذكر بعد الإنصراف هو كما قالت عائشة: مثل مسح المرأة بعد صقالها، فإن الصلاة نور، فهي تصقل القلب، كما تصقل المرأة ثم الذكر بعد ذلك بمنزلة مسح المرآة فقمن أن يستجاب للداعي حينئذ، وإن ارتاضت نفسه على الطاعة وانشرحت بها وتنعمت بها وبادرت إليها طواعية ومحبة كان أبلغ فإنه أفضل ممن يجاهدها على الطاعة ويكرهها عليها، وينبغي أن يخفيه، فإن في إخفاء الدعاء فوائد، منها أنه أعظم إيمانا، وأعظم في الأدب والتعظيم، وأبلغ في التضرع والخشوع، والإخلاص وجمعية القلب على الله، وأنه دال على قرب صاحبه من الله، وأدعى إلى دوام الطلب والسؤال، وأبعد عن القواطع والمشوشات، وغير ذلك من الفوائد، وأما إظهاره والاجتماع عليه فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعا، لا في الفجر ولا في العصر ولا غيرهما من الصلوات، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة قال الشيخ: ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلط عليه، ويستحب جلوسه بعد فجر وعصر إلى طلوعها، وغروبها، نص عليه، واقتصر بعضهم على الفجر لفعله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.


  #5  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 07:32 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي الشرح الممتع للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

ثُمَّ يَجْلِسُ مُفْترشاً، ..............
قوله: «ثم يجلس مفترشاً» أي: بعد أن يُصلِّي الثانيةَ بركوعها وسجودها وقيامها وقعودها. «يجلس» وهذا الجلوس للتشهُّدِ إمَّا الأول، وإمَّا الأخير، إن كانت الصَّلاةُ رباعية أو ثلاثية فهو أوَّل، وإن كانت سوى ذلك فهو أخير.
«مفترشاً» سَبَقَ تفسيرُها، وأنَّ معنى الافتراش أن يجعلَ رِجْلَهُ اليسرى تحت مقعدته كأنها فراش، ويُخرج اليُمنى مِن الجانب الأيمن ناصباً لها.

وَيَدَاهُ عَلَى فَخِذَيْهِ ..............
قوله: «ويداه على فخذيه» هذه الجملةُ يحتملُ أن تكون في مَوضعِ نَصْبٍ على الحال مِن فاعل «يجلس»، يعني: يجلس والحالُ أن يديه على فخذيه، ويحتملُ أنها جملةٌ استثنائية، وعلى كُلِّ تقديرٍ؛ فإنَّ معنى العبارة: أنه في هذا الجلوس يَجعلُ يديه على فخذيه.
وظاهر كلامه: أنه لا يقدمهما حتى تكونا على الرُّكبة؛ لأن الفخذَ حَدُّهُ الرُّكبة، والرُّكبة ليست مِن الفخذِ، فتجعل اليد اليمنى واليد اليسرى على الفخذ لا تصل إلى حِذاء الرُّكبة، بل على حَدِّها؛ لأنها لو وصلت إلى حِذاء الرُّكبة خرجت عن الفخذ، وعلى هذا؛ فلا يُلْقِم اليُسرى ركبته، ولا يضع اليُمنى على حرف الفخذِ، هذا ما قاله المؤلِّفُ، ولكن السُّنَّة دَلَّت على مشروعية الأمرين، أي: أن تضعَ اليدين على الفخذين، وأن تُلْقِمَ اليُسرى الرُّكبةَ اليُسرى وتَجعلَ اليُمنى على حَرْفِ الفخذِ، أي: على طَرَفِهِ، فكلتاهما صفتان.
وعلى هذا نقول: إن اليدين لهما صفتان في الرَّفْعِ والسُّجود والجلوس.
في الرفع: حَذْوَ المَنكبين، أو فُروع الأذنين.
في السجود: حَذْوَ المَنكبين أو أن يسجدَ بينهما.
في الجلوس: إمَّا أن يجعلَهما على الفخذين، أو على الرُّكبتين، فاليُمنى على حَرْفِ الفخذِ، واليُسرى تُلْقَم الرُّكبة.

يَقْبِضُ خِنْصَرَ يَدِهِ الْيُمْنَى وَبنْصَرَهَا، وَيُحَلِّقُ إبْهَامَهَا مَعَ الْوُسْطَى، ويُشِيرُ بِسبَّابَتِهَا في تَشَهُّدِهِ ............
قوله: «يقبض خنصر يده اليمنى وبنصرها، ويحلق إبهامها مع الوسطى» الخنصر: الأصبع الأصغر، والبنصر: الذي يليه، والوسطى: هي التي تلي البنصر، ويُحَلِّقُ الإبهامَ مع الوسطى، وتبقى السَّبَّابةُ مفتوحةً لا يضمُّها.وهذه صفة أيضاً، واقتصار المصنِّف ـ رحمه الله ـ عليها لا يسلتزم نفي ما عداها، وهناك صفة أخرى؛ بأن يضمَّ الخنصرَ والبنصرَ والوسطى، ويضمَّ إليها الإبهامَ وتبقى السَّبَّابةُ مفتوحةً، فهاتان أيضاً صفتان في كيفية أصابع اليد اليُمنى.
قوله: «ويشير بسبابتها» أي: يشير بسبَّابته إلى أعلى.
والسَّبَّابة: ما بين الإبهام والوسطى، وسُمِّيت سَبَّابة، لأن الإنسان يُشيرُ بها عند السَّبِّ، وتُسَمَّى أيضاً سَبَّاحة، لأنه يُسَبَّح بها اللَّهُ عزّ وجل؛ لأنه يُشيرُ بها عند تسبيح الله.
قوله: «في تشهده» : «في» للظَّرفية، والظَّرفُ أوسعُ مِن المظروف، فهل المراد: يُشيرُ بها في تشهُّدِه مِن حين ما يبدأ إلى أن ينتهي، أو المراد: يُشيرُ بها في تشهُّدِه في موضع الإشارة؟
كلامُ المؤلِّف فيه احتمال، لكن غيره بَيَّنَ أنه يُشيرُ بها عند وجودِ سبب الإشارة. وما هو سبب الإشارة؟
سببُهُ ذِكْرُ الله، واختلف الفقهاءُ في معنى كلمة «ذِكْر الله» فقيل: عند ذِكْرِ الجلالة، وعلى هذا؛ فإذا قلت: التحيات لله ـ تُشِيرُ، السَّلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله ـ تُشِيرُ، السَّلام علينا وعلى عباد الله ـ تُشِيرُ، أشهد أنْ لا إله إلا الله ـ تُشِيرُ، هذه أربع مرَّات في التشهُّدِ الأول. اللَّهم صَلِّ ـ خَمْس؛ لأن «اللهم» أصلُها «يآلله»، ـ اللَّهُمَّ بارك ـ سِتٌّ، أعوذ بالله مِن عذاب جهنم ـ سبع.
وقيل: المراد بذِكْرِ الله: الذِّكْر الخاصُّ وهو «لا إله إلا الله»، وعلى هذا؛ فلا يُشيرُ إلا مَرَّةً واحدةً، وذلك عندما يقول: أشهد أنْ لا إله إلا الله.
هذا اختلاف الفقهاء، ولكن السُّنَّة دَلَّت على أنه يُشير بها عند الدعاء فقط لأن لفظ الحديث: «يُحرِّكُها يدعو بها» وقد وَرَدَ في الحديث نَفْيُ التَّحريك وإثباتُ التحريك. والجمعُ بينهما سهل: فنفيُ التَّحريك يُراد به التَّحريكُ الدَّائم، وإثباتُ التَّحريك يُراد به التَّحريكُ عند الدُّعاء، فكلما دعوت حرِّكْ إشارة إلى علوِّ المدعو سبحانه وتعالى، وعلى هذا فنقول:
«السلام عليك أيُّها النبيِّ» فيه إشارة؛ لأن السَّلامَ خَبَرٌ بمعنى الدُّعاءِ، «السَّلامُ علينا» فيه إشارة، «اللهم صَلِّ على محمَّد» فيه إشارة، «اللهم بارك على محمَّد» فيه إشارة، «أعوذ بالله من عذاب جهنَّم» فيه إشارة، «ومِن عذاب القبر» فيه إشارة، «ومِن فتنة المحيا والممات» فيه إشارة، «ومِن فتنة المسيح الدَّجَّال» فيه إشارة، وكُلَّما دعوت تُشيرُ إشارةً إلى عُلُوِّ مَنْ تدعوه سبحانه وتعالى، وهذا أقربُ إلى السُّنَّة.

وَيَبْسُطُ الْيُسْرَى،.............
قوله: «ويبسط اليسرى» يعني: أصابعها على الفخذِ الأيسر؛ لأنه قال في الأول: «ويداه على فخذيه».

وَيَقُولُ: «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، ...........
قوله: «ويقول: التحيات لله...» يقول بلسانه متدبِّراً ذلك بقلبه وهل يُشترطُ أن يُسمعَ نفسَه؟
فيه خِلافٌ سَبَقَ ذِكْرُه. أمَّا المذهبُ فيُشترط أن يُسمعَ نفسَه في الفاتحة، وفي كُلِّ ذِكْرٍ واجبٍ.
قوله: «التحيات لله» التحيات: جمع تحيَّة، والتحيَّة هي: التَّعظيم، فكلُّ لَفْظٍ يدلُّ على التَّعظيم فهو تحيَّة، و«الـ» مفيدة للعموم، وجُمعت لاختلاف أنواعها، أما أفرادها فلا حدَّ لها، يعني: كُلَّ نوع من أنواع التَّحيَّات فهو لله، واللام هنا للاستحقاق والاختصاص؛ فلا يستحقُّ التَّحيَّات على الإطلاق إلا الله عزّ وجل.
ولا أحد يُحَيَّا على الإطلاق إلا الله، وأمَّا إذا حَيَّا إنسانٌ إنساناً على سبيل الخصوص فلا بأس به.
لو قلت مثلاً: لك تحيَّاتي، أو لك تحيَّاتُنَا، أو مع التحيَّة، فلا بأس بذلك، قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} الآية [النساء: 86] لكن التَّحيَّات على سبيل العموم والكمال لا تكون إلا لله عزّ وجل.
فإذا قال قائل: هل اللَّهُ بحاجة إلى أن تحييه؟
فالجواب: كلاَّ؛ لكنه أهْلٌ للتعظيم، فأعظِّمه لحاجتي لذلك لا لحاجته لذلك، والمصلحة للعبد قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] .
قوله: «والصلوات» أي: لله، وهو شاملٌ لكلِّ ما يُطلق عليه صلاة شرعاً أو لُغةً، فالصَّلوات كلُّها لله حقًّا واستحقاقاً، لا أحد يستحقُّها؛ وليست حقًّا لأحد سوى الله عزّ وجل، والدُّعاءُ أيضاً حقٌّ واستحقاق لله عزّ وجل كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ *} [غافر] فكلُّ الصلوات فرضُها ونفلُها لله، وكُلُّ الأدعية لله.
قوله: «والطيبات» . الطيبات لها معنيان:
المعنى الأول: ما يتعلَّق بالله.
المعنى الثاني: ما يتعلَّق بأفعال العباد.
فما يتعلَّق بالله فله مِن الأوصاف أطيبها، ومِن الأفعال أطيبها، ومن الأقوال أطيبها، قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله طيب، لا يَقبلُ إلا طيباً...» يعني: لا يقول إلا الطيب، ولا يَفعلُ إلا الطَّيب، ولا يتَّصفُ إلا بالطيب، فهو طيب في كُلِّ شيء؛ في ذاته وصفاته وأفعالِه.
وله أيضاً مِن أعمال العباد القولية والفعلية الطَّيبُ ، فإن الطَّيبَ لا يليقُ به إلا الطَّيب ولا يقدم له إلا الطيب، وقد قال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] فهذه سُنَّةُ الله عزّ وجل.
فهل أنت أيُّها المصلِّي تستحضر حين تقول «الطيبات لله» هذه المعاني، أو تقولها على أنها ذِكْرٌ وثناء؟
أغلبُ النَّاسِ على الثاني، لا يستحضر عندما يقول: «الطيبات» أن الله طيِّب في ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه وأقوالِه، وأنه لا يليقُ به إلا الطَّيب مِن الأقوال والأفعال الصَّادرة مِن الخَلْقِ.
وضدُّ الطَّيِّب شيئان: الخبيث، وما ليس بطيب ولا خبيث؛ لأن الله سبحانه له الأوصاف العُليا {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم: 27] فلا يُمكنُ أن يكون في أوصافه أو أفعاله أو أقواله ما ليس بطيب ولا خبيث، بل كُلُّ أفعالِه وأقوالِه وصفاتِه كلُّها طيبة.
أما ما يصدرُ مِن الخَلْق؛ فمنه ما هو طيِّبٌ، ومنه ما هو خبيثٌ، ومنه ما ليس كذلك، لكن ما الذي يَصعد إلى الله ويُرفع إلى الله؟
الجواب: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وما ليس بطيِّبٍ فهو إلى الأرض، لا يصعدُ إلى السَّماءِ.
قوله: «السلام عليك» «السَّلام» قيل: إنَّ المراد بالسَّلامِ: اسمُ الله عزّ وجل؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ اللَّهَ هو السَّلامُ» كما قال عزّ وجل في كتابه: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ} [الحشر: 23] وبناءً على هذا القول يكون المعنى: أنَّ الله على الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم بالحِفظ والكَلاءة والعناية وغير ذلك، فكأننا نقول: اللَّهُ عليك، أي: رقيب حافظ مُعْتَنٍ بك، وما أشبه ذلك.
وقيل: السلام: اسم مصدر سَلَّمَ بمعنى التَّسليم كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فمعنى التسليم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم: أننا ندعو له بالسَّلامة مِن كُلِّ آفة.
إذا قال قائل: قد يكون هذا الدُّعاء في حياته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ واضحاً، لكن بعد مماته كيف ندعو له بالسَّلامةِ وقد مات صلّى الله عليه وسلّم؟
فالجواب: ليس الدُّعاءُ بالسَّلامة مقصوراً في حال الحياة، فهناك أهوال يوم القيامة، ولهذا كان دعاء الرُّسل إذا عَبَرَ النَّاسُ على الصِّراط: «اللَّهُمَّ، سَلِّمْ؛ سَلِّمْ»، فلا ينتهي المرءُ مِن المخاوف والآفات بمجرد موته.
إذاً؛ ندعو للرَّسول صلّى الله عليه وسلّم بالسَّلامةِ من هول الموقف، ونقول أيضاً: قد يكون بمعنى أعم، أي: أنَّ السَّلامَ عليه يشمَلُ السَّلامَ على شرعِه وسُنَّتِهِ، وسلامتها من أن تنالها أيدي العابثين؛ كما قال العلماءُ في قوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] قالوا: إليه في حياته، وإلى سُنَّتِهِ بعد وفاته.

السَّلامُ عَلَيْك أيُّهَا النَّبيُّ ............
وقوله: «السلام عليك» هل هو خَبَرٌ أو دعاءٌ؟ يعني: هل أنت تخبر بأن الرسولَ مُسَلَّمٌ، أو تدعو بأن الله يُسلِّمُه؟
الجواب: هو دُعاءٌ تدعو بأنَّ الله يُسلِّمُه، فهو خَبَرٌ بمعنى الدُّعاء قوة رجاء الإجابة أمرٌ واقع.
ثم هل هذا خطاب للرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كخطابِ النَّاسِ بعضهم بعضاً؟
الجواب: لا، لو كان كذلك لبطلت الصَّلاة به؛ لأن هذه الصلاة لا يصحُّ فيها شيء من كلام الآدميين. ولأنَّه لو كان كذلك لجَهَرَ به الصَّحابةُ حتى يَسمعَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، ولردَّ عليهم السَّلام كما كان كذلك عند ملاقاتِهم إيَّاه، ولكن كما قال شيخ الإسلام في كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم»: لقوَّة استحضارك للرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام حين السَّلامِ عليه، كأنه أمامك تخاطبه.
ولهذا كان الصَّحابةُ يقولون: السلام عليك، وهو لا يسمعهم، ويقولون: السلام عليك، وهم في بلد وهو في بلد آخر، ونحن نقول: السلام عليك، ونحن في بلد غير بلده وفي عصر غير عصره.
وأمّا ما وَرَدَ في «صحيح البخاري» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنهم كانوا يقولون بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «السَّلامُ على النَّبيِّ ورحمة الله وبركاته» فهذا مِن اجتهاداتِه رضي الله عنه التي خالَفه فيها مَنْ هو أعلمُ منه؛ عُمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه، فإنه خَطَبَ النَّاسَ على مِنبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال في التشهُّدِ: «السَّلامُ عليك أيُّها النبيُّ ورحمة الله» كما رواه مالك في «الموطأ» بسَنَدٍ من أصحِّ الأسانيد، وقاله عُمرُ بمحضر الصَّحابة رضي الله عنهم وأقرُّوه على ذلك.
ثم إن الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ علَّمه أمَّته، حتى إنه كان يُعَلِّم ابنَ مسعود، وكَفُّه بين كفَّيه من أجل أن يستحضر هذا اللَّفظَ، وكان يُعلِّمُهم إيَّاه كما يُعلِّمُهم السُّورة من القرآن، وهو يعلم أنه سيموت؛ لأن الله قال له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ *} [الزمر] ولم يقلْ: بعد موتي قولوا: السَّلامُ على النَّبيِّ، بل عَلَّمَهم التشهُّدَ كما يُعلِّمُهم السُّورةَ من القرآن بلفظها. ولذلك لا يُعَوَّلُ على اجتهاد ابن مسعود، بل يُقال: «السَّلامُ عليك أيُّها النبيُّ».
قوله: «أيُّها النبيُّ» مُنادى حُذفت منه ياء النداء، والأصل: يا أيها النبيُّ، وحُذفت ياء النداء لكثرة الاستعمال والتخفيف، والبداءة بالكناية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ويُقال: النَّبيءُ بالهمزة، ويقال: النَّبيُّ بتشديد الياء بدون همزة.
أمّا إذا قيل: النبيءُ بالهمزة، فهو فعيل مِن النبأ بمعنى الخَبَر، لكنه فعيل، بمعنى فاعل ومفعول؛ لأنه منبئ ومنبأ.
وأما إذا قيل: النَّبيُّ بتشديد الياء بلا همز، فإما أن تكون أصلها مهموزاً وحُذفت الهمزة تخفيفاً، وإمَّا أن تكون من «النَّبْوَة» وهي الارتفاع وسُمِّيَ بذلك لارتفاع رُتبته صلّى الله عليه وسلّم.
فإن قيل: ألا يمكن أن نقول بأنها النَّبي بالياء من الأمرين جميعاً من النَّبْوَة وهو الارتفاع، ومن النبأ وهو الخبر؟
فالجواب: يمكن، لأن القاعدة: أن اللفظ إذا احتمل معنيين لا يتنافيان ولا مُرَجِّح لأحدهما على الآخر؛ حُمل عليهما جميعاً. ولا شَكَّ أن الرسولَ صلّى الله عليه وسلّم مقامُه أرفع المقامات وأنه منبأ ومنبئ.

وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، ...........
قوله: «ورحمة الله» «رحمة» معطوفة على «السَّلام عليك» يعني: ورحمة الله عليك، فيكون عطف جملة على جملة والخبر محذوف، ويجوز أن يكون مِن باب عطف المفرد على المفرد، فلا يحتاج إلى تقدير الخبر.
والرحمة إذا قُرنت بالمغفرة أو بالسَّلامِ صار لها معنى، وإن أُفردت صار لها معنى آخر، فإذا قُرنت بالمغفرة، أو بالسلام صار المراد بها: ما يحصُل به المطلوب، والمغفرة والسلام: ما يزول به المرهوب، وإن أُفردت شملت الأمرين جميعاً، فأنت بعد أن دعوت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسَّلام دعوت له بالرَّحمة؛ ليزول عنه المرهوب ويحصُل له المطلوبُ.
فإن قال قائل: لماذا بدأ بالسَّلام قبل الرحمة؟
فالجواب: أنَّ التَّخلية قبل التحلية.
فالتخلية: السَّلامة من النقائص، والتَّحلية: ذِكْرُ الأوصاف الكاملة، فنبدأ بطلب السلامة أولاً، ثم بطلب الرحمة.
قوله: «وبركاته» جمع بَرَكَة، وهي الخير الكثير الثَّابت، لأن أصلها من «الْبِرْكة» بكسر الباء «والْبِرْكة» مجتمع الماء الكثير الثابت.
والْبَرَكَةُ هي: النَّمَاءُ والزِّيادة في كلِّ شيء من الخير، فما هي البركات التي تدعو بها للرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد موته؟ ففي حياته ممكن أن يُبارك له في طعامه، في كسوته، في أهله، في عمله.
فأما البَرَكة بعد موته: فبكثرة أتباعه وما يتبع فيه، فإذا قَدَّرنا أن شخصاً أتباعه مليون رَجُل، وصار أتباعه مليونين فهذه بَرَكَة.
وإذا قَدَّرْنا أن الأتباع يتطوَّعون بعشر ركعات، وبعضهم بعشرين ركعة صار في الثاني زيادة.
إذاً؛ نحن ندعو للرسول صلّى الله عليه وسلّم بالبَرَكَة وهذا يستلزم كَثْرَة أتباعه، وكَثْرَة عمل أتباعه؛ لأنّ كلَّ عمل صالح يفعلهُ أتباع الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فله مثل أجورهم إلى يوم القيامة.
وأقول استطراداً: إن هذا أحد الأوجه التي يُرَدُّ بها على من يهدون ثواب القُرَب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن بعض المحبِّين للرَّسُول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يهدون إليه القُرَب؛ كالختمة والفاتحة على روح محمَّد كما يقولون وما أشبه ذلك، فنقول: هذا من البدع ومن الضلال. أسألك أيُّها المُهْدي للرسول عبادة، هل أنت أشدُّ حُبًّا للرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من أبي بكر وعُمر وعُثمان وعليّ؟
إن قال: نعم، قلنا: كذبت، ثم كذبت، ثم كذبت، ثم كذبت. وإن قال: لا، قلنا: لماذا لم يُهْدِ أبو بكر والخلفاء بعده للرسول صلّى الله عليه وسلّم ختمة ولا فاتحة ولا غيرها؟ فهذا بدعة. ثم إن عملك الآن وإن لم تُهْدِ ثوابه سيكون للرَّسول صلّى الله عليه وسلّم مثله. فإذا أهديت الثَّوابَ، فمعناه أنك حرمت نفسك من الثواب فقط، وإلاَّ فللرسول صلّى الله عليه وسلّم مثل عملك أهديت أم لم تُهْدِ.

السَّلامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، ..........
قوله: «السلام علينا» . نقول في السلام كما قلنا في الأول.
وأما علينا فـ«نا» لا شَكَّ أنه لا يُراد بها الشخص نفسه فقط، وإنما يُراد بها الشَّخص ومَن معه، فمن الذي معه؟
قيل: المصلُّون. وقيل: الملائكة. وقيل: المراد جميع الأُمَّة المحمَّدية. وهذا القول الأخير أصحُّ، فكما دعونا لنبينا محمَّد عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالسَّلامِ؛ ندعو أيضاً لأنفسنا بالسَّلام؛ لأننا أتباعه.
قوله: «وعلى عباد الله الصالحين» . هذا تعميم بعد تخصيص؛ لأن عباد الله الصالحين هم كُلُّ عبدٍ صالح في السماء والأرض؛ حيّ أو ميِّت من الآدميين والملائكة والجِنِّ.
وعباد الله هم الذين تعبَّدوا لله: أي تذلَّلوا له بالطاعة امتثالاً للأمر واجتناباً للنهي، وأفضل وَصْفٍ يتَّصف به الإنسان هو أن يكون عبداً لله، ولهذا ذَكَرَ اللهُ وَصْفَ رسوله بالعبودية في أعلى مقاماته.
في الإسراء {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء: 1] والمعراج {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} [النجم: 10] ، والإسراء والمعراج مِن أفضل ما يكون من المقامات للرسول صلّى الله عليه وسلّم.
ووَصَفَهُ بذلك في مقام الدِّفاع عنه {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] .
ووَصَفَهُ بذلك في مقام التنزيل عليه {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] .
فالحاصل: أن أشرف وصف للإنسان أن يكون عبداً لله ـ أسأل الله أن يحقِّق ذلك لعباده المؤمنين ـ لا عبداً لهواه، إذا سَمِعَ أَمْرَ رَبِّه قال: سمعنا وأطعنا، وإذا سَمِعَ نهيه، قال: سمعنا وَتَجَنَّبْنَا، وإذا سَمِعَ خبراً قال: سمعنا وصدَّقنا وقبلنا.
وعباد الله الصالحون هم الذين صَلُحتْ سرائرُهم وظواهرُهم.
فصلاح السرائر: بإخلاص العبادة لله، والظَّواهر: بمتابعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
هؤلاء هم الصَّالحون، وضِدُّ ذلك عباد الله الفاسدون، إما بالسَّرائر، وإما بالظَّواهر، فالمشركُ فاسدُ السَّريرة، والمبتدعُ فاسدُ الظَّاهر؛ لأنَّ بعض المبتدعة يريد الخيرَ، لكنه فاسدُ الظَّاهر لم يمشِ على الطَّريق الذي رَسَمَهُ رسولُ الله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
والمشركُ فاسدُ الباطن، ولو عَمِلَ عملاً ظاهرُه الصِّحة والصَّلاح مثل المرائي.
مسألة: هل هناك عباد لله فاسدون؟
نعم؛ كُلُّ مَنْ في السماوات والأرض فهم عباد لله بالعبودية الكونية كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا *} [مريم] ، فالكُفَّار عبيد لله، بالعبودية الكونية القدرية؛ لا بالعبودية الشرعية.

أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ، ...........
قوله: «أشهد أن لا إله إلا الله» . الشهادة هي الخبر القاطع، فهي أبلغ مِن مجرد الخبر. لأن الخبر قد يكون عن سماع، والشهادة تكون عن قَطْعٍ، كأنما يشاهد الإنسانُ بعينيه ما شَهِدَ به.
تنبيه: يقول بعض الناس: «أشهد أنَّ لا إله إلا الله» بتشديد «أنّ»، وهذا خطأ من حيث اللغةُ العربيةُ، لأن «أنَّ» لا تكون بمثل هذا التركيب، والتي تكون بمثل هذا التركيب «أنْ» المخفَّفة مِن الثقيلة وجملة «لا إله إلا الله» في مَحلِّ رَفْعِ خبرها، واسمُها ضمير الشأن محذوف وجوباً.
إذاً؛ النُّطقُ الصحيحُ: أشهد أنْ لا إله إلا الله، بتخفيف «أنْ».
و«لا إله إلا الله» كلمةُ التوحيد التي بعثَ اللهُ بها جميعَ الرُّسلِ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *} [الأنبياء] ، وبها يكون تحقيق توحيد الألوهية، وإن شئت فقل: تحقيق توحيد العِبادة، وهما بمعنى واحد، لكن يُسمَّى توحيدُ الألوهية باعتبار إضافته إلى الله، وتوحيد العِبادة باعتبار إضافته إلى العبد.
ومعنى «لا إله إلا الله»: أي: لا معبود حقٌّ إلا الله، وفَسَّرْناها بهذا التفسير؛ لأن «إله» فِعَال بمعنى مفعول، والمألوه: هو المعبود حُبًّا وتعظيماً وخبر «لا» محذوف والتقدير: لا إله حَقٌّ إلا الله، و«الله» بدل مِن الخبر المحذوف، ومعنى هذه الجملة العظيمة: أنه لا معبود حقٌّ سوى الله عزّ وجل، أما المعبود بغير حقٍّ فليس بإله حقاً وإنْ سُمِّيَ إلهاً، ولهذا قال الله عزّ وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان: 30] ، وفي الآية الأخرى: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62] ، ولا بطلان أعظم مِن بطلانه، وقال الله تعالى يخاطب الذين يعبدون مِن دون الله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] ، وليست حقائق بل هي مجرَّد أسماء.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».
قوله: «وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» ، سبق معنى «أشهد».
وأما «محمد» فهو محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، بَعَثَهُ اللَّهُ عزّ وجل بمكَّة أمِّ القرى، وأحبِّ البلاد إلى الله، وهاجر إلى المدينة، وتُوفِّي فيها صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: «عبده» أي: العابد له، وليس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شَرِكَةٌ في مِلْكِ الله أبداً، وهو بَشَرٌ مثلُنا تميَّز عنا بالوحي، وبما جَبَلَه الله عليه مِن العبادة والأخلاق العظيمة. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] .
قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّما أنا بَشَرٌ مثلُكم، أنسَى كما تَنْسَون» وأمَرَه اللَّهُ تعالى أن يقول: {لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] .
وقال له في آية أخرى: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا *قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا *} [الجن] ، يعني: لو أرَادَ اللَّهُ به سوءاً ما مَنَعَه أحدٌ، فهو عَبْدٌ مِن العباد، وهو صلّى الله عليه وسلّم أشدُّ الناسِ خشيةً لله، وأقومهم تعبّداً لله، حتى إنه كان يقوم لله عزّ وجل حتى تتورَّمَ قدماه، فيُقال له: لقد غَفَرَ الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر. فيقول: «أفلا أكون عَبْداً شكوراً».
وقوله: «ورسولُهُ» أي: مُرْسَلُهُ، أرسله الله عزّ وجل وجعله واسطة بينه وبين الخَلْق في تبليغ شرعه فقط، إذْ لولا رسول الله ما عرفنا كيف نعبد الله عزّ وجل، فكان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ رسولاً مِن الله إلى الخَلْقِ، ونِعْمَ الرسول، ونِعْمَ المرسِل، ونعم المرسَل به، فالنبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو رسولٌ مرسلٌ مِنَ الله، وهو أفضل الرُّسل، وخاتمهم، وإمامهم، ولهذا لما جُمِعُوا له ليلة المعراج تقدَّمهم إماماً مع أنه آخرهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وعُلِمَ من هذين الوصفين للرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ العبودية والرسالة ـ ضلالُ طائفتين ضَلَّتا فيه.
الطائفة الأولى: ظَنَّتْ أنَّ له حقًّا في الرُّبوبية، فصارت تدعو الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وصار تعظيمُه في قلوبهم أشدَّ مِن تعظيم الله ـ نعوذ بالله ـ حتى إنه إذا ذُكِرَ الرَّسولُ اقشعرت جلودهم؛ ثم تلين كأنما ذكر الله.
وإذا ذُكِرَ الله فإنما هو كالماء البارد على جلودهم لا يتحرَّكون، فهؤلاء أشركوا بالله حيث ساووا الرَّسولَ بالله بل جعلوه أعظم مِن الله عزّ وجل.
الطائفة الثانية: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 24] وإمَّا أنه كاذب في تعميم الرِّسالة كما يقول النَّصارى الذين يداهنون المسلمين، وانخدعَ بهم بعضُ العرب قالوا: محمدٌ رسولُ الله لكن إلى العرب فقط. ولبَّسوا على النَّاسِ بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة: 2] وهم يقولون: نحن لسنا بأميين، نحن مِن بني إسرائيل مِن أهل الكتاب.
والنصارى يقولون: رسولنا عيسى، ويَغْلُون به حتى جعلوه إلهاً مع الله.
واليهود يقولون: عيسى كاذبٌ ابن زانية ـ والعياذ بالله ـ مقتولٌ مصلوبٌ، ونبيهم موسى.
وعلى كُلٍّ؛ نقول لمن ادعى خصوصية رسالة الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام في العرب: هل تؤمن بأنه رسول؟
إذا قال: نعم، نقول: هل الرسول يكذب؟
إنْ قال: نعم، بطلت شهادتُه، فالرَّسولُ لا يكذب، وإنْ قال: لا، قلنا: اقرأ قولَ الله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *} [الأعراف] . أما أن تُلبِّس وتأتي بآيات متشابهة فإنك أحقُّ مَنْ يدخلُ في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] .

هذا التَّشَهُّدُ الأوَّلُ،............
قوله: «هذا التشهد الأول» هذا المشار إليه ما ذُكِرَ مِن قوله: «التحيات» إلى قوله «وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله». وقوله: «التشهُّدُ الأول» يعني: في الثلاثية والرباعية.
واعْلَمْ أن الأحاديث وَرَدَتْ في التشهُّدِ على أكثر من وَجْهٍ، فما موقفنا مِن هذه الوجوه؟
الجواب: أنَّ العلماء رحمهم الله اختلفوا في مثل هذه الوجوه، وهذا بعد أن نعلم أنه لا يمكن جَمْع الذِّكْرَين في آنٍ واحدٍ، أمَّا إذا كان يُمكن أن نجمعهما في آنٍ واحدٍ فجمعُهما أولى، إلا إذا كان هناك قرينة تدلُّ على أن كلَّ واحد منهما يُقال بمفرده كما في دعاء الاستفتاح. فالتشهُّدُ عَلَّمَه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَبدَ الله بن مسعود، وعَلَّمَه عبدَ الله بن عبَّاس. وحديث عبد الله بن مسعود في «الصحيحين»، وحديثُ عبدِ الله بن عبَّاس في «مسلم» وكلاهما صحيح، وليس بينهما إلا اختلاف يسير مما يدلُّنا على أن كلَّ واحد منهما يُقال بمفرده، وأن هذا الاختلاف اليسير مما جاءت به السُّنَّةُ.
وقد سَبَقَ ذِكْرُ الخِلافِ والتفصيل في العبادات الواردة على وجوه متنوِّعةٍ عند الكلام على رَفْعِ اليدين عند تكبيرة الإحرام.
مسألة: ظاهر كلام المؤلِّف أنه لا يزيد في التشهُّدِ الأولِ على ما ذَكَرَ. وعلى هذا؛ فلا يستحبُّ أن تُصلِّيَ على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في التشهُّد الأوَّل، وهذا الذي مشى عليه المؤلِّف ظاهرُ السُّنَّة، لأنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يُعلِّم ابنَ مسعود وابنَ عباس إلا هذا التشهُّد فقط، وقال ابنُ مسعود: «كُنَّا نقولُ قبلَ أن يُفرضَ علينا التشهُّدِ» وذكر التشهد الأول فقط؛ ولم يَذكرِ الصَّلاةَ على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في التشهُّدِ الأول. فلو كان سُنَّةً لكان الرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يعلِّمهم إيَّاه في التشهُّدِ.
وأما قولهم: «يا رسولَ الله، أمَّا السَّلامُ عليك فقد عَرفنَاه، فكيف نُصَلِّي عليك إذا نحن صَلَّينا عليك في صلاتِنا؟»، فهو سؤال عن الكيفيَّة وليس فيه ذِكْرُ الموضع، وفَرْقٌ بين أن يُعَيَّنَ الموضع أو تُبَيَّنَ الكيفيَّة، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد»: كان من هدي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم تخفيف هذا التشهد جدًّا، ثم ذَكَرَ الحديث أنه كان كأنَّما يجلس على الرَّضْفِ ـ يعني: الحجارة المحمَّاة ـ من شِدَّة تعجيله، وهذا الحديث وإن كان في سنده نظر، لكن هو ظاهر السُّنَّة، أي: أنه لا يزيد على هذا، وفي «صحيح ابن خزيمة»: «أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا كان في وَسَطِ الصَّلاة نَهَضَ حين يفرُغ من تشهُّدِه، وإنْ كان في آخرها دعا بعد تشهُّدِه بما شاء الله أن يدعوَ، ثم يُسلّم».
ومع ذلك لو أن أحداً مِن النَّاس صَلَّى على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في هذا الموضع ما أنكرنا عليه، لكن لو سألنا أيُّهما أحسن؟ لقلنا: الاقتصار على التشهُّدِ فقط، ولو صَلَّى لم يُنْهَ عن هذا الشيء؛ لأنه زيادة خير، وفيه احتمال، لكن اتباع ظاهر السُّنَّة أَولى.

ثم يقول: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ .........
قوله: «ثم يقول» أي: بعد التشهد الأول «اللهم» معناها: يا الله. لكن حُذفت ياء النداء، وعُوِّضَ عنها الميم، وجُعِلت الميم في الآخر تيمُّناً بالبداءة باسم الله عزّ وجل، وكانت ميماً ولم تكن جيماً ولا حاءً ولا خاءً، لأن الميم أدلُّ على الجَمْعِ، ولهذا تجتمع الشفتان فيها، فكأن الدَّاعي جمع قَلْبَه على رَبِّه ودعا وقال: اللَّهُمَّ.
إعراب «اللَّهُمَّ»: «الله» منادى مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ نصب. ومعنى «الله»: أي: ذو الألوهية الذي يألهه كلُّ مَن تعبَّد له سبحانه وتعالى.
قوله: «صلِّ على محمد» قيل: إنَّ الصَّلاةَ مِن الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدُّعاء.
فإذا قيل: صَلَّتْ عليه الملائكة، يعني: استغفرت له.
وإذا قيل: صَلَّى عليه الخطيبُ يعني: دعا له بالصلاة.
وإذا قيل: صَلَّى عليه الله، يعني: رحمه.
وهذا مشهورٌ بين أهل العلم، لكن الصحيح خِلاف ذلك، أن الصَّلاةَ أخصُّ من الرحمة، ولذا أجمع المسلمون على جواز الدُّعاء بالرحمة لكلِّ مؤمن، واختلفوا: هل يُصلَّى على غير الأنبياء؟ ولو كانت الصَّلاةُ بمعنى الرحمة لم يكن بينهما فَرْقٌ، فكما ندعو لفلان بالرحمة نُصلِّي عليه.
وأيضاً: فقد قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] فعطف «الرحمة» على «الصلوات» والعطفُ يقتضي المغايرة فتبيَّن بدلالة الآية الكريمة، واستعمال العلماء رحمهم الله للصلاة في موضع، والرحمة في موضع أن الصَّلاة ليست هي الرحمة.
وأحسن ما قيل فيها: ما ذكره أبو العالية ـ رحمه الله ـ أنَّ صلاةَ الله على نبيه: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
فمعنى «اللَّهمَّ صَلِّ عليه» أي: أثنِ عليه في الملأ الأعلى، أي: عند الملائكة المقرَّبين.
فإذا قال قائل: هذا بعيد مِن اشتقاق اللفظ، لأن الصَّلاة في اللُّغة الدُّعاء وليست الثناء.
فالجواب على هذا: أن الصلاة أيضاً من الصِّلَة، ولا شَكَّ أن الثناء على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الملأ الأعلى من أعظم الصِّلات؛ لأن الثناء قد يكون أحياناً عند الإنسان أهمُّ من كُلِّ حال، فالذِّكرى الحسنة صِلَة عظيمة.
وعلى هذا؛ فالقول الرَّاجح: أنَّ الصَّلاةَ عليه تعني: الثناء عليه في الملأ الأعلى.
وقوله: «على محمَّد» قد يقول قائل: لماذا لم يقلْ على النبيِّ أو على نبيك محمَّد، وإنما ذَكَرَه باسمه العَلَم فقط.
الجواب: أنَّ هذا من باب الخبر، والخبر أوسع من الطَّلب.
قوله: «وعلى آل محمَّد» . أي: وصَلِّ على آل محمَّد.
وآل محمد، قيل: إنهم أتباعه على دينه؛ لأن آل الشخص: كلُّ مَنْ ينتمي إلى الشخص، سواءٌ بنسب، أم حمية، أم معاهدة، أم موالاة، أم اتِّباع كما قال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] .
فيكون «آله» هم أتباعُه على دينِهِ.
وقيل: «آل النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم» قرابته المؤمنون، والقائل بذلك خَصَّ القرابة المؤمنين، فخرج بذلك سائر الناس، وخَرَجَ بذلك كُلُّ مَن كان كافراً مِن قرابة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ولكن الصحيح الأول، وهو أن الآل هم الأتباع، لكن لو قُرِنَ «الآل» بغيره فقيل: على محمد وآله وأتباعه. صار المراد بالآل المؤمنين مِن قرابته.

كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ...........
قوله: «كما صَلَّيت على آل إبراهيم» هل الكاف هنا للتشبيه أو للتعليل؟
الجواب: أكثر العلماء يقولون: إنها للتشبيه، وهؤلاء فتحوا على أنفسهم إيراداً يحتاجون إلى الجواب عنه، وذلك بأن القاعدة أن المشبَّه دون المُشبَّه به، وعلى هذا؛ فأنت سألت اللَّهَ صلاةً على محمَّدٍ وآله دون الصَّلاة على آل إبراهيم؟ ومعلومٌ أنَّ محمداً وآله أفضل مِن إبراهيم وآله، فلذلك حصل الإشكال؛ لأن هذا يعارض القاعدة المتفق عليها وهي: أن المشبَّه أدنى من المشبَّه به.
وأجابوا عن ذلك بأجوبة.
فقال بعض العلماء: إن آل إبراهيم يدخل فيهم محمَّد عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، لأنه من آله، فإبراهيم أبوه، فكأنه سُئل للرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الصَّلاة مرَّتين، مرَّة باعتبار الخصوص «اللهم صَلِّ على محمَّد»، ومرَّة باعتبار العموم «كما صَلَّيت على آل إبراهيم» ولكن هذا جواب فيه شيء، وليس بواضح.
وقال بعض العلماء: إنها للتعليل ـ أي: الكاف ـ وأنَّ هذا مِن باب التوسُّل بفعل الله السابق؛ لتحقيق الفعل اللاحق، يعني: كما أنك سبحانك سَبَقَ الفضلُ منك على آل إبراهيم؛ فألْحِقِ الفضلَ منك على محمد وآله، وهذا لا يلزم أن يكون هناك مشبَّه ومشبَّه به.
فإن قال قائل: وهل تأتي الكاف للتعليل؟
قلنا: نعم، تأتي للتعليل، استمعْ إليها من كلام العلماء، واستمعْ إلى مثالها.
قال ابن مالك:


شَبِّه بكافٍ وبها التَّعليل قد
=
يُعنى وزائداً لتوكيد وَرَدْ
فأفاد بقوله: «وبها التعليل قد يُعنى» أنه قد يُقصد بها التعليل.
وأمّا المثال فكقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ} [البقرة: 151] فإن الكاف هنا للتعليل لما سبق.
وكقوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] أي: لهدايتكم، وإن كان يجوز فيها التشبيه، يعني: واذكروه الذِّكرَ الذي هداكم إليه.
فهذا القول ـ أعني: أنَّ الكاف في قوله: «كما صَلَّيت» للتعليل من باب التوسل بالفعل السابق إلى تحقيق اللاحق ـ هو القول الأصحُّ الذي لا يَرِدُ عليه إشكال.

وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ،...........
قوله: «وبارك على محمَّد» أي: أنزل عليه البَرَكَةَ، ولهذا جاءت متعدِّية بعلى دون اللام، والبَرَكَة: مأخوذة من «البِرْكَة» وهو مجتمع الماء، ولا يكون إلا على وَجْهِ الكثرة والقرار والثبوت، وعليه فالبَرَكة كثرة الخيرات ودوامها واستمرارها، ويشمَلُ البَرَكَة في العمل والبَرَكة في الأثر.
أما البَرَكَة في العمل: فأن يُوفِّق الله الإنسان لعمل لا يُوفَّق له مَن نُزعت منه البَرَكة.
وأما البَرَكَة في الأثر: بأن يكون لعمله آثار جليلة نافعة ينتفع بها الناس، ولا شَكَّ أن بَرَكَة النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لا نظيرَ لها، وذلك لأن أمَّته أكثر الأمم، ولأن اجتهادهم في الخير أكثر من اجتهادِ غيرهم، فَبُورِكَ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فيمن اتبعَه، وبُورِكَ له في عَمَلِ من اتبعَه.
قوله: «وعلى آل محمد كَمَا باركت على آل إبراهيم» سَبَقَ أنَّ الآل إذا أُفرِدت تشمَلُ جميعَ الأتباعِ، فالمرادُ بآله أتباعه، وسَبَقَ الشَّاهدُ من كون الآل بمعنى الأتباع، وهو قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] يعني: أتباعه.
أما إذا قُرنت الآلُ بالأصحاب والأتباع؛ صار المرادُ بها المؤمنين مِن قرابتِه من بني هاشم، ومَن تفرَّع منهم؛ لأن الآل يشمَلُ إلى الجَدِّ الرابع.
ولا عَجَبَ أن يكون لِلَّفْظِ معنًى عند الانفراد، ومعنًى عند الاقتران، فالمسكين مثلاً والفقير بمعنى واحد عند الانفراد، ولكُلِّ واحدٍ منهما معنى عند الاقتران والاجتماع، والبِرُّ والتقوى كذلك؛ لكُلِّ واحدة منهما معنى عند الاقتران، ويتَّفق معناهما عند الافتراق.
والكاف هنا على القول الذي رجَّحناه فيما مضى في قوله: «كما صَلَّيت» للتَّعليل، وعلى هذا؛ فيكون ذِكْرُها مِن باب التوسُّلِ بفِعْلِ الله السَّابق إلى فِعْله اللاحق، كأنك تقول: كما أنك يا رَبِّ قد تفضَّلت على آل إبراهيم وباركت عليهم فبارك على آل محمَّد.
قوله: «إنك حميد مجيد» ، الجملة هذه استئنافية تفيد التَّعليل.
«حميد»: فعيل بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، فهو حامد ومحمود، حامد لعباده وأوليائه الذين قاموا بأمره، ومحمود يُحمدُ عزّ وجل على ما له من صفات الكمال، وجزيل الإنعام.
وأما «المجيد»: فهي فعيل بمعنى فاعل، أي: ذو المجد. والمجدُ هو: العظمة وكمالُ السُّلطان، ويُقال: «في كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ، واسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ».
هذا مثلٌ مشهور عند العرب، والمَرْخُ والعَفَار نوعان من الشَّجرِ في الحجاز معروفان، يعني: أنهما أسرعُ الشَّجرِ انقداحاً إذا ضربت بالزَّنْدِ، وإلا ففي كُلِّ الأشجار نار، كما قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس: 80] .

وَيَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ومنْ عَذابِ الْقَبْرِ ............
قوله: «ويستعيذ» أي: يقول: أعوذُ بالله مِن عذابِ جهنَّم، والعياذ: هو الالتجاء أو الاعتصام مِن مكروه، يعني: أن يعتصم بالله من المكروه.
واللِّياذ: أن تلجأ إليه لحصول المطلوب، كما قال الشاعرُ:

يا مَنْ ألُوذُ به فيما أُؤَمِّلُهُ
=
ومَنْ أعُوذُ به مِمَّا أُحَاذِرُهُ
=
لا يَجْبُرُ النَّاسُ عظماً أنت كاسِرُهُ
=
ولا يَهيضُونَ عظماً أنت جَابِرُهُ

فجعلَ اللِّياذ فيما يُؤمَّل، والعياذ فيما يُحذَرُ مِن الأشياء المكروهة.
وهذان البيتان لا يصلحان إلا للَّهِ تعالى، وإنْ كان قائلُهما يَمدحُ بهما مخلوقاً، فهما مِن شطحاتِ الشُّعراء.
قوله: «من عذاب جهنم» أي: العذاب الحاصل منها، فالإضافة هنا على تقدير «من» فهي جنسيَّة كما تقول: خاتم حديد، أي: خاتم مِن حديد، ويحتمل أن تكون الإضافة على تقدير «في»، أي: عذابٌ في جهنم كما قال تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ} [سبأ: 33] أي: مكرٌ في الليل، والإضافة تأتي على تقدير «مِن» وعلى تقدير «في» وعلى تقدير «اللام» وهي الأكثر.
وقوله: «جهنم» عَلَمٌ على النَّارِ التي أعدَّها عزّ وجل للكافرين، قال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ *} [آل عمران: 131] ، وهذه النَّار وَرَدَ في صفاتها وصفات العذاب فيها في الكتاب والسُّنَّة ما تقشعِرُّ منه الجلودُ، والبحث فيها من عِدَّة وجوه.
الوجه الأول: هل هي موجودة الآن، أو ليست بموجودة؟
الجواب: هي موجودة؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم عُرضت عليه النَّارُ في صلاة الكسوف وهو يُصلِّي بالنَّاسِ، وكذلك في المعراج رأى النَّارَ أيضاً والقرآن يدلُّ على ذلك كما قال تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] والإعداد بمعنى: التهيئة والفعل ماضٍ، فيقتضي: أن الإعداد حاصل الآن.
الوجه الثاني: هل هي مؤبَّدة أو مؤمَّدة؟ يعني: هل تفنى أو هي دائمة أبد الآبدين؟
الجواب: المتعيِّن قطعاً أنها مؤبَّدة، ولا يكاد يُعرف عند السَّلفِ سوى هذا القول، ولهذا جَعَله العلماء مِن عقائدهم؛ بأن نؤمن ونعتقد بأن النار مؤبَّدة أبد الآبدين، وهذا أمرٌ لا شَكَّ فيه؛ لأن الله تعالى ذَكَرَ التأبيد في ثلاثة مَواضع مِن القرآن في سورة «النساء» في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا *} {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 168، 169] .
والثاني في سورة «الأحزاب» في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا *} {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب: 64، 65] .
والثالث في سورة «الجن» في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] ، ولو ذَكَرَ اللَّهُ عزّ وجل التأبيد في موضعٍ واحد لكفى، فكيف وهو قد ذَكَرَه في ثلاثة مواضعٍ؟ ومِن العجب أن فِئةً قليلة مِن العلماء ذهبوا إلى أنها تفنى بناءً على عِللٍ عَليلة؛ لمخالفتها لمقتضى الكتاب والسُّنَّة، وحَرَّفوا مِن أجلها الكتابَ والسُّنَّةَ فقالوا: إن {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ما دامت موجودة. فكيف هذا؟!!
إذا كانوا خالدين فيها أبداً لزم أن تكون هي مؤبَّدة، لأن قوله: {{فِيهَا}} أي: هم كائنون فيها، وإذا كان الإنسان خالداً مؤبَّداً تخليده لزم أن يكون مكان الخُلود مؤبَّداً، لأنه لو فَنِيَ مكانُ الخلود ما صَحَّ تأبيد الخُلود.
والتعليلات المخالفة للنصِّ مردودة على صاحبها، وهذا الخلاف الذي ذُكِرَ عن فِئةٍ قليلة مِن أهل العِلم خلافٌ مُطَّرَحٌ؛ لأنه مخالف للنصِّ الصَّريح الذي يجب على كُلِّ مؤمن أن يعتقده، ومَن خالفَه لشُبهة قامت عنده فيُعذر عند الله، لكن من تأمَّل نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ عَرَفَ أنها مؤبَّدة، والحكمة تقتضي ذلك؛ لأن هذا الكافر أفنى عُمُرَه في محاربة الله عزّ وجل ومعصيته، والكفر به وتكذيب رُسُله، مع أنه جاءه النذيرُ، وأعذر، وبُيِّنَ له الحقُّ، ودُعِي إليه، وقوتِلَ عليه، وأصرَّ على الكفر والباطل، فكيف نقول: إنَّ هذا لا يؤبَّد عذابه! والآيات في هذا صريحة.
الوجه الثالث: هل عذابها حقيقي يُؤلِم، أو أنَّ أهلَها يكونون فيها كأنهم حِجارة لا يتألَّمون؟
الجواب: أن عذابها حقيقي يُؤلِم، ومَنْ قال خِلاف ذلك فقد أخطأ، وأبعد النَّجْعَة، فهم يُعَذَّبون ويألمون ألماً عظيماً شديداً، كما قال تعالى في عِدَّة آيات {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10] حتى إنهم يتمنَّون الموتَ، والذي يتمنَّى الموت، هل يُقال: إنه يتألَّم أو إنه تأقلم؟
الجواب: لو تأقلمَ ما تألَّمَ، ولا دعا الله أنْ يقضيَ عليه، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ *لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ *} [الزخرف] .
إذاً؛ هم يتألَّمون بلا شَكٍّ، والحرارة النارية تؤثِّر على أبدانهم ظاهرِها وباطنِها، قال الله تعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا *} [النساء] وهذا واضحٌ؛ أن ظاهر أبدانهم يتألَّم وينضج، وقال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] ، وشَيُّ الوجه واللَّحم معروف، فهم إذا استغاثوا {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف: 29] بعد مُدَّة طويلة، وهذا الماء إذا أقبل على وجوههم شواها وتساقطت ـ والعياذ بالله ـ فإذا شَرِبوه قَطَّعَ أمعاءَهم كما قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] وهذا عذاب الباطن، وقال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في أهونِ أهلِ النَّارِ عذاباً: «إنَّه في ضَحْضَاح مِنْ نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغُه» فإذا كان الدِّماغ يَغْلي، فما بالك بما دونه مما هو أقرب إلى النَّعلين، وهذا دليل واضحٌ على أنَّهم يتألَّمون، وأنَّ هذه النارَ تؤثِّر فيهم، وقال تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 22] أي: المُحرِق، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة.
الوجه الرابع: هل هناك ناران: نارٌ لأهل الكفر، ونار لأهل التوحيد الذين يُعذَّبون فيها ثم يخرجون؟
الجواب: زَعَمَ بعضُ العلماء ذلك، وقال: إنَّ النَّارَ ناران، نارٌ لأهل الكفر؛ ونار لأهل المعاصي من المؤمنين، وبينهما فَرْقٌ، ولكن هذا لا أعلمُ له دليلاً؛ لا مِن القرآن ولا من السُّنَّة، والذي أعلمُه أنَّ النَّارَ واحدة لا تختلف لكن عذابها يختلفُ، فلا شَكَّ أنَّها على عُصاة المؤمنين ليست كما هي على الكافرين.
وكوننا نقول بالتقسيم بناءً على استبعاد عقولنا أن تكون ناراً واحدة تؤثِّر تأثيرين مختلفين لا وَجْهَ له لما يلي:
أولاً: أن الله على كلِّ شيءٍ قدير، والله تعالى قادرٌ على أن يجعل النَّارَ الواحدة لشخص سلاماً ولآخر عذاباً.
ثانياً: أن أحوال الآخرة لا تُقاس بأحوال الدنيا أبداً؛ لظهور الفَرْقِ العظيم بينهما، فلا يجوز أنَّ تقيس أحوال الآخرة بأحوال الدُّنيا؛ لتنفي ما لا يتَّسعُ له عقلك، بل عليك ـ بالنسبة لأحوال الآخرة ـ أن تسلِّم وتقبل وتُصدِّق. أليست هذه الشمسُ تدنو مِن الخلائق قَدْرَ ميل يوم القيامة؟ ولو كانت أحوالُ النَّاسِ يوم القيامة كأحوالهم في الدنيا لأحرقتهم؛ لأنَّ هذه الشمسَ في أوجها لو نزلت في الدُّنيا ولو يسيراً أحرقت الأرضَ ومَحَتْهَا عن آخرها، ونحن نحسُّ بحرارتها الآن، وبيننا وبينها مسافات عظيمة، ولا سيَّما في أيام الصيف حين تكون عمودية، ومع ذلك تدنو مِن الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل، ولا يحترقون بها.
وكذلك أيضاً في يوم القيامة؛ الناسُ في مقام واحد، المؤمنون لهم نورٌ يَسعى بين أيديهم وبأيمانهم، والكُفَّار في ظُلْمَة، لكن في الدنيا لو كان بجانبك واحد على يمينه نورٌ وبين يديه نورٌ فإنك تنتفع به، أمَّا في الآخرة فلا.
وفي الآخرة أيضاً يَعْرَقُ النَّاسُ، فيختلف العَرَقُ اختلافاً عظيماً بينهم؛ وهم في مكانٍ واحد، فمِن النَّاسِ مَن يَصِلُ العَرَقُ إلى كعبيه، ومنهم مَن يَصِلُ إلى ركبتيه، ومنهم مَن يَصِلُ إلى حقويه، ومنهم مَنْ يُلجمُه العَرَقُ.
فلا يجوز أن نقيسَ أحوالَ الآخرة بأحوال الدُّنيا، ثم نذهب ونُحدِث أشياء لم تأتِ في الكتاب والسُّنَّة، كتقسيم النَّار إلى نارين: نار للعصاة، ونار للكافرين. فالذي بلغنا ووصل إليه عِلمُنا أنها نارٌ واحدة لكنها تختلف.
الوجه الخامس: أين مكان وجودها؟
الجواب: مكانها في الأرض، ولكن قال بعضُ أهل العِلْم: إنَّها البحار. وقال آخرون: بل هي في باطن الأرض. والذي يظهر: أنَّها في الأرض، ولكن لا ندري أين هي مِن الأرض على وَجْهِ التعيين.
والدَّليل على أنَّ النَّارَ في الأرض:
قول الله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ *} [المطففين: 7] وسِجِّين الأرض السُّفلى كما جاء في حديث البَراءِ بن عَازبٍ فيمن احتُضِرَ وقُبِضَ مِن الكافرين، أنَّها لا تُفتَّحُ لهم أبوابُ السَّماءِ، ويقول الله تعالى: «اكتبوا كتابَ عبدي في سِجِّين في الأرض السُّفلى، وأعيدوه إلى الأرض» ولو كانت النَّارُ في السَّماء لكانت تُفتَّحُ لهم أبوابُ السَّماءِ ليدخلوها؛ لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم رأى أصحابَها يعذَّبون فيها، وإذا كانت في السَّماءِ لَزِمَ مِن دخولهم في النَّارِ التي في السماء أن تُفَتَّحَ لهم أبوابُ السَّماءِ.
لكن؛ بعضُ الطَّلبة استشكلَ وقال: كيف يراها الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم ليلة عُرِجَ به وهي في الأرض؟
وأنا أعجب لهذا الاستشكال! ولا سيَّما وقد وَرَدَ مِن طالب عِلم، فإذا كُنَّا ـ ونحن في الطائرة ـ نرى الأرضَ تحتنا بعيدة وندركها، فكيف لا يرى النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ النَّارَ وهو في السماء؟!!
ثم إن أمورَ الغيب لا تُقاس بأمور الشهادة.
فالحاصل: أنَّ النَّارَ في الأرض، وقد رُوِيَ في هذا أحاديثُ؛ لكنها ضعيفة، ورُوِيَ آثار عن السَّلف كابن عباس، وابن مسعود، وهو ظاهر القرآن قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] ، والذين كذَّبوا بالآيات واستكبروا عنها لا شَكَّ أنهم في النّار.
الوجه السادس: ما أسماؤها؟
الجواب: لها أسماء متعدِّدة، وهذا التعدُّد في الأسماء لاختلاف صفاتها؛ فتُسمَّى الجحيم، وتُسمَّى جهنَّم، وتُسمَّى لَظَى، وتُسمَّى السَّعير، والمُسمَّى واحد، فكلُّ ما وَرَدَ في كتاب الله أو صَحَّ في سُنَّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم مِن أسمائها فإنه يجب على المؤمن أن يصدِّق به ويُثْبِتَه.
وقوله: «من عذاب جهنَّم» هل المراد أنه يتعوَّذ بالله من فِعْلِ المعاصي المؤدِّية إلى جهنم، أو يتعوَّذ بالله من جهنَّم، وإن عَصَى فهو يطلب المغفرة من الله، أو يشمَلُ الأمرين؟
الجواب: يشمَلُ الأمرين، فهو يستعيذُ بالله مِن عذاب جهنَّم، أي: مِن فِعْلِ الأسباب المؤدِّية إلى عذاب جهنَّم.
ومِن عذاب جهنَّم، أي: من عقوبة جهنَّم إذا فَعل الأسباب التي توجب ذلك؛ لأن الإنسان بين أمرين: إمَّا عصمة مِن الذُّنوبِ، فهذا إعاذة الله من فِعْلِ السبب، وإما عفوٌ عن الذُّنوبِ وهذا إعاذة الله مِن أَثَرِ السبب.
وقولنا: العصمة مِن الذُّنوبِ، ليس معناه العصمة المطلقة؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلُّ بني آدم خَطَّاء، وخيرُ الخَطَّائين التوَّابُون». وقال: «لو لم تُذنبوا؛ لذهبَ اللَّهُ بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون؛ فيستغفرون الله؛ فيغفر لهم».
قوله: «ومن عذاب القبر» معطوفة على «مِن عذاب جهنَّم» وعذاب القبر ما يحصُل فيه من العقوبة، وأصل القبر مدفن الميِّت، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ *} [عبس] قال ابنُ عباس: «أي: أكرمه بدفنه». وقد يُراد به البرزخ الذي بين موت الإنسان وقيام الساعة، وإن لم يُدفن، كما قال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمون: 100] يعني: مِن وراء الذين ماتوا؛ لأن أوَّلَ الآية يدلُّ على هذا، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *} [المؤمنون] .
فهل الدَّاعي إذا استعاذ بالله مِن عذابِ القبر؛ يريد مِن عذاب مدفن الموتى، أم مِن عذاب البرزخ الذي بين موته وبين قيام السَّاعة؟
الجواب: يُريد الثاني؛ لأن الإنسان في الحقيقة لا يدري هل يموت ويُدفن، أو يموت وتأكله السِّباع، أو يَحترق ويكون رماداً، قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] فاستحضر أنك إذا قلت: «من عذاب القبر» أي: مِن العذاب الذي يكون للإنسان بعد موتِه إلى قيام السَّاعة.
والبحث في عذاب القبر مِن عِدَّة أوجه:
الوجه الأول: بماذا ثبت عذاب القبر؟
الجواب: ثبت بصريح السُّنَّة، وظاهر القرآن، وإجماع المسلمين.
أمَّا صريحُ السُّنَّة: فحديث البَراء بن عَازبٍ وأمثاله، قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «استعيذوا بالله مِن عذابِ القبر، استعيذوا بالله مِن عذاب القبر، استعيذوا بالله مِن عذاب القبر».
وأمَّا إجماع المسلمين: فلأن جميع المسلمين يقولون في صلاتهم: «أعوذُ بالله من عذاب جهنَّم، ومِن عذاب القبر»، حتى العامَّة الذين ليسوا من أهل الإجماع، ولا من العلماء.
وأما ظاهر القرآن: فمثل قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ *} [غافر] قال: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} ثم قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ولا شَكَّ أن عَرْضهم على النَّارِ مِن أجل أن يصيبهم مِن عذابها، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ} [الأنعام: 93] فهم يَشِحُّون بأنفسهم لا يريدون أن تخرج {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] .
فقال: {الْيَوْمَ} «أل» هنا للعهد الحضوري، يعني: اليوم الحاضر الذي هو يوم وفاتهم {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]
وهذا الظَّاهر من القرآن يكاد يكون كالصَّريح؛ لأن الآيتين اللتين ذكرناهما كالصَّريح في ذلك.
الوجه الثاني: هل هو على البدن، أو على الرُّوح، أو عليهما؟
الجواب: الأصلُ أنَّه على الرُّوح؛ لأن الحُكْمَ بعد الموت للرُّوح، والبدن جُثَّة هامدة، ولهذا لا يحتاج البدن إلى إمداد لبقائه، فلا يأكل ولا يشرب، بل تأكله الهوام، لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الرُّوح قد تتَّصلُ بالبَدَنِ فيتعذَّب. واعتمدوا في ذلك على أنَّ هذا قد رُئِيَ حِسًّا في القبر، فقد فُتِحَتْ بعضُ القبور ورُئِيَ أثرُ العذاب على الجسم، وفُتِحت بعضُ القبور ورُئِيَ أثر النَّعيم على الجسم، وقد حدثني بعضُ النَّاسِ أنَّهم في هذا البلد هنا في «عُنَيزة» كانوا يَحْفِرُون لسور البلد الخارجي، فمرُّوا على قَبْرٍ فانفتح اللَّحْدُ فوجدوا فيه ميتاً قد أكلت كَفَنَه الأرضُ، وبقي جسمُه يابساً؛ لكن لم تأكل منه شيئاً، حتى إنهم قالوا: إنهم رأوا لحيته وفيها الحناء، وفاح عليهم رائحة كأطيب ما يكون من المسك، فتوقَّفوا وذهبوا إلى الشيخ، وكان في ذلك الوقت «عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين» وسألوه فقال: دعوه على ما هو عليه وجنِّبوا عنه، فاحفِروا عن يمين أو يسار.
فبناءً على ذلك قال العلماء: إن الرُّوح قد تتَّصل بالبدن فيكون العذابُ على هذا وهذا، وربما يُستأنس لذلك بحديث البَراءِ بن عازبٍ المتقدِّم الذي قال فيه رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن القبرَ ليضيق على الكافر؛ حتى تختلف فيه أضلاعُه»، فهو يدلُّ على أن العذابَ يكون على الجسم؛ لأن الأضلاع في الجسم.
الوجه الثالث: إذا لم يُدفن الميِّت وأكلته السِّباعُ، أو ذرَّته الرِّياحُ، أو سقط في اليَمِّ فأكلته الحيتان. هل يكون عليه عذاب؟
الجواب: نعم، ويكون العذاب على الرُّوح؛ لأن الجسدَ قد زال وتَلِفَ وفَنِيَ، وإنْ كان هذا أمراً غيبيًّا لا أستطيع أن أجزم بأن البدن لا يناله مِن هذا العذاب شيء؛ ولو كان قد فَنِيَ واحترق؛ لأن الأمر الأُخروي لا يستطيع الإنسان أن يقيسه على المشاهد في الدُّنيا.
الوجه الرابع: هل عذابُ القبر دائم، أو منقطع؟.
الجواب: أما إنْ كان الإنسان كافراً ـ والعياذ بالله ـ فإنه لا طريق إلى وصول النَّعيم إليه أبداً، ويكون عذابُه مستمرًّا، وأما إنْ كان عاصياً وهو مؤمن فإنه إذا عُذِّبَ في قَبْرِه يُعذَّب بقَدْرِ ذنوبه، وربَّما يكون عذابُ ذنوبه أقل مِن البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة، وحينئذٍ يكون منقطعاً.
الوجه الخامس: هل يُخفَّفُ عذابُ القبر بالنسبة للمؤمن العاصي؟
الجواب: نعم، قد يُخفَّف؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم مرَّ بقبرين فقال: «إنَّهما ليُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبير، بلى إنه كبير، أمَّا أحدهما فكان لا يستبرئ أو قال: لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة»، ثم أخذ جريدةً رطبةً فشقَّها نصفين، فغرز في كُلِّ قبر واحدة، وقال: «لعله يخفَّف عنهما ما لم ييبسا»، وهذا دليل على أنه قد يُخفَّف العذابُ، ولكن ما مناسبة هاتين الجريدتين لتخفيف العذاب عن هذين المعذَّبين؟
الجواب: قيل: لأنَّهما تسبِّحان ما لم تيبسا، والتسبيح يخفِّف مِن العذاب على الميِّت، وفرَّعوا على هذه العِلَّة المستنبطة التي قد تكون مستبعدة؛ أنه يُسنُّ للإنسان أن يذهب إلى القبور ويسبِّح عندها مِن أجل أن يخفِّف عنها العذاب.
وقال بعضُ العلماء: هذا التَّعليل ضعيف؛ لأن الجريدتين تسبِّحان، سواء كانتا رطبتين أم يابستين لقول الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] .
وسُمِعَ تسبيحُ الحَصى بين يدي الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع أن الحَصى يابس ولا ينمو.
والعِلَّة القريبة: أنَّ الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم رجا مِن الله عزّ وجل أن يخفِّف عنهما مِن العذاب ما دامت هاتان الجريدتان رطبتين، يعني: أن المدَّة ليست طويلة.
وذلك مِن أجل التَّحذير عن فِعْلِهما؛ لأن فِعْلَهما كبير كما جاء في الرواية: «بلى؛ إنه كبير» أحدهما لا يستبرئ من البول، وإذا كان لا يستبرئ مِن البول صَلَّى بغير طهارة، والثاني يمشي بالنميمة؛ يُفسد بين عباد الله ـ والعياذ بالله ـ ويُلقي بينهم العداوة والبغضاء، فالأمر كبير، وهذا هو الأقرب أنها شفاعة مؤقَّتة تحذيراً للأمة، لا بُخلاً مِن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالشفاعة الدائمة.
ونقول استطراداً: إن بعض العلماء ـ عفا الله عنهم ـ قالوا: يُسَنُّ أن يضع الإنسان جريدة رطبة أو شجرة أو نحوها على القبر ليخفِّف عنه، لكن هذا الاستنباط بعيد جدًّا؛ ولا يجوز أن نصنع ذلك لما يلي:
أولاً: أنه لم يُكشف لنا أن هذا الرَّجل يُعذَّب، بخلاف النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فقد كُشِفَ له عن القبرين.
ثانياً: أننا إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الميِّت؛ لأننا ظننَّا به ظَنَّ سوءٍ أنه يُعذَّب، وما يدرينا فلعله يُنَعَّم، لعل هذا الميت ممن مَنَّ الله عليه بالمغفرة قبل موته؛ لوجود سبب مِن أسباب المغفرة الكثيرة، فمات وقد عفا رَبُّ العباد عنه، وحينئذٍ لا يستحقُّ عذاباً.
ثالثاً: أنَّهُ مخالفٌ لهدي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فإنه لم يكن يفعل ذلك في كلِّ قَبْرٍ.
رابعاً: أنَّه مخالفٌ لما كان عليه السَّلف الصَّالح الذين هم أعلمُ النَّاس بشريعة الله، فما فَعَلَ هذا أحدٌ من الصَّحابة رضي الله عنهم.
خامساً: أنَّ الله تعالى قد فَتَحَ لنا ما هو خير منه، فكان النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام إذا فَرَغَ مِن دفن الميِّت وَقَفَ عليه وقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيتَ، فإنه الآن يُسأل»
الوجه السادس: هل عذاب القبر من أمور الغيب، أم من أمور الشَّهادة؟
الجواب: مِن أمور الغيب، وكم من إنسان في هذه المقابر يُعذَّب، ونحن لا نشعرُ به، وكم جار له مُنعَّم مفتوح له باب إلى الجنة ونحن لا نشعر به، فما في القبور لا يعلمه إلا علاَّم الغيوب، فشأن عذاب القبر من أمور الغيب، ولولا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرنا به ما علمنا؛ ولهذا لمَّا دَخَلَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم على عائشة، وعندها امرأة من اليهود وهي تقول: هل شعرتِ أنكم تفتنون في القبور؟ قالت عائشة: فارتاعَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «إنَّما تُفْتَنُ يَهُودُ» قالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل شعرتِ أنه أُوحي إلي أنكم تُفتنون في القبور» قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بَعْدُ يستعيذُ مِن عذاب القبر.
ولكن قد يُطلع الله تعالى عليه مَنْ شاء مِن عباده، مثل ما أطلع نبيه صلّى الله عليه وسلّم على الرَّجُلين اللذين يعذَّبان، أحدُهما يمشي بالنميمة، والآخر لا يستنزه من البول.والحكمة من جَعْلِهِ من أمور الغيب ما يلي:
أولاً: أنَّ الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين؛ فلو كُنَّا نَطَّلِعُ على عذاب القبور لَمِتنا؛ لأن الإنسان إذا اطَّلع على أنَّ أباه، أو أخاه، أو ابنه، أو زوجه، أو قريبه يُعذَّب في القبر ولا يستطيع فِكَاكَه، فإنه يَقْلق ولا يستريح، وهذه مِن نعمة الله سبحانه.
ثانياً: أنه أستر للميِّت، فهذا الميِّت قد سَتَرَ الله عليه، ولم نعلم عن ذنوبه التي بينه وبين رَبِّه عزّ وجل، فإذا مات وأطلعنا الله على عذابِهِ صار في ذلك فضيحة عظيمة له، ففي سَتْرِه رَحْمةٌ مِن الله بالميِّت.
ثالثاً: أنه قد يَصعُب على الإنسان دَفْنُ الميِّت؛ كما صَحَّ عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لولا ألاَّ تدافنوا؛ لسألتُ اللَّهَ أن يسمِعَكم مِن عذاب القبر الذي أسمعُ منه».
رابعاً: أنَّ في ذلك إزعاجاً لأهله وذويه، وربما عُيِّرُوا بذلك وأُهينُوا.
خامساً: لو كان العذاب ظاهراً لم يكن للإيمان به مزيَّة، لأنه يكون مشاهداً، وهو من أمور الغيب التي يُثنى على مَنْ آمن بها، ثم إنَّه قد يحمِلُ النَّاسَ على أن يؤمنوا كلهم؛ لقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [غافر: 84] فلو رأى النَّاسُ هؤلاء المدفونين وسمعوهم يتصارخون لآمنوا وما كفر أحد، لأنه أيقن بالعذاب عين اليقين، فكأنه نزل به فلم يكن للإيمان به فائدة. وحِكَمُ الله سبحانه وتعالى عظيمة والإنسان المؤمن حقيقة هو الذي يجزمُ بخبر الله أكثر مما يجزمُ بما شاهده بعينه، لأن خَبَرَ الله عزّ وجل لا يتطرَّقُ إليه احتمال الوهم ولا الكذب، وما تراه بعينك يمكن أن تتوهمه.
فكم مِن إنسان شَهِدَ أنَّه رأى الهلالَ؛ وإذا هي نجمة. وكم مِن إنسان شَهِدَ أنه رأى الهلال؛ وإذا هي شعرة بيضاء على حاجبه، وهذا وَهْمٌ، وكم مِن إنسان يرى شَبَحاً ويقول: هذا إنسان مقبل؛ وإذا هو جذع نخلة. وكم من إنسان يرى السَّاكن متحرِّكاً والمتحرِّك ساكناً. لكن خبر الله لا يتطرَّق إليه الاحتمال أبداً. ولهذا نسألُ الله لنا ولكم الثبات. فالمؤمن يُوقن بخبر الله أشدَّ مما يراه في عينه مِن قَبوله والإيمان به.

وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالمَمَاتِ وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَيَدْعُو بِمَا وَرَدَ.
قوله: «ومن فتنة المحيا والممات» معطوفة على «من عذاب جهنم» والمراد بالفتنة اختبار المرء في دينه؛ في حياته وبعد مماته، وفتنة الحياة عظيمة وشديدة، وقلَّ من يتخلَّص منها إلا مَنْ شاء الله، وهي تدور على شيئين:
1 ـ شُبُهات.
2 ـ شهوات.
أما الشُّبُهات فتعرض للإنسان في عِلْمِهِ، فيلتبس عليه الحقُّ بالباطل، فيرى الباطل حقًّا، والحقَّ باطلاً، وإذا رأى الحقَّ باطلاً تجنَّبه، وإذا رأى الباطلَ حقاً فَعَلَهُ، وأمَّا الشَّهوات فتعرض للإنسان في إرادته، فيريد بشهواته ما كان محرَّماً عليه، وهذه فتنة عظيمة، فما أكثر الذين يرون الرِّبا غنيمة فينتهكونه! وما أكثر الذين يرون غِشَّ النَّاسِ شطارةً وجَودةً في البيع والشِّراء فيغشُّون! وما أكثر الذين يرون النَّظَرَ إلى النساء تلذُّذاً وتمتُّعاً وحرية، فيطلق لنفسه النظر للنساء! بل ما أكثر الذين يشربون الخمر ويرونه لذَّة وطرباً! وما أكثر الذين يرون آلاتِ اللهو والمعازف فنًّا يُدرَّسُ ويُعطى عليه شهادات ومراتب!
وأما فتنة الممات فاختلف فيها العلماءُ على قولين:
القول الأول: إن فتنة الممات سؤال الملكين للميِّت في قَبْرِه عن ربِّه، ودينه ونبيِّه؛ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنه أُوحِيَ إلي أنكم تُفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدَّجَّال» فأمَّا مَنْ كان إيمانُه خالصاً فهذا يسهل عليه الجواب.
فإذا سُئل: مَنْ ربُّك؟ قال: ربِّي الله.
مَنْ نبيُّك؟ قال: نبيِّي محمَّد.
ما دينك؟ قال: ديني الإسلام. بكلِّ سُهولة.
وأما غيره ـ والعياذ بالله ـ فإذا سُئل قال: هاه... هاه... لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
وتأمل قوله: «هاه... هاه...» كأنه كان يعلم شيئاً فنسيه، وما أشدَّ الحسرة في شيء علمتَه ثم نسيتَه؛ لأن الجاهل لم يكسب شيئاً، لكن النَّاسي كسب الشيء فخسره، والنتيجة يقول: لا أدري مَنْ ربِّي، ما ديني، مَنْ نبيي. فهذه فتنة عظيمة؛ أسألُ الله أن ينجِّيني وإيَّاكم منها، وهي في الحقيقة تدور على ما في القلب، فإذا كان القلب مؤمناً حقيقة يرى أمور الغيب كرأي العين، فهذا يجيب بكلِّ سُهولة، وإن كان الأمر بالعكس فالأمر بالعكس.
القول الثاني: المراد بفتنة الممات: ما يكون عند الموت في آخر الحياة، ونصَّ عليها ـ وإنْ كانت مِن فتنة الحياة ـ لعظمها وأهميتها، كما نصَّ على فِتنة الدَّجَّال مع أنها مِن فتنة المحيا، فهي فِتنة ممات؛ لأنها قُرب الممات، وخصَّها بالذِّكر؛ لأنها أشدُّ ما يكون، وذلك لأن الإنسان عند موته ووداع العمل صائر إما إلى سعادة، وإما إلى شقاوة، قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحدَكُم ليعملُ بعملِ أهلِ الجنَّة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتابُ؛ فيعملُ بعملِ أهل النَّارِ» فالفتنة عظيمة.
وأشدُّ ما يكون الشيطانُ حرصاً على إغواء بني آدم في تلك اللحظة، والمعصومُ مَنْ عَصَمَه الله، يأتي إليه في هذه الحال الحرجةِ التي لا يتصوَّرها إلا من وقع فيها قال تعالى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ *وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ *وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ *وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ *إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ *} [القيامة] ، حال حرجة عظيمة، الإنسانُ فيها ضعيفُ النَّفْسِ، ضعيفُ الإِرادة، ضعيفُ القوَّة، ضيقُ الصَّدر، فيأتيه الشيطانُ ليغويه؛ لأن هذا وقت المغنم للشيطان، حتى إنه كما قال أهل العلم: قد يعرضُ للإِنسان الأديان اليهودية، والنصرانية، والإسلامية بصورة أبويه، فيعرضان عليه اليهودية والنصرانية والإسلامية، ويُشيران عليه باليهودية أو بالنصرانية، والشيطان يتمثَّلُ كُلَّ واحد إلا النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذه أعظم الفِتَنِ.
ولكن هذا والحمد لله لا يكون لكلِّ أحد، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، وحتى لو كان الإنسان لا يتمكَّن الشيطان من أن يَصِلَ إلى هذه الدرجة معه، لكن مع ذلك يُخشى عليه منه.
يقال: إنَّ الإمام أحمد رحمه الله وهو في سكرات الموت كان يُسمَعُ وهو يقول: بعدُ.. بعدُ. فلما أفاق قيل له في ذلك؟ قال: إنَّ الشيطان كان يعضُّ أنامله يقول: فُتَّني يا أحمد. يعضُّ أنامله ندماً وحسرة كيف لم يُغوِ الإمام أحمد؟ فيقول له أحمد: بعدُ.. بعدُ. أي: إلى الآن ما خرجت الرُّوح، فما دامت الرُّوح في البدن فكلُّ شيء وارد ومحتمل {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] في هذه الحال فتنة عظيمة جدًّا، ولهذا نصَّ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عليها قال: «مِن فِتنة المحيا والممات».
فالحاصل: أنَّ فتنة الممات فيها تفسيران:
التفسير الأول: الفتنة التي تكون عند الموت.
والثاني: التي تكون بعد الموت، وهي سؤال الملكين الإنسان عن رَبِّه ودينه ونبيِّه.
ولا مانع بأن نقول: إنَّها تشمَلُ الأمرين جميعاً، ويكون قد نصَّ على الفتنة التي قبل الموت وعند الموت؛ لأنَّها أعظم فتنة تَرِدُ على الإنسان، وذكر ما يُخشى منها من سوء الخاتمة إذا لم يُجِرِ اللَّهُ العبد من هذه الفتنة.
وعلى هذا، ينبغي للمتعوِّذ مِن فِتنة الممات أن يستحضر كلتا الحالتين.
مسألة: هل سؤال الملكين حقيقي، بمعنى: أن الإنسان يُجْلَسُ في قبره ويُناقش، أو أنه خيال؟
الجواب: هو حقيقي بلا شَكٍّ، وأن الإنسان في قبره يُجْلَسُ ويُناقش ويُسأل؛ نسأل الله الثبات.
فإن قال قائل: إن القبر محدود ضيِّق فكيف يجلس؟
فالجواب على ذلك: أولاً: أنَّ الواجب على المؤمن في الأمور الغيبية أن يقبل ويصدِّق، ولا يسأل عما وراء ذلك، بل يقول: سمعنا وآمنَّا، وصدَّقنا وقَبِلْنَا، ولا يسأل: كيف ولِمَ؛ لأنه لا يَسأل عن كيف ولِمَ إلا مَنْ شَكَّ، وأما من آمن وانشرح صدرُه لأخبار الله ورسوله فإنه يُسَلِّم ويقول: الله أعلم بكيفية ذلك.
ثانياً: أن أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدُّنيا، لظُهور الفَرْق العظيم بينهما، وعدم الجامع المقتضي لإلحاق إحداهما بالأخرى. وتـعلُّق الـرُّوح بالبدن بعد الموت ليس كتعلُّقها به في حال الحياة، بل إن تعلُّقَ الرُّوح بالبدن في حال النوم ليس كتعلقها به في حال اليقظة، فللرُّوح مع البدن شؤون عظيمة لا يدركها الإنسان، وتعلُّقها بالبدن بعد الموت لا يمكن أن يُقاس بتعلُّقها به في حال الحياة، وها هو الإنسان في منامه؛ يرى أنه ذهب وجاء وسافر وكَلَّم أُناساً والتقى بأناس أحياء وأموات، ويرى أنه له بستاناً جميلاً؛ أو داراً موحشة مظلمة، ويرى أنه راكب على سيَّارة مريحة، ويرى مرَّة أنه صَدَمَ، ومرَّة أنه صُدِم، كلُّ هذا يمكن، مع أن الإنسان على فراشه لم يتغيَّر، حتى الغطاء الذي عليه لم يتغيَّر، وهذا أمر يكون حقًّا إذا كانت رؤيا صالحة.
فالإنسان يمكن أن يُجْلَسَ في قبره ويُسأل، ولو كان القبر محدوداً ضيِّقاً.
إذاً؛ فالفتنة حقيقة؛ يُسأل المرءُ عن ثلاثة أشياء: عن ربِّه، ودينه، ونبيِّه. وسَبَقَ لنا ذِكْرُ كيفيَّة الجواب من المسؤول، وأن المؤمن يقول: ربِّي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. وأما الكافر أو المرتاب فيقول: هاه... هاه... لا أدري، سمعتُ النَّاسَ يقولون شيئاً فقلتُه.
قوله: «وفتنة المسيح الدَّجَّال» . معطوفة على قوله: «مِن عذاب جهنَّم» المراد بفتنة المسيح الدَّجَّال ما يحصُلُ به مِن الإضلال والإغواء بما معه من الشُّبهات و«المَسيْح» فعيل بمعنى مفعول من المسح؛ لأنه يمسح الأرض بسرعة سيره فيها، أو لأنه كان ممسوح العين؛ لأنه أعور العين اليُمنى، كأن عينه عِنَبَة طافية، أو عنبة طافئة.
إن كانت طافئة فهي خابئة، أي: أنها غائرة، وإن كانت طافية بالياء فهي كالعنبة الطافية فوق الماء أي: أنها ناتئة.
وعلى كُلٍّ؛ فإن هذا المسيح الدَّجَّال فِتنته مِن فتنة الدُّنيا؛ لأنه لا يَفتن إلا الأحياء، فالأموات قد سَلِموا منه.
فإن قال إنسان: إذا كان مِن فِتنة الدُّنيا أو مِن فِتنة المحيا، فلماذا ذُكِرَ وحده؟
فالجواب: لأن أعظمَ فِتنة على وَجْهِ الأرض منذ خُلق آدم إلى قيام الساعة هي فِتنةُ الدَّجَّال، كما قال ذلك النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا ما من نبيٍّ مِن نوح إلى محمَّد صلوات الله وسلامه عليهم إلا أنذر قومَه منه تنويهاً بشأنه وتحذيراً منه، وإلا فإن الله يعلم أنه لن يخرج إلا في آخر الزمان، ولكن أَمَرَ الرُّسل أن ينذروا قومهم إيَّاه من أجل أن يتبيَّن عِظَمُه وفداحته، وقد صَحَّ ذلك عن النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلامُ وقال: «إنْ يخرجْ وأنا فيكم، فأنا حَجيجُهُ دونكم ـ يعني: أكفيكم إيَّاه ـ وإن يخرجْ، ولست فيكم؛ فامرؤٌ حجيجُ نفسه، والله خليفتي على كلِّ مسلم» نِعْمَ الخليفةُ ربُّنا جَلَّ وعلا. لذلك كان الدَّجَّال حريًّا بأن تُخصَّ فِتنته من بين فِتَنِ المحيا.
وأما الدَّجَّال فهو مأخوذ من الدَّجَل وهو التمويه؛ لأن هذا أعظم مموِّه، وأشدُّ الناس دجلاً.
والبحث فيه من وجوه:
أولاً: زَمنه، هو من علامات الساعة؛ ولكنه غير محدَّد، فلا نعلمه؛ لأنه لا يعلم متى تكون السَّاعة إلا الله، فكذلك أشراطها لا نعلم منها إلا ما ظهر، فوقت خروجه غير معلوم لنا.
ثانياً: مكانه، فإنه يخرج من المشرق جهة الفتن والشَّرِّ، كما قال النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام: «الفتنة هـهنا؛ وأشار إلى المشرق» فالمشرق منبع الشَّرِّ والفِتن مِن خُراسان؛ مارًّا بأصفهان؛ داخلاً الجزيرة من بين الشام والعراق، ليس له هَمٌّ إلا المدينة، لأن فيها البشير النذير عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فيحبُّ أن يقضي على أهل المدينة، ولكنَّها محرَّمة عليه، كما ثَبَتَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أن على كُلِّ باب منها ملائكة يحفظونها، يخرج خَلَّةً بين الشام والعراق، ويتبعه مِن يهود أصفهان سبعون ألفاً؛ لأنهم جنوده، واليهود من أخبث عباد الله، وهو أضلُّ عباد الله، فيتبعونه ويؤيدونه وينصرونه، ويكونون مسالح له، أي: جنوداً مجندين هم وغيرهم ممن يتبعهم، قال النبيُّ عليه الصَّلاة والسلام: «يا عباد الله فاثبتوا...» يثبتنا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لأن الأمر خطير، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : «مَنْ سَمِعَ بالدَّجَّالِ فلينأ عنه فإن الرَّجُل يأتيه وهو مؤمن؛ فلا يزال به حتى يتبعه لما يُلقي من الشُّبهات» أي: يأتيه الإنسان ويقول: لن يضلَّني، ولن أتأثَّر به، ولكن لا يزال يُلقي عليه من الشُّبهات حتى يتبعه والعياذ بالله.
ثالثاً: دعوته، فقد ذُكِرَ أنَّه أول ما يخرج يدعو إلى الإسلام، ويقول: إنه مسلم، وينافح عن الإسلام، ثم بعد ذلك يدَّعي النبوة، ثم بعد ذلك يدَّعي أنه إلـه، فهذه دعواه، نهايتها بداية فرعون، وهي ادّعاء الرُّبوبية.
رابعاً: فِتنته، مِن حكمة الله عزّ وجل أن الله سبحانه وتعالى يعطيه آيات فيها فِتَنٌ عظيمة، فإنه يأتي إلى القوم يدعوهم فيتَّبعونه فيصبحون وقد نبتت أراضيهم، وشبعت مواشيهم، فتعود إليهم أوفر ما تكون لبناً وأسبغ ضروعاً، يعني: أنهم يعيشون برغدٍ، لأنهم اتبعوه.
ويأتي القومَ فيدعوهم فلا يتَّبعونه فيصبحون ممحلين ليس في أراضيهم شيء، وهذه فِتنة عظيمة ولا سيما في الأعراب، ويمرُّ بالخَرِبَة فيقول: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها تتبعه كيعاسيب النحل من ذهب وفضَّة وغيرها بدون آلات وبدون أيِّ شيء، فِتنةً من الله عزّ وجل، فهذه حاله ومعاملته مع أهل الدُّنيا لمن يريد التمتُّع بالدنيا أو يبأس فيها.
ومِن فِتنته: أن الله تعالى جَعَلَ معه مثل الجنة والنَّار، بحسب رؤيا العين، لكن جنته نار، وناره جنَّة، مَن أطاعه أدخله هذه الجنَّة فيما يرى النَّاسُ، ولكنها نار محرقة والعياذ بالله، ومن عصاه أدخله النار فيما يراه النَّاسُ، ولكنها جَنَّةٌ وماء عذب طيِّب.
إذاً؛ يحتاج الأمرُ إلى تثبيت مِن الله عزّ وجل، إنْ لم يثبِّت اللَّهُ المرءَ هلك وضلَّ.
ومن فتنته: أنه يخرجُ إليه شابٌ فيقول له: أنت الدَّجَّالُ الذي ذَكَرَ لنا رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، فيدعوه فيأبى أن يتبعه، فيضربه ويشجّه في المرَّة الأولى، ثم يقتله، ويمرُّ بين شقيه، ثم يدعوه فيقوم يتهلَّلُ وجهه، ويقول: أنت الدَّجَّالُ الذي ذَكَرَ لنا رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم يأتي ليقتله فلا يُسلَّط عليه، ويعجزُ عن قتله، ولن يُسلَّط على أحد بعدَه، فهذا من أعظم النَّاس شهادةً عند الله، لأنه في هذا المقام العظيم الرهيب الذي لا يتصوَّر رهبته إلا مَن باشره، يُصرِّحُ على الملأ إعذاراً وإنذاراً بأنك أنت الدَّجَّال الذي ذَكَرَ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
خامساً: مقدار لُبثه في الأرض أربعون يوماً فقط، يوم كسنةٍ، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، هكذا حدَّث النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، قال الصَّحابةُ رضي الله عنهم: يا رسولَ الله، هذا اليوم الذي كَسَنَة أتكفينا فيه صلاة يوم واحد؟ قال: «لا، اقدُروا له قَدْرَه» انظروا إلى هذا المثال، لنأخذ منه عبرة، كيف كان تصديق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرسول الله؟ ما ذهبوا يحرِّفون أو يؤوِّلُون، أو يقولون: إنَّ اليوم لا يمكن أن يطول؛ لأن الشمس تجري في فلكها ولا تتغيَّر، ولكنه يطول لكثرة المشاق فيه وعِظَمِها، فطولُه لأنه متعب، لم يقولوا هذا، كما يقوله بعضُ المتحذلقين.
ولكن صَدَّقوا بأن هذا اليوم سيكون اثني عشر شهراً حقيقة، بدون تحريف ولا تأويل، وهكذا حقيقة المؤمن، ينقاد لما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب، وإن حَارَ فيها عقلُه، لكن يجب أن نعلم أن خبر الله ورسوله لا يكون فيما يكون محالاً في العقول، لكن فيما يكون حيرةً لأنها لا تدركه.
ولو أن هذا الحديث مَرَّ على المتأخِّرين الذين يدَّعون أنهم هم العقلاء؛ لقالوا: إنَّ طوله مجاز عمَّا فيه مِن التَّعبِ والمشاق؛ لأن أيام السرور قصيرة، وأيام الشرور طويلة، ولكن الصَّحابة رضي الله عنهم مِن صفائهم وقَبولهم سَلَّموا في الحال، وقالوا: إنَّ الذي خَلَقَ الشَّمسَ؛ وجعلها تجري في أربع وعشرين ساعة في اليوم والليلة؛ قادر على أن يجعلها تجري في اليوم اثني عشر شهراً، لأن الخالق واحد عزّ وجل؛ فهو قادر، ولذلك سَلَّموا؛ وقالوا: كيف نُصلِّي؟ لم يسألوا عن الأمر الكوني؛ لأنهم يعلمون أن الله قادر على كلِّ شيء، بل سألوا عن الأمر الشرعي الذي هم مكلَّفون به وهو الصَّلاة، وهذا ـ والله ـ حقيقة الانقياد والقَبول. فأجابهم بقوله: «اقدروا له قَدْرَه».
وإذا تأملت؛ وجدت أن هذا الدِّينَ تامٌّ كامل؛ لا يمكن أن تكون مسألة يَحتاجُ النَّاسُ إليها إلى يوم القيامة إلا وُجِدَ لها أصلٌ، انظر كيف أنطقَ اللَّهُ سبحانه وتعالى الصَّحابةَ أن يسألوا هذا السؤال؟ حتى يكون الدِّين كاملاً لا يَحتاجُ إلى تكميل، وقد احتاج النَّاسُ إلى هذا الآن، كما في المناطق القُطبية؛ يبقى الليل فيها سِتَّة أشهر والنهار ستة أشهر، فنحتاج إلى هذا الحديث، وانظر كيف أفتى الرسول صلّى الله عليه وسلّم هذه الفتوى قبل أن تقع هذه المسألة؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] والله لو نتأمَّل هذه الكلمة {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فلا يوجد شيء ناقص في الدِّين أبداً، فهو كامل مِن كلِّ وَجْهٍ، لكن النقص فينا، إما قصور في عقولنا، أو في أفهامنا أو في عُلُومنا، أو في إرادات تكون غير منضبطة، فمِن النَّاسِ من يريد أن ينصر قوله فيَعْمَى عن الحقِّ؛ نسأل الله العافية.
فلو نظرنا بعلم وفَهْمٍ وعَقْلٍ وحُسْنِ نية لوجدنا أن الدِّينَ ولله الحمدُ لا يحتاج إلى مكمِّل، وأنه لا يمكن أن تقع مسألة صغيرة ولا كبيرة إلا وُجِدَ حَلُّها في الكتاب والسُّنَّة، لكن لما كَثُرَ الهوى، وغلب على كثير من النَّاسِ صار بعض الناس يَعْمَى عليه الحقُّ، ويَخْفَى عليه، وتجدهم إذا نزلت فيهم الحادثة التي لم تكن معروفة مِن قبل بعينها، وإن كان جنسها معروفاً يختلفون فيها أكثر من أصابعهم، وإذا كانت تحتمل قولين وجدت فيها عشرة؛ لأنَّ الهوى غلب على النَّاسِ الآن، وإلا فلو كان القصد سليماً والفهم صافياً والعلم واسعاً والعقل راجحاً لما حصل هذا.
ثم بعد أن يمكث الدَّجَّال أربعين يوماً، ينزل المسيحُ عيسى بن مريم؛ الذي رَفَعَهُ الله إليه، وقد جاء في الأحاديث أنه ينزِلُ عند المنارة البيضاء شرقيِّ دمشق، فلا يَحِلُّ لكافرٍ يجد ريح نَفَسِهِ إلا مات، ونَفَسُهُ ينتهي حيث ينتهي طَرْفُهُ ـ وهذه من آيات الله ـ فيلحق الدَّجَّال عند باب اللُّدِّ في فلسطين فيقتله هناك، وحينئذٍ يقضي عليه نهائياً، ولا يقبل عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلا الإسلام، لا يقبل الجزية، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويريق الخمر، فلا يُعبد إلا الله.
وعلى هذا؛ فالجزية التي فرضها الإسلامُ جَعَلَ الإسلامُ لها أمداً تنتهي إليه عند نزول عيسى، ولا يُقال: إن هذا تشريع مِن عيسى؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر بذلك مقرِّراً له، فَوَضْعُ الجزية عند نزول عيسى من سُنَّة الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، لأن سُنَّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم هي قوله، وفِعْلُه، وإقراره، وكونه يتحدَّث عن عيسى بن مريم مقرًّا له، هذا من سُنَّتِهِ، وإلا فإن عيسى لا يأتي بشرعٍ جديد ولا أحد يأتي بشرعٍ جديد بعد محمد صلّى الله عليه وسلّم، فليس إلا شرعُ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام إلى يوم القيامة.
تنبيه: قال بعضُ أهل العِلْمِ: إن الرُّسل الذين أنذروا قومهم به لم ينذروهم بعينه، وإنما أنذروهم بجنس فِتنتِه، يعني: أنذروهم من الدَّجَاجِلة، ولكن هذا القول ضعيف، بل هو نوع مِن التَّحريف؛ لأن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر بأنه ما مِن نبيٍّ إلا أنذر به قومَه، وهذا صريحٌ بأن الأنبياء أنذروا قومهم بعين الرَّجُل هذا، وقد سَبَقَ لنا بيان الحكمة من إنذار الرُّسل به، ولكن يجب علينا أن نعلم أن جِنْسَ هذه الفِتنة موجود حتى في غير هذا الرَّجُل، فيوجد مِن بني آدم الآن من يُضِلُّ النَّاسَ بحالِه وقالِه، وبكل ما يستطيع، وتجد أن الله سبحانه وتعالى بحكمته أعطاه بياناً وفصاحة {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] .
فالدَّجَّال المعيَّن لا شَكَّ أن فِتنته أعظم شيء، لكن هناك دَجَاجِلة يدجِّلُون على النَّاسِ ويموِّهون عليهم، فيجب الحذر منهم ومعرفة إراداتهم ونواياهم، ولهذا قال الله تعالى في المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} ـ مع أنه قال ـ {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} أي: لبيانه وفصاحته وعِظَمِه يجرُّك جَرًّا إلى أن تسمع لكن {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4] حتى الخُشُب ليست قائمة بنفسها {مُسَنَّدَةٌ} أي: تقوم على الجدار؛ فلا خير فيها، فهؤلاء الذين يتزيَّنون للناس بأساليب القول سواء في العقيدة، أو في السلُّوك والمنهج يجب الحذر منهم، وأن تُعرضَ أقوالُهم وأفعالهم على كتاب الله وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فما خالفهما فهو باطل مهما كان، ولا يُغترُّ بما فيها من زخارف القول؛ فإن هذه الزخارف كما قيل:

حُججٌ تهافت كالزُّجاج تخالها
=
حقًّا، وكلٌّ كاسر مكسور
ولا تقولوا: إن هؤلاء القوم أُعطوا فصاحة وبياناً لينصروا الحقَّ، فإن الله تعالى قد يبتلي فيعطي الإنسانَ فصاحة وبياناً، وإنْ كان على باطل، كما ابتلى اللَّهُ الناسَ بالدَّجَّال وهو على باطل بلا شَكٍّ.
سادساً: هل الدَّجَّال مِن بني آدم؟
الجواب: نعم، هو مِن بني آدم.
وبعض العلماء يقول: إنه شيطان. وبعضهم يقول: إن أباه إنسي وأمه جنيَّة. وكلُّ هذه الأقوال ليست صحيحة؛ لأنه يَحتاجُ إلى الأكل والشُّرب وغير ذلك، ولهذا يقتله عيسى قتلاً عاديًّا كما يقتل البشر.
سابعاً: هل هو موجود الآن؟
الجواب: هو غير موجود، ولكن الله يبعثه متى شاء؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم خطب النَّاسَ في آخر حياته وقال: «إنه على رأس مِئَةِ سَنَة لا يبقى على وَجْهِ الأرض ممن هو عليها اليوم أحد» وهذا خَبَرٌ، وخَبَرُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لا يدخله الكذب نهائيًّا، وهو مُتلقَّى من الوحي، لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لا يعلم الغيب.
وقول المؤلِّف: «ويستعيذ بالله من أربع»، لم يُفصح ـ رحمه الله ـ هل هذه الاستعاذة واجبة أم لا؟
وسيأتي ما يفيد حكمها في ذِكْرِ الأركان والواجبات.
وفي التعوّذ من هذه الأربع قولان:
القول الأول: أنه واجب، وهو رواية عن الإمام أحمد، لما يلي:
1 ـ لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بها.
2 ـ ولشدَّة خطرها وعظمها.
والقول الثاني: أنه سُنَّة، وبه قال جمهور العلماء.
ولا شَكَّ أنه لا ينبغي الإخلالُ بها، فإن أخلَّ بها فهو على خَطَرٍ من أمرين:
1 ـ الإثم.
2 ـ ألا تصح صلاته، ولهذا كان بعضُ السَّلف يأمر مَنْ لم يتعوَّذ منها بإعادة الصَّلاة.
قوله: «ويدعو بما ورد» . ليت المؤلف قال: «ويدعو بما أحبَّ» لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لما ذَكَرَ حديث ابن مسعود في التشهُّدِ قال: «ثم يتخيَّر من الدُّعاء ما شاء» لكن يمكن أن نجيب عن كلام المؤلِّف فنقول: إنه ينبغي أن يبدأ الإنسان بما وَرَدَ؛ لأن الدُّعاء الوارد خير من الدُّعاء المصطنع، فإذا وجد دعاءً وارداً، فالتزامه أَولى، ثم تدعو بما شئت.
ومما وَرَدَ في هذا: «اللَّهُمَّ أعنِّي على ذِكْرِك، وشُكرك، وحُسْن عبادتك» فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَ معاذ بن جبل أن يدعو به دُبُرَ كُلِّ صلاة مكتوبة، وفي بعض الألفاظ أمره أن يدعو به في كُلِّ صلاة، فإذا جمعنا بين اللفظين قلنا: في صلاته في دُبُرِها أي: في آخرها، والقول بأن هذا الدُّعاء في آخر الصَّلاة أصحُّ من القول بأنه بعد السَّلام؛ لأن الذي بعد السَّلام إنما هو الذِّكر، {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [النساء: 103] وأما ما قيد بدُبُر الصَّلاة وهو دُعَاء فإنه في آخرها.
وسُئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كيف يكون في آخر الصلاة وقد قيِّد بدُبُرِها فقال: دُبُرُ الشيء منه كدُبُرِ الحيوان، فإن الحيوان له دُبُر، ودُبُره في نفس الجسم، فكذلك دُبُر الصَّلاة يكون من الصَّلاة، وإذا كان الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم أرشدنا بأن ندعو بعد التشهُّدِ صار الدُّعاء المقيَّد بالدُّبُر محلَّه قبل السَّلام آخر الصَّلاة.
أما بعدَ الصَّلاة فهو الذِّكر، ولهذا لا يَرِدُ علينا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «تُسَبِّحُون وتحمدُون وتُكبِّرون في دُبُر كُلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين مَرَّة» ومعلومٌ أن هذا بعد السَّلام بالاتفاق؛ لأن هذا مطابق للآية: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [النساء: 103] والأول الدُّعاء الذي في آخر الصلاة قبل السَّلام مطابق للحديث: «ثم ليتخيَّر من الدُّعاء ما شاء».
وقوله: «يدعو بما ورد» يفيد أن الدُّعاء يكون بعد التشهُّدِ والتعوُّذ من الأربع.
وهذا الذي دلَّ عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم علَّمه التشهُّدَ ثم قال: «ثم يَتَخَيَّرُ من الدُّعاء ما شاء» وبناءً على ذلك؛ إذا سألَنا سائل: هل أدعو بعد السَّلام أو قبل السَّلام؟ قلنا له: ادعُ قبل السَّلام؛ لأن هذا هو الذي أرشد إليه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، ولأنك ما دمت في صلاة فإنك تناجي رَبَّك، وإذا سَلَّمتَ انصرفتَ، وكونك تدعو في الحال التي تناجي فيها ربَّك خيرٌ من كونك تدعو بعد الانصراف، وهذا ترجيح نظريٌّ، وأما ما يفعلُه بعضُ النَّاسِ من كونهم كلَّما سَلَّموا دَعَوا في الفريضة، أو في النافلة؛ فهذا لا أصل له، ولم يَرِدْ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فيما نعلم؛ إلا حين وضع كُفَّار قريش سَلا النَّاقة عليه وهو ساجد، فإنه لما سَلَّم رَفَعَ صوته يدعو عليهم وهذا قد يُقال: إنه فَعَلَ ذلك لمناسبة، وهي تخويفهم؛ لأنه لو دعا وهو يُصلِّي ما علموا بذلك.
وأما الاستدلال بقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم حين سُئل: أيُّ الدُّعاء أسمعُ؟ ـ يعني: أقرب إجابة ـ قال صلّى الله عليه وسلّم: «جوف الليل، وأدبار الصلوات المكتوبة» قالوا: والأدبار تكون بعدُ لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «تُسبِّحون وتَحمدُون وتُكبِّرون دُبُرَ كُلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين مرَّة» ومعلومٌ أن هذا لا يُقال إلا بعد السَّلام فيكون قوله: «أدبار الصَّلوات المكتوبة»، أي: بعد السَّلام.
فنقول: هذا الفهم للحديث غير متعيِّن، بل يجب أن يُحمل على أنه المراد بالأدبار آخرُ الصَّلوات؛ بدليل حديث ابن مسعود، حيث أمره النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بالدُّعاء بعد التشهُّدِ، والسُّنَّة يُفسِّر بعضُها بعضاً، أما أدبار الصَّلوات فقد أرشد الله سبحانه وتعالى عبادَه إلى أن يذكروا الله بعدَها فقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [النساء: 103] ، وليس فيه الأمر بالدُّعاء.
وعلى هذا فنقول: ما وَرَدَ مقيَّداً بدُبُر الصَّلاة، فإن كان ذِكْراً فهو بعد السَّلام، وإن كان دُعاء فهو قبل السَّلام.
فإن قال قائل: دُبُرُ الشيء بعدَه كما في الحديث: «أن رَجُلاً أعتقَ غلاماً له عن دُبُرٍ» أي: بعد موته؟
الجواب: أن الدُّبُر ما كان الشيء مستدبراً له، وقد يكون منه، وقد لا يكون منه، والذي يُعيِّن كونه منه أو ليس منه القرائن والسِّياق، ولهذا يقال: دُبُر الحيوان وهو منه، فالدُّبر يُفسَّر في كلِّ موضع بما يقتضيه الحال والسِّياق.
بقي علينا المحافظة على الدُّعاء بعدَ النَّافلة كما يفعله بعضُ العوام، فهم يحافظون عليه محافظةً شديدة، حتى إن بعضَهم إذا أُقيمت الصَّلاةُ وهو يُسلِّم مِن النَّافلة، وقبل أن يقوم يُصلِّي الفريضة يرفع يديه، حتى إنك تَشكُّ هل دعا أم لا؟ ثم يمسحُ وجهَه، ويمسحُ يديه بعضهن ببعض، ثم يُصلِّي، فيُلازمون على هذا ظنًّا منهم أنَّه أمرٌ واجب، أو قريب مِن الوجوب، فهذا لا شَكَّ أنه لا أصل له، ولهذا ينبغي لطَلَبةِ العِلم أن يُنبِّهوا النَّاسَ، ولكن بالرفق، لأنَّ العامة إذا أُنكِرَ عليهم ما اعتادوه نفروا، فإذا أُتوا بالحكمة واللِّين قَبِلوا، ولذلك ما أكثر الذين يسألون عن حُكم رَفْعِ اليدين بعد الصَّلاة النَّافلة! فيظنُّون أن الحُكم معلَّق برَفْعِ اليدين، والحكم ليس معلَّقاً برِفْعِ اليدين، بل الحُكم معلَّق بالدُّعاء، سواء رَفَعْتَ أم لم ترفع، فما دُمت تريد أن تدعو الله فادعه قبل أن تُسلِّم، فهذا هو المشروع.
قوله: «ويدعو بما وَرَدَ»، «ما» اسم موصول يشمَلُ كُلَّ الوارد، ولكن ليس مراده أن كلَّ دُعاء وَرَدَ في السُّنَّة يُدعَى به هنا، وإنما مراده بما وَرَدَ الدُّعاء به في هذا المكان، ومنه ما سبق: «اللَّهُمَّ أعنِّي على ذِكْرِك، وشكرك، وحُسن عبادتك» ومنه ما علَّمه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر رضي الله عنه حين قال: يا رسول الله، علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: «قل: اللَّهُمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفِرُ الذُّنوبَ إلا أنت، فاغفِرْ لي مغفرةً من عندك، وارحمنِي؛ إنك أنت الغفور الرحيم». ولكن لو دعا بدعاء غير ذلك فإنه يجوز.
وظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا بُدَّ أن يكون الدُّعاء وارداً، ولكن هل مراده أن يكون وارداً باعتبار الجنس، أو باعتبار النوع والعين؟
الجواب: فيه احتمال، يحتمل أن يريد بما وَرَدَ بعينه، ويحتمل أن يريد بما وَرَدَ بجنسه، والذي وَرَدَ الدُّعاء بجنسه في الصَّلاة هو ما يتعلَّق بأمر الآخرة، وإذا قلنا بهذا الاحتمال؛ صار معنى كلام المؤلِّف: أن يدعو بدعاء يتعلَّق بأمور الآخرة، سواء وَرَدَ هذا الدُّعاء بعينه أم لم يرد، وإنْ قلنا بالاحتمال الأول بما وَرَدَ بعينه صار يتقيَّد بما وَرَدَ بعينه في هذا الموضع.
لكن الاحتمال الأول أشمل، وهو أن يدعو بما وَرَدَ باعتبار الجنس، وهو ما يتعلَّق بأمور الآخرة، فيدعو بما يتعلَّق بأمور الآخرة بما شاء، ولكن ههنا مسألة؛ وهي أنه ينبغي المحافظة على الوارد في هذا المكان بعينه، ثم بعد ذلك يدعو بما شاء.
وظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا يدعو بغير ما وَرَدَ، سواء قلنا: إن المراد ما وَرَدَ بجنسه أو قلنا: ما وَرَدَ بعينه، فلا يدعو بشيء مِن أمور الدُّنيا مثل أن يقول: اللَّهُمَّ ارزقني بيتاً واسعاً، أو: اللَّهُمَّ ارزقني زوجة جميلة، أو: اللَّهُمَّ ارزقني مالاً كثيراً، أو: اللَّهُمَّ ارزقني سيارة مريحة، وما أشبه ذلك؛ لأن هذا يتعلَّق بأمور الدُّنيا، حتى قال بعض الفقهاء رحمهم الله: لو دعا بشيء مما يتعلَّق بأمور الدنيا بطلت صلاتُه، لكن هذا قول ضعيف بلا شَكٍّ.
والصحيح: أنه لا بأس أن يدعو بشيء يتعلَّق بأمور الدُّنيا؛ وذلك لأن الدُّعاء نفسه عبادة؛ ولو كان بأمور الدنيا، وليس للإنسان ملجأ إلا الله، وإذا كان الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أقربُ ما يكون العبدُ مِن ربِّه وهو ساجد» ويقول: «أمَّا السُّجودُ فأكثروا فيه مِن الدُّعاء فَقَمِنٌ أن يُستجاب لكم» ويقول في حديث ابن مسعود لما ذَكَرَ التَّشهُّدَ: «ثم ليتخيَّر مِن الدُّعاء ما شاء» والإنسان لا يجد نفسه مقبلاً تمام الإقبال على الله إلا وهو يُصلِّي، فكيف نقول: لا تسأل الله ـ وأنت تُصلِّي ـ شيئاً تحتاجه في أمور دنياك! هذا بعيد جدًّا.
وقد جاء في الحديث عن الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «ليسألْ أحدُكم ربَّه حاجته كلها حتى شِسْعَ نَعْلِه» وشِسْع النَّعل: يتعلَّق بأمور الدُّنيا. فالصَّواب بلا شَكٍّ أن يدعو بعد التشهُّدِ بما شاء مِن خير الدُّنيا والآخرة، وأجمع ما يُدعى به في ذلك: «ربَّنا آتنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً، وقِنَا عذابَ النَّار» فإن هذه جامعة لخير الدنيا والآخرة.
مسألة: هل يجوز الدُّعاء لمعين، بأن يقول: اللهم اجْزِ فلاناً عنِّي خيراً، أو اللَّهُمَّ اغفِرْ لفلان؟
الجواب: يجوز، لأن هذا دعاء؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ثبت عنه أنه في نفس الصَّلاة دعا على قوم معينين، ودعا لقوم معينين، فدعا للمستضعفين في مكَّة، ودعا على الطُّغاة في مكَّة، لكنه نُهِيَ عن الدُّعاء على الطُّغاة باللَّعن
لكن؛ لو دعا لشخص بصيغة الخطاب فقال مثلاً: غَفَرَ الله لك يا شيخ الإسلام ابن تيمية. فالفقهاء يقولون: تبطل؛ لأنه أتى بكاف الخطاب، والخطابُ لا يجوز في الصَّلاة؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يصلُحُ فيها شيءٌ من كلام النَّاسِ» ولم يستثنوا إلا النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: إنك تخاطبه: «السَّلامُ عليك أيُّها النَّبيُّ»، أما غيره فلا تأتِ له بكاف الخطاب مطلقاً، ولكن هذا القول في النَّفْسِ منه شيء، وذلك لأنك إذا قلت: غَفَرَ الله لك يا فلان؛ وأنت تُصلِّي، فإنك لا تشعر بأنك تخاطبه أبداً، ولكن تشعرُ بأنك مستحضرٌ له غاية الاستحضار حتى كأنه أمامك، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال حين تفلَّت عليه الشيطان: «ألعنك بلعنة الله التَّامَّة» فخاطبه، فبعضهم قال: إن هذا الحديث قبل تحريم الكلام، وبعضهم يؤوِّله، ولكن في كلا الجوابين نَظَرٌ.
فالذي يظهر: أن خطاب الآدميين المنهيِّ عنه: أن تخاطبه المخاطبة المعتادة، فتقول مثلاً: يا فلان تعال، فهذا كلام آدميين تبطل به الصَّلاة، لكن شخصاً يستحضر شخصاً ثم يقول: غَفَرَ الله لك يا فلان، فكون هذا مبطلاً للصَّلاةِ فيه نَظَر، ولكن درءاً للشُّبهة بدل أن تقول: غَفَرَ الله لك، فقل: اللَّهُمَّ اغفِر له، فهذا جائز بالاتفاق.

ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ،............
قوله: «ثم يُسلِّم عن يمينه» أي: بعد التشهُّدِ والدُّعاء، يُسلِّم عن يمينه وعن يساره، فيقول، عن يمينه: «السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله»، وعن يساره: «السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله» وهذا خطابٌ، لكنه خطابٌ يخرجُ به من الصَّلاة، بخلاف الخطابِ الذي يكون في أثناء الصَّلاة.
مسألة: إذا قيل: على مَنْ يُسلِّم؟
فالجواب: يقولون: إذا كان معه جماعة فالسَّلام عليهم، وإذا لم يكن معه جماعة فالسَّلام على الملائكة الذين عن يمينه وشماله يقول: السَّلامُ عليكم ورحمة الله.
وإذا سَلَّمَ الإنسانُ مع الجماعة، هل يجب على الجماعة أن يردُّوا عليه؟
الجواب: لا، وإن كان قد روى أبو داود أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أمرَهم أن يردُّوا على الإمام، ويُسلِّم بعضهم على بعض فمراده: أن يسلِّموا كما سلَّم بعد انتهاء سلامه، فيكون سلامُهم بعدَه كالردِّ عليه، وليس مراده أن يقولوا: عليك السَّلام، لأن ذلك يُنافي عملهم الذي كانوا عليه. وأما قوله: «ويُسلِّم بعضهم على بعض» فمراده أن كلَّ واحد يقول: السَّلام عليكم، فكلُّ واحد يُسلِّم على الآخر بهذا اللفظ؛ فاكتفى بسلام الثاني عن الرَّدِّ؛ هذا هو أقرب ما يُقال في رَدِّ هذا السلام، ولا شَكَّ أن المأمومين يُسلِّم بعضُهم على بعض بهذا، كما قال النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام حينما كانوا يرفعون أيديهم يُوْمِئُون بها قال: «عَلاَمَ تُؤْمُونَ بأيديكم كأنَّها أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ؟ إنما كان يكفي أحدكُم أن يضعَ يده على فخذه، ثم يُسَلِّمُ على أخيه مِن على يمينه وشماله».
وهذا يدلُّ على أن السَّلام يقصد به السَّلام على مَن بجانبه، لكنه لما كان كُلُّ واحد يُسلِّم على الثاني اكتُفي بهذا عن الرَّدِّ، والله أعلم.
قوله: «السلام عليكم ورحمة الله» سَبَقَ شرحُها عند شرح التشهُّدِ.

وَعَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ .............
قوله: «وعن يساره كذلك» أي: يقول: «السَّلامُ عليكم ورحمة الله». وهنا بحثٌ في السَّلام:
أولاً: لو قال: سلام عليكم بدون (أل) هل يجزئ؟
الجواب: نعم، لكن السُّنَّة أن يكون بـ(أل) فيقول: «السَّلام عليكم».
ثانياً: لو جاء بالإفراد فقال: «السَّلام عليك ورحمة الله»، فإنه لا يجزئ، لقول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»وَلِوُجُود الفَرْقِ بين الإفراد وبين الجمع.
ثالثاً: لو قال: «السَّلام عليكم» فقط، فهل يجزئ؟
فيه خلاف بين العلماء:
مِنهم مَن قال: لا يجزئ، وهو المذهب.
ومِنهم مَن قال: يجزئ، وهو رواية عن أحمد؛ لأنه قد وَرَدَ في حديث جابر بن سَمُرَة قال: «صَلَّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكُنَّا إذا سَلَّمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، السلام عليكم...». بدون ذِكْرِ «ورحمة الله» وعلى هذا فيكون قوله: «ورحمة الله» سُنَّة، وليس بواجب.
رابعاً: هل يزيد في ذلك فيقول: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟
الجواب: هذا موضع خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: الأفضل ألا يزيد، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، لا في التسليمة الأولى، ولا في التسليمة الثانية.
وذهب بعضُ أهل العلم: إلى أن يزيد في التَّسليمةِ الأُولى «وبركاته» دون الثانية، فيقول في الأولى: «السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته»، وفي الثانية: «السلام عليكم ورحمة الله» الحديث أخرجه أبو داود قال الحافظ ابن حجر: إن إسناده صحيح.
خامساً: لو اقتصرَ على تسليمةٍ واحدةٍ فهل يجزئ؟
الجواب: هذا أيضاً موضع خلاف بين العلماء، فمنهم مَن قال: يجزئ؛ لحديث عائشة: «وكان يختِم الصَّلاة بالتسليم»، وهذا لفظ مطلق يصدق بواحدة.
ومنهم مَن قال: لا يجزئ؛ لأن «أل» في «التسليم» للعهد الذهني، أي: بالتسليم بالمعهود وهو «السلام عليكم ورحمة الله» عن اليمين، و«السلام عليكم ورحمة الله» عن اليسار، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، واستدلُّوا لذلك:
1 ـ بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّما كان يكفي أحدُكم أن يضع يدَه على فخذه ويسلِّم على أخيه من على يمينه ومن على شماله»وقالوا: إن ما دون الكفاية لا يكون مجزياً.
2 ـ محافظته صلّى الله عليه وسلّم على التسليمتين حضراً وسفراً، في حـضـور البوادي، والأعـراب، والعالم، والجاهل وقوله: «صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي» يدلُّ على أنه لا بُدَّ منهما.
وقال بعض أهل العلم: تجزئ واحدة في النَّفل دون الفرض؛ لأنه وَرَدَ عن النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام «أنه سَلَّم في الوتر تسليمةً واحدةً تِلقاء وجهه» وقالوا: إن النَّفل قد يُخفَّف فيه ما لا يُخفَّف في الفرض.
فهذه أقوال ثلاثة. والاحتياط فيها أن يُسلِّم تسليمتين؛ لأنه إذا سَلَّم مرَّتين لم يقل أحدٌ مِن أهل العلم إن صلاتك باطلة، ولو سلَّمَ مرَّةً واحدة لقال له بعضُ أهل العلم: إن صلاتك باطلة. ومن المعلوم أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بالاحتياط فيما لم يتضح فيه الدَّليل، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مشتبهات، فمَنِ اتقى الشُّبهات استبرأ لدينه وعِرْضِهِ، ومَنْ وَقَعَ في الشُّبهات وَقَعَ في الحرامِ».
وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «دَعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك». وأنت إذا أتيت بالتَّسليمةِ الثانية فقد أتيت بذِكْرٍ تتقرَّبُ به إلى الله عزَّ وجلَّ، وتَسْلَمُ به مِن أن يُقال: إن صلاتك باطلة.
على أن الذين قالوا بوجوب التسليمتين في الفرض والنَّفل أجابوا عن فِعْلِ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام بأنه قضية عين تحتمل النسيان أو غير ذلك، فلا يقدَّم هذا الفعل على القول الذي قال فيه: «إنَّما كان يكفي أحدُكم أن يقول كذا، وكذا، وذَكَرَ التَّسليمتين» ولكن هذا الاحتمال فيه نظر؛ لأن الأصل في فِعْلِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم التشريعُ وعدم النسيان، ولا سيما أنه سلَّم واحدة تلقاء وجهه على خلاف العادة، مما يدلُّ على أنه أرادها قصداً، لكن كما قلت: الاحتياط أن يُسلِّمَ مرَّتين في الفرض والنَّفل.

وإِنْ كَانَ فِي ثُلاَثِيَّةٍ أَوْ رُبَاعِيَّةٍ نَهَضَ مُكَبِّراً بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَوَّلِ
قوله: «وإن كان في ثلاثية، أو رباعية» «ثلاثية» مثل المغرب، «رباعية» مثل الظُّهر، والعصر، والعشاء.
قوله: «نهض مكبِّراً» مكبِّراً: حال مِن فاعل «نهض»؛ يدلُّ على أنه يكون التكبيرُ في حال النُّهوضِ، وهو كذلك؛ لأن جميع تكبيرات الانتقال محلُّها ما بين الرُّكنين.
قوله: «بعد التشهد الأول» التشهُّدُ الأول ينتهي عند قوله: «أشهدُ أنْ لا إله إلا الله؛ وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسولُه» وظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا يرفع يديه؛ لأنه لم يذكره، وهذا هو المشهور من المذهب: أنه لا يرفع يديه إذا قام مِن التشهُّدِ الأول؛ لأن مواضع رَفْعِ اليدين على المذهب ثلاثة فقط: عند تكبيرة الإحرام، وعند الرُّكوع، وعند الرَّفع منه.
ولكن الصَّحيح: أنه يرفع يديه؛ لأنه صَحَّ عن ابن عُمر رضي الله عنهما عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم.
ولأنه انتقال مِن نوع إلى نوع آخر في الصَّلاة، فإن الرَّكعتين الأوليين يُشرع فيهما ما لا يُشرع في الرَّكعتين الأخريين، فصار مِن الحكمة أن يميِّز هذا الانتقال بالرَّفْعِ، كأنه صلاة جديدة؛ لتميزها عن الرَّكعتين الأوليين.
وعلى هذا؛ فمواضع رَفْع اليدين أربعة:
عند تكبيرة الإحرام، وعند الرُّكوعِ، وعند الرَّفْعِ منه، وإذا قام من التشهُّدِ الأول. ويكون الرَّفْعُ إذا استتمَّ قائماً؛ لأن لفظ حديث ابن عُمر: «وإذا قام من الرَّكعتين رَفَعَ يديه»، ولا يَصدُق ذلك إلا إذا استتمَّ قائماً، وعلى هذا، فلا يرفع وهو جالس ثم ينهض، كما توهَّمَهُ بعضهم، ومعلوم أن كلمة «إذا قام» ليس معناها حين ينهض؛ إذ إن بينهما فرقاً.
ولا رَفْعَ فيما سوى ذلك.

وَصَلَّى مَا بَقِيَ كَالثَّانِيَةِ بِالْحَمْدِ فَقَطْ،..........
قوله: «وصلَّى ما بقي كالثَّانية بالحمد فقط» : أي: كالرَّكعة الثانية، أي: فليس فيه تكبيرة إحرام، ولا استفتاح، ولا تعوُّذ، ولا تجديد نيَّة، وتمتاز هاتان الرَّكعتان عن الأوليين، بأنه يُقتصر فيهما على الحَمْد، وأنه يُسرُّ فيهما بالقراءة في الصلاة الجهرية، فهما ركعتان مِن نوع جديد.
وقوله: «بالحمد فقط» أي: بالفاتحة لا يزيد عليها، وهذا هو مُقتضى حديث أبي قتادة رضي الله عنه الثَّابت في «الصحيحين» أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الرَّكعتين الأخريين بفاتحة الكتاب فقط، ولكن في حديث أبي سعيد الخدري ما يدلُّ على أن الركعتين الأخريين يقرأ فيهما؛ لأنه ذَكَرَ أنَّ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام كان يقرأ في الرَّكعتين الأوليين بسورة، ولا يطوّل الأولى على الثانية، ويقرأ بالرَّكعتين الأخريين بنصف ذلك.
وهذا يدلُّ على أنه جَعَلَ الرَّكعتين الأوليين سواء، والرَّكعتين الأخريين سواء.
لكن بعض العلماء رجَّحَ حديث أبي قتادة؛ لأنه متفق عليه، وحديث أبي سعيد في مسلم، ولأن حديث أبي قتادة جَزَمَ به الرَّاوي، وأما حديث أبي سعيد فقال: «حزرنا قيامه» أي: خرصناه وقدَّرناه، وفَرْقٌ بين مَن يجزم بالشيء وبين مَن يخرُصُه ويقدِّرُه.
وهذا هو المذهب كما مشى عليه المؤلِّف.
ولكن الذي يظهر أن إمكان الجَمْعِ حاصلٌ بين الحديثين، فيُقال: إن الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم أحياناً يفعل ما يدلُّ عليه حديث أبي سعيد، وأحياناً يفعل ما يدلُّ عليه حديث أبي قتادة؛ لأن الصلاة ليست واحدة حتى نقول: فيه تعارض، بل كلُّ يوم يصلِّي الرسول صلّى الله عليه وسلّم خمس مرَّات، وإذا أمكن الجَمْعُ وَجَبَ الرُّجوعُ إليه قبل أن نقول بالنَّسخ، أو بالترجيح.

ثُمَّ يَجْلِسُ فِي تَشَهُّدِهِ الأخِير مُتَوَرِّكاً ............
قوله: «ثم يجلس في تشهده الأخير متورِّكاً» ، أي: إذا أتى بما بقي إما ركعة إن كانت الصَّلاةُ ثلاثية، وإما ركعتين إن كانت رباعية جَلَسَ في التشهُّدِ الأخير متورِّكاً.
وكيفية التورُّك: أن يُخرِجَ الرِّجلَ اليُسرى مِن الجانب الأيمن مفروشة، ويجلس على مَقعدته على الأرض، وتكون الرِّجل اليُمنى منصوبة. وهذه إحدى صفات التورُّكِ.
الصفة الثانية: أن يَفرُشَ القدمين جميعاً، ويخرجهما مِن الجانب الأيمن.
الصفة الثالثة: أن يَفرُشَ اليُمنى، ويُدخل اليُسرى بين فخذ وساق الرِّجل اليُمنى.
كلُّ هذه وردت عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في صفة التورُّك، وعلى هذا فنقول: ينبغي أن يَفعلَ الإنسانُ هذا مرَّة، وهذا مرَّة، بناءً على القاعدة التي قعَّدها أهلُ العلم وهي: أن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة؛ ينبغي أن يفعلَها على جميع الوجوه الواردة، لأن هذا أبلغ في الاتَّباعِ مما إذا اقتصر على شيء واحد.
وعُلِمَ مِن قوله: «في تشهُّدِه الأخير» أنه لا تورُّك إلا في التشهُّدِ الأخير من صلاةٍ ذات تشهُّدين، والمراد التشهُّدُ الأخير الذي يعقبه السَّلام، وقولنا: «الذي يعقبه السَّلام» احترازٌ مِن التشهُّدِ الأخير الذي لا يعقبه سلام، كما لو سُبِقَ المأمومُ بركعة، وجَلَسَ مع إمامه في تشهُّدِه الأخير؛ فإنه لا يتورَّك لأن تشهُّدَه هذا لا يعقبه سلام.
ولكن ههنا مسألة؛ وهي أنه يجب على الإنسان الذي يفعل هذه العبادات المتنوِّعة أن يكون على يقين منها، فإن شكَّ رَجَعَ إلى ما يتيقَّنُه، فمثلاً: حديث ابن عباس في التشهُّدِ، وحديث ابن مسعود، بينهما بعض الاختلاف فأحياناً ينسى الإنسان ما جاء في حديث ابن عباس، وحينئذ يقتصر على الذي يعلم، كما قلنا في القراءات الواردة في قراءة القرآن الكريم، إذا كُنتَ حافظاً لها مجيداً متقناً لها فالأفضل أن تقرأ بهذا مرَّة، وبهذا مرَّة؛ ما لم يكن بحضرة العَوَام، وأما إذا كنت غير مجيد لها فإنك تقتصر على ما تعلم؛ لئلا تخلِّط في القرآن، وهكذا العبادات.

وَالْمَرْأَةُ مِثْلُهُ ............
قوله: «والمرأة مثله» أي: مثل الرَّجل؛ لعدم الدليل على التفريق بين الرَّجُل والمرأة، والأصل في النِّساء أنهن كالرِّجال في الأحكام، كما أن الأصل في الرِّجَال أنهم كالنِّساء في الأحكام.
ولهذا مَنْ قَذَفَ رجلاً ترتَّب عليه حَدُّ القَذْفِ، كما لو قَذَفَ امرأة مع أن آية القذف في النساء قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *}{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 4 ـ 5] وقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في المُوبِقَات: «وقَذْفُ المُحْصَنَاتِ الغَافلاتِ المؤمناتِ».
فالأصلُ اشتراكُ المكلَّفين مِن الرِّجَال والنِّساء في الأحكام؛ إلا ما قام الدَّليلُ عليه. مثل: الولاية العامة كالإمارة، والقضاء، وما أشبهه، فهي خاصَّة بالرِّجال، لكن قد تتولَّى المرأةُ إمارةً محدودة، كما لو سافرت مع نساء وصارت أميرتهنَّ في السَّفر، وكمديرة المدرسة، وما أشبه ذلك.

لَكِنْ تَضُمُّ نَفْسَهَا، وتسدل رجليها في جانب يمينها.............
قوله: «لكن تَضُمُّ نفسها» أي: أن المرأة تضمُّ نفسها في الحال التي يُشرع للرَّجل التَّجافي، كما في حال الرُّكوعِ والسُّجود يشرع للرَّجُل مجافاة العضدين عن الجنبين، وفي حال السجود مجافاة العضدين عن الجنبين، والفخذين عن الساقين.
والمرأة لا تجافي، بل تضمُّ نفسَها، فإذا سَجَدَتْ تجعل بطنَها على فخذيها، وفخذيها على ساقيها، وإذا ركعتْ تضمُّ يديها.
والدَّليل على ذلك: القواعد العامة في الشريعة، فإن المرأة ينبغي لها السَّتر، وضمُّها نفسها أستر لها مما لو جافت.
هكذا قيل في تعليل المسألة!.
والجواب على هذا من وجوه:
أولاً: أن هذه عِلَّة لا يمكن أن تقاوم عمومَ النُّصوص الدَّالة على أن المرأة كالرَّجُل في الأحكام، لا سيما وقد قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي» فإن هذا الخطاب عامٌّ لجميع الرِّجال والنساء.
ثانياً: ينتقض فيما لو صَلَّت وحدَها، والغالبُ والمشروعُ للمرأة أن تُصلِّي وحدها في بيتها بدون حضرة الرِّجال، وحينئذٍ لا حاجة إلى الانضمام ما دام لا يشهدها رِجَال.
ثالثاً: أنهم يقولون: إنها ترفع يديها، في مواضع الرَّفْعِ، ورَفْعُ اليدين أقربُ إلى التكشُّف مِن المجافاة، ومع ذلك يقولون: يُسَنُّ لها رَفْعُ اليدين؛ لأن الأصل تساوي الرِّجَال والنِّساء في الأحكام.
فالقول الرَّاجح: أن المرأة تصنعُ كما يصنعُ الرَّجُلُ في كلِّ شيء، فترفَعُ يديها وتجافي، وتمدُّ الظَّهرَ في حال الرُّكوعِ، وترفعُ بطنَها عن الفخذين، والفخذين عن الساقين في حال السُّجود.
قوله: «وتسدل رجليها في جانب يمينها» يعني: أنها تخالف الرَّجل في كيفيَّة الجلوس، فلا تفترش، ولا تتورَّك، ولكن تسدلُ الرِّجْلين بجانب اليمين في الجلوس بين السَّجدتين، وفي التشهُّدين. وهذا أيضاً ليس عليه دليل، بل الدليل يدلُّ على أنها تفعل كما يفعل الرَّجل تفترش في الجلوس بين السَّجدتين، وفي التشهُّدِ الأول، وفي التشهُّدِ الأخير في صلاة ليس فيها إلا تشهُّدٌ واحدٌ، وتتورَّك في التشهُّدِ الأخير في الثلاثية والرباعية.
وعلى هذا؛ تكون المرأةُ مساوية للرَّجُل في كيفية الصَّلاة.
انتهى المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ من الكلام على صفة الصَّلاة، ولكن لم يذكر رحمه الله ماذا يقول بعد السَّلام مِن الصَّلاة؛ لأن الكتاب مختصر، ولكن ينبغي أن نعرفَ ماذا يقول الإنسان بعد السَّلام من الصَّلاة.
فيقول إذا سَلَّم: «أستغفرُ الله» ثلاث مرَّات أي: أطلبُ مِن الله المغفرةَ، وإنما شُرع للإنسان سؤال المغفرة بعد أداء هذه العبادة العظيمة؛ لأنها جديرة بالاعتناء والاهتمام.
وكثيرٌ من الناس يُفرِّط فيها، إما بالمشروعات الظَّاهرة، أو بالمشروعات الباطنة. ففي المشروعات الباطنة يفرِّط تفريطاً كثيراً فيستولي الوسواسُ على صلاته أو أكثرها، وما أكثر الذين يُصلُّون بظواهرهم لا ببواطنهم، وفي المشروعات الظَّاهرة أيضاً لا يخلو الإنسان من تقصير أو تجاوز، ربما يُقصِّرُ في وَضْعِ اليدين، أو في استواء الظَّهر مع الرَّأس في الرُّكوع، أو في التَّجافي، أو في غير ذلك، وربَّما يكون منه تجاوز بالحركات، كما يشاهد مِن بعض المصلِّين.
وهذا كلُّه مِن الشيطان يُذكِّرُ الإنسان بالشيء، وإذا انتهى من الصَّلاة أنساه إيَّاه، حتى تأتي الصلاة الثانية ثم يذكره، ولهذا يُذكرُ أن رجلاً جاء إلى أبي حنيفة وقال: إنه نسيَ كذا وكذا، فقال له: اذهبْ فَصَلِّ، فذهب الرَّجُل وصَلَّى؛ فتذكَّر؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر بأن الشيطان يقول للإنسان في حال صلاته: «اذكرْ كذا».
فأبو حنيفة ـ رحمه الله ـ استنبط مِن هذا الحديث: أن الصَّلاةَ سببٌ للتذكُّر.
والمهمُّ أن الاستغفار بعد السَّلام له مناسبةٌ عظيمة، وهي جَبْرُ التقصير والخلل في الصَّلاة، فنسأل الله المغفرةَ، ولهذا استُحبَّ للإنسان أن يختِمَ عملَه بالاستغفار، وأن يختِمَ عُمُرَه بالاستغفار، أما العُمُرُ فقد قال الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا *} [النصر] قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا نعيُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال عُمرُ: ما أعلم منها إلا ما تقول. وقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «خَبَّرَني رَبِّي أنِّي سأرى علامةً في أُمَّتي، فإذا رأيتُها أكثرتُ مِن قول: سبحان الله وبحمدِه، أستغفُر الله وأتوب إليه، فقد رأيتُها، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *} فَتْح مكة، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا *}فجاء نَصْرُ الله والفتحُ، ورأى العلامةَ، ولهذا كان يُكثر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ذلك أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللَّهمَّ؛ ربّنا وبحمدك، اللَّهُمَّ اغفِرْ لي».
ثم يقول بعد الاستغفار: «اللَّهُمَّ أنت السَّلامَ ومنك السَّلامُ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام»، والمناسبة في هذا ظاهرة، كأنك تقول: اللَّهُمَّ أنت السَّلام، فسلِّمْ لي صلاتي مِن الرَّدِّ والنَّقْصِ، لأن الصَّلاةَ قد تُقبل وقد لا تُقبل، قد تُلَفُّ ويُضرب بها وَجْهُ صاحبها والعياذ بالله، وقد تُقبل، وما أربح الذين يَقبل الله صلاتهم!
ثم يقول ما وَرَدَ من الذِّكرْ.
والتَّرتيب بعد الاستغفار، وقوله: «اللَّهمَّ أنت السَّلامُ، ومنك السَّلامُ» لا أعلم فيه سُنَّة، فإذا قَدَّم شيئاً على شيء فلا حَرَجَ.
والمهمُّ أن يحرِصَ الإنسانُ على ما وَرَدَ عن النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام في هذا الباب، ومنه التسبيح والتحميد والتكبير وقد وَرَدَ على عدَّة أوجه:
الوجه الأول أن يقول: «سبحان الله» ثلاثاً وثلاثين، و«الحمد لله» ثلاثاً وثلاثين، و«الله أكبر» ثلاثاً وثلاثين، ويختمُ بـ«لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كُلِّ شيء قدير» فتكون مِئَة.
الوجه الثاني أن يقول: «سبحان الله» ثلاثاً وثلاثين، و«الحمد لله» ثلاثاً وثلاثين، و«الله أكبر» أربعاً وثلاثين، فيكون الجميع مِئَة.
الوجه الثالث أن يقول: «سبحان الله» عشراً، و«الحمد لله» عشراً، و«الله أكبر» عشراً، فيكون الجميع ثلاثين.
الوجه الرابع أن يقول: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» خمساً وعشرين مرَّة، فيكون الجميع مِئَة.
وهذا الاختلاف مِن اختلاف التنوُّع، وقد مَرَّ علينا أنه ينبغي للإنسان في العبادات الواردة على وجوه متنوِّعة أن يفعل هذا تارةً وهذا تارةً، وذكرنا فوائد ذلك وينبغي أيضاً أن يَقرأ آيةَ الكرسيِّ؛ لأنه رُويَ فيها أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم[(418)] لكن إن صَحَّت فقد وقعت محلَّها، وإن لم تكن صحيحة فهي زيادة حِرْزٍ للإنسان، لأن قراءة «آية الكرسي» يحفظُ الإنسانَ من الشياطين، وكذلك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ *} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ *} ومن أراد بَسْطَ هذا فليرجعْ إلى الكتب المؤلَّفة في ذلك، مثل كتاب «الأذكار» للنووي، وكتاب «الوابل الصَّيِّب» لابن القيم، وهو كتاب مفيد؛ لأنه ـ رحمه الله ـ ذَكَرَ فيه فوائد الذِّكر، وذَكَرَ فيه فوق مِئَة فائدة من فوائد الذِّكر..


  #6  
قديم 9 محرم 1434هـ/22-11-2012م, 07:04 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي إجابات على أسئلة طلاب الدورات العلمية بالمعهد / الشيخ عبد العزيز الداخل

السؤال الأول : خصوص مسألة الإيمان بأن النار في الأرض، ألا يمكن أن يقال: إن كون النار ليست في السماء لا يستلزم من ذلك كونها في الأرض، وأن الاستدلال بحديث: (اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى، وأعيدوه إلى الأرض) غير واضح، إذ إن أحوال الأرواح لا يمكن أن تدرك بالعقل، فكما أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يصلي في قبره، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه في السماء، قد يقال: إن كون الكافر يعذب في قبره لا يستلزم من ذلك كونه لا يعذب بالنار في مكان غير الأرض..
فهل استدلال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في هذه المسألة يفيد وجوب الإيمان بأن النار في الأرض؟
الجواب :
هذا ترجيح منه رحمه الله لهذا القول، وهذه المسألة لأهل العلم فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها في الأرض السفلى
القول الثاني: أنها في السماء.
القول الثالث: التوقف في مكانها.
وأكثر الآثار المروية عن السلف على القول الأول أنها في الأرض السابعة، لكن أكثرها في إسنادها مقال، وما استدل به بعض أهل العلم ليس فيه تصريح بمكانها كما في حديث البراء الذي ذكره الشيخ.
ومنها ما هو استنباط كقول ابن مسعود رضي الله عنه: (جهنم في الأرض) ثم تلا {فانهار به في نار جهنم}، وهو من رواية عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عنه.
والقول الأول أشهر في كتب السلف، والله تعالى أعلم بحقيقة مكانها الآن، لكن دل الكتاب والسنة على أن جهنَّم يؤتى بها يوم القيامة ، ولم يرد في تلك النصوص بيان الموضع الذي يؤتى بها منه
قال تعالى: {وجيء يومئذ بجهنم} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يؤتي بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) رواه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
ومسائل الاعتقاد التي يختلف فيها أهل العلم - وهي قليلة - يعتقد العبد فيها ما ترجَّح له بالدليل إن كان من أهل الاجتهاد، وإلا أخذ بقول من يثق بعلمه ودينه من أهل العلم.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأول،, التشهد

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:03 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir