(17)
مناسبةُ البابِ لكتابِ التوحيدِ:
أنْ قولَ:
((ما شاءَ اللهُ وشئتَ)) مِنَ الشركِ الأكبرِ أو الأصغرِ؛ لأنَّهُ إن اعتقدَ أنَّ المعطوفَ مساوٍ للهِ فهوَ شِرْكٌ أكبرُ، وإن اعتقدَ أنَّهُ دونَهُ لكنْ أشركَ بهِ في اللفظِ فهوَ أصغرُ، وقدْ ذكَرَ بعضُ أهلِ العلمِ: أنَّ مِنْ جملةِ ضوابطِ الشركِ الأصغرِ أنَّ ما كانَ وسيلةً للأكبرِ فهوَ أصغرُ.
(18)
قولُهُ: (أنَّ يَهُوديًّا) اليهوديُّ هوَ: المنتسِبُ إلَى شريعةِ
موسَى عليهِ السلامُ، وسُمُّوا بذلكَ مِنْ قولِهِ تعالَى: {إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ} أيْ: رَجَعْنَا، أوْ لأنَّ جدَّهم اسمُهُ يَهُوذَا بنُ يعقوبَ، فتكونُ النسبةُ منْ أجلِ النسبِ، وفي الأولِ تكونُ النسبةُ مِنْ أجلِ العملِ، ولا يَبْعُدُ أنْ تكونَ مِنَ الاثنينِ جميعًا.
قولُهُ: (إِنَّكُم تُشرِكُونَ) أيْ: تَقَعونَ في الشركِ أيُّها المسلمونَ.
قولُهُ: ((ما شاءَ اللهُ وشئْتَ)) الشركُ - هنا - أنَّهُ جعلَ المعطوفَ مساويًا للمعطوفِ عليهِ، وهوَ اللهُ عزَّ وجلَّ، حيث كانَ العطفُ بالواوِ المفيدةِ للتَّسْوِيَةِ.
قولُهُ: ((والكعبةِ)) الشركُ -هنا- أنَّهُ حَلِفٌ بغيرِ اللهِ، ولمْ يُنِكِر النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ما قالَ اليهوديُّ، بلْ أمَرَ بتصحيحِ هذا الكلامِ فأمرهم إذا حلفوا أنْ يقولوا: وربِّ الكعبةِ، فيكونُ القسَمُ باللهِ.
وأمَرَهم أنْ يقولوا: ((ما شاءَ اللهُ ثمَّ شئتَ)) فيكونُ الترتيبُ بـ(ثمَّ) بينَ مشيئةِ اللهِ ومشيئةِ المخلوقِ، وبذلكَ يكونُ الترتيبُ صحيحًا؛ أمَّا الأولُ فلأن الحلفَ صارَ باللهِ، وأمَّا الثاني فلأنَّهُ جُعلَ بلفظٍ يتبيَّنُ بهِ تأخُّرُ مشيئةِ العبدِ عنْ مشيئةِ اللهِ، وأنَّهُ لا مساواةَ بينَهُمَا.
(19)
قولُهُ في حديثِ ابنِ
عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: (أنَّ رجُلاً قالَ للنبيِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ) الظاهرُ أنَّهُ قالَهُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تعظيمًا، وأنَّهُ جعلَ الأمرَ مُفَوَّضًا لمشيئةِ اللهِ ومشيئةِ رسولِهِ.
قولُهُ: ((أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟))الاستفهامُ للإنكارِ، وقدْ ضُمِّنَ معنَى التعجُّبِ، ومَنْ جعلَ للخالقِ ندًّا فقدْ أتَى شيئًا عجابًا.
والندُّ
هوَ: النظيرُ والمساوي؛ أيْ: أجَعَلْتَنِي للهِ مساويًا في هذا الأمرِ.
قولُهُ: (بلْ مَا شاءَ اللهُ وحْدَهُ) أرشدَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلَى ما يَقْطَعُ عنهُ الشركَ، ولمْ يرشدْهُ إلَى أنْ يقولَ: ((ما شاءَ اللهُ ثمَّ شئتَ)) حتَّى يَقْطَعَ عنه كلَّ ذريعةٍ عَنِ الشركِ وإنْ بَعُدَت.
وتعظيم النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بلفظٍ يقتضي مساواتَهُ للخالقِ شركٌ،
فإنْ كانَ يعتقدُ المساواةَ فهوَ شركٌ أكبرُ، وإنْ كانَ يعتقدُ أنَّهُ دونَ ذلكَ فهوَ أصغرُ، وإذا كانَ هذا شِرْكًا فكيفَ بمَنْ يجعلُ حقَّ الخالقِ للرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؟
هذا أعظمُ؛ لأنَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ليسَ لهُ شيءٌ مِنْ خصائصِ الربوبيَّةِ، بلْ يَلْبَسُ الدِّرْعَ، ويحملُ السلاحَ، ويجوعُ، ويتألَّمُ، ويَمْرَضُ، ويعطشُ كبقيَّةِ الناسِ، ولكنَّ اللهَ فضَّلَهُ علَى البشرِ بما أَوْحَى إليهِ مِنْ هذا الشرعِ العظيمِ، قالَ تعالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} فهوَ بشرٌ، وأكَّدَ هذهِ البشريَةَ بقولِهِ: {مِثْلُكُمْ} ثمَّ جاءَ التمييزُ بينَهُ وبينَ بقيَّةِ البشرِ بقولِهِ تعالَى: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ}.
ولا شكَّ أنَّ اللهَ أعطاهُ مِنَ الأخلاقِ الفاضلةِ التي بها الكمالاتُ مِنْ كلِّ وجهٍ: أعطاهُ مِنَ الصبرِ العظيمِ، وأعطاهُ مِنَ الكرمِ ومِنَ الجودِ، لكنَّها كلَّها في حدودِ البشريَّةِ، أمَّا أنْ تَصِلَ إلَى خصائصِ الربوبيَّةِ فهذا أمرٌ لا يمكنُ، ومَن ادَّعَى ذلكَ فقْد كفرَ بمحمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكفرَ بمَنْ أرسلَهُ.
فالمهمُّ أنَّنا لا نغلُو في الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فنُنَزِّلُهُ في منزلةٍ هوَ يُنْكِرُهَا، ولا نَهْضِمُ حقَّهُ الذي يجبُ علينا، فنعطيهِ مَا يجبُ لَهُ، ونسألُ اللهَ أنْ يعينَنا علَى القيامِ بحقِّهِ، ولكننَّا لا نُنَزِّلُهُ منزلةَ الربِّ عزَّ وجلَّ.
(20)
قولُهُ في حديثِ
الطُّفَيْلِ:((رأيتُ كَأنِّي أَتَيتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ اليهودِ)) أيْ: رؤيا في المنامِ.
وقولُهُ: (كَأنَّ) اسمُها الياءُ، وجملةُ (أتَيْتَ) خبرُها.
وقولُهُ: (عَلَى نَفَرٍ) من الثلاثةِ إلَى التسعةِ، واليهودُ أتباعُ موسَى.
قولُهُ: ((لأنْتُمُ القَوْمُ)) كلمةُ مدحٍ، كقولِكَ: هؤلاءِ هم الرجالُ.
وقولُهُ: ((عُزَيْرٌ)) هوَ: رجلٌ صالحٌ ادَّعَى اليهودُ أنَّهُ ابنُ اللهِ، وهذا مِنْ كَذِبهِمْ وهوَ كفرٌ، واليهودُ لهمْ مَثَالِبُ كثيرةٌ، لكنْ خُصَّتْ هذهِ؛ لأنَّها مِنْ أعظمِهَا وأشهرِهَا عندَهُمْ.
قولُهُ: ((ما شاءَ اللهُ وشاءَ مُحَمدٌ)) هذا شِرْكٌ أصغرُ؛ لأنَّ الصحابةَ الذينَ قالُوا هذا، ولا شكَّ أنَّهم لا يعتقدونَ أنَّ مشيئةَ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مساويَةٌ لمشيئةِ اللهِ، فانْتَقَدَ عليهمْ تسويَةَ مشيئةِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بمشيئةِ اللهِ عزَّ وجلَّ باللفظِ، معَ عِظَمِ ما قالَهُ هؤلاء اليهودُ في حقِّ اللهِ جلَّ جلالُهُ.
قولُهُ: ((تقولونَ:المسيحُ ابنُ اللهِ))هوَ: عيسَى ابنُ مريمَ، وسُمِّيَ مسيحًا بمعنَى: ماسحٍ، فهوَ (فَعِيلٌ) بمعنَى (فاعلٍ)؛ لأنَّهُ كانَ لايَمْسَحُ ذا عاهةٍ إلاَّ بَرِئَ بإذنِ اللهِ، كالأكْمَهِ والأبْرَصِ.
والشيطانُ لَعِبَ بالنصارَى فقالُوا: (هوَ ابنُ اللهِ؛ لأنَّهُ أتَى بدونِ أبٍ) كما في القرآنِ: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} قالُوا: هوَ جزءٌ مِنَ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ أضافَهُ إليهِ، والجزءُ هوَ الابنُ.
والروحُ
: علَى الراجحِ عندَ أهلِ السُّنةِ: ذاتٌ لطيفةٌ تدخلُ الجسمَ وتَحُلُّ فيهِ، كما يَحُلُّ الماءُ في الطينِ اليابسِ، ولهذا يَقْبِضُهَا المَلَكُ عندَ الموتِ وتُكَفَّنُ ويُصْعَدُ بها، ويراها الإنسانُ عندَ موتِهِ.
فالصحيحُ
أنَّها ذاتٌ، وإنْ كانَ بعضُ الناسِ يقولونَ: إنَّها صفةٌ، وليسَ كذلكَ، بل الحياةُ صفةٌ والروحَ ذاتٌ، وقد أضافَ اللهُ رُوحَ عيسَى إليهِ، كمَا أضافَ: البيتَ والمساجدَ والناقةَ إليهِ، وما أشبَهَ ذلكَ علَى سبيلِ التشريفِ والتعظيمِ، ولا شكَّ أنَّ المضافَ إلَى اللهِ يَكْتَسِبُ شرفًا وعظمةً.
قولُهُ: ((فلَما أصْبَحْتُ أَخْبَرْتُ بِها مَنْ أخبَرتُ)) المقصودُ بهذهِ العبارَةِ الإبهامُ، كقولِهِ تعالَى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} والإبهامُ قدْ يكونُ للتعظيمِ كما في الآيَةِ المذكورةِ، وقدْ يكونُ للتحقيرِ، حسَبَ السياقِ، وقدْ يُرادُ بهِ معنًى آخرُ.
قولُهُ: ((هلْ أَخْبَرْتَ بِها أحدًا؟)) سألَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ هذا السؤالَ؛ لأنَّهُ لوْ قالَ: لم أُخْبِرْ أحدًا؛ فالمتوقَّعُ أنَّ الرسولَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ سيقولُ لَهُ: لا تُخْبِرْ أحدًا، هذا هوَ الظاهرُ، ثمَّ يُبَيِّنُ لهُ الحكمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، لكنْ لمَّا قالَ إنَّهُ أخبرَ بها، صارَ لا بدَّ مِنْ بيانِهَا للناسِ عمومًا؛ لأنَّ الشيءَ إذا انتشَرَ يَجِبُ أنْ يُعلَنَ عنهُ، بخلافِ ما إذا كانَ خاصًّا فهذا يُخْبَرُ بهِ مَنْ وصَلَهُ الخبرُ.
قولُهُ: ((فَحَمِدَ اللهَ))الحمدُ: وصفُ المحمودِ بالكمالِ معَ المحبةِ والتعظيمِ.
قولُهُ:
((وأثْنَى عليهِ)) أيْ: كرَّرَ ذلكَ الوصفَ.
قولُهُ: ((أَمَّا بعدُ)) سبقَ أنَّها بمعنَى: مَهْمَا يكنْ مِنْ شيءٍ بعدُ؛ أيْ: بعدَ ما ذكرتُ فكذا وكذا.
قولُهُ: ((يَمْنَعُنِي كَذا وكَذا)) أيْ: يمنعهُ الحياءُ كما في روايَةٍ أخرَى، ولكنْ ليسَ الحياءُ مِنْ إنكارِ الباطلِ، ولكنْ مِنْ أنْ يَنْهَى عنها دونَ أنْ يأمرَهُ اللهُ بذلكَ، هذا الذي يجبُ أنْ تُحمَلَ عليهِ هذه اللفظةُ إنْ كانتْ محفوظةً، أنَّ الحياءَ الذي يمنعُهُ ليسَ الحياءَ مِنَ الإنكارِ؛ لأنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لا يَسْتَحِي مِنَ الحقِّ، ولكنَّ الحياءَ مِنْ أنْ ينكرَ شيئًا قدْ درَجَ علَى الألسنةِ، وألِفَهُ الناسُ قبلَ أنْ يؤمرَ بالإنكارِ.
مثلَ: الخمرِ، بقيَ الناسُ يشربونَها حتَّى حُرِّمَتْ في سورةِ المائدةِ، فالرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لمَّا لمْ يُؤْمَرْ بالنهيِ عنها سكتَ، ولما حصلَ التنبيهُ علَى ذلكَ بإنكارِ هؤلاءِ اليهودِ والنصارَى رأَى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ لا بدَّ مِنْ إنكارِها؛ لدخولِ اللومِ علَى المسلمينَ بالنطقِ بها.
قولُهُ: ((قُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ)) نهاهُمْ عَنِ الممنوعِ، وبيَّنَ لهم الجائزَ.
قال في (فتح المجيد) ص499: (وهذا الحديث والذي قبله: أمرهم أن يقولوا ما شاء الله وحده. ولا ريب أن هذا أكمل في الإخلاص، وأبعد عن الشرك، من أن يقولوا: ثم شاء فلان؛ لأن فيه التصريح بالتوحيد المنافي للتنديد من كل وجه، فالبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص) .
(21)
فيهِ مَسائِلُ:
الأولَى:
(مَعْرِفَةُ اليهودِ بالشِّرْكِ الأصغَرِ)
لقولِهِ: {إِنَّكُمْ لِتُشْرِكُونَ}.
(22)
الثانيَةُ: (فَهْمُ الإنسانِ إذا كَانَ لَهُ هَوًى)
أيْ: إذا كانَ لهُ هوًى فَهِمَ شيئًا، وإنْ كانَ هوَ يَرْتَكِبُ مثلَهُ أوْ أشدَّ منهُ، فاليهودُ مثلاً أنكروا علَى المسلمينَ قولَهم: ((مَا شاءَ اللهُ وشِئْتَ)) وهمْ يقولونَ أعظمَ مِنْ هذا، يقولُونَ: عزيرٌ ابنُ اللهِ، ويَصِفُون اللهَ تعالَى بالنقائِصِ والعيوبِ.
(23)
الثالثةُ: ((قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلّم:
((أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا)) هوَ قولُهُ: (ما شاءَ اللهُ وشِئْتَ)).
وقولُهُ: ((فكيفَ بمَنْ قالَ: مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ سِواكَ..)) والبيتينِ بعدَهُ: يُشيرُ رحمَهُ اللهُ إلَى أبياتٍ للبُوصِيرِيِّ في البُرْدةِ القصيدةِ المشهورةِ يقولُ فيها:
يا
أكرمَ الـخلـقِ مـا لي مـَنْ ألوذُ بِهِ سواكَ عندَ حلولِ الحادثِ العَمَمِ
إنْلم تَكُنْ آخِذًا يومَ الـمَعادِ يدي عـفـوًا،وإلاَّ فــقـلْ يـا زَلـَّةَ الـقـَدَمِ
فـإنَّ مـِنْ جُودِكَ الدنــيا وضَرَّتَهَا ومـِنْ عـلـومـِكَ عـلمَ اللوحِ والقلمِ
وهذا غايَةُ الكفرِ والغلوِّ، فلمْ يجعلْ للهِ شيئًا، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ شرَفُهُ بكونِهِ عبدَ اللهِ ورسولَهُ، لا لمجرَّدِ كونِهِ
محمَّدَ بنَ عبدِ اللهِ.
(24)
الرابعةُ: (أَنَّ هَذا ليسَ مِنَ الشِّركِ الأكبرِ لقولِهِ: ((يَمْنَعُني كَذا وكَذا))
لأنَّهُ لوْ كانَ مِنَ الشركِ الأكبرِ ما منعَهُ شيءٌ مِنْ إنكارِهِ.
(25)
الخامسةُ: (أنَّ الرُّؤيا الصَّالحةَ مِنْ أقْسامِ الوَحْيِ)
تُؤخذُ مِنْ حديثِ الطُّفَيْلِ، ولقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ)) وهذا موافقٌ للواقعِ بالنسبةِ للوحيِ الذي أُوحِي إلَى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؛ لأنَّ أولَ الوحيِ كانَ بالرؤيا الصالحةِ منْ ربيعٍ الأولِ إلَى رمضانَ، وهذا سِتَّةُ أشهرٍ، فإذا نَسَبْتَ هذا إلَى بقيَّةِ زمنِ الوحي كانَ جُزءًا منْ ستَّةٍ وأربعينَ جزءًا؛ لأنَّ الوحيَ كانَ ثلاثًا وعشرينَ سنةً وستَّةَ أشهرٍ مقدِّمَةً لهُ.
والرُّؤْيَا الصالِحةُ:
هيَ التي تَتَضَمَّنُ الصَّلاحَ،
وتأْتِي مُنَظَّمَةً وليستْ بأضغاثِ أحلامٍ.
أما أضغاثُ الأحلامِ
: فإنَّها مُشَوَّشةٌ غيرُ مُنَظَّمَةٍ، وذلكَ مثلُ التي قصَّها رجلٌ علَى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَأْسِي قدْ قُطِعَ.
وإِني جَعلتُ أشتَدُّ وراءهُ سعيًا.
فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:((لاَ تُحَدِّثِ النَّاسَ بِتَلاَعُبِ الشَّيطَانِ بِكَ فِي مَنَامِكَ)).
والغالبُ أنَّ الْمرائيَ المكروهةَ مِنَ الشيطانِ،
قالَ اللهُ تعالَى: {إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيُحْزِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ}، ولذلكَ أرشدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لمَنْ رأَى ما يَكْرَهُ أن يَتْفُلَ عنْ يسارِهِ، أوْ يَنْفُثَ ثلاثَ مراتٍ وأنْ يقولَ:((أَعوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ الشَّيطَانِ، وَمِنْ شرِّ مَا رَأيتُ، وَأَنْ يتَحَوَّلَ إلَى الْجَانِبِ الآخَرِ وَأَنْ لاَ يُخْبِرَ أَحَدًا)) وفي روايَةٍ: (أَمَرَهُ أنْ يَتَوضَّأ وأنْ يُصلِّيَ).
(26)
السادسةُ: ((أنَّها قدْ تكونُ سببًا لِشَرْعِ بعضِ الأحكامِ))
مِنْ ذلكَ رؤيا إبراهيمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ أنَّهُ يَذْبَحُ ابنَهُ، وهذا الحديثُ، وكذلكَ أثبتَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رؤيا عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ في الأذانِ وقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((إِنَّهَا رُؤْيَا حَقٍّ)) وأبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ أثبتَ رؤْيَا مَنْ رأَى ثابتَ بنَ قيسِ بنِ شَمَّاسٍ، فقالَ للذي رآه: إنكم سَتَجِدُونَ دِرْعِي تحتَ بُرْمةٍ، وعندهَا فَرَسٌ يَسْتَنُّ.
فلما أصبحَ الرجلُ ذهبَ إلَى خالدِ بنِ الوليدِ وأخبرَهُ.
فذهبُوا إلَى المكانِ ورأوُا الدرعَ تحتَ البُرْمةِ عندَها الفرسُ، فنفَّذَ أبو بكرٍ وصيَّتَهُ؛ لوجودِ القرائنِ التي تدلُّ علَى صدقِهَا).
لكن لوْ دلَّتْ علَى مَا يُخَالِفُ الشريعَةَ فلا عِبْرَةَ بها، ولا يُلْتَفَتُ إليها؛ لأنَّها ليستْ رؤيا صالِحَةً.