وفي الاصْطِلاحِ:
حبسُ النَّفْسِ على أشياءَ وعنْ أشياءَ.
هكذا قال الشارح -رحمه الله-
وفيه نظرة من وجهين:
الأول:
جعله ما هو حقيقة شرعاً مواضعة اصطلاحية.
والثاني:
أن الصحيح تعريف الصبر شرعاً
بأنه حبس النفس على أمل الله واقتصر المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ في هذا البابِ على ذكر الصبرَ على أقدارِ اللهِ؛ لأنَّهُ ممَّا يتعَلَّقُ بتوحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ فتدبيرَ الخلقِ والتقديرَ عليْهِمْ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ رُبُوبيَّةِ اللهِ تعالى.
قولُهُ: (على أَقْدارِ اللهِ) جمعُ قَدَرٍ، وتُطْلَقُ على المقدورِ، وعلى فِعْلِ المُقَدِّرِ وهوَ اللهُ تعالى.
أمَّا بالنسبةِ لفِعْلِ المُقَدِّرِ فيجبُ على الإنسانِ الرِّضَا والصبرُ، وبالنسبةِ للمقدورِ فيجبُ عليهِ الصبرُ، ويُستَحَبُّ لهُ الرِّضَا.
مثالُ ذلكَ: (قَدَّرَ اللهُ على سيَّارَةِ شخصٍ أنْ تحْتَرِقَ) فكونُ اللهِ قدَّرَ أنْ تحترقَ هذا قَدَرٌ يجبُ على الإنسانِ أنْ يرْضَى بهِ؛ لأنَّهُ منْ تمامِ الرِّضا باللهِ ربًّا.
وأمَّا بالنسبةِ للمقدورِ الذي هوَ احتراقُ السيَّارةِ، فالصبرُ عليهِ واجبٌ، والرِّضا مُسْتَحَبٌّ وليسَ بواجبٍ على القولِ الراجحِ.
والمقدُورُ قدْ يكونُ:
-
طاعاتٍ.
-
وقدْ يكونُ معاصيَ.
-
وقدْ يكونُ منْ أفعالِ اللهِ المَحْضَةِ.
فالطاعاتُ يجبُ الرِّضَا بها،
والمعاصي لا يجوزُ الرِّضَا بها منْ حيثُ هيَ مقدورٌ، أمَّا منْ حيثُ كَوْنُها قَدَرَ اللهِ فيجبُ الرِّضَا بتقديرِ اللهِ بكلِّ حالٍ؛ ولهذا قالَ ابنُ القيِّمِ:
فَلِذاكَ نَرْضى بالقَضَاءِ ونَسْخَطُ ال مَقـْضـِيَّ
حـيــنَ يـــَكونُ بالْعِصْيــَانِ
فمَنْ نظرَ بعينِ القضاءِ والقدَرِ إلى رجلٍ يعْمَلُ معصيَةً فعليهِ الرِّضَا؛ لأنَّ اللهَ هوَ الذي قدَّرَ هذا، ولهُ الحكمةُ في تقديرِهِ، وإذا نظرَ إلى فِعْلِهِ؛ فلا يجوزُ لهُ أنْ يرضَى؛ لأنَّهُ معصيَةٌ، وهذا هوَ الفَرْقُ بينَ القَدَرِ والمقْدُورِ.
(10)
قولُهُ تعالى:
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ}، {مَنْ} اسمُ شَرْطٍ جازمٌ، وفعلُ الشرطِ {يُؤْمِنْ} وجوابُهُ {يَهْدِ} والمرادُ بالإيمانِ باللهِ هنا: الإيمانُ بقدَرِهِ.
قولُهُ: {يَهْدِ قَلْبَهُ} يرزُقُهُ الطُّمَأْنِينَةَ، وهذا يدلُّ على أنَّ الإيمانَ يتعلَّقُ بالقلبِ، فإذا اهتدى القلبُ اهتَدَت الجوارحُ؛ لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ)).
(11)
قولُهُ: (قالَ عَلْقَمَةُ) هوَ مِنْ أكابرِ التابعينَ.
قولُهُ: (هوَ الرجلُ تُصِيبهُ المصيبةُ...) وتفسيرُ علقمةَ هذا منْ لازمِ الإيمانِ؛ لأنَّ مَنْ آمَنَ باللهِ عَلِمَ أنَّ التقديرَ منْ عندِ اللهِ، فيرْضَى ويُسَلِّمُ، فإذا عَلِمَ أنَّ المصيبةَ من اللهِ اطمأنَّ القلبُ وارْتَاحَ؛ ولهذا كانَ منْ أكبرِ الراحةِ والطمأنينةِ الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ.
(12)
قولُهُ في حديثِ
أبي هريرةَ: (اثْنَتَانِ) مبتدأٌ، وسَوَّغَ الابتداءَ بهِ التقسيمُ، أوْ أنَّهُ مُفيدٌ للخُصُوصِ.
قولُهُ: (بِهِمْ كُفْرٌ) الباءُ يُحْتَمَلُ أنْ تكونَ بمعنى (مِنْ) أيْ: : هما مِنْهُمْ كُفْرٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ بمعنى (في) أيْ: هُما فيهِمْ كُفْرٌ.
قولُهُ: (كُفْرٌ) أيْ: هاتانِ الخَصْلَتَانِ كفرٌ، ولا يَلْزَمُ منْ وجودِ خَصْلَتَيْنِ من الكفرِ في المؤمنِ أنْ يكونَ كافرًا، كما لا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ خَصْلَتَيْنِ في الكافرِ مِنْ خِصَالِ الإيمانِ، كالحياءِ والشجاعةِ والكرمِ، أنْ يكونَ مؤمنًا.
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: (خلافِ قوْلِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((بَيْنَ الرَّجُلِ وَالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ)) فإنَّهُ هنا أَتَى بـ(أَل) الدالَّةِ على الحقيقةِ، فالمرادُ بالكفرِ هنا: الكفرُ المُخْرِجُ عن المِلَّةِ، بخلافِ مَجِيءِ (كُفْرٌ) نكرةً فلا يدلُّ على الخروجِ عن الإسلام).
قال شيخ الإسلام في (اقتضاء الصراط المستقيم) (1/211 ـ 212): (في تعليقه على هذا الحديث: (وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة)) وبين كفر منكر في الإثبات.
وفرق ـ أيضاً ـ بين معنى الاسم المطلق إذا قيل: كافر، أو: مؤمن، وبين المطلق للاسم في جميع موارده) .
قولُهُ: ((الطَّعْنُ في النَّسَبِ)) أي: العَيْبُ فيهِ أوْ نَفْيُهُ، فهذا عملٌ منْ أعمالِ الكفرِ.
قولُهُ: ((وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ)) أيْ: أنْ يبكيَ الإنسانُ على الميِّتِ بكاءً على صفةِ نَوْحِ الحمامِ؛ لأنَّ هذا يدُلُّ على التضَجُّرِ وعدمِ الصبرِ، فهوَ مُنافٍ للصبرِ الواجبِ. وهذهِ الجملةُ هيَ الشاهدُ للبابِ.
والناسُ حالَ المصيبةِ على مراتبَ أربعٍ:
الأولى:
التسخُّط
ُ، وهوَ إمَّا أنْ يكونَ بالقلبِ؛ كأنْ يَسْخَطَ على رَبِّهِ، ويغْضَبَ على ما قَدَّرَ اللهُ عليهِ، وقدْ يُؤَدِّي إلى الكفرِ، قالَ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} وقدْ يكونُ باللِّسَانِ؛ كالدُّعاءِ بالوَيْلِ والثُّبُورِ، وما أشبهَ ذلكَ، وقدْ يكونُ بالجَوَارحِ؛ كلَطْمِ الخُدُودِ، وشقِّ الجيوبِ، ونَتْفِ الشُّعورِ، وما أشبهَ ذلكَ.
الثانيَةُ:
الصبرُ، وهوَ كما قالَ الشاعرُ:
الـصَّبـْرُ مِثْلُ اسمِهِ مُرٌّ مَذاقتُهُ لَكِنْ عَوَاِبُهُ أحلَى مِن العسلِ
فَيَرَى الإنسانُ أنَّ هذا الشيءَ ثقيلٌ عليهِ ويكْرَهُهُ، لكنَّهُ يتحمَّلُهُ ويتَصَبَّرُ، وليسَ وُقُوعُهُ وعدَمُهُ سواءً عندَهُ، بلْ يَكْرَهُ هذا، ولكنَّ إيمانَهُ يَحْمِيهِ مِن السَخَطِ.
الثالثةُ:
الرِّضا،وهوَ أعلى مِنْ ذلكَ، وهُوَ: أنْ يكونَ الأمرانِ عندَهُ سواءً بالنسبةِ لقضاءِ اللهِ وقدَرِهِ، وإنْ كانَ قدْ يَحْزَنُ من المصيبةِ؛ لأنَّهُ رَجُلٌ يَسْبَحُ في القضاءِ والقدرِ، أيْنَمَا يَنْزِلُ بِهِ القضاءُ والقدرُ فهوَ نازلٌ بِهِ على سَهْلٍ أوْ جَبَل، إنْ أُصِيبَ بنعمةٍ، أوْ أُصِيبَ بضِدِّها؛ فالكلُّ عندَهُ سواءٌ؛ لا لأنَّ قَلْبَهُ ميِّتٌ، بلْ لِتَمَامِ رِضَاهُ برَبِّهِ سبحانَهُ وتعالى، يتقلَّبُ في تصَرُّفَاتِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، ولكنَّها عندَهُ سواءٌ؛ إذْ إنَّهُ ينظرُ إليها باعتبارِهَا قضاءً لِرَبِّهِ، وهذا الفرْقُ بينَ الرِّضا والصبرِ.
وتفسيرُ علقمةَ هذا مِنْ لازمِ الإيمانِ؛ لأنَّ مَنْ آمَنَ باللهِ عَلِمَ أنَّ التقديرَ مِن اللهِ فيرضَى ويُسَلِّمُ، فإذا عَلِمَ أنَّ المصيبةَ مِن اللهِ اطْمَأَنَّ القلبُ وارْتَاحَ، ولهذا كانَ منْ أكبرِ الراحةِ والطُّمَأْنِينَةِ: الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ.
الرابعةُ:
الشكرُ، وهوَ أعلى المراتبِ، وذلكَ: أنْ يشْكُرَ اللهَ على ما أصابَهُ مِنْ مصيبةٍ، وذلكَ يكونُ في عبادِ اللهِ الشاكرينَ، حينَ يرى أنَّ هناكَ مصائبَ أعظمَ منها، وأنَّ مصائبَ الدُّنيا أهونُ منْ مصائبِ الدينِ، وأنَّ عذابَ الدُّنْيا أهونُ منْ عذابِ الآخرةِ، وأنَّ هذهِ المصيبةَ سببٌ لتكفيرِ سَيِّئَاتِهِ، ورُبَّما لزيادةِ حسناتِهِ؛ شَكَرَ اللهَ على ذلكَ.
قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ هَمٍّ وَلاَ غَمٍّ وَلاَ شَيْءٍ إِلاَّ كُفِّرَ لَهُ بِهَا، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا)) كما أنَّهُ قدْ يَزْدَادُ إيمانُ المرءِ بذلكَ.
(13)
قولُهُ في حديثِ
ابنِ مسعودٍ: ((مرفوعًا)) أيْ: إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
قولُهُ: ((مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ)) العُمُومُ يُرادُ بِهِ الخُصُوصُ؛ أيْ: مِنْ أجْلِ المصيبةِ.
قولُهُ: ((شَقَّ الْجُيُوبَ)) هوَ: طَوْقُ القميصِ الذي يَدْخُلُ منهُ الرَّأْسُ، وذلكَ عندَ المصيبةِ؛ تَسَخُّطًا وعدمَ تحَمُّلٍ لِمَا وقعَ عليهِ.
قولُهُ: ((وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلَيَّةِ))((دعوى)) مضافٌ و((الجاهليَّةِ)) مضافٌ إليهِ.
وتنَازَعَ هنا أمرانِ:
الأوَّلُ:
صيغةُ العُمُومِ ((دعوى الجاهليَّةِ)) لأنَّهُ مُفْرَدٌ مُضَافٌ فيَعُمُّ.
الثاني:
القرينةُ؛ لأنَّ ضَرْبَ الخُدُودِ، وشقَّ الجيوبِ يُفْعَلانِ عندَ المصيبةِ،
فيكونُ دَعَا بدعوى الجاهليَّةِ عندَ المصيبةِ، مثلُ قولِهِم: وَاوَيْلاَهُ، وَانْقِطَاعَ ظَهْرَاهُ.
والأَوْلَى أنْ تُرَجَّحَ صيغةُ العُمُومِ، والقرينةُ لا تُخَصِّصُهُ، فيكونُ المقصودُ بالدعوى كُلَّ دعوى منْشَؤُها الجهلُ.
وذَكَرَ هذهِ الأصنافَ الثلاثةَ؛ لأنَّها غالبًا ما تكونُ عندَ المصائبِ،
وإلاَّ فمِثْلُهُ هَدْمُ البيوتِ، وكَسْرُ الأوَانِي، وتخريبُ الطعامِ، ونحْوُهُ ممَّا يفعَلُهُ بعضُ الناسِ عندَ المصيبةِ، وهذهِ الثلاثةُ من الكبائرِ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تبَرَّأَ منْ فاعلِهَا.
ولا يَدْخُلُ في الحديثِ ضَرْبُ الخَدِّ في الحياةِ العاديَّةِ، مثلُ: (ضَرْبِ الأبِ لابْنِهِ) لكنْ يُكْرَهُ الضربُ على الوجْهِ؛ للنَّهْيِ عنهُ، وكذلكَ شقُّ الجيْبِ لأمرٍ غيرِ المصيبةِ.
(14)
قولُهُ في حديثِ
أنسٍ: ((إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ)) اللهُ يُرِيدُ بعبدِهِ الخيرَ والشرَّ، ولكنَّ الشرَّ المرادَ للهِ تعالى ليسَ مُرَادًا لذاتِهِ؛ بدليلِ قولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)).
ومَنْ أرادَ الشرَّ لذَاتِهِ كانَ إليهِ، ولكنَّ اللهَ يُرِيدُ الشرَّ لحِكْمَةٍ، وحينئذٍ يكونُ خيرًا باعتبارِ ما يتَضَمَّنَهُ من الحكمةِ.
قولُهُ:((عَجَّلَ لَهُ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا)) العقوبةُ: مُؤَاخَذَةُ المُجْرِمِ بذنبِهِ، وسُمِّيَتْ بذلكَ لأنَّها تَعْقِبُ الذَّنْبَ، ولكنَّها لا تُقَالُ إلاَّ في المُؤَاخَذَةِ على الشرِّ.
وقولُهُ: ((عَجَّلَ لَهُ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا)) كانَ ذلكَ خيرًا منْ تأخيرِها للآخرةِ؛ لأنَّهُ يَزُولُ وينتهي؛ ولهذا قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للمُتَلاعِنَيْنِ: ((إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ)).
وهناكَ خَيْرٌ أَوْلَى منْ ذلكَ، وهوَ العَفْوُ عن الذنبِ، وهذا أعْلَى؛ لأنَّ اللهَ إذا لمْ يُعَاقِبْهُ في الدُّنْيَا ولا في الآخرةِ، فهذا هوَ الخيرُ كلُّهُ، ولكنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ جعلَ تأخيرَ العقوبةِ شَرًّا؛ باعتبارِ أنَّ تأخُّرَ العقوبةِ إلى الآخرةِ أشدُّ، كما قالَ تعالى: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}.
قال العلامة العزيزي في (السراج المنير في شرح الجامع الصغير): (المقصود أن الله يحفظ على عبده ذاك كل ما يدلي به من إساءة وذنب، ولا ينزل عليه من المصائب والمحن ما تكفر به تلك الذنوب فتكون مؤخرة يستوفي جزاءها وعقابها يوم يلقى الله عز وجل) .
قولُهُ: ((وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ))((أَمْسَكَ عنهُ)) أيْ: تركَ عقوبتَهُ، والإمساكُ فعلٌ منْ أفعالِ اللهِ عن الفعلِ، بلْ هوَ لم يَزَلْ ولا يزالُ فعَّالاً لما يُريدُ، لكنَّهُ يُمْسِكُ عن الفعلِ في شيءٍ ما لحكمةٍ بالغةٍ، ففِعْلُهُ حكمةٌ، وإمساكُهُ حكمةٌ.
قوْلُهُ: ((حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) أيْ: يُوَافِيَهُ اللهُ بِهِ؛ أيْ: يُجَازِيَهُ بهِ يومَ القيامةِ، وهُوَ الذي يقومُ فيهِ الناسُ مِنْ قُبُورِهِم للهِ ربِّ العالمينَ.
وسُمِّيَ بيومِ القيامةِ لثلاثةِ أسبابٍ:
الأول:
قِيَامُ الناسِ منْ قبورِهِمْ
؛ لقولِهِ تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.
الثاني:
قِيَامُ الأَشْهَاد
ِ، لقولِهِ تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}.
الثالث:
قِيَامُ العَدْلِ،
لقولِهِ تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}.
والغرضُ منْ سياقِ المُؤَلِّفِ لهذا الحديثِ: تسليَةُ الإنسانِ إذا أُصيبَ بالمصائبِ لِئَلاَّ يَجْزَعَ؛ فإنَّ ذلكَ قدْ يكونُ خيرًا، وعذابُ الدُّنْيَا أهْوَنُ منْ عذابِ الآخرةِ، فَيَحْمَدُ اللهُ أنَّهُ لمْ يُؤَخِّرْ عُقُوبتَهُ إلى الآخرةِ.
وعلى فَرْضِ أنَّ أحدًا لمْ يَأْتِ بخطيئةٍ، وأصابَتْهُ مصيبةٌ، فنقولُ لَهُ: إنَّ هذا منْ بابِ امتحانِ الإنسانِ على الصبرِ، ورفعِ درجاتِهِ باحتسابِ الأجر، لكنْ لا يجوزُ للإنسانِ إذا أُصِيبَ بمصيبةٍ، وهوَ يرى أنَّهُ لمْ يُخْطِئْ أنْ يقولَ: أنا لمْ أُخْطِئْ، فهذهِ تَزْكِيَةٌ، فلوْ فَرَضْنَا أنَّ أحدًا لم يُصِبْ ذنبًا، وأُصيبَ بمصيبةٍ، فإنَّ هذهِ المصيبةَ لا تُلاقِي ذَنْبًا تُكَفِّرُهُ، لكنَّها تُلاقِي قَلْبًا تُمَحِّصُهُ، فيبتلي اللهُ الإنسانَ بالمصائبِ لِيَنْظُرَ هلْ يصْبِرُ أوْ لا؟
ولهذا كانَ أخشَى الناسِ للهِ عزَّ وجلَّ وأتْقَاهُمْ مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُوعَكُ كما يُوعَكُ الرَّجُلانِ منَّا؛ وذلكَ لِينَالَ أعلى درجاتِ الصبرِ، فينالُ مرتبةَ الصابرينَ على أعلى وُجُوهِهَا.
ولذلكَ شُدِّدَ عليهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عندَ النَّزْع،
ومعَ هذهِ الشِّدَّةِ كانَ ثابتَ القلبِ، ودخلَ عليهِ عبدُ الرحمنِ بنُ أبي بكرٍوهوَ يَسْتَاكُ، فَأَمَدَّهُ بَصَرَهُ، يعني: ينْظُرُ إليهِ.
فعَرَفَتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّهُ يُرِيدُ السواكَ، فقَالَتْ: آخُذُهُ لَكَ؟
فأشارَ بِرَأْسِهِ:((نَعَمْ)).
فأَخَذَت السواكَ وقَضَمَتْهُ وَأَلاَنَتْهُ للرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأعْطَتْهُ إيَّاهُ، فاسْتَنَّ بِهِ، قالَتْ
عائشةُ:(ما رَأَيْتُهُ اسْتَنَّ استِنَانًا أحسنَ منْهُ، ثمَّ رفعَ يَدَهُ وقالَ:
((فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى)).
فانْظُرْ إلى هذا الثباتِ واليقيِنِ والصبرِ العظيمِ معَ هذهِ الشِّدَّةِ العظيمةِ، كلُّ هذا لأجْلِ أنْ يَصِلَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أعْلَى درجاتِ الصابرينَ، صَبَرَ للهِ، وَصَبَرَ في اللهِ حتَّى نالَ أعلى الدرجاتِ.
فمَنْ أُصِيبَ بمصيبةٍ، فحدَّثَتْهُ نفسُهُ أنَّ مصائِبَهُ أعظمُ منْ مَعَائِبِهِ، فإنَّهُ يُدِلُّ على رَبِّهِ بعَمَلِهِ، ويَمُنُّ عليهِ بهِ؛ فَلْيَحْذَرْ هذا، ومِنْ ذلكَ يتَّضِحُ لنا أمرانِ:
الأول:
أنَّ إصابةَ الإنسانِ بالمصائبِ تُعْتَبَرُ تكفيرًا لِسَيِّئَاتِهِ،
وتعجيلاً للعُقُوبَةِ في الدُّنْيَا،
وهذا خيرٌ منْ تأخيرِهَا لهُ في الآخرةِ.
الثاني:
قَدْ تكونُ المصائبُ أكبرَ من المَعَائِبِ؛
لِيَصِلَ المرءُ بصَبْرِهِ أعلى درجاتِ الصابرينَ.
والصبرُ مِن الإيمانِ بمنزلةِ الرأسِ مِن الجسدِ.
(15)
قولُهُ: وقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ:
((إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ...)) إلى آخِرِهِ.
رواهُ التِّرْمِذِيُّ، عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنهُ، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. فصحابِيُّهُ صحابيُّ الحديثِ الذي قبْلَهُ.
((
إنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ))
أيْ: يتقابلُ عِظَمُ الجزاءِ معَ البلاءِ، فكُلَّما كانَ البلاءُ أشدَّ، وَصَبَرَ الإنسانُ، صارَ الجزاءُ أعظمَ؛ لأنَّ اللهَ عَدْلٌ لا يَجْزِي المحسنَ بأقلَّ منْ إحسانِهِ، فليسَ الجزاءُ على الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا كالجزاءِ على الكَسْرِ إذا كُسِرَ، وهذا دليلٌ على كمالِ عدْلِ اللهِ، وأنَّهُ لا يَظْلِمُ أحدًا، وفيهِ تسليَةُ المُصَابِ.
قولُهُ: ((وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ)) أي: اختبرَهُمْ بما يُقَدِّرُ عليهمْ من الأُمُورِ الكونيَّةِ، كالأمراضِ وفُقْدَانِ الأهلِ، أوْ بما يُقَدِّرُ عليهِمْ من الأمورِ الشرعيَّةِ، قالَ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فَذَكَّرَهُ اللهُ بالنعمةِ وأَمَرَهُ بالصبرِ؛ لأنَّ هذا الذي نُزِّلَ عليهِ تكليفٌ يُكَلَّفُ بِهِ.
كذلكَ: مِن الابتلاءِ الصبرُ عنْ محارمِ اللهِ، كَمَا في الحديثِ: ((وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ)) فهذا جَزَاؤُهُ أنَّ اللهَ يُظِلُّهُ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ.
قولُهُ: ((فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ)) (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، والجوابُ ((فَلَهُ الرِّضَا)) أيْ: فلَهُ الرِّضا من اللهِ، وإذا رَضِيَ اللهُ عنْ شخصٍ أَرْضَى الناسَ عنهُ جميعًا.
والمرادُ بالرِّضَا: الرِّضَا بقضاءِ اللهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قضاءُ اللهِ، وهذا واجبٌ؛ بدليلِ قولِهِ: ((وَمَنْ سَخِطَ)) فقابلَ الرِّضَا بالسَّخَطِ، وهوَ عدمُ الصبرِ على ما يكونُ من المصائبِ القدريَّةِ الكونيَّةِ.
ولمْ يَقُلْ هنا: فعليهِ السَّخَطُ، معَ أنَّ مُقْتَضَى السياقِ أنْ يقولَ: فعليهِ، كقولِهِ تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} فقالَ بعضُ العلماءِ: إنَّ (اللامَ) بمعنى (على)، كقولِهِ تعالى: {أُولَـئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} أيْ: عليْهِم اللعنةُ، وقالَ آخَرُونَ: إنَّ اللامَ على ما هيَ عليهِ، فتكونُ للاستحقاقِ؛ أيْ: صارَ عليهِ السَّخَطُ باستحقاقِهِ لهُ، فتكونُ أبْلَغَ مِنْ (عَلَى)، كقولِهِ تعالى: {أُولَـئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} أيْ: حَقَّتْ عليهِمْ باستحقاقِهِم لَهَا. وهذا أصحُّ.
ويُستفادُ من الحديثِ:
إثباتُ المحبَّةِ والسَخَطِ والرِّضَا للهِ عزَّ وجلَّ، وهما مِن الصفاتِ الفعليَّةِ؛ لِتَعَلُّقِها بمشيئةِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ إذا في قولِهِ:
((إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا)) للمستقبلِ، فَالْحُبُّ يَحْدُثُ، فهوَ مِن الصفاتِ الفعليَّةِ.
واللهُ تعالى يُحِبُّ العَبْدَ عندَ وُجُودِ سببِ المحَبَّةِ، ويُبْغِضُهُ عندَ وُجُودِ سببِ البُغْضِ، وعلى هذا؛ فَقَدْ يكونُ هذا الشخصُ في يومٍ من الأيَّامِ محبُوبًا إلى اللهِ، وفي آخَرَ مُبْغَضًا إلى اللهِ؛ لأنَّ الحُكْمَ يدُورُ معَ عِلَّتِهِ.
وأمَّا الأعمالُ فلمْ يَزَل اللهُ يُحِبُّ الخيرَ والعدلَ والإحسانَ ونحوَها، وأهلُ التأويلِ يُنْكِرُونَ هذهِ الصفاتِ، فَيُؤَوِّلُونَ المَحَبَّةَ والرِّضَا بالثوابِ أوْ إرَادَتِهِ، والسَّخَطَ بالعقوبةِ أوْ إرَادَتِهَا، قالُوا: لأنَّ إثباتَ هذهِ الصفاتِ يقتضِي النقصَ ومُشَابَهَةَ المخلوقينَ.
والصوابُ: ثُبُوتُها للهِ عزَّ وجلَّ على الوجْهِ اللائقِ بهِ
كسائرِ الصفاتِ التي يُثْبِتُهَا مَنْ يقولُ بالتأويلِ، ويَجِبُ في كلِّ صفةٍ أَثْبَتَهَا اللهُ لنفسِهِ أمْرَانِ:
الأول:
إثْبَاتُها على حقيقَتِها وظاهرِهَا.
الثاني:
الحَذَرُ من التمثيلِ أو التَّكْيِيفِ.
(16)
فيهِ مَسائِلُ:
الأولى:
(تَفْسيرُ آيَةِ التَّغَابُنِ) وهيَ قولُهُ تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}. وقدْ فسَّرَها عَلْقَمَةُ كما سَبَقَ تفسيرًا مُنَاسبًا للبابِ.
(17)
الثانيَةُ: (أنَّ هذا مِن الإيمانِ باللهِ) المُشَارُ إليهِ بقولِهِ (هذا) هوَ الصبرُ على أقدارِ اللهِ.
(18)
الثالثةُ: (الطَّعْنُ في النَّسَبِ)
وهيَ عَيْبُهُ أوْ نفْيُهُ، وهُوَ مِن الكفرِ، لكنَّهُ لا يُخْرِجُ مِن الملَّةِ.
(19)
الرَّابعةُ: (شِدَّةُ الوعيدِ فِيمَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وشقَّ الْجُيوبَ، ودَعا بِدعْوى الْجَاهليَّةِ)
لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تبرَّأَ منْهُ.
(20)
الخامسةُ: (علامةُ إرادةِ اللهِ بِعبْدِهِ الخيرَ) وهوَ أنْ يُعَجِّلَ لهُ اللهُ العقوبةَ في الدُّنْيَا.
(21)
السادسةُ: (إِرادةُ اللهِ بِهِ الشَّرَّ) أيْ: علامةُ إرادةِ اللهِ بهِ الشرَّ، وهوَ أنْ يُؤَخِّرَ لهُ العقوبةَ في الآخرةِ.
(22)
السابعةُ: (عَلامةُ حُبِّ اللهِ لِلعبدِ)
وهيَ الابتلاءُ.
(23)
الثامنةُ: (تَحْريمُ السَّخَطِ) يعني ممَّا يُبْتَلَى بهِ العبدُ؛ لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ)) وهذا وعيدٌ.
(24)
التاسعةُ: (ثَوابُ الرِّضا بالبلاءِ)
لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا)).