الجملة الثانية
في أحكامه الخاصة
وفيها بابان
[الإكسير في علم التفسير: 143]
الباب الأول
في الفصاحة والبلاغة
واعلم أنهما لثبوت إعجاز القرآن الكريم بهما، لا يكفي فيهما قول مهمل، ولا كلام مجمل، فيحتاج فيهما إلى كلام مفصل، وتحقيق فيصل، وفيهما أبحاث:
الأول: الفصاحة: خلوص اللفظ من التعقيد الموجب لقرب فهمه، ولذاذة استماعه؛ وذلك باشتماله على صفاته المتقدمة.
واشتقاقها من الفصيح: وهو اللبن إذا أخذت رغوته، وذهب لباه.
والبلاغة: كون الكلام الفصيح موصلاً للمتكلم إلى أقصي مراده.
بيان فُصح، وهو فصيح، وبلغ بلاغة، وهو بليغ.
واشتقاقها: من بلغ المكان، إذا انتهي إليه، فسمي الكلام بليغًا:
إما لكونه بلغ نهاية الأوصاف اللفظية والمعنوية، وهي إفادة المعني، وفصاحة اللفظ، ومطابقته معناه، بحيث لا يزيد عليه، قاله ابن الأثير. قال: ومتى عري عن صفة من هذه الصفات، خرج على أن يكون بليغًا.
وإما لما بلغ من تبليغه المتكلم أقصى مراده، وهو أولى من الأول.
[الإكسير في علم التفسير: 145]
ويظهر لي أنه سمي بليغًا؛ لكونه يبلغ السامع أقصى ما يريد به من المعنى، وقوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمْ في أَنفَسِهٍم قَولاً بليغًا} ظاهر فيه؛ إذ المراد: قل لهم قولا يبلغهم ويفهمهم المعنى المراد به، وهو محتمل للتفسيرين قبله.
الثاني: موضوع علم الفصاحة: الألفاظ الدالة على معانيها إحدى الدلالات الثلاث، أعني: المطابقة، والتضمن، والالتزام.
وموضوع البلاغة: الكلام الفصيح، ومعناه، فهي إذن أخص، لأن متعلقاتها: اللفظ والمعنى، ومتعلق الفصاحة: اللفظ فقط، فإذن كل كلام بليغ فصيح، وليس كل كلام فصيح بليغًا، لجواز خلوص ألفاظه من التعقيد، مع قصور دلالته، أو زيادته على معناه، وهذا على تفسير ابن الأثير للبلاغة، أما التفسيران الأخيران وكل منهما أخص من الآخر من وجه لجواز خلوص اللفظ مع قصور الدلالة أو تمام الدلالة مع تعقيد اللفظ.
الثالث: الفصاحة معنى إضافي، يختلف باختلاف الإضافات، كالحسن والقبح المختلفين باختلاف الأزمنة والأمكنة، والطباع، بدليل أن ما كانت العرب العاربة تعده من الكلام فصيحًا، لخلوصه من التعقيد بالنسبة إليهم، نعده نحن الآن غير فصيح، لتعقده بالنسبة إلينا، كما سبق في كون اللفظ وحسنه. وكذلك البلاغة؛ لاشتراط الفصاحة فيها، وشروط الإضافي إضافي، والله أعلم.
[الإكسير في علم التفسير: 146]