باب ما جاء في النُّشرة:
النشرة متعلقة بالسحر،
وأصلها من النشر، وهو قيام المريض صحيحاً.
النشرة اسم لعلاج المسحور،
سُميت نشرة لأنه ينتشر بها، أي: يقوم ويرجع إلى حاله المعتادة، وقول الشيخ -رحمه الله- هنا: (باب ما جاء في النشرة) يعني من التفصيل، وهل النشرة جميعاً - وهي حل السحر - مذمومة، أو أن منها ما هو مذموم ومنها ما هو مأذون به؟
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، وهي
: أنه كما أن السحر شرك بالله -جل وعلا- يقدح في أصل التوحيد وأن الساحر مشرك الشرك الأكبر بالله، فالنشرة التي هي حل السحر قد يكون من ساحر وقد يكون من غير ساحر بالأدوية المأذون بها أو الأدعية ونحو ذلك.
فإذا كان من ساحر فإنها مناقضة لأصل التوحيد ومنافية لأصله، فإذاً: المناسبة ظاهرة في الصلة بين هذا الباب وباب ما جاء في السحر.
وكذلك:
مناسبتها لباب التوحيد؛
لأن كثيرين ممن يستعملون النشرة يشركون بالله جل وعلا.
والنشرة كما سمعتم في الباب قسمان:
-
نشرة جائزة.
-
ونشرة ممنوعة.
النشرة الجائزة:
هي ما كانت بالقرآن، أو بالأدعية المعروفة، أو بالأدوية عند الأطباء، ونحو ذلك، فإن السحر يكون كما ذكرنا عن طريق الجن، والسحر يحصل منه إمراض حقيقة في البدن، ويحصل منه تغيير حقيقة في العقل والذهن والفهم، وإذا كان كذلك فإنه يُعالجَ بالمضادات التي تزيل ذلك السحر.
فمما يزيله:
القرآن، والقرآن هو أعظم ما ينفع في إزالة السحر.
كذلك:
الأدعية والأوراد ونحو ذلك مما هو معروف من الرقى الشرعية.
ونوعٌ من السحر يكون في البدن، يعني: من جهة عضوية؛ فهذا أحياناً يعالج:
-
بالرقى.
-
والأدعية.
-
والقرآن.
-
وأحياناً يعالج عن طريق الأطباء العضويين، وذلك لأن السحر كما قلنا يُمرض حقيقة، فإذا أُزيل المرض أو سبب المرض فإنه يبطل السحر، ولهذا قال لك ابن القيم في آخر الكلام: (والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة فهذا جائز لأنه يحصل منه المرض، وإذا كان كذلك فإنه يعالج بما أذن به شرعاً من الرقى والأدوية المباحة.
والقسم الثاني من النشرة:
وهي التي من أنواع الشرك: أن يُنشَّر عنه بغير الطريق الأول؛ بطريق السحر فيحلُّ السحر بسحر آخر).
وذكرنا أن السحر لا ينعقد أصلاً إلاّ بأن يتقرب الساحر إلى الجني،
أو أن يكون الجني يخدم الساحر الذي يشرك بالله دائماً فيخدمه.
كذلك حلّ السحر لابد فيه من إزالة سببه
، وهو خدمة شياطين الجن للسحر، وهذا لا يمكن إلا للجنّ.
فإن الساحر
الثاني:
الذي يُنشِّر السحر، ويرفع السحر لابد أن يستغيث أو أن يتوجه إلى بعض جنّه في أن يرفع أولئك الجن الذي عقدوا هذا السحر، أن يرفعوا أثره، فصار إذاً هذه الجهة أنها من حيث العقد والابتداء لا تكون إلا بالشرك بالله، ومن حيث الرفع والنشر لا تكون إلا بالشرك بالله -جل وعلا- ولهذا قال: ((لا يحل السحر إلا ساحر))يعني: لا يحل السحر بغير الطريق الشرعية المعروفة إلا ساحر، لا يأتي أحد ويقول أنا أحل السحر، هل تستخدم القراءة والتلاوة والأدعية؟
قال لا.
هل أنت طبيب تُطب ذلك المسحور؟
قال لا، إذاً: فهو ساحر، إذا لم يستخدم الطريق الثانية فإنه لا يمكن أن يحلّ السحر إلاّ ساحر؛ لأنه فكُّ أثر الجنّ في ذلك السحر، ولا يمكن إلا عن طريق شياطين الجنّ الذين يؤثرون على ذاك.
قال رحمه الله: (عن جابرٍ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئِل عن النشرة فقال هي من عمل الشيطان) سُئِل عن النشرة، السائل سأله عمَّا كان معهوداً معروفاً في هذا الاسم وهو اسم النشرة، والذي كان معروفاً معهوداً هو أن اسم النشرة، إنما هو من جهة الساحر.
النشرة عند العرب: هي حلّ السحر بمثله، هذه هي النشرة عند العرب، ولهذا سُئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن النشرة، فقال: ((هي من عمل الشيطان)).
قال العلماء (أل) أو لامَ التعريف في قوله (النشرة) هذه لام العهد، يعني: النشرة المعهود استعمالها، وهي حَلُّ السحر بمثله، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هي من عمل الشيطان))لأن رفع السحر لا يكون إلا بعمل شيطان جني.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (هي) يعني الرفع والنّشر من عمل الشيطان؛ لأن العقد أصلاً (من عمل الشيطان) والرفع والنشر من عمل الشيطان، فإذاً: هو سؤالٌ عن (النشرة) التي كانت تستخدم في الجاهلية،رواه أحمد بسند جيد وأبو داود.
وقال:
(سُئِل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله).
(يكره هذا كله)
يعني: أن تكون النّشرة عن طريق التمائم التي فيها القرآن، لأنه مرَّ معنا في ما سبق أن ابن مسعود كان يكره جميع أنواع التمائم حتى من القرآن؛ كما قال إبراهيم النَّخعيّ رحمه الله: (كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن ومن غير القرآن).
يعني أصحاب ابن مسعود، وابن مسعود كذلك، فابن مسعود كان يكره التمائم من القرآن، وهو أن يُعلِّق شيئاً من القرآن لأي غرض: لدفع العين أو لإزالة السحر ورفع الضرر، لهذا الإمام أحمد، لما قال أبو داود سُئِل أحمد عنها، يعني: عن النشرة التي تكون بالتمائم من القرآن، فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
أما النشرة باستخدام النفث والرقية من غير تعليق
فلا يمكن للإمام أحمد، ولا لابن مسعود أن يكرهوا ذلك؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- استخدم ذلك وأذن به عملاً في نفسه، وكذلك في غيره عليه الصلاة والسلام.
قال: (وفي البخاريّ عن قتادة، قلتُ لابن المسيب: رجل به طِبٌّ أو يُؤَخَّذُ عن امرأته أيُحل عنه أو يُنشّر؟
قال: لا بأس به إنما، يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم يُنه عنه).
يُريد ابن المسيب بذلك: ما ينفع من النشرة بالتعوذات، والأدعية، والقرآن، والدواء المباح، ونحو ذلك.
أما النشرة التي هي بالسحر،
فابن مسعود أرفع من أن يقول إنها جائزة، ولم يُنه عنها، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((هي من عمل الشيطان)) لهذا قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم يُنه عنه.
أما ما ينفع، يعني: من الأدوية المباحة،
ومن الرقى، والتعوذات الشرعية، وقراءة القرآن ونحو ذلك، فهذا لم يُنه عنه بل أُذن فيه، إذاً: فالسحر بلاء، وسُئل ابن المسيّب عن هذا الذي به طِبٌّ، يعني: سحر، أو يؤخَّذ عن امرأته بصرف القلب عنها، أيحل عنه أو ينشر؛ بأصل الحل والنشر؟
يعني أيجوز أن يُرفع ذلك الطب الذي به، أو ذلك الأخذ عن امرأته بأي وسيلة.
قال: (نعم، ما ينفع فلم يُنه عنه، إنما يريدون به الإصلاح) ومعلوم أنه يريد بذلك ما أذن به في الشرع من القسم الذي ذكرنا فيه من جواز استخدام الرقى والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة.
قال: (ورُوي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر) وهذا بيّنا معناه.
قال ابن القيم: (النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان ،وعليه يحمل قول الحسن -فيتقرب- هذه حقيقة النشرة الشركية).
قال: (فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب) كما ذكرنا لكم سلفاً (فيبطل عمله عن المسحور) هذه حقيقة النشرة الشركية.
قال: (والثاني النشرة بالرقية، والتعوذات، والأدوية، والدعوات المباحة، فهذا جائز) إذا تبين ذلك فإن حكم حل السحر بمثله أنه لا يجوز ومحرّم، بل هو شرك بالله جل وعلا؛ لأنه لا يحل السحر إلا ساحر.
بعض العلماء من أتباع المذاهب
يرى جواز حل السحر بمثله إذا كان للضرورة؛ كما قال فقهاء مذهب الإمام أحمد في بعض كتبهم: وله أو ويجوز حلّ سحرٍ بمثله ضرورة.
وهذا القول ليس بصواب بل هو غلط؛ لأن الضرورة لا تكون جائزة ببذل الدين والتوحيد عوضاً عنها.
معروف أن الأصول الخمسة أولها حفظ -يعني التي جاءت بها الشرائع-
حفظ الدين، وما هو دونها مرتبة: لا يُبذل ما هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى، وضرورة الحفاظ على النفس. هذه لا شك أنها من الضروريات الخمس؛ لكنها دون حفظ الدين مرتبة، ولهذا لا يُقدم ما هو أدنى على ما هو اعلى، أو أن يبذل ما هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى من الضروريات الخمس.
والأنفس لا يجوز حفظها بالشرك
، وهذا أن يموت وهو على التوحيد لاشك أنه خير له من أن يعافى وقد أتى بشركٍ بالله جل وعلا، والسحر لا يكون إلا بشرك، والذي يأتي الساحر ويطلب منه حل السحر، هذا معناه أنه رضي قوله وعمله، ورضي أن يعمل به ذاك، رضي أن يشرك ذاك بالله لأجل منفعته، وهذا غير جائز.
-
فإذاً: تحصَّل أن السحر وقوعاً.
- وأن السحر نشراً، لا يكون إلا بالشرك الأكبر بالله جل وعلا؛ وعليه فلا يجوز أن يحل لا من جهة الضرورة، ولا من جهة غير الضرورة من باب أولى بسحرٍ مثله، بل يُحل وينشر بالرقى الشرعية.