القارئ:
{هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى (26)}
الشيخ:
ثم قال -جل وعلا-: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} هذا شروع في بيان قصة موسى مع فرعون، وهذا من باب التسلية لنبينا -صلى الله عليه وسلم- وتـثبيت قلبه على ما يلقاه من أذى المشركين، ولهذا كانت غالب قصص الأنبياء مع أقوامهم إنما تقع في السور المكية وهذه السورة منها.
فهذه الآيات يخبر الله -جل وعلا- فيها نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقصة موسى كليم الرحمن مع عدو الله فرعون.
وهذه القصص التي يذكرها رب العالمين في القرآن هذه القصص بين الله -جل وعلا- فائدتها في آخر سورة هود، قال الله -جل وعلا- بعد أن ذكر قصصاً لبعض أنبيائه مع قومهم: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي:أن هذه القصص فيها تـثبيت لقلب النبي صلى الله عليه وسلم.
-كما أن هذه القصص المقصوصة على نبينا -صلى الله عليه وسلم- هي قصص حق،ليست قصص كذب، ولا تخييل، ولا تصور، وإنما هي قصص حق وصدق.
-{وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: أن فيها عظة يرتدع بها العاصون والكافرون، ويتذكر بها المؤمنون، وهذه الآية كما قال الله -جل وعلا- في آخر سورة يوسف: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
ثم إن الله -جل وعلا- قد ذكر قصة موسى هنا، وكرر ذكر هذه القصة في مواضع كثيرة من كتابه، في الأعراف، وفي الشعراء، وفي طه، وفي القصص، وفي النمل، وفي غيرها من السور، وهذا التكرار في قصةموسى وغيره من بعض الأنبياء أو بعض القصص، ذكر بعض العلماء أن له حكمة: وهي إظهار عجز المشركين عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن؛ لأن الله -جل وعلا- يكرر هذه القصص، ويذكر في موضع من الزيادة ما لا يذكره في آخر، ويبدل كلمة بأخرى، أو يضع كلمة مكان أخرى، ويذكر القصص بأساليب مختلفة، ويتحدى المشركين أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثل ذلك مع اختلاف الأساليب، ففيه إظهار عجز المشركين عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن؛ لأن الله -جل وعلا- تحداهم بذلك كما في سورة هود، وسورة يونس، وسورة البقرة.
وبعض القصص لا يذكرها الله -جل وعلا- إلا مرةً واحدةً، وقد التمس بعض العلماء الحكمة في ذلك، فقال بعض العلماء: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا تلا عليهم قصةً واحدةً ولم تكرر في هذا القرآن فكأنه يتحداهم أيضاً، ويقول لهم: إن كان هذا الكلام من تلقاء نفسي فهذه قصة جئت بها؛ فأتوا بهذه القصة بأسلوب آخر ووجه آخر يكون مماثلاً ومناسباً للأساليب التي يذكرها الله -جل وعلا- للقصص الأخرى التي تتكرر، والله -جل وعلا- أعلم وأحكم فيما يذكره من هذه القصص.
فهذا بعض الجواب الذي ذكره بعض العلماء، فإن كان الأمر كذلك فذلك من فضل الله -جل وعلا- على خلقه، وإن لم تكن الحكمة كذلك فالعبد المؤمن ليس له إلا التسليم لحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، والتصديق بأخبارهما؛ سواء ظهرت الحكمة له أو لم تظهر له الحكمة؛ لأن العبد لا يثبت قدمه على الإسلام إلا بأن يسلم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ويستسلم لله وحده.
ذكر الله -جل وعلا- قصة موسى فقال - سبحانه -: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} الوادي المقدس: هو الوادي المبارك المطهر.
وطوى: هذا اسم لوادٍ ببلاد الشام، كلَّم الله -جل وعلا- فيه نبيه موسى عليه الصلاة والسلام، فأمره الله -جل وعلا- في هذه الآية أن يأتي الوادي المقدس بطوى.
وهذا النداء من رب العالمين لنبيه وكليمه موسى -عليه السلام- بَيَّنَ الله -جل وعلا- صفته في أوئل سورة النمل، قال الله -جل وعلا-: {فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}موسى عليه السلام لما قضى ما بينه وبين شعيب فأتم له الحجج التي اتفق عليها موسى مع شعيب، سار بأهله، وكانت الليلة ليلةً مظلمةً ممطرةً باردةً، فتاه موسى وضلَّ الطريق هو وأهله، فبينما هو كذلك إذ رأى ناراً، قال كثير من العلماء: إنها هذه النار ليست ناراً حقيقةً، وإنما هي نور، فلما رأى موسى هذه النار، قال بعض العلماء:لم يرها حتى أهله، قال لأهله: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً}يعني: رأى ناراً، وأخبرهم أنه سيأتي هذه النار، ليأتي لهم منها بقطعة يستضيئون بها ويستدفئون بها، أو يجد على هذه النار من يهديه إلى الطريق الصحيح التي يسير عليها؛ ليصل إلى مصر بعد خروجه من مدين.قال الله -جل وعلا- في سورة القصص: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} إلى آخر الآيات.
فموسى عليه السلام لما جاء إلى هذا الوادي قضى الله -جل وعلا- إليه الأمر، وأوحى إليه، وأول شيء أوحى إليه رب العالمين: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}وهذا يدل على أن أول واجبٍ على الإنسان أن يعلمه؛ هو أن يعلم توحيد الله -جل وعلا- وأن يعمل به.
وهذه الآيات ذكرها الله -جل وعلا- في قوله:
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} وفي قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ}.
فالله -جل وعلا- قد نادى موسى عليه السلام، وهذا النداء بصوت وحرف، وهو كلام الله جل وعلا؛ لأن النداء لا يكون إلا بصوت وحرف، وقد أثبت الله -جل وعلا- نداءه لـموسى في غير آيةٍ كما تقدم، فالله -جل وعلا- ناداه وكلمه؛ بل أخبر الله -جل وعلا- أنه كلم موسى -عليه السلام- في قوله في سورة الأعراف: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} وهذا معنى قوله -جل وعلا-: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} اختاره يعني: اصطفاه -جل وعلا- بهذا الكلام وبالرسالة، بل الله -جل وعلا- أكد هذا الكلام تأكيداً في قوله -جل وعلا-: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}.
فهذه من أدلة أهل السنة: على أن الله -جل وعلا- يتكلم، وعلى أن هذه الصفة ثابتة لله جل وعلا، كما أنهم يستدلون به: على أن الله -جل وعلا- يتكلم بصوت وحرف؛ لأن النداء لا يكون إلا بصوت وحرف.
قال الله -جل وعلا- في هذه الآية: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} وقد تقدم معنا أن الطغيان: هو تجاوز الحد بالمعصية، وفرعون -لعنه الله- تجاوز الحد وطغى واستكبر وتكبر وعلا في الأرض، كما أخبر الله -جل وعلا- عن طغيانه في آيات كثيرة:
- قال الله -جل وعلا- في أوائل القصص: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.- وفي سورةيونس: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}.
- وفي سورة البقرة: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}. بل طغيانه تجاوز وتعدى؛ حتى قال كما أخبر الله -جل وعلا- في هذه الآية: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} يعنى: أنه ليس هناك إله غيره، وأن الآلهة التي تعبد من دونه إنما هي دون فرعون، فهذا فيه إنكار لألوهية الله -جل وعلا- وربوبيته.
وهذه الآية كقوله -جل وعلا- إخباراً عن فرعون أنه قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}ففرعون طغى وتجاوز الحد وادَّعى الربوبية والألوهية من دون الله جل وعلا، وهذا الادعاء هو كاذب فيه وليس بصادق؛ لأنه يوقن يقيناً جازماً أن هناك رباً للخلائق هو المستحق للعبادة.وقد أخبر الله -جل وعلا- عنه في سورة النمل في قوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا}.
وقال -جل وعلا- في آخر الإسراء أن موسى عليه السلام قال له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} يعني: موسى يخاطب فرعون ويقول: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ} يعني: الآيات التسع {إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ} هوالذي خلقها، وهو الذي أوجدها وأنزلها -جل وعلا- {بَصَائِرُ} يعني: حججاً على فرعون وغيره. قوله -جل وعلا-: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} هذا بيان لصفة دعوة موسى لفرعون، فرعون كان عالياً في الأرض من المفسدين، والله -جل وعلا- هاهنا بين لنبيه موسى -عليه السلام- كيفية دعوة هذا الطاغية، فقال -جل وعلا-: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} فهذا أولاً: فيه أنه ينبغي للذي يدعو إلى الله -جل وعلا- أن يذهب إلى من يدعوهم إليه لدعوتهم إلى دين الله جل وعلا، فنبي الله وهو أكرم الخلق في وقته يذهب إلى هذا الطاغية.
{فَقُلْ هَل لَكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} هذا فيه عرض وليس فيه أمر، موسى -عليه السلام- ما قال لفرعون: تزكَّ، بل قال له: هل لك أن تزكى، يعني: أعرض عليك الزكاء والتزكي، وقوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ما قال له: أدعوك حتى تتزكى، ولكن عرض عليه التزكي.
والتزكي: هو النماء والطهارة والزيادة والمدح
{هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} يعني: تحصل لك الزكاة.
وكل عاقل إذا عرض عليه مثل هذا الأمر يجيب إلى ذلك، وكثير من الناس إذا عرض عليه مشروع مثلاً من مشاريع الخير، هل لك إلى أن تساهم، فرق بينه وبين أن تقول: ساهم في مثل هذه المشروعات، فالأول يحصل برغبة وقصد حسن، والآخر قد يستكنف عنه العبد إذا أمر به أمراً، وبخاصة إذا كان من ذوي الجاه والسلطان.
في قول الله -جل وعلا-: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} أيضاً موسى عليه السلام هاهنا أسند التزكية إلى فرعون، والهداية إليه، فهو يقول: {وَأَهْدِيَكَ} يعني: أدلك على الطريق الذي يحصل لك بها خشية الله جل وعلا، فأسند الهداية إلى نفسه موسى عليه السلام.
وأما التزكي:فلم يقل له: أزكيك، وقال له: تزك.
وهذا الشأن ينبغي أن يستعمله الإنسان في مخاطبة ذوي الجاه والسلطان حتى يكون ذلك أقبل للدعوة، وفي هذا من الرفق واللين، كما بينه الله -جل وعلا- في سورة طه في قوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} وهذا كله التوجيه من رب العالمين؛ لأن المقصود بدعوة الناس ليس حظوظ النفس، وإنما المقصود هدايتهم ودلالتهم على الطريق الذي يحبه الله -جل وعلا- ويوصلهم إلى مرضاته ومغفرته، ولهذا فرعون طاغية متجبر ومتكبر ويبطش بالعباد؛ ومع ذلك قيل له مثل هذا الكلام.
- فما الظن بالكافر الذي لا يكون متصفاً بصفة الجبروت والكبرياء وليس له سلطان.
-أو ما الظن بالمسلم الذي عصى الله.
-أو ما الظن بمسلم وقع منه خطأ أو تقصير.
فالذي ينبغي أن يسلك فيه توجيه القرآن: وهو الرفق واللين، فإن الله -جل وعلا- قال في سورة العنكبوت: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أهل الكتاب -الكفار- يجادلون بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم هؤلاء يجادلون ولو بلغ ذلك إلى القتال، وقال -جل وعلا- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وهذا كله يؤيد قصة أو صفة دعوة موسى لفرعون لعنه الله.
ثم قال -جل وعلا-: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} يعني: موسى أرى فرعون الآية الكبرى، والآية الكبرى قال بعض العلماء: هي الآيات التسع التي ذكرها الله جل وعلا في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} وهذه التسع آيات فصَّلها الله -جل وعلا- في كتابه كما في قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ}وهاتان آيتان:
الأولى: أن العصا جعلها الله -جل وعلا- ثعباناً عظيماً تلقف ما يأتفكه السحرة.
والثانية: اليد، يد موسى عليه السلام أمره الله -جل وعلا- أن يدخلها تحت عضده ثم يخرجها فإذا هي بيضاء للناظرين، من غير برص ولامرض؛ كما قال الله -جل وعلا-: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} يعني: ليس فيها مرض ولا برص ولا أي شيء، وإنما هي آية من آيات الله جل وعلا.وقال تعالى في بيان هذه الآيات:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
وهذه الآية الثالثة:
أن الله -جل وعلا- أخذهم بالسنين، وهو: القحط.
وقال -جل وعلا- في ذكر جملة من الآيات: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (133) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} فأرسل الله -جل وعلا- عليهم:
- الطوفان: وهو السيل العارم.-والجراد: الذي يأكل ثمراتهم.
-والقمَّل: الذي يؤذيهم في أبدانهم ويؤذيهم في زروعهم.-والضفادع: ذكر بعض المفسرين أنهم كلما رفعوا ثوباً أو حجراً وجدوا تحته ضفادع، فتسلطت عليهم هذه الضفادع بتسليط الله -جل وعلا- وهو خلق صغير.
{وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} يعني: والدم أن الله -جل وعلا- جعل ماءهم دماً عبيطاً، كلما أخذوا ماءً رأوه دماً، وهذا أيضاً آية من آيات الله، ولهذا قال -جل وعلا-: {آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ}.
وذكر بعض العلماء: البحر بدل السنين، ذكره آيةً بدل السنين، والبحر لما تبع فرعون وجنوده موسى ومن معه، وكان موسى بجانب البحر، صار البحر طريقاً يبساً، فسلكه موسى ومن معه، فلما لحقه فرعون وجنوده صار هذا البحر غرقاً عليهم، قال الله -جل وعلا- في سورة الشعراء مبيناً هذه الآية: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى موسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} يعني: كالجبل العظيم.
وقال بعض العلماء: إن الآية الكبرى في هذه المراد بها: العصا واليد، وعليه جمهور المفسرين أن المراد: العصا واليد هما الآية الكبرى، وهذا هو الأظهر؛ لأن الله -جل وعلا- قال في هذه الآية: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} والكبرى هذه تأنيث الأكبر، والأكبر فيه مفاضلة.
فهذه الآيات التي بعث الله -جل وعلا- بها موسى بعضها أكبر من بعض، كما قال -جل وعلا- في الآية الأخرى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} فهذه كلها آيات، ولكن بعضها أكبر من بعض، والآية الكبرى منها: هي العصا واليد؛ لأن الله -جل وعلا- جعلها آية لموسى، وكرر ذكرها في مواضع كثيرة من القرآن، ثم إن الله -جل وعلا- لما ذكر في سورة النمل الآيتين التي هي: العصا واليد، قال بعد ذلك {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} فدل ذلك: على أن العصا واليد هما الآية الكبرى التي أراد الله -جل وعلا- في هذه الآية.
قال الله -جل وعلا- بعد ذلك: {فَكَذَّبَ وَعَصَى} يعني: أن فرعون كذب موسى عليه السلام وما جاء به من الحق مع ظهوره ووضوحه، {وَعَصَى} يعني لم يمتثل أمر الله -جل وعلا- فيطيع موسى عليه الصلاة والسلام، ويؤمن بالله ويوحده، بل استنكف واستكبر وعصى الله جل وعلا.
{ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} يعني: أن فرعون كذب وعصى وأدبر، يعني: تولى، إما أن يكون أدبر يعني:
-تولى عما جاء به موسى وأعرض.
- أو أن المراد ثم أدبر يعني:تولى عن موسى وذهب يجمع الناس ويسعى لجمعهم ليقيمهم في مقام الباطل الذي يقابل به الحق، ففرعون -لعنه الله- لما جاءه موسى عليه السلام تولى وجمع كيده، وجاء بالسحرة وتواعد هو وموسى في يوم ليظهر لهم عجز موسى ولكن الله -جل وعلا- أذله وأخزاه، وأظهر موسى عليه السلام على السحرة الذين جاءوا بسحر عظيم، فهنا قال -جل وعلا-:{ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى}
{فَحَشَرَ فَنَادَى} يعني: حشر الناس، {فَنَادَى} ناداهم بقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}
قال الله -جل وعلا-:{فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} يعني: أن الله -جل وعلا- عذبه في الدنيا وفي الآخرة، وهذا هو الأظهر في معنى هذه الآية، {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} يعني: عذبه في الدنيا والآخرة.
وقد بين الله -جل وعلا- هذا التعذيب في مواضع من كتابه:
- فقال -جل وعلا- في شأن تعذيب فرعون وهلاكه في الدنيا: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال الله -جل وعلا-: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (40) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}.
- وقال -جل وعلا-: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}.
-وقال -جل وعلا-: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}.
-وقال -جل وعلا-: {وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}.
وعذاب الآخرة كما بُين في هذه الآية الأخيرة بينه الله -جل وعلا- في آيات أخرى:
-كما قال الله -جل وعلا-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)} يعني: جعل الله -جل وعلا- لهم لعنة في الدنيا ولعنة في القيامة، فهما لعنتان مترادفتان، وبئس اللعنتان {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}.
- وقال -جل وعلا- عن فرعون: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} هذا في الدنيا {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} إذا كانوا أئمة يدعون إلى النار، فإن من دعا إلى ضلالة فعليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص من أوزارهم شيئاً.
{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}
فأخذه الله -جل وعلا- كما في هذه الآية نكال الآخرة والأولى، يعني: عذبه في الدنيا، ويعذبه في الآخرة، وهذا أمر متحقق لا محيص عنه.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشَى} أي: في قصة موسى مع فرعون وإهلاك الله -جل وعلا- لفرعون عبرة.
{لمن يخشى}من يخشى الله -جل وعلا- ويخاف الوقوف بين يديه، وأما الذي لا يخشى الله -جل وعلا- فلا تنفعه هذه؛ لأن الآيات إنما تنفع المؤمنين، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ولهذا قال -جل وعلا- لما أغرق فرعون: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} يعني: عبرة وعظة، ثم قال -تعالى-: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} فدل ذلك: على أن هذه الآية وإن كان فيها عبر إلا أنه لا ينتفع بها إلا الذي يخشى، والذين لا يخشون ولا ينتفعون بها هم الأكثر.
والله تعالى أعلم.