(فَصْلٌ: ومِنْ أُصولِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وأَلْسِنَتِهمْ لأصْحابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بهِ في قَوْلِهِ تَعَالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيْمانِ وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ}، وَطَاعَةُ النبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قَوْلِهِ:((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ)).
قَالَ تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ} الآيةَ، ففي ذَلِكَ بيانُ فضيلةِ الصّحابةِ والرد على الرافضة.
((فهذِهِ الآيةُ تتضمنُ الثناءَ على المهاجرينَ والأنصارِ وعلى الذينَ جاءوا مِن بعدهم يستغفرونَ لهم ويسألونَ اللهَ أن لا يجعلَ في قلوبِهم غلًّا لهُم وتتضمنُ أنَّ هؤلاءِ الأصنافَ هم المستحقونَ للفئِ ولا ريبَ أنَّ هؤلاءِ الرافضةَ خارجون من الأصنافِ الثلاثةِ, فإنَّهم لم يستغفِروا للسابقينَ، وفي قلوبِهم غلٌّ عليهِم. ففِي هذِهِ الآياتِ الثناءُ على الصحابةِ وعلى أهلِ السنَّةِ الذين يتولونَهُم وإخراجُ الرافضةِ من ذلِكَ.
ورَوَى ابنُ بطَّةَ بإسنادِه عن مالكِ بنِ أنسٍ أنه قالَ مَن سبَّ الصحابةَ فليسَ لهُ في الفئِ نصيبٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يقولُ: {وَالذِينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهِم} الآيةَ، وهذا معـروفٌ عن مالكٍ وغيرِه من أهـلِ العلمِ كأبى عبيدٍ القاسمِ بنِ سـلَّامٍ، وكذا ذكرَهُ أبو حكيمٍ النهرَوَانيُّ من أصحابِ أحمـدَ, وغيرُه من الفقهاءِ. وروى أيضاً عن ابنِ عباسٍ قال: أمرَ اللهُ بالاستغفارِ لأصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يعلمُ أنهم يقتتلونَ.
وقالَ عروةُ قالتْ عائشةٌ: يا بنَ أختي، أُمِروا بالاستغفارِ لأصحابِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فسبُّوهم. وفي الصحيحِ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ قال:َ قيلَ لعائشةَ: إنَّ ناساً يتناولونَ أصحابَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ حتَّى أبا بكرٍ وعمرَ فقالتْ: وما تعجبونَ من هذا؟
انقطعَ عنهم العملُ، فأحبَّ اللهُ أن لا يَقطعَ عنهم الأجرَ. وروى ابنُ بطَّةَ عن ابنِ عمرَ: قالَ لا تَسبُّوا أصحابَ محمدٍ فلَمُقامُ أحدِهم – يعني: مع النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ خيرٌ من عملِ أحدِكم أربعينَ سنة ً. وفي روايةِ وكيعٍ: خيرٌ من عبادةِ أحدِكم عُمرَه.
وقالَ إبراهيمُ بنُ سعيدٍ الجوهريُّ: سألتُ أبا أمامةَ: أيُّما كانَ أفضلُ: معاويةُ أو عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ؟ فقالَ: لا تَعدِلْ بأصحابِ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ أحداً.
وقالَ ابنُ عباسٍ لرجلٍ سمعَه يقولُ كلاماً يثلِبُ به الصحابةَ فقالَ: أَمِن المهاجرينَ الأولينَ أنتَ؟ قالَ: لا. قالَ: فمِن الأنصارِ أنتَ؟ قالَ: لا. قالَ: فأنا أشهدُ بأنَّك لستَ من التابعينَ لهم بإحسانٍ)).
قولُهُ " وطاعةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قولِهِ: لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي ".
إلخ هذا الحديثُ خرَّجاه في الصَّحِيحينِ مِن حَدِيثِ أبي هريرةَ وأبي سعيدٍ. وعَن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ شَيْءٌ فَسبَّهُ خَالِدٌ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولَا نِصِيفَهُ. رواه مسلمٌ.
والأصحابُ جَمْعُ صاحبٍ والصَّاحبُ اسمُ فاعلٍ مِن صَحِبَهُ يَصْحَبُهُ. وذَلِكَ يقعُ عَلَى كثيرِ الصُّحبةِ وقَلِيلِهَا. وممَّا يبيِّنُ هذا أنَّ لَفْظَ الصُّحبةِ فيه عمومُ خصوصٍ فإنَّه يُقَالُ: صَحِبْته ساعةً وصَحِبته شهراً وصَحِبْته سنةً. وَهَذَا قولُ جماهيرِ العلماءِ مِن الفقهاءِ وأهلِ الكلامِ وغيرِهم يَعُدّون في أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن قَلَّتْ صحبتُهُ ومَن كثُرَت وَفِي ذَلِكَ خِلافٌ ضعيفٌ. وكذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ أحمدُ وغيرُه: كُلُّ مَن صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنةً أو شهْراً أو يوماً أو رَآهُ مؤْمِناً به فهو مِن أصحابِه له مِن الصُّحْبةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ولاَ رَيْبَ أنَّ مُجَرَّدَ رؤيةِ الإنسـانِ لِغيرِهِ لاَ تُوجِبُ أنْ يُقَالَ قَدْ صَحِبَهُ ولكنْ إذا رَآهُ عَلَى وجْهِ الاتِّباعِ له والاقتداءِ بهِ دونَ غيرِهِ والاختصاصِ بهِ.
ولهذا لمْ يُعتَدَّ برؤيةِ مَن رأى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الكُفَّارِ والمنافقينِ فأَنَّهُمْ لم يَرَوْهُ رؤيةَ مَن قَصَدَ أنْ يؤمِنَ بهِ ويكونَ مِن أتباعِهِ وأعوانِهِ المُصَدِّقينَ له فيما أَخْبَرَ المُطِيعينَ له فيما أَمَرَ الْمُوالِينَ له المُعادِينَ لِمَنْ عَادَاهُ الذي هو أحبُّ إليهِم مِن أنفسِهِم وأمـوالِهِمْ وكلِّ شيءٍ. وامتازَ عَن سائرِ المؤمنينَ بأنه رآهُ وهَذِهِ حالُهُ مَعَهُ فكَانَ صاحباً له بهذا الاعتبارِ ويدلُّ لذَلِكَ ما ثبَتَ في الصَّحِيحينِ عَن أبي هريرةَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي رَأَيْتُ إِخْوَانِي، قَالوا: يا رسولَ اللهِ، أَوَلَسْنَا إخوانَكَ؟ فقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي. وَإِخْوَانِي الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي. فَدَلَّ عَلَى أنَّ مَن آمَنَ بهِ ورآه فهوَ مِن أصحابِهِ لاَ مِن هَؤُلاَءِ الإخوانِ الَّذِينَ لم يَرَهُمْ وَلَمْ يَرَوْهُ.
ولمَّا كَانَ لفظُ ((الصُّحْبةِ)) فيه عمومٌ كَانَ مَنِ اختصَّ بالصُّحبةِ بِما يتمَيَّزُ به عَن غيرِه فوقَ مَن لم يَشترِكْ معهُ فِيها. كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَدِيثِ أبي سعيدٍ لخالدِ بنِ الوليدِ رَضِيَ اللهُ عنهم أجْمَعِينَ لَمَّا اخْتَصَمَ هوَ وعبدُ الرَّحْمَنِ: يَا خَالِدُ لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحِدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولَا نَصِيفَهُ.
فعبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عوفٍ وأمثالُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مِن السَّابِقينَ الأوَّلِين الَّذِينَ أنْفَقُوا قبْلَ الفَتْحِ فَتْحِ الْحُدَيْبِيةِ، وخالدُ بنُ الوليدِ وغيرُهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ بعدَ الحديبيةِ وَأَنفَقُوا وَقَاتَلُوا دونَ أولئكَ قَالَ تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُمْ مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُواْ} وَالمُرادُ بالفتحِ فتحُ الحُدَيْبِيَةِ.
لَمَّا بَلَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابَهُ تحتَ الشجرةِ وسورةُ الفتحِ التي أنْزَلَهَا اللهُ قبلَ فتحِ مكةَ. بَل قبلَ أنْ يَعْتَمرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرةَ القَضِيَّةِ وكانتْ بيعةُ الرضوانِ عامَ الحديبيةِ سنةَ ستٍّ مِن الهِجرةِ وصَالحَ المشركينَ صُلْحَ الحديبيةِ المشهورِ وبذَلِكَ الصُّلحِ حصلَ مِن الفتحِ والخيرِ ما لاَ يعلمُهُ إلاَ اللهُ.
والمقصودُ أنَّ الَّذِينَ صَحِبوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلَ الفتحِ واختصُّوا مِن الصُّحبةِ بِما استحقُّوا به التبريزَ عَلَى مَن بعدَهُم حتَّى قَالَ لخالدٍ رَضِيَ اللهُ عنه: لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي. فإنَّهُمْ صَحِبوه قبلَ أنْ يصحَبَهُ خالدٌ وأمثالُهُ.
فإنْ قِيلَ فَلِمَ نَهَى خالداً عَن أنْ يسُبَّ أصحابَهُ إذا كَانَ مِن أصحابِه أيضاً وقَالَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولاَ نَصِيفَهُ.؟ قُلنا لأنَّ عبدَ الرَّحْمَنِ بنَ عوفٍ ونُظَراءهُ مِن السَّابقينَ الأوَّلِينَ الذين صَحِبوه في وقتٍ كَانَ خالدٌ وأمثالُهُ يُعادُونهُ فيهِ. وأنْفَقُوا أموالَهُمْ قبلَ الفتحِ وقَاتَلُوا وَكُلاَّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى فَقَدْ انْفَرَدُوا مِن الصُّحبةِ بما لم يُشرِكْهم فيه خالدٌ وَنُظراؤه مِمَّنْ أسْلَمَ بعدَ الفتحِ الذي هو صُلحُ الحديبيةِ وقَاتَلَ فَنَهَى أنْ يُسَبَّ أولئكَ الَّذِينَ صحِبُوه قَبْلَه ومَنْ لم يَصحَبْه قطُّ نِسْبتُه إلى مَن صَحِبهُ كنسبةِ خالدٍ إلى السَّابقينَ وأبعدَ. وقولُه: لاَ تَسُبُّوا أصْحَابِي. خِطابٌ لكلِّ أحدٍ أنْ يسبَّ مَنِ انفردَ عنه بِصُحبتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُه: مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولاَ نَصِيفَهُ. المُدُّ بضمِّ الميمِ مِكيالٌ معروفٌ والنَّصيفُ لغةٌ في النِّصْفِ وَهُوَ مكيالٌ دونَ المُدِّ.
قَالَ الخطَّابيُّ: النَّصِيفُ بمَعْنَى النِّصفِ. كما قالوا: الثَّمِينُ بمعنى الثَّمَنِ.
قَالَ الشاعرُ:
فَمَا طَارَ لي في القسمِ إلا ثَمينُها.
وقَالَ آخرُ:
لم يعْدِلْها مُدٌّ ولاَ نصيفٌ
والمَعنْى أنّ جُهدَ المُقِلِّ منهم واليسيرَ مِن النَّفقةِ الذي أَنْفَقَهُ في سبيلِ اللهِ مَعَ عُسْرةِ العيشِ والضيقِ الذي كانوا فيه أوْفَى عندَ اللهِ وأزْكَى مِن الكثيرِ الذي يُنفقُهُ مَن بَعدَهم ا هـ.
وذَلِكَ أنَّ الإيمانَ الذي كَانَ في قلوبِهِم حينَ الإنفاقِ في أوَّلِ الإسلامِ وقلَّةِ أهلِهِ وكثرةِ الصَّوارفِ عنه وَضَعْفِ الدَّواعي إليه لاَ يُمَكِّنُ أحداً أن يحصُلَ له مِثْلُه مِمَّنْ بعدَهُم وَهَذَا يَعرِفُ بَعْضَه مَن ذاقَ الأمُورَ وَعرِفَ المِحنَ والابتلاءَ الذي يَحصُلُ للنَّاسِ وما يحصُلُ للقلوبِ مِن الأحوالِ المختلفةِ وَهَذَا مما يُعرفُ به أنَّ أبا بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه لن يكونَ أحدٌ مثلَهُ. فإنَّ اليقينَ والإيمانَ الذي كَانَ في قلبِهِ لاَ يُساوِيهِ أحدٌ. قَالَ أَبُو بكرِ بنُ عيَّاشٍ: مَا سَبَقَهم أَبُو بكرٍ بِكَثرةِ صلاةٍ ولاَ صيامٍ ولكنْ بشيءٍ وَقَرَ في قلْبِه.
وهكذا سائرُ الصحابةِ حصَلَ لَهُمْ - بِصُحْبتِهِم للرَّسولِ مؤمنينَ به مُجاهِدينَ معه- إيمانٌ ويقينٌ لم يَشْركْهم فيه مَن بعدَهم. وقدْ ثبتَ في صحيحِ مُسلمٍ عَن أبي موسى عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رَفَعَ رأسَهُ إلى السَّماءِ وكَانَ كثيراً ما يَرْفعُ رأسَهُ إلى السَّماءِ فقَالَ:
النُّجومُ أمِنَةٌ لِلسَّماءِ فَإذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُونَ، وأَنَا أَمَنةٌ لأَصْحَابِي فَإذَا ذَهَبْتُ أَتَى أصْحابي ما يُوعَدُونَ، وَأصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي ما يُوَعَدُونَ. وقدْ ثَبَتَ ثناءُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى القرونِ الثَّلاثةِ في عِدَّةِ أحاديثَ صحيحةٍ مِن حَدِيثِ ابنِ مسعودٍ وعِمرانَ بنِ حصينٍ يقولُ فيها: خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ.
وشكَّ بعضُ الرُّواةِ هَلْ ذَكَرَ بعدَ قرْنِه قَرنينِ أو ثلاثةٍ؟ والمقصودُ أنَّ فضْلَ الأعمالِ وَثَوابَهَا ليسَ لِمُجرَّدِ صورِهَا الظَّاهرةِ. بلْ لِحَقَائِقِها التي في القلوبِ. والناسُ يَتفاضلونَ في ذَلِكَ تَفاضُلاً عظيماً. وَهَذَا ممَّا يَحتجُّ بهِ مَن رَجَّحَ كُلَّ واحدٍ مِن الصَّحَابَةِ عَلَى كلِّّ واحدٍ مِمَّن بعدَهم فإنَّ العلماءَ مُتَّفقونَ عَلَى أنَّ جُملةَ الصَّحَابةِ أفضلُ مِن جُملةِ التَّابِعينَ. لكنْ هَل يَفْضُلُ كلُّ واحدٍ مِن الصَّحَابَةِ كلَّ واحدٍ مِمَّن بعدَهم ويفضُلُ معاويةُ عَلَى عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ. ذَكَرَ القَاضي عياضٌ وغيرُه في ذَلِكَ قَوْلينِ وأنَّ الأْكثرِينَ يُفضِّلون كلَّ واحدٍ مِن الصَّحَابَةِ. وَهَذَا مأثورٌ عَن ابنِ المباركِ وأحمدَ بنِ حنبلٍ وغيرِهم. ومِن حُجَّةِ هَؤُلاَءِ أنَّ أعمالَ التَّابِعينَ وإنْ كانتْ أكثرَ.
وعدْلُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ أظْهرُ مِن معاويةَ وَهُوَ أزهدُ مِن معاويةَ لكنَّ الفضائلَ عندَ اللهِ بحقائقِ الإيمانِ الذي في القلوبِ. وقد قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولاَ نَصِيفَهُ. قَالُوا: فنحنُ قدْ نعلمُ أنَّ أعمالَ بعضِ مَن بعدَهم أكثرُ مِن أعمالِ بعضِهم لكنْ مِن أينَ نعلمُ أنَّ ما في قلْبِه مِن الإيمانِ أعظمُ مِمَّا في قلبِ ذَلِكَ؟
والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخبرُ أنَّ مِثلَ جَبَلِ أُحدٍ ذَهَباً مِن التَّابِعينَ الَّذِينَ أسلَمُوا بعدَ الحديبيةِ لاَ يُساوِي نِصفَ مُدٍّ مِن السابِقينَ، وَمَعْلومٌ فَضْلُ النفعِ الْمُتعدِّي بعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، أعطَى النَّاسَ حُقوقَهُم وَعَدلَ فيهم فلو قُدِّرَ أنَّ الذي أعَطَاهم مُلْكَهُ وتَصَدَّقَ به عَلَيْهِمْ لم يعْدِلْ ذَلِكَ ما أَنفَقَهُ السَّابِقونَ إلاَ شيئاً يسيراً وأينَ مِثْلُ جبلِ أُحدٍ ذَهَباً حتى يُنفِقَهُ الإنسانُ؟ وَهُوَ لاَ يصيرُ مِثلَ نِصفِ مُدٍّ. ولهذا يقولُ مَن يقولُ مِن السَّلفِ: غُبارٌ دخلَ في أنفِ معاويةَ مَعَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضلُ مِن عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ.
ومَن لعَنَ أحداً مِن أصحابِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كمعاويةَ وعمرِو بنِ العاصِ أو مَن هو أفضلُ مِن هَؤُلاَءِ كأبى موسى الأشعرى وأبى هريرة أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحةَ والزبيرِ وعثمانَ أو عليٍّ أو أبي بكرٍ أو عُمَرَ أو عائشةَ أو نحوِ هَؤُلاَءِ مِن أصحابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فإنه يَستحقُّ العقوبةَ البليغةَ باتِّفاقِ المُسلمينَ. وَتَنَازعـوا هَل يُعاقبُ بالقتلِ أو ما دونَ القتـلِ؟ وقد ثَبَتَ في الصِّحِيـحِ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ تَسُبُّـوا أصْحَـابِي. الحَـدِيثَ واللعنـةُ أعظـمُ مِن السبِّ فقدْ قَـالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعْنُ الْمُؤمِنِ كَقَتْلِهِ. وأصحابُهُ خيارُ المؤمنينَ كما قَالَ: خَيْرُ الْقُرِونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. وكلُّ مَن رآهُ وآمَن به فلََه مِن الصُّحبةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ.
ويَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بهِ الكِتَابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ مِنْ فَضائِلِهِمْ ومَراتِبِهِمْ.
ويُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ - وهُو صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ - وقاتَلَ عَلى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وقَاتَلَ. ويُقَدِّمُونَ المُهَاجِرينَ عَلى الأنْصارِ.
ويُؤمِنُونَ بأَنَّ اللهَ قالَ لأهْلِ بَدْرٍ - وكَانُوا ثَلاثَ مِئةٍ وبِضْعَةَ عَشَرَ -: ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)).
وبأَنَّهُ لا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تحتَ الشَّجَرَةِ؛ كَمَا أَخْبَرَ بهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ قَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ، وكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وأَرْبَعِ مِئَةٍ.
قَالَ تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الآيةَ.
ويُقدِّمونَ المُهاجرينَ عَلَى الأنصارِ كما قدَّمهم اللهُ في قولِهِ: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} وَيُنْزِلونَ الصَّحَابَةَ جميعاً مَرَاتِبَهم ويَتَرَضَّونَ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ.
((فالذينَ أَسْلمُوا قبلَ الفتحِ وهم أهلُ بيعةِ الرضوانِ أفضلُ وأخصُّ بِصُحْبَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أسْلَمَ بعدَ بيعةِ الرضوانِ وهُمُ الَّذِينَ أَسْلَموا بعدَ الحديبيةِ ومُصالحةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَ مكَّةَ ومنهم خالدٌ وعمرُو بنُ العاصِ وعثمانُ بنُ أبي طَلْحةَ وأَمثالُهمْ وهؤلاءِ أسبقُ مِمَّنْ تأخَّرَ إسلامُهُم إلى أنْ فُتِحتْ مكَّةُ وَسُمُّوا الطُّلَقَاءَ مِثلَ سُهَيلِ بنِ عمرٍو والحارثِ بنِ هشامٍ وأبي سُفيانَ بنِ حرْبٍ وابْنَيْهِ يزيدَ ومعاويةَ وأبي سفيانَ بنِ الحارثِ وعكرمةَ بنِ أبي جَهْلٍ وصفوانَ بنِ أُمَيَّةَ وغيرِهم مَعَ أنَّه قدْ يكونُ في هؤلاءِ مَن بَرَزَ بِعِلْمِهِ على بعضِ مَن تَقَدَّمَه كثيراً كالحارثِ بنِ هشامٍ وأبي سفيانَ بنِ الحارثِ وسُهيلِ بنِ عمرٍو على بعضِ مَن أسْلَمَ قَبْلَهم مِمَّنْ أسْلَمَ قبلَ الفتحِ وقاتَلَ وكمَا بَرزَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ على أكثرِ الذين أسْلَموا قبْلَه.
وقَولُه: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ} قبلَ الفتحِ الآيةَ ((فَفَضَّلَ المُنْفِقينَ المُقاتِلينَ قبلَ الفتحِ والمرادُ بالفتحِ هنا صُلحُ الحديبيةِ. ولهذا سُئِلَ النَّبِيُّ أوَفَتْحٌ هوَ؟ فقالَ: نَعَمْ. وأهلُ العلمِ يَعلمونَ أنَّ فيه أَنْزلَ اللهُ تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} فقال بعضُ المُسْلِمينَ: يَا رسولَ اللهِ هذا لكَ فمَا لَنَا يا رسولَ اللهِ؟ فأنْزَلَ اللهُ تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ}.
وهذه الآيةُ نصٌّ في تفضيلِ المُنْفِقينَ المُقَاتِلينَ قبلَ الفتحِ على المُنفقينَ بعدَهُ. ولهذا ذَهَبَ جمهـورُ العلماءِ إلى أنَّ السَّابقينَ في قولِهِ: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} هم هؤلاءِ الذين أَنْفَقوا مِن قبلِ الفتحِ وَقَاتلُوا، وأهلُ بيعةِ الرضوانِ كُلُّهم مِنهم وكانوا أكثرَ مِن ألفٍ وأربعِمائةٍ. وقد ذهبَ بعضُهم إلى أنَّ السَّابقينَ الأوَّلِينَ هم مَن صلَّى إِلَى الِقبلَتينِ وهذا ضعيفٌ ولأنَّ التَّفضيلَ بالصَّلاةِ إِلَى الْقِبلتينِ لم يدُلَّ عليه دليلٌ شرعيٌّ كما دلَّ على التَّفضيلِ بالسَّبقِ إِلَى الإنفاقِ والجهادِ والمُبايعةِ تحتَ الشَّجرةِ ؛ ولكنَّ فيه سَبْقَ الَّذِينَ أدْرَكوا ذلكَ على مَن لم يُدْركْهُ.
كمَّا أنَّ الَّذِينَ أَسْلَموا قبلَ أنْ تُفرضَ الصَّلواتُ الخَمْسُ هم سَابِقونَ على مَن تَأخَّرَ إسلامُهُ عنهم والَّذِينَ أَسْلَموا قبلَ أنْ تُجعلَ صلاةُ الحضرِ أربعَ ركعاتٍ هم سَابِقونَ على مَن تأخَّرَ إسلامُهُ عنهم والَّذِينَ أَسْلَمُوا قبلَ أنْ يُؤذنَ في الجهادِ أو قبلَ أنْ يُفرضَ هم سَابقونَ على مَن أسْلَمَ بعدَهُم. والَّذِينَ أَسْلَمُوا قبلَ أنْ يُفرضَ صيامُ شهرِ رمضانَ هم سابقونَ على مَن أسْلَمَ بعدَهم والَّذِينَ أَسْلَمُوا قبلَ أنْ يُفرضَ الحجُّ هم سابقونَ على مَن تأخَّرَ عَنْهُمْ والَّذِينَ أَسْلَمُوا قبلَ تَحْريمِ الخَمْرِ هم سَابِقُونَ على مَن أسْلَمَ بعدَهم والَّذِينَ أَسْلَمُوا قبلَ تحريمِ الرِّبا كذلكَ فَشَرائِعُ الإسلامِ مِن الإيجابِ والتَّحريمِ كانتْ تَنزِلُ شيئاً فشيئاً وَكُلُّ مَن أسْلَمَ قبلَ أنْ تُشرعَ شريعةٌ فهوَ سابِقٌ على مَن تَأَخَّرَ عنه وله بذلكَ فضيلةٌ. ففضيلةُ مَن أسْلَمَ قبلَ نَسْخِ القِبْلةِ على مَن أسْلَمَ بعدَه هي مِن هذا البابِ. وليسَ مِثْلُ هذا مِمَّا يتَمَيَّزُ به السَابِقُونَ الأوَّلونَ عن التَّابِعينَ إذْ ليسَ بعضُ هذه الشَّرائعِ أوْلَى بِمَن يَجْعلُه خيراً مِن بعضٍ ولأنَّ القرآنَ والسُّنَّةَ قد دلَّا على تقديمِ أهلِ الحديبيةِ فوجَبَ أنْ تُفَسَّرَ هذه الآيةُ بما يوافِقُ سائرَ النُّصوصِ.
وقدْ عُلِمَ بالاضْطِـرارِ أنه كان في هـؤلاء السَّابِقِـينَ الأوَّلِـينَ أبو بكرٍ وعُمَـرُ وعثمانُ وعليٌّ وطلحـةُ والزُّبيرُ وَبايعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدِهِ عن عُثمانَ لأنه قد كان غَائباً قد أرسلَهَ إِلَى أهلِ مكَّةَ لِيُبَلِّغَهُم رِسَالتَهَ. وَبِسببِهِ بايعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ لِما بَلَغه أنَّهم قَتَلُوه. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مُسلمٍ عَن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه أنه قال: لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ))
((وَسُمِّي صُلحُ الحديبيةِ فَتْحاً لأنَّ الفتحَ في اللُّغةِ عِبارةٌ عَن فتحِ الْمُغلَقِ، والصُّلحُ الَّذِي حَصلَ معَ المُشرِكينَ بالحديبيةِ كان بابُهُ مَسدوداً مُغلَقاً حتَّى فَتحَهُ اللهُ))
وقد قال تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وفي الصَّحيحين عن جابرٍ قال: كُنَّا يومُ الحديبيةِ ألفاً وأرْبَعَمِائةٍ. وفيهما عنه أنَّهُمْ كانوا خمسَ عشْرةَ ومِائةً.
وعنه قال قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَدْخُلُ مَنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ كُلُّهُمُ الْجَنَّةَ إِلاَّ صَاحِبَ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ " قال فانَطْلقْنا نَبْتَدِره فَإِذا رَجُـلٌ قدْ أَضَلَّ بَعِيرُه فَقُلْنَا تَعالَ فَبَايِعْ رَسُـولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُصِيبُ بَعِيرِي أحبُّ إِلَيَّ من أنْ أُبايعَ. رواهُ ابنُ أبي حـاتمٍ. وأصلُهُ في مُسْلِمٍ. وروى مُسْلِمٌ عن جابرٍ قَالَ: أَخَبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ أنها سَمِعتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ عِندَ حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها: " لاَ يَدْخُلُ النَّارَ إنْ شَاءَ اللهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَها أَحَدٌ " قالتْ بلى يا رَسُولَ اللهِ فَانْتَهَرَهَا فقالتْ حَفْصَةُ رَضِيَ اللهُ عنها {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً}
والصَّحيحُ في عِدَّةِ أهلِ بيعةِ الرضوانِ أنَّهُمْ أكثرُ مِن ألْفٍ وأرْبَعِمائةٍ. ورُوِيَ عَن جابرٍ تارةً أنَّهُمْ أَرْبعُمائةٍ وَتَارَةً خَمْسُمائةٍ ((فَمَنْ قَالَ ألفٌ وَخَمْسُمائةٍ. جَبَرَ الْكَسْرَ، وَمَن قَالَ ألفٌ وأربعُمائةٍ أَلْغَاهُ وَيُؤيّدُهُ قولُه في الرِّوايةِ الثَّانيةِ مِن حديثِ البَراءِ: ألفٌ وأرْبعُمائةٍ أو أكثرُ، وَاعتمَدَ على هذا الجمْعِ النَّوَوِيُّ. وأمَّا البَيْهَقِيُّ فمَالَ إِلَى التَّرجيحِ وقَالَ: إنَّ روايةَ مَن قَالَ ألفٌ وأربعُمائةٍ أصحُّ))
قولُه ((ويُؤمِنونَ بأنَّ اللهَ قَالَ لأهْلِ بَدْرٍ " اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ))
روى مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ " أنَّ غُلاماً لِحَاطبِ بنِ أبي بَلْتَعَةَ شَكَاهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقَالَ: واللهِ يا رَسُولَ اللهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ فقَالَ: " كَذَبْتَ، إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً وَالْحُدَيْبِيَةَ.
وروى البُخَارِيُّ عن البراءِ بنِ عازبٍ قَالَ: كنا نتحَدَّثُ أنَّ أصحابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ كانوا مَعَهُ يومَ بَدْرٍ ثَلاثُمائةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ على عِدَّةَ أصحابِ طالوتَ الَّذِينَ جَازُوا معه النَّهرَ وما جَاوزَهُ معه إلا مِؤْمِنٌ.
وفي الصَّحِيحَيْنِ وغَيرِهما عَن عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا والزُّبَيْرَ والمِقْدادَ بنَ الأسْودِ قَالَ: " انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فإنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا فَانْطَلَقْنَا تَتَعادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ فَإِذَا نَحنُ بالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الكتابَ، فقالتْ: مَعِي كِتابٌ ! فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكتابَ أَوْ لَنَلْقَيَنَّ الثِّيابَ قَالَ: فَأَخْرَجَتِ الكتابَ من عِقَاصِها فَأَخَذْنَا الْكِتابَ فَأتَيْنَا به رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ رَسُـولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟ " قَالَ لاَ تَعَجَلْ عَلَيَّ، إنِّي كنتُ امْرَءاً مُلْصَقاً في قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِن أَنْفُسِهِم وكَانَ مَن مَعَكَ مِنَ المُهاجِرينَ لهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهم وَأَمْوالَهم بمكَّةَ فَأَحبَبْتُ إذْ فَاتنِي ذلكَ مِن النَّسبِ فيهم أَنْ أَتَّخِذَ فيهم يداً يَحْمُونَ بها قَرَابتِي وما فَعَلْتُ ذلكَ كُفْراً ولا ارْتِداداً مِن دِينِي ولا رِضًى بالْكُفْرِ بعدَ الإسلامِ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ صَدَقَكُمْ " فقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَ هذا المُنَافِقِ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً وَمَا يُدرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فقَالَ: اعْمَلُوا مِا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ".
وَذَكَرَ يحيى بنُ سلاَّمٍ في تَفسيرِهِ أنَّ لفْظَ الكتابِ: أمَّا بعْدُ يا مَعْشَرَ قُريشٍ فإنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَكُمْ بِجَيْشٍ كاللَّيلِ يَسِيرُ كالسَّيْلِ فواللهِ لوْ جَاءكُمْ وَحْدَهُ لَنَصَرَه اللهُ وَأَنْجزَ لَه وَعْدَهُ فانْظُروا لِأنفُسِكُمْ والسَّلامُ. كذا ذَكَرَه السُّهَيْلِيُّ.
وَظاهِرُ الحَدِيثِ أنَّ العِلَّةَ في تَرْكِ قَتْلِه كَوْنُهُ مِن أهلِ بدْرٍ ولولَا ذَلِكَ لكانَ مُسَتِحقاًّ لِلْقَتْلِ. والْحَدِيثُ دليلٌ على فضِيلةِ أهلِ بدْرٍ فقولُهُ " إنَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". ((فيه بِشارةٌ عَظِيمةٌ لَمْ تقعْ لغَيْرِهمْ. وَوَقَعَ الخبرُ بألفاظٍ مِنْها فَقْدَ غَفَرْتُ لكم. ومنه فقدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ. وَمِنْهَا لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ، لِكِنْ قَالَ العُلماءُ: إِنَّ التَّرَجِّي في كلامِ اللهِ وكلامِ رسولِهِ لِلوقُوعِ. وَعِنْدَ أحمدَ وابنِ أبي شَيبةَ مِن حديثِ أبي هُرَيْرةَ لِلجَزْمِ وعندَ أحمدَ بإسنادٍ علَى شَرْطِ مُسْلِمٍ مِن حديثِ جابرٍ مَرفوعاً: لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْراً.
وَقدِ استَشكلَ قولُه ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)) فإنَّ ظَاهرَهُ أنَّهُ للإباحةِ. وهذا خِلافُ عَقْدِ الشَّـرعِ. وَأُجيبُ بِأنَّهُ إخبارٌ عَن الماضِي - أَيْ كُلُّ عَمَلٍ كان لكم فَهو مَغْفورٌ وَيُؤيِّدُه أنَّه لو كان لِما يَستقبِلونَه مِن العملِ لم يقعْ بلفظِ الماضِي ولقَالَ فَسَأَغْفِرُهُ لكم. وَتُعُقِّبَ بأنه لو كان للماضِي لَمَا حَسُنَ الاستدلالُ بِه في قِصَّةِ حاطبٍ لأنه خاطَبَ به عُمَرَ مُنكِراً عليه ما قَالَ في أمْرِ حاطبٍ.
وهذه القِصَّةُ كانت بعدَ بَدْرٍ بستِّ سنينَ فدلَّ على أنَّ المُرادَ ما سَيأتي. وأوْرَدَه بلفظِ الماضِي مُبالَغةً في تَحقِيقِه. وقِيلَ: إنَّ صِيغةَ الأمْرِ في قولِه " اعْمَلُوا " للتَّشْريفِ والتَّكرِيمِ، والمُرادُ عَدَمُ المؤاخذةِ بِمَا يَصدُرُ منهم بعدَ ذَلِكَ وأنَّهُمْ خُصُّوا بذَلِكَ لِما حَصَلَ لهم به مِن الحالِ العظيمةِ التي اقتضَتْ مَحْوَ ذُنوبِهم السَّابقةِ وتَأَهَّلوا لأَنْ يَغفِرَ اللهُ لهم الذُّنوبَ اللاَّحِقةَ إنْ وقعتْ - أيْ: كُلَّما عَمِلْتُموهُ - بعدَ هذه الواقعةِ مِن أيِّ عَملٍ كان فهوَ مغفورٌ.
وقِيلَ هي بِشارةٌ بعدمِ وقوعِ الذُّنوبِ منهم. وفيه نَظَرٌ لِما سَيأتي في قِصَّةِ قُدامةَ بنِ مَظْعُونٍ حِينَ شَرِبَ الخَمْرَ في أيامِ عُمَرَ وَحَدَّهُ عُمَرُ فيها فَهاجرَ بسببِ ذَلِكَ فرأى عُمَرُ في المنامِ مَن يَأمرُهُ بِمُصالحَتِهِ وكانَ قُدامةَ بَدْرِياً. والَّذِي يُفْهمُ مِن سياقِ القِصَّةِ الاحتمالُ الثَّانِي، وهُوَ الَّذِي فهِمَه أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَميُّ التَّابِعيُّ الكبيرُ حيثُ قَالَ لِحَيَّانَ بنِ عطيةَ: قد عَلِمْتَ الَّذِي جَرَّأَ صاحِبَكَ على الدِّماءِ.
وَذَكَرَ هذا الْحَدِيثَ. واتَّفَقُوا على أنَّ البِشارةَ المذكورةَ فيما يَتَعلَّقُ بأحكامِ الآخرةِ لا بأحكامِ الدُّنيا مِن إقامةِ الحدودِ وغيرِها فالَّذِي يظُنُّ في ذَلِكَ - واللهُ أعلمُ - إنَّ هذا خِطابٌ لقومٍ عَلِمَ اللهُ سبحـانَهُ أنَّهُمْ لا يُفارِقونَ دِينَهُم بَل يَمُوتونَ على الإسـلامِ وأنَّهُمْ قد يُقارِفونَ بعضَ ما يُقارِفُه غيرُهم مِن الذَّنوبِ ولكِنْ لا يَتْرُكُهم سُبحَانَهُ مُصِرِّينَ عليها بَل يُوقِّفُهم لِتَوْبةٍ نصوحٍ واستغفارٍ وحسناتٍ تَمحوُ أثَرَ ذَلِكَ ويكونُ تَخصيصُهم بهذا دونَ غيرِهم لأنَّهُ قد تحَقَّقَ ذَلِكَ فيهم وأنَّهُ مغفورٌ لهم ولا يمنَعُ ذَلِكَ كونَ المغفرةِ حَصَلتْ بأسبابٍ تقومُ بهم كما لا يَقتضِي ذَلِكَ أنْ يُعَطِّلوا الفرائضَ وُثُوقاً بالمغفرةِ. فلو كانتْ قدْ حَصَلَتْ بدونِ الاستمرارِ على القيامِ بالأوامرِ لَما احْتاجُوا بعدَ ذَلِكَ إِلَى صلاةٍ ولا صيامٍ ولا حَجٍّ ولا زكاةٍ ولا جهادٍ.
وهذا مُحالٌ. ومِنْ أوجَبِ الواجباتِ التَّوبةُ بعدَ الذَّنْبِ لِضمانِ المغفرةِ لا يُوجبُ تَعْطيلَ أسبابِ المغفرةِ، ونظيرُ هذا قولُهُ في الْحَدِيثِ الآخرِ. " أذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْباً فقَالَ: أيْ رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْباً فَاغْفِرْهُ لِي فَغَفَرَ لَهُ ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْباً آخَرَ فقَالَ: أَيْ رَبِّ أَصَبْتُ ذَنْباً فَاغْفِرْهُ لِي فَغَفَرَ لَهُ. ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْباً آخَرَ فقَالَ: رَبِّ أَصَبْتُ ذَنْباً فَاغْفِرْهُ لِي؟ فقَالَ اللهُ: عَلِمَ عَبْدِي أنَّ لَهُ رَباًّ يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ " ؛ فليسَ في هذا إطلاقٌ وإِذْنٌ منه - سُبحَانَهُ - له في المُحَرَّماتِ والجَرَائمِ، وإنَّما يدلُّ على أنَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ما دَامَ كذَلِكَ إذا أَذنبَ تابَ.
واختصاصُ هذا العبدِ بهذا لأنَّهُ قد عَلِم أنَّهُ لا يُصِرُّ على ذَنبٍ وأنَّهُ كُلَّما أذْنَبَ تابَ حُكْمٌ يَعُمُّ كلَّ مَن كانت حالُه حالَهُ لكِنَّ ذَلِكَ العبدَ مقطوعٌ لُه بذَلِكَ كما قُطِعَ به لأهلِ بدْرٍ، وكذَلِكَ كلُّ مَن بَشَّرهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجَنَّةِ أوْ أَخْبَرَهُ بأنَّهُ مغفـورٌ له لم يَفْهَمْ منه هُوَ ولا غَيرُه مِن الصَّحابةِ إطلاقَ الذُّنوبِ والمعاصِي له ومُسَامحتَهُ بِتَرْكِ الواجباتِ بَل كان هؤلاء أشدَّ اجتهاداً وحذراً وخوفاً بعدَ البِشارةِ منهم قَبْلَها كالعَشَرةِ المشهودِ لهم بالجَنَّةِ.
وقد كان الصِّدِّيقُ شديدَ الحذرِ والمخافةِ وكذَلِكَ عُمَرُ ؛ فَإِنَّهُمْ عَلِموا أنَّ البِشارةَ المُطلقةَ مُقيَّدةٌ بِشروطِها والاستمرارِ عليها إِلَى الموتِ ومُقيدةٌ بانتفاءِ موانِعِها ولم يَفهمْ أحَدٌ منهم من ذَلِكَ الإطلاقِ الإذنَ فيما شَاءوا مِن الأعمالِ))
ويَشْهَدُونَ بالجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كالعَشَرَةِ، وثابِتِ بنِ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وغيْرِهِمْ مِنَ الصَّحابَةِ).
العَشَرةُ هم: أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ، وعثمانُ بنُ عفَّانَ، وعلِيُّ بنُ أبي طالبٍ، وطلحةُ بنُ عُبَيدِ
اللهِ، والزُّبَيْرُ بنُ العوَّامِ، وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وسعيدُ بنُ زيدِ بنِ عمرِو بنِ نُفيْلٍ، وعبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ، وأبو عُبَيدةَ بنُ الجرَّاحِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ. وقدْ صَحَّتِ الأحاديثُ بالشَّهادةِ لهم بالجَنَّةِ. وكذَلِكَ الشهادةُ لثابتِ بنِ قيسٍ، وعُكَّاشةَ بنِ مِحْصَنٍ، وعبدِ اللهِ بنِ سلاَّمٍ وغيرِهم.
وروى أحمدُ في المُسنَدِ عَن سعيدِ بنِ زيْدٍ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: " أَبُو بَكْرٍ فِي الجنَّةِِ وعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ وعَلِيٌّ فِي الجَنَّةِ وَعُثْمَانُ فِي الجَنَّةِ وطَلْحَةُ فِي الجَنَّةِ والزُّبَيْرُ فِي الجَنَّةِ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي الجَنَّةِ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ فِي الجَنَّةِ وتَاسِعُ الْمُؤْمِنينَ فِي الجَنَّةِ لو شِئْتُ أنْ أُسَمِّيَهُ لَسَمَيَّتَهُ - ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أنَّهُ تَاسِعُ الْمُؤْمِنينَ ورَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَاشِرُ ثُمَّ أَتْبعَ ذَلِكَ يَميناً ثُمَّ قَالَ: واللهِ لَمَشْهدٌ شَهِدهُ رَجُلٌ يُغَبِّرُ فيه وَجهَهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضلُ مِن عُمْرِ أحدِكمْ ولو عَمَّرَ عُمْرَ نُوحٍ ".
ورَوَاهُ ابنُ ماجةَ والتِّرمذيُّ وصَحَّحَهُ. وروى الإِمَامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ مِن حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عوفٍ أيضاً نَحوَهُ. وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كان رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حِراءٍ هُوَ وأَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمَانُ وعَلِيٌّ وطَلْحَةُ والزُّبَيْرُ فَتَحَرَّكَتِ الصَّخرةُ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اهْدَأْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وعَن أَبِي مُوسَى قَالَ: كنتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حائطٍ مِن حِيطانِ المدينـةِ فَجَـاءَ رَجـلٌ فَاسْتفتَحَ فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ فَفَتَحْتُ لَهُ فَإِذَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ فَبَشَّرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللهَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ فَفَتَحْتُ لَهُ فإذا هُوَ عُمَرُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحَمِدَ اللهَ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ فقَالَ لي افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ على بَلْوًى تُصِيبُهُ فإذا هُوَ عُثْمَانُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحَمِدَ اللهَ ثُمَّ قَالَ: اللهُ الْمُسْتَعانُ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمعْنَاه.
وفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيثِ حُذيفةَ بْنِ اليمانِ قَالَ: جَاءَ أهلُ نَجرانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رَسُولَ اللهِ ابْعَثْ إلينَا رَجُلاً أمِيناً؟ فقَالَ: لأََبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلاً أَمِيناً حَقٌّ أَمِينٌ فَاسْتَشَرَفَ لَهَا النَّاسُ قَالَ: فَبَعثَ أبا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ. وروى الشَّيْخَانِ عَن جابرٍ قَالَ: نَدبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يومَ الخندقِ فَانتدبَ الزُّبَيْرَ ثُمَّ نَدَبهم فانْتَدَبَ الزُّبَيْرَ فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لُكِلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ، وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ ". وهذا لفظُ مُسْلِمٍ.
وروى الْبُخَارِيُّ عَن أنسٍ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افتَقَدَ ثابتَ بنَ قيسٍ رَضِيَ اللهُ عنه فقَالَ رَجُـلٌ: يا رَسُـولَ اللهِ أنَا أعْلمُ لكَ عِلْمَهُ فأتاه فوَجْدَهُ فِي بيتِهِ مُنَكِّساً رأسَهُ فقَالَ لَهُ: ما شَأنُكَ؟ فقَالَ: شَـرٌّ، كان يَرفعُ صـوتَهُ فوقَ صـوتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخْبرَهُ أنَّهُ قَالَ كذَا وكذا فَرَجَعَ إِليهِ المَرَّةَ الآخِرةَ بِبِشَارةٍ عظيمةٍ، فقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنَ أَهْلِ النَّارِ وَلَكِنَّكَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ ". ولمُسْلِمٍ عَن أنسٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَزَادَ: فَكُنَّا نراهُ يَمْشي بينَ أظْهُرِنا رَجُلٌ مِن أهلِ الجَنَّة.
وفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عامرِ بنِ سعدٍ عَن أبيه قَالَ: ما سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ لِأَحدٍ يَمشي على وجهِ الأرضِ إِنَّهُ مِن أهلِ الجَنَّةِ إلا عبدَ اللهِ بنَ سلاَّمٍ قَالَ وفيه نَزَلَتْ: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} ولهما عَن ابنِ عبَّاسٍ فِي قِصَّةِ السَّبْعِينَ ألفاً الَّذِينَ يَدخلونَ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ ولا عذابٍ - فقَامَ عُكَّاشةُ بنُ مِحصنٍ فقَالَ: ادْعُ اللهَ أنْ يَجعلَني منهم؟ قَالَ: أَنْتَ مِنْهُمْ.
فقد شَهِـدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاءِ بالجَنَّةِ. فيشْهَدُ لهم بها. وكذَلِكَ مَن شَهِدَ لَهُ غيرُهم فَيَشْهَدُ لِعُمومِ الْمُؤْمِنينَ بالجَنَّةِ.
((وأمَّا الشَّهـادةُ لرَجُلٍ بِعَيْنِهِ بأنَّهُ مِن أهلِ النَّارِ أو الجَنَّةِ فليسَ لأحَدٍ ذَلِكَ إلا بِنصٍّ صحيحٍ يُوجِبُ ؛ كالعشَرةِ الَّذِينَ بشَّرَهم الصَّادِقُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجَنَّةِ. ومِنْهُمْ مَن جَوَّزَ ذَلِكَ لِمَنِ استفاضَ فِي الأُمَّةِ الثَّناءُ عَلَيْهِ كعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأمثالِهِ. وقد كَانَ بعضُ السَّلفِ يمنعُ أنْ يُشهدَ بالجَنَّةِ لغيرِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نَاظرَ عَلِيُّ بنُ المدِينيِّ أحمدَ فِي هَذِهِ المسألةِ وقَالَ أقولُ: إِنَّهُمْ فِي الجَنَّةِ ولا أشهدُ لِمُعَيَّنٍ؟ قَالَ أحمدُ: متى قلتُ إِنَّهُمْ فِي الجَنَّةِ فقَدْ شَهِدتُ أنَّهُمْ فِي الجَنَّةِ))
وأمَّا تَوَقُّفُ النَّاسِ فِي المقطعِ بالجَنَّةِ فَلِخَوفِ الخاتمةِ. ومَعَ هذا فنرجُو لِلمُحْسِنِ وَنخافُ على المُسِيءِ)).
((وإنَّمَا قَدْ نَقِفُ فِي الشَّخصِ المُعَيَّنِ فلا نَشْهَدُ لَهُ بِجَنَّةٍ ولا نارٍ إلا عَن عِلمٍ لأنَّ حقيقةَ باطِنهِ وما مَاتَ عَلَيْهِ لا نُحِيطُ بهِ. ولكنْ نرجُو للمُحْسِنِ ونَخَافُ على المُسيءِ. ولهم فِي الشَّهادةِ بالجَنَّةِ ثلاثةُ أقوالٍ مِنْهُمْ مَن لا يَشْهدُ بالجَنَّةِ لأحدٍ إلا للأنبياءِ. وهذا قولُ مُحَمَّدِ بنِ الحنفِيَّةِ، والأوزاعِيِّ.
والثَّانِي: أنَّهُ يَشهدُ بالجَنَّةِ لكلِّ مُؤْمنٍ جَاءَ فيه نصٌّ. وهَذَا قولُ كثيرٍ من أهلِ الْحَدِيثِِ.
والثَّالثُ: يَشهدُ بالجَنَّةِ لهؤلاءِ ولِمَنْ شَهِدَ لَهُ المُؤمِنونَ كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ ". وقَالَ: " يُوشِكُ أنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ " قَالُوا: بِمَ يا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّءِ ". فأخبرَ أنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُعلمُ به أهلُ الجَنَّةِ وأهلُ النَّارِ. وكَانَ أبو ثَورٍ يقولُ: أشهدُ أنَّ أحمدَ بنَ حنبلٍ فِي الجَنَّةِ ويَحتَجُّ بهَذَا)).
ومِن حَماقاتِ الرَّافِضَةِ أنَّهُمْ يَكرهونَ التَّكَلُّمَ بِلفظِ العشَرةِ أو فِعلِ شيءٍ يكونُ عَشَرةً ؛ حتَّى فِي البناءِ لا يَبنُونَ على عشرةِ أَعمُدٍ ولا بعشَرَةِ جُذوعٍ ونحوِ ذَلِكَ لِكَونهم يَبْغَضونَ خِيارَ الصَّحَابَةِ وهم العشرةُ المشهودُ لهم بالجَنَّةِ يَبغضُونهم إلا عليَّ بنَ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ؛ ويَبْغضُون السَّابِقِينَ الأوَّلِينَ مِن المُهاجِرينَ والأنصارِ الَّذِينَ بَايعُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحتَ الشَّجرةِ وقَدْ أخبرَ اللهُ أنَّهُ قَدْ رضِيَ عَنْهُمْ.
وأنَّهُمْ يَتَبرَّءُونَ مِن جمهورِ هؤلاء بَل يَتَبرَّءُونَ من سائرِ أصحابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا نَفَراً قليلاً نحوَ بضعةَ عشرَ. ومعلومٌ أنَّهُ لو فُرِضَ فِي العَالمِ عَشرةٌ مِن أكفرِ النَّاسِ لم يَجِبْ هَجْرُ الاسمِ لذَلِكَ كما أنَّهُ سُبحَانَهُ لَمَّا قَالَ: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ} لم يَجبْ هَجْرُ اسمِ التِّسعةِ مُطلقاً. بَل اسمُ العشرةِ قَدْ مَدَحَ اللهُ مُسمَّاهُ فِي مواضعَ كقولِهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} وقَالَ: {وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ} وقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ ". ونظائرُ ذَلِكَ متعدِّدةٌ.
ومِن العَجبِ أنَّهُمْ يُوالونَ لَفظَ التِّسعةَ، وهم يَبْغَضُونَ لَفْظَ التِّسعةِ مِن العشرةِ فإِنَّهُمْ يَبْغضُونهم إلا عَلِياًّ. وكذَلِكَ هَجْرُهم لاسمِ أَبِي بكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ، ولِمَن تَسمَّى بذَلِكَ حَتَّى يَكْرهونَ مُعامَلَتَهُ. ومعلومٌ أنَّ هؤلاء لو كانوا مِن أكفرِ النَّاسِ لم يُشرعْ أنْ لا يَتسمَّى الرَجُلُ بِمثلِ أسمائِهمْ. فقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَن اسمُهُ الوليدُ وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنتُ فِي الصَّلاةِ ويقولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ " وأبوه كَانَ مِن أعظمِ النَّاسِ كُفراً وهُوَ الوحيدُ المذكورُ فِي قولَهُ تَعَالَى (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) وفِي الصَّحَابَةِ مَن اسمُهُ عَمْرٌو، وفِي المُشرِكينَ مَن اسمُه عَمْرٌو، وفِي الصَّحَابَةِ مَن اسمُهُ خالدٌ، وفِي المُشرِكينَ مَن اسمُهُ خالدٌ، وفِي الصَّحَابَةِ مَن اسمُهُ هِشامٌ، وفِي المُشرِكينَ مَن اسمُهُ هِشامٌ. وفِي الصَّحَابَةِ مَن اسْمُه عُقبةُ، وفِي المُشرِكينَ مَن اسمُهُ عُقْبةَ، وفِي الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ، وعُثْمَانُ، وكَانَ فِي المُشرِكينَ مَن اسمُهُ عَلِيٌّ، وَمَن اسمُهُ عُثْمَانُ.
ومِثلُ هَذَا كثيرٌ. فلم يكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمُؤمِنونَ يَكْرهونَ اسماً من الأسماءِ لِكونِهِ قَدْ تَسمَّى به كافرٌ مِن الكفَّارِ فلو قُدِّرَ أنَّ المُسلمينَ بهَذِهِ الأسماءِ كُفَّارٌ لمْ يُوجِبْ ذَلِكَ كراهةَ هَذِهِ الأسماءِ مَعَ العِلمِ لكلِّ أحدٍ بأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعوهم بها ويُقِرُّ النَّاسَ على دُعائِهم بِهَا، وكثيرٌ مِنْهُمْ يَزعمُ أنَّهُمْ كانوا مُنافقينَ وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمُ أنَّهُمْ مُنافِقونَ، وهُوَ معَ هَذَا يدْعُوهم بها. وعَلِيُّ بنُ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدْ سمَّى بها أولادَهُ.
فُعِلمَ أنَّ جوازَ الدُّعاءِ بهَذِهِ الأسماءِ سواءً كَانَ ذَلِكَ المُسمَّى بها مُسلِماً أو كافراً أمْرٌ معلومٌ من دِينِ الإسلامِ، فَمَن كَرِهَ أنْ يدعوَ أحَداً بها كَانَ من أظهرِ النَّاسِ مُخالفةً لدِينِ الإسلامِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا إذَا تَسمَّى الرَّجُلُ عندَهم باسمِ عَلِيٍّ أو جَعفرٍ أو حَسَنٍ أو حُسينٍ أو نحوِ ذَلِكَ عامَلُوه وَأكرَموه ولا دليلَ لهم فِي ذَلِكَ على أنَّهُ مِنْهُمْ والتَّسمِيةُ بتلكَ الأسماءِ قَدْ تكونُ فيهم فلا يدَلُّ على أنَّ المُسمَّى مِن أهلِ السُّنَّةِ لكنَّ القومَ فِي غايةِ الجهْلِ والهَوَى))
((والرَّافِضَةُ تُوَالي بدلَ العشَرةِ المُبشَّرِينَ بالجَنَّةِ اثْنَيْ عشَرَ إماماً أَوَّلُهُم عَلِيُّ ابنُ أَبِي طالبٍ رَضِيَ الله عَنْهُ ويدَّعونَ أنَّهُ وَصِىُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعْوَى مُجرَّدةٌ عَن الدَّليلِ، ثُمَّ الحَسَنُ رَضِيَ الله عَنْهُ، ثُمَّ الحُسينُ رَضِيَ الله عَنْهُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ زَيْنِ العابِدينَ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٌّ الباقِرُ، ثُمَّ جعفرُ بنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ، ثُمَّ مُوسَى بنُ جَعْفَرٍ الكاظِمُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا، ثُمَّ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ الجوَّادُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الهَادِي، ثُمَّ الحسنُ بنُ عَلِيٍّ العَسْكَريُّ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بنُ الحسنِ المُنتَظَرُ ؛ ويُغالونَ فِي مَحَبَّتِهم. ويَتَجاوزون الْحَدَّ.
ولَمْ يأتِ ذِكْرُ الأئمَّةِ الاثْنَي عَشَرَ إلا على صِفَةٍ تَرُدُّ قَولَهم وتُبْطِلُهُ وهُوَ ما خَرَّجناه فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن جابرِ بنِ سَمُرةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي على النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسَمِعْتُهُ يقولُ: " لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِياً مَا وَلِيَهُمْ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً ". ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلمةٍ خَفِيتْ عنِّي فسألتُ أَبِي ماذا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: كُلُّهم مِن قُرَيْشٍ. وفِي لفظٍ لا يَزالُ الإسلامُ عَزِيزاً إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خليفةً.
وكَانَ الأمْرُ كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والاثْنَا عَشَرَ الخلفاءُ الرَّاشِدونَ الأرْبَعةُ، ومُعاوِيَةُ، وابنُه يَزِيدُ، وعبدُ المَلِكِ بنُ مَرْوانَ، وأولادُهُ الأرْبَعةُ، وبَيْنَهم عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ ثُمَّ أَخَذَ الأمْرُ فِي الانْحلالِ.
وعندَ الرَّافِضَةِ أنَّ أمْرَ الأُمَّةِ لم يَزلْ فِي أيَّامِ هؤلاءِ فَاسِداً يتوَلَّى عليهمُ الظَّالِمونَ المُعْتَدُونَ، بلِ المُنافِقونَ الكَافِرونَ، وأهلُ الحقِّ أذلُّ مِن اليهودِ. وقَوْلُهم ظاهِرُ البُطْلانِ، بَل لم يزلِ الإسلامُ عَزيزاً فِي ازديادٍ فِي أيَّامِ هؤلاءِ)).