ثم قال - رحمه الله تعالى -: (ثم رسله صادقون مصدوقون)، الرسل: جمع رسول، وهم الذين أوحي إليهم بكتاب وأمروا بتبليغه إلى قوم مخالفين كما مرّ معنا في أول هذه الرسالة، صادقون: جمع الصادق، والصادق اسم لمن قام به الصدق، والصدق مطابقة الخبر للواقع، كما قال: (والصدق أن يطابق الواقع ما تقوله)، إذا طابق الواقع ما تقوله فهذا هو الصدق, إذا خالف الواقع، إذا خالف ما تقوله الواقعة أو خالف الواقعة ما تقوله فإن هذا يعد كذبا سواء كان خطأ أو كان متعمدا، هذا في الاصطلاح.
ورسل الله جل وعلا صادقون يعني: قام بهم الصدق، لم يخبروا بشيء من أسماء الله جل وعلا وصفاته ولا من دينه إلا وقد طابق الواقعة، فهم لم يذكروا شيئا عن الله جل وعلا لا يطابق الواقع، بل ما وصفوا الله جل وعلا به هذا يطابق الحال وصف الرسل ربهم جل وعلا بأنه استوى على العرش، فقال موسى لفرعون، ذكر أن ربه جل وعلا هو الأعلى فقال فرعون: { ياهامان ابن لي صرحا لعلّي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى} فهذا العلو نفاه فرعون ورسل الله مجمعون على ارشاد الناس وتبيين تلك الصفة لهم، فهو جل وعلا له الصفات وأخبر رسله بما له من الصفات ورسله أخبروا الخلق بذلك وهم صادقون في ذلك، فمن نفى صفة فقد كذّب الرسول، هذا حقيقة حاله لكن قد يكون التكذيب له وجه من العذر، فلا يكون كافرا بذلك، رسله صادقون مصدوقون.
يعني قال هنا: (بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون) القول على الله بلا علم حرام سواء أكان القول في الأسماء والصفات، في العقائد أو في الأحكام العملية، يعني: سواء أكان في الأحكام الخبرية التي هي العقائد أو في الحلال والحرام وهي الأحكام العملية، القول على الله بلا علم أشد المحرمات، ولهذا عنه تفرع كل ضلال، وقد ذكر الله جل وعلا تحريمه في عدة آيات في كتابه جل وعلا، من هم الذين قالوا على الله ما لا يعلمون؟ قالها كل مخالف للرسل، فإن مشركي العرب مثلاً وصفوا الله جل وعلا بخلاف ما قاله الرسل، خلاف ما قاله النبي – عليه الصلاة والسلام -، وأخبروا عن أسماء الله جل وعلا بخلاف ما جاءت به الرسل، وعن صفات الله جل وعلا بخلاف ما جاءت به الرسل، بل أثبتوا لله صفات ونفوا أسماء بما عندهم، فقال الله جل وعلا عنهم: {وهم يكفرون بالرحمن}، وهذا قول على الله بلا علم، وقال عن اليهود: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء}، وأخبر أنهم قالوا: {يد الله مغلولة}، وهذا كله في باب الأسماء والصفات، قالوا على الله ما لا يعلمون، ورث هذا القول منهم, من أولئك طوائف الضلال، فالجهمية ومن تفرع عنهم من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وأشباه هؤلاء، كل طائفة أثبتت لله أسماء ونفت صفات من عقولهم ومن آرائهم بلا دليل، فجعلوا من أسماء الله جل وعلا وصفاته صفات السلبية، مثل: القديم، ونحو ذلك ومثل الموجود، فجعلوها من الأسماء ومن الصفات، والمعتزلة بل الجهمية قبلهم نفوا أن يكون لله جل وعلا أسماء فيها صفات، فيفسرها الجهمية بالصفات، يفسرها الجهمية يفسرون الأسماء بالمخلوقات المنفصلة، والمعتزلة يفسرون الأسماء بالذات التي ليس فيها صفة، فيجعلون دلالة السميع هي دلالة العليم هي دلالة البصير، دلالة على الذات بدون المعنى، فتكون عندهم من قبيل المترادف المحض؛ لأنها دالة على ذات بلا معنى، وهذا كله قول على الله بلا علم. هذه لا شك جُمل من الكلام وعَرضٌ عام سيأتي تفصيله بدقته وبتحريراته في مواضعه من هذه الرسالة.
قال هنا: (لهذا قال سبحانه وتعالى: {سبحان ربك رب العزة عماّ يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين}، فسبح نفسه عمّا وصفه به المخالفون للرسل)، وقوله هنا: {سبحان ربك}: سبحان: هذا مفعول مطلق، يعني أسبح سبحانه، وأصله في اللغة: معناه: الإبعاد، يقولون: سبحان فلان من كذا، يعني: بَعُدَ فلان من كذا، وقد قال الشاعر:
أقول لما جاءني فخره = سبحان من علقمة الفاخر
يقول: أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة، يعني: بعيد جدا أن يكون لعلقمة من يفخر به، وتسبيح الله، سبحان الله معناها: تنزيه الله عن كل نقص وعيب وسوء، وموارده في الكتاب والسنة خمسة:-
- تنـزيه الله جل وعلا عن الشريك في الربوبية كما ادعاه الملحدون.
- تنـزيه الله جل وعلا عن الشريك في الألوهية كما ادعاه المشركون.
- تنـزيه الله جل وعلا في أسمائه وصفاته أن تسلب معانيها اللائقة بها وتنزيه الله جل وعلا في أسمائه وصفاته عن مماثلة المخلوقين لها.
- تنـزيه الله جل وعلا-هذا الرابع تنزيه الله جل وعلا في أمره الكوني وقدره الكوني عن أن يكون بلا حكمة أو أن يكون عبثا، كما ادعاه من قالوا خلقنا الله عبثا ومن نفوا الحكمة في الخلق والإيجاد وتقدير الأشياء.
- والخامس -وهو الأخير-: تنـزيه الله جل وعلا في شرعه وأمره الديني عن النقص وعن منافاة الحكمة.
فالله جل وعلا ينزه نفسه بقوله: {سبحان ربك } يعني: تنزيها لله من كل سوء ادعاه المخالفون للرسل وهم ادعوا الشركة له في الربوبية فينزّه لله جل وعلا عن الشريك في الربوبية. {سبحان ربك} يعني: تنزيهاً لله، إذا قلت في الركوع: سبحان ربي العظيم, معناه تنزيها لله ربي العظيم عن كل سوء ونقص في هذه الموارد الخمسة التي في الكتاب والسنة في الربوبية والألوهية وفي الأسماء والصفات وفي الشرع وفي الأمر الكوني والقدر.
قال هنا: {سبحان ربك رب العزة }، ربك: هنا الإضافة للتشريف، أضاف الربوبية إلى النبي - عليه الصلاة والسلام -لتشريفه بها، في هذا المقام العظيم، وهذا يقتضي أن كلام النبي - عليه الصلاة والسلام -عن ربه الذي جحده الجاحدون أنه هو الأكمل وهو الأليق بالله جل وعلا، ثم قال بعدها: { رب العزة }، {سبحان ربك رب العزة} بمعنى صاحب العزة، بمعنى ذي العزة المتصف بالعزة، والعزة صفة لله جل وعلا ومن أسمائه سبحانه وتعالى. (العزيز) والعزيز: هو الذي كملت له أوصاف العزة، والعزة في الكتاب والسنة جاءت, يعني التي يتصف الله جل وعلا بها، جاءت على ثلاث معانٍ: -
الأول: العزة التي هي بمعنى الامتناع والغنى وعدم الحاجة، الامتناع عمن يغالط أو عمن يسيء والغنى هذه كلها معنى واحد، والغنى عن الخلق.
والثاني: العزة بمعنى القهر والغلبة.
والثالث: العزة بمعنى القوة، طبعا معنى القوة الخاصة، قوة لا يُقوى عليها، قوة لا يَنِدُّ عنها شيء.
وهذه التي ذكرها ابن القيم، هذه المعاني الثلاث في النونية، حيث قال في بيان معان اسم الله العزيز، قال -رحمه الله- :-
وهو العزيز فلن يُرام جنـــابه = أنّى يُرام جناب ذي السلطان
وهو العزيز القاهر الغلاب = لم يغلبـــه شــيء هذه صفتــان
وهو العزيز بقوة هـي وصفه = فالعـز حيـنئذٍ ثلاث معــــان
وهي التي قد كملت له سبحانه …. إلى آخـــر ما قال …
هنا ذكر الثلاثة معاني العزة، قال:
*وهو العزيز فلن يرام جنابه*
وهذا هو الأول، وهي عزة الامتناع وهي التي بمعنى الغنى التام والامتناع عن أن يضره أحد، كما قال: ((إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني))، وكذلك عن أن ينفعه أحد امتناع عن أن ينفعه أحد ((ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني))، هذا المعنى الأول.
وهو العزيز فلن يرام جنابه = أنّى يرام جناب ذي السلطان
المعنى الثاني قال:
*وهو العزيز القاهر الغلاّب*
العزة بمعنى القهر والغلبة لم يغلبه شيء هذه صفتان.
ثم المعنى الثالث:
*وهو العزيز بقوة هي وصفه*
أما الثالث (وهو العزيز) بمعنى: ذي القوة الكاملة العظيمة التي لا يقوى عليها شيء فهذه تكون في الكتاب والسنة في فعلها من عز يعز بالفتح، كما قال سبحانه مثلا في سورة يـس: {وعزّزنا بثالث} يعني: قوّينا وأيدنا بثالث.
وأما العزة بمعى الامتناع فهذه يأتي فعلها مكسورا عزَّ، يعِزُّ، وأما القهر والغلبة فسيكون فعلها المضارع مضموما، عزَّ، يعِزُّ، عِزَّةً، المصدر في الجميع عزة لكن المضارع يختلف المعنى هكذا قرّره ابن القيم وغيره من العلماء.
ردا على سؤال غير مسموع: لا, القهر والغلبة, القهر والغلبة هذه متعدية والقوة هذه لازمة.
قال: {عمّا يصفون}، {سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون }، وبهذا يصح أن تقول لله جل وعلا بهذا الدليل رب الرحمه، رب السمع، رب البصر، رب العزة، رب الجمال، رب النور، … ونحو ذلك بمعنى ( صاحب ) يعني المتصف بهذه.
قال: {عما يصفون } يعني: عن الذي يصفون، والمفعول به (اللِّي) هو الضمير محذوف يعني: عما, عن الذي يصفونه, يعني:هو الله جل وعلا به، ومن هم الواصفون الذين نزه الله جل وعلا نفسه عن وصفهم؟ هم الذين لم يستجيبوا للرسل، فقال: {وسلام على المرسلين} وذلك لأن المرسلين أنزل الله جل وعلا عليهم السلام وهو جل وعلا السلام، من أسمائه السلام وهو الذي يعطي السلامة، وقال هنا عن نفسه: {وسلام على المرسلين}، فهو الذي جعل الأنبياء والمرسلين أهل السلامة، والسلامة متبعضة: هناك سلامة في القول بصحته ومطابقته للواقع، وسلامة في الفهم، وسلامة في العبودية، وسلامة في الاعتقاد، وسلامة في التبليغ، فجهات السلامة كثيرة والله جل وعلا أعطاها عباده المرسلين، ولهذا قال هنا: { سلام على المرسلين } وأفاد الإعطاء التعدية بِعَلى، قال: {سلام على المرسلين}، وفي قوله: { على} ما يفيد أن السلامة صارت عليهم وقد أحاطت بهم، وهذا في هذا المقام ظاهر الفائدة؛ لأن المرسلين وصفوا الله جل وعلا بالصفات العُلا وسموهُ بالأسماء الحسنى، وفي هذه السورة التي هي سورة (الصافات) ذكر الله جل وعلا عن المشركين أنهم استكبروا عن قول: ( لا إله إلاّ الله ) فقال فيها: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلاّ الله يستكبرون ويقولون أئنّا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون}، وذكر في آخر السورة أنهم جعلوا الملائكة بنات لله جل وعلا، وهذا فيه وصف لله جل وعلا، والأنبياء والرسل لم يصفوا الله جل وعلا بذلك بل هم سالمون مُسلّمون في أقوالهم وفي أعمالهم وفي تبليغهم، ولهذا قال هنا: {وسلام على المرسلين}؛ لسلامة ما وصفوه به من النقص والعيب وهذا لا شك أنه واسع المعنى.
ثم قال: {والحمد لله رب العالمين}، والحمد مرَّ معنا معانيه الكثيرة في أول هذه الرسالة، وقوله هنا: { لله رب العالمين}، هذا فيه فائدة نبهنا عليها مرارا وهو أن هذه الآية دليل على أن الربوبية غير الإلهية؛ لأنه قال: { الحمد لله}، والمعتمد عندنا أن لفظ الجلالة ( الله ) مشتق وعليه يكون مشتق من الألوهة لأن الاشتقاق يكون من المصدر والرب من الربوبية، والربوبية إذن غير الألوهية، قد قال الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - " إن اسم الرب والإله من الأسماء التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت، وذلك إما بدلالة اللفظ أو بدلالة التضمن واللزوم ".
قال: {رب العالمين}، العالمون جمع العالم، والعالم هو كل ما سوى الله جل وعلا فكل ما سوى الله جل وعلا عالم وسمّي عالما من العلامة، لأنه علامة على أنه مربوب وأن له ربّا خالقا، أو من العلم؛ لأن به علم ما لله جل وعلا من الحق والأسماء والصفات كما قال الشاعر:
وفي كل شيء له آية = تدل على أنه الواحد
قال بعدها شيخ الإسلام: (فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين بسلامة ما قالوه من النقص والعيب).