الرَّابعُ:
قولُهُ: (فإنَّ لي ذِمَّةً…) إلى آخِرِهِ.
كَذَبَ عَلَى اللهِ وعلى رَسولهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فليسَ بينَهُ وبينَ مَن اسمُهُ مُحَمَّدٌ ذِمَّةٌ إِلاَّ بالطَّاعةِ، لا بمجَرَّدِ الإشراكِ في الاسمِ معَ الشِّركِ.
الخامسُ:
قولُهُ: (إنْ لمْ يَكُنْ في مَعادِي …) البيتَ، تَنَاقُضٌ عَظِيمٌ، وشِرْكٌ ظاهرٌ، فإنَّهُ طَلَبَ أوَّلاً أن لا يَضِيقَ بهِ جاهُهُ، ثُمَّ طَلَبَ هنا أن يَأْخُذَ بِيَدِهِ فَضْلاً وإحسانًا، وإلاَّ فَيَا هَلاكَهُ.
فيُقالُ:
كيفَ طَلَبْتَ مِنْه أوَّلاً الشَّفاعةَ ثُمَّ طَلَبْتَ منهُ هنا أنْ يَتَفَضَّلَ عليكَ؟
فإنْ كُنْتَ تَقولُ: إنَّ الشَّفاعةَ لا تَكونُ إلاَّ بعدَ إِذْنِ اللهِ، فكيفَ تَدْعُو النِّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتَرْجُوه وتَسْأَلُهُ الشَّفاعةَ؟!
فهلاَّ سَأَلْتَهَا مَنْ لهُ الشَّفاعةُ جَمِيعًا الَّذي لهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ والأرضِ، الَّذِي لا تَكونُ الشَّفاعةُ إلاَّ مِنْ بعدِ إذنِهِ؟!!
فهذا يُبْطِلُ عليكَ طَلَبَ الشَّفاعةِ مِنْ غيرِ اللهِ.
وإن قُلْتَ:
ما أُرِيدُ إلاَّ جاهَهُ، وشَفاعتُهُ بإذنِ اللهِ.
قِيلَ:
فكيفَ سَأَلْتَهُ أن يَتَفَضَّلَ عليكَ ويَأْخُذَ بِيَدِكِ في يومِ الدِّينِ؟!
فهذا مُضادٌّ لِقولِهِ تعالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ}[الانْفِطار: 17 - 18 - 19]، فكيفَ يَجْتَمِعُ في قلبِ عَبْدٍ الإيمانُ بِهَذا وهذا؟!!.
وإن قُلْتَ:
سَأَلْتُهُ أن يَأْخُذَ بيدِي، ويَتَفَضَّلَ عَلَيَّ بِجَاهِهِ وشَفاعتِهِ.
قِيلَ:
عادَ الأَمْرُ إلى طَلَبِ الشَّفاعةِ مِنْ غيرِ اللهِ، وذلكَ هوَ مَحْضُ الشِّرْكِ.
السَّادسُ:
في هذه الأبياتِ مِن التَّبَرِّي من الخَالِقِ - تَعالَى وتَقَدَّسَ - والاعتمادِ عَلَى المخلوقِ في حوادثِ الدُّنيا والآخرةِ ما لا يَخْفَى عَلَى مُؤْمِنٍ، فأينَ هذا مِنْ قولِهِ تعالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:4].
وقولِهِ تعالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[التوبة:138].
وقولِهِ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}[الفرْقَان:58].
وقولِهِ تعالَى: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلاَّ بَلاَغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالاَتِهِ}[الجِنّ:21،22]؟!!.
فإنْ قِيلَ:
هوَ لم يَسْأَلْهُ أنْ يَتَفَضَّلَ عليهِ، وإنَّما أَخْبَرَ أنَّهُ إنْ لمْ يَدْخُلْ في عُمومِ شَفاعتِهِ فيا هلاكَهُ.
قِيلَ:
المُرادُ بذلكَ سُؤالُهُ وطَلَبُ الفَضْلِ منهُ،
كمَا دَعَاهُ أوَّلَ مَرَّةٍ وأَخْبَرَ أنَّهُ لا مَلاذَ لهُ سِوَاه، ثُمَّ صَرَّحَ بسؤالِ الفَضْلِ والإحسانِ بصِيغةِ الشَّرطِ والدُّعاءِ، والسُّؤالُ كمَا يَكونُ بصِيغةِ الطَّلَبِ يَكُونُ بِصِيغةِ الشَّرطِ كمَا قالَ نُوحٌ عليهِ السَّلامُ: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[هُود:46].
ومِنْ شِعْرِ البُرَعِيِّ قولُهُ:
مـَاذَا
تـُعـَامــِلُ يَا شَمــْسَ الـنُّبوَّةِ مــَنْ أَضْحَى إِلَيْكَ مِن الأَشْوَاقِ في كَبِدِي
فـامـْنـَعْجـَنــَابَ صـَرِيـعٍ لا صـَرِيخَ لهُ نَائِي الـمـَزَارِغـَرِيـبِ الــدَّارِ مــُبـْتَعِدِ
حــَلــِيــفِ وِدِّكَ واهِ الـــصَّبـْرِ مـُنـْتَظِرٍ لـِغـَارَةٍمـِنـْكَ يـَا رُكـْنـِي ويـا عَضُدِي
أَســِيـــرُذَنـــْبــِي وزَلاَّتــِي ولا عــَمَلٍ أَرْجُو النَّجــاةَ بـِهِ إن أنــتَ لـم تـَجــِدِ
وجَرَى في شِرْكِهِ إلى أنْ قالَ:
وحـُلـَّ
عـُقـْدَةَ كـَرْبـِي يَا مُحـَمَّدُ مِنْ هـَمٍّ عـَلـَىخـَطَرَاتِ الـقَلـْبِ مـُطَّرَدِ
أَرْجُوكَ في سَكَرَاتِ المَوْتِ تَشْهَدُنِي كـَيـمـَايــَهـُونَ إذ الأَنـْفـاسُ في صُعُدِ
وإنْنـَزَلــْتُ ضـَرِيـحـًا لا أَنــــِيـسَ بهِ فـكـُنْ أَنـِيـسَ وَحـِيـدٍ فـيـهِ مُنــْفـَرِدِ
وارْحـَمْ مـُؤَلـِّفَها عَبْدَ الرَّحـِيمِ ومــَنْ يـَلـِيــهِمـِنْ أَجـْلــِهِ وانـْعـِشـْهُ وافْتَقِدِ
وإنْدَعــَا فـَأَجـِبـْهُ واحـْمِ جــَانــِبـَهُ مـِنْ حـاسِدٍشامـِتٍ أوْ ظالِمٍ نـَكِدِ
وقولُهُ مِنْ أُخْرى:
يــا
رَســُولَ الــلــــهِ يـــا ذَا الـــــفَضْلِ يـا بـَهـْجـَةً في الحَشْرِ جاهـًَا ومَقامًا
عـُدْعــَلـَى عــَبْدِ الـرَّحِيمِ المُلْتَجِي بــِحــِمـَىعـِزِّكَ يـا غـَوْثَ الـيــَتَامـَىَ
وأَقـــِلـــْنــِيعــَثــْرَتــِي يــَا ســَيِّدِي في اكْتِسابِ الذَّنْبِ في خمسينَ عامًا
وقولُهُ:
يـا
سـَيِّدي يـــا رَســُولَ الـلـهِ يـــا أَمَلِي يــَا مـَوْئِلـِييـــا مــَلاذِي يـــَومَ يـــَلـْقانِي
هـِبـْنـِيبــِجاهـِكَ ما قَدَّمْتُ مِنْ زَلَلٍ جـُودًا ورَجِّحْ بـِفـَضـْلٍ مـِنـكَ مـِيزانِي
واسْمَعْ دُعائِي واكْشِفْ ما يُساوِرُنِي مــِن الـخـُطـُوبِ ونـَفـِّسْ كـُلــَّ أَحْزانـِي
فــأنــتَ أَقـْرَبُ مـَنْ تـُرْجـَى عـَواطِفــُهُ عـنـدي وإن بـَعـُدَتْ دارِي وأَوْطانـِي
إنِّيدَعَوْتـُكَ مـِنْ ((نــِيـابـَتـِي بـُرَعـٍ)) وأنــت أَســْمــَعُ مــَنْ يـَدْعـُوهُ ذو شَانِ
فـامـْنَعْجَنابِي وأَكْرِمْنِي وصِلْ نَسَبِي بـــِرَحـــْمـــةٍ وكـــَرامــــــاتٍ وغـــُفْرانِ
لَقدْ أَنْسَانا هذا ما قبلَهُ، وهذا بعينِهِ هوَ الَّذي ادَّعَتْهُ النَّصَارَى في
عِيسَى -عليهِ السَّلامُ- إلاَّ أنَّ أولئكَ أَطْلَقُوا عليهِ اسَمَ الإلَهِ، وهذا لم يُطْلِقْهُ ولكنْ أَتَى بلُبَابِ دَعْوَاهم وخُلاصَتِهَا، وتَرَكَ الاسمَ؛ إذ في الاسمِ نوعُ تَمْيِيزٍ، فرَأَى الشَّيطانُ أنَّ الإِتْيانَ بالمعنى دونَ الاسمِ أَقْرَبُ إلى تَرْوِيجِ الباطلِ، وقَبولِهِ عندَ ذَوِي العقولِ السَّخِيفةِ؛ إذ كانَ مِن المُتَقَرَّرِ عندَ الأمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ أنَّ دَعْوَى النَّصَارَى في عِيسَى عليهِ السَّلامُ كُفْرٌ، فلوْ أَتَاهُمْ بِدَعْوَى النَّصارَى اسمًا ومعنًى لَرَدُّوهُ وأَنْكَرُوهُ، فأَخَذَ المعنَى وأَعْطَاهُ البُرَعِيَّ وأَضْرَابَهُ، وتَرَكَ الاسمَ للنَّصارَى، وإلاَّ فما نَدْرِي ماذا أَبْقَى هذا المُتَكَلِّمُ الخَبِيثُ للخالِقِ تَعالَى وتَقَدَّسَ مِنْ سُؤالِ مَطْلَبٍ، أوْ تَحْصِيلِ مَأْرَبٍ؟!! فاللهُ المُسْتَعانُ.
وهذا كثيرٌ جِدًّا في أَشْعارِ المادِحِينَ لرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو حُجَّةُ أَعْداءِ دِينِه الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ الشِّركَ باللهِ، ويَحْتَجُّونَ بأشعارِ هؤلاءِ، ولم يَقْتَصِرُوا -أيضًا- عَلَى طَلَبِ ذلكَ مِن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بلْ يَطْلُبُونَ مثلَ ذلكَ منْ غيرِهِ، كمَا حَدَّثَ بعضُ الثِقِّاتِ أنَّهُ رَأَى في رابِيةِ صاحِبِ مَشْهَدٍ مِن المَشاهِدِ: (هذه رايةُ البَحْرِ التَّيَّارِ، بهِ أَسْتَغِيثُ وأَسْتَجِيرُ، وبِهِ أَعُوذُ مِن النَّارِ) .
وقالَ بعضُهُم في قَصِيدةٍ في بعضِ آلَهَتِهِم:
يا
سَيِّدِي يا صَفَيَّ الدَّينِ يا سَنَدِي يا عُمْدَتِي بلْ ويا ذُخْرِي ومُفْتَخَرِي
أنتالـمـَلاذُ لــِمـَا أَخْشَى ضُرورَتَهُ وأنـت لـِيمَلـْجَأٌ مِنْ حادِثِ الدَّهْرِ
إلى أنْ قالَ:
وامـْنـُنْ
عـَلـَيَّ بـِتـَوْفـِيـقٍ وعـَافِيـةٍ وخيرِ خاتِمةٍ مَهْمَا انْقَضَى عُمُرِي
وكـُفـَّ عـنَّا أَكــُفــَّ الظَّالِمِينَ إذا امـْتـَدَّتْبـِسـُوءٍ لأَمــْرٍ مـُؤْلـِمٍ نُكُرِ
فـإنَّنــِيعـَبـْدُكَ الرَّاجِي بِوِدِّكَ ما أَمَّلــْتـُهُ يـا صـَفـَيَّ الــسَّادَةِ الــغُرَرِ
قالَ بعضُ العلماءِ:
(فلا نَدْرِي: أيَّ مَعْنًى اخْتَصَّ بهِ الخالقُ تعالَى بعدَ هذهِ المَنْزِلَةِ؟
وماذا أَبْقَى هذا المُتَكَلِّمُ الخَبِيثُ لخالِقِه مِن الأَمْرِ؟
فإنَّ المشركينَ أَهْلَ الأَوْثانِ ما يُؤَلِّهُون مَنْ عَبَدُوهُ لِشيءٍ مِنْ هذا) انْتَهَى.
وكثيرٌ مِنْ عُبَّادِ القُبورِ يُنَادُونَ المَيِّتَ مِنْ مَسافةِ شَهْرٍ وأَكْثَرَ يَسْأَلُونَهُ حَوَائِجَهُم، ويَعْتَقِدُونَ أنَّهُ يَسْمَعُ دُعاءَهُم ويَسْتَجِيبُ لَهُم، وتَسْمَعُ عندَهُم حالَ رُكوبِهُم البَحْرَ واضْطِرابهِ مِنْ دُعاءِ الأَمْواتِ والاسْتِغاثةِ بِهِم ما لا يَخْطُرُ عَلَى بالٍ، وكذلِكَ إذا أَصَابَتْهُم الشَّدائدُ، مِنْ مَرَضٍ، أوْ كُسُوفٍ، أوْ رِيحٍ شَدِيدةٍ، أوْ غيرِ ذلكَ، فالوَلِيُّ في ذلكَ نُصْبُ أَعْيُنِهِم، والاستغاثةُ بِهِ هيَ مَلاذُهُم، ولوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ ما يُشْبِهُ هذا لَطَالَ الكلامُ.
وإذا عَرَفْتَ هذا، فقدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ دُعاءِ المسألةِ.
وأمَّا دُعاءُ العِبادةِ:
فهو عِبادةُ اللهِ تَعالَى بأنواعِ العِباداتِ، مِن الصَّلاةِ، والذَّبْحِ، والنَّذْرِ، والصِّيامِ، والحَجِّ، وغيرِهَا، خوفًا وطَمَعًا، يَرْجُو رَحْمَتُه، ويَخافُ عَذابَهُ، وإن لم يَكُنْ في ذلكَ صِيغةُ سُؤالٍ وطَلَبٍ، فالعابدُ الَّذي يُرِيدُ الجنَّةَ ويَهْرُبُ مِن النَّارِ، وهو سائلٌ راغبٌ راهبٌ، يَرْغَبُ في حُصولِ مُرادِهِ، ويَرْهَبُ مِنْ فَوَاتِهِ، وهو سائلٌ لِمَا يَطْلُبُهُ بامْتِثالِ الأَمْرِ في فِعْلِ العِبادةِ، وقدْ فُسِّرَ قولُهُ تعالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60] بِهَذا وهذا.
قِيلَ:
اعْبُدُونِي وامْتَثِلُوا أَمْرِي أَسْتَجِبْ لكم.
وقِيلَ:
سَلُونِي أُعْطِكُمْ،
وعلى هذا القولِ تَدُلُّ الأحاديثُ والآثارُ.
إذا تَبَيَّنَ ذلكَ،
فاعْلَمْ أنَّ العلماءَ أَجْمَعُوا عَلَى أنَّ مَنْ صَرَفَ شيئًا مِنْ نَوْعَيِ الدُّعاءِ لغيرِ اللهِ فهو مُشْرِكٌ، ولوْ قالَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، وصَلَّى وصَامَ؛ إذْ شَرْطُ الإسلامِ معَ التَّلَفُّظِ بالشَّهادتينِ أن لا يُعْبَدَ إلاَّ اللهُ، فمَنْ أَتَى بالشَّهادَتَيْنِ وعبدَ غَيْرَ اللهِ فما أَتَى بِهِما حَقِيقةً وإنْ تَلَفَّظَ بِهِما، كاليهودِ الَّذينَ يَقولُونَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وهم مُشْرِكونَ، ومجرَّدُ التَّلفُّظِ بِهِما لا يَكْفِي في الإسلامِ بِدونِ العملِ بمعناهما واعتقادِهِ إِجْماعًا.
ذِكْرُ شيءٌ مِنْ كَلامِ العُلماءِ في ذلكَ:
وإنْ كُنَّا غَنِيِّينَ بِكِتابِ رَبِّنَا، وسُنَّةِ نبيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
عنْ كلِّ كلامٍ، إلاَّ أنَّهُ قَدْ صَارَ بَعْضُ الناسِ مُنْتَسِبًا إلى طائفةٍ مُعَيَّنةٍ، فلوْ أَتَيْتَهُ بكُلِّ آَيَةٍ مِنْ كِتابِ اللهِ، وكلِّ سُنَّةٍ عنْ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يَقْبَلْ حتَّى تَأْتِيَهُ بشيءٍ مِنْ كلامِ العلماءِ، أوْ بشيءٍ منْ كلامِ طائفتِهِ الَّتي يَنْتَسِبُ إليها.
قالَ الإمامُ أبو الوفاءِ عَلِيُّ بنُ عَقِيلٍ الحَنْبَلِيُّ صاحبُ كِتابِ (الفُنُونِ) الَّذي ألَّفَهُ في نحوِ أربعِمائةِ مُجَلَّدٍ، وغيرِهِ من التَّصانيفِ، قالَ في الكتابِ المَذْكُورِ: (لَمَّا صَعُبَت التَّكاليفُ عَلَى الجُهَّالِ والطَّغامِ، عَدَلُوا عنْ أَوْضاعِ الشَّرْعِ إلى تَعْظِيمِ أَوْضاعٍ وَضَعُوهَا لأنفسِهِم، فسَهُلَتْ عليهم إذ لم يَدْخُلُوا بِهَا تَحْتَ أَمْرِ غيرِهِم، وهم عندي كُفَّارٌ لهذه الأَوْضَاعِ، مثلُ تَعْظِيمِ القُبورِ، وخِطابِ المَوْتَى بالحَوَائِجِ، وكَتْبِ الرِّقاعِ فيها: يا مَوْلاي افْعَلْ بي كَذا وكَذا، أوْ إِلْقاءِ الخِرَقِ عَلَى الشَّجرِ اقْتِدَاءً بمَنْ عبدَ اللاَّتَ والعُزَّى).
نَقَلَهُ غيرُ واحدٍ، مُقَرِّينَ لهُ، رَاضِينَ بهِ، منهُم الإمامُ أَبُو الفَرَجِ بنُ الجَوْزِيِّ، والإمامُ ابنُ مُفْلِحٍ صاحِبُ كتابِ (الفُروعِ) وغيرِهِما.
-
وقالَ شيخُ الإسلامِ في (الرِّسالةِ السَّنيَّةِ): (فإذا كانَ عَلَى عَهْدِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن انْتَسَبَ إلى الإسلامِ مَنْ مَرَقَ مِنه معَ عبادتِهِ العَظيمةِ، فَلْيَعْلَمْ أنَّ المُنْتَسِبَ إلى الإسلامِ والسُّنَّةِ في هذه الأزمانِ أيضًا قدْ يَمْرُقُ أيضًا مِن الإسلامِ وذلكَ بأسبابٍ، منها: الغُلُوُّ الَّذي ذَمَّهُ اللهُ في كِتابهِ حيثُ قالَ:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}[النِّساء:170].
وكذلِكَ: الغُلُوُّ في بعضِ المَشايِخِ، بل الغُلُوُّ في
عَلِيِّ بنِ أَبي طالِبٍ، بل الغُلُوُّ في المَسِيحِ عليهِ السَّلامُ، فكلُّ مَنْ غَلا في نَبيٍّ أوْ رجلٍ صالحٍ وجَعَلَ فيهِ نَوْعًا مِن الإلهيَّةِ، مثلُ أن يَقولَ: يا سَيِّدي فُلانُ انْصُرْنِي، أوْ أَغِثْنِي، أو ارْزُقْنِي، أو اجْبُرْنِي، أوْ أَنَا في حَسْبِكَ، ونحوِ هذه الأقوالِ، فكلُّ هذا شِركٌ وضَلالٌ، يُسْتَتابُ صاحبُهُ، فإن تابَ وإلاَّ قُتِلَ، فإنَّ اللهَ إنَّما أَرْسَلَ الرُّسلَ وأَنْزَلَ الكُتُبَ لِيُعْبَدَ وحدَهُ، ولا يُدْعَى مَعَه إلهٌ آخَرُ، والَّذينَ يَدْعُونَ معَ اللهِ آلهةً أُخْرى مثلَ المَسِيحِ، والملائكةِ، والأصنامِ، لم يَكونُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّهَا تَخْلُقُ الخلائقَ، أوْ تُنْزِلُ المَطَرَ، أوْ تُنْبِتُ النَّباتَ، وإنَّما كانُوا يَعْبُدُونَهُم أوْ يَعْبُدُونَ قُبُورَهُم، أوْ يَعْبُدُونَ صُورَهُم، يَقولونَ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}
[الزُّمَر:3].
ويَقولونَ: {هَـؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ}[يُونُس:18]فبَعَثَ اللهُ رُسلَهُ تَنْهَى أن يُدْعَى أحدٌ مِنْ دونِهِ، لا دُعاءَ عبادةٍ، ولا دُعاءَ استغاثةٍ) انْتَهَى.
وقدْ نَصَّ الحافِظُ أبو بَكْرٍ أحمدُ بنُ عَلِيٍّ المَقْرِيزِيُّ صاحبُ كتابِ (الخِطَطِ) في كِتابٍ لهُ في التَّوحيدِ عَلَى أنَّ دُعاءَ غيرِ اللهِ شركٌ.
وقالَ شيخُ الإسلامِ:
(مَنْ جَعَلَ بينَهُ وبينَ اللهِ وَسَائطَ يَتَوَكَّلُ عليهم يَدْعُوهم ويَسْأَلُهم، كَفَرَ إِجْماعًا، نَقَلَهُ عنه غيرُ واحدٍ مُقَرِّرِينَ لهُ، مِنهُم ابنُ مُفْلِحٍفي(الفُروعِ) وصاحبُ (الإِنْصافِ) وصاحبُ (الغايةِ) وصاحبُ (الإِقْناعِ) وشارحُهُ، وغيرُهُم، ونَقَلَهُ صاحبُ (القَوَاطعِ)في كِتابهِ عنْ صاحبِ (الفُروعِ)).
قُلْتُ:
وهو إِجْماعٌ صحيحٌ معلومٌ بالضَّرورةِ مِن الدِّينَ، وقدْ نَصَّ العُلماءُ منْ أهلِ المذاهبِ الأربعةِ، وغيرُهُم في بابِ حُكْمِ المُرْتَدِّ عَلَى أنَّ مَنْ أَشْرَكَ باللهِ فهو كافرٌ، أيْ: عَبَدَ معَ اللهِ غِيرَهُ بنوعٍ مِنْ أنواعِ العِباداتِ.
وقدْ ثبَتَ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ أنَّ دُعاءَ اللهِ عِبادةٌ لهُ، فيكونُ صَرْفُهُ لغيرِ اللهِ شركًا.
وقالَ الإمامُ ابنُ النَّحاسِ الشَّافعيُّ في كتابِ (الكَبائرِ): (ومنها إِيقادُهُم السُّرُجَ عندَ الأحجارِ والأشجارِ والعيونِ والآبارِ، ويَقُولون: إنَّهَا تَقْبَلُ النَّذْرَ، وهذه كُلُّها بِدَعٌ شَنِيعةٌ، ومُنْكَرَاتٌ قَبِيحةٌ، تَجِبُ إزالتُهَا ومَحْوُ أَثَرِهَا، فإنَّ أَكْثَرَ الجُهَّالِ يَعْتَقِدُونَ إنَّهَا تَنْفَعُ وتَضُرُّ، وتَجْلِبُ وتَدْفَعُ، وتَشْفِي المَرَضَ، وتَرُدُّ الغائبَ، إذا نَذَرَ لها، وهذا شِرْكٌ ومُحَادَّةٌ للهِ تعالَى ولِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
قُلْتُ:
فصَرَّحَ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ الاعتقادَ في هذه الأمورِ أنَّهَا تَضُرُّ وتَنْفَعُ، وتَجْلِبُ وتَدْفَعُ، وتَشْفِي المريضَ، وتَرُدُّ الغائبَ، إذا نَذَرَ لها، أنَّ ذلكَ شركٌ، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ شركٌ، فلا فَرْقَ في ذلكَ بينَ اعْتِقادِهِ في الملائكةِ والنَّبيِّينَ، ولا بينَ اعتقادِهِ في الأصنامِ والأوثانِ؛ إذ لا يَجوزُ الإشراكُ بينَ اللهِ تعالَى وبينَ مَخْلوقٍ فيمَا يَخْتَصُّ بالخالقِ سبحانَهُ، كمَا قالَ تعالَى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عِمْرَانَ:80] وهذا بعينِهِ هوَ الَّذي يَعْتَقِدُهُ مَنْ دَعَا الأَنْبياءَ والصَّالِحِينَ، ولهذا يَسْأَلُونَهُم قَضاءَ الحاجاتِ، وتَفْرِيجَ الكُرُباتِ، وشِفاءَ ذَوَي الأمراضِ والعاهاتِ، فثَبَتَ أنَّ ذلكَ شركٌ.
وقالَ الإمامُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى في (شَرْحِ المَنازِلِ): (ومِنْ أنواعِهِ - أي: الشِّركِ - طَلَبُ الحَوَائجِ مِن المَوْتَى، والاستغاثةُ بِهِم، والتَّوجُّهُ إليهم، وهذا أصلُ شركِ العالَمِ، فإنَّ المَيِّتَ قد انْقَطَعَ عَمَلُهُ وهو لا يَمْلِكُ لِنفسِهِ ضَّرًا ولا نَفْعًا، فَضْلاً لِمَن اسْتَغَاثَ بهِ أوْ سَأَلَهُ أن يَشْفَعَ إلى اللهِ، وهذا مِنْ جَهْلِهِ بالشَّافعِ والمَشْفُوع عِنَدهُ، فإنَّ اللهَ سبحانَهُ لا يَشْفَعُ عندَهُ أَحَدٌ إلاَّ بإِذْنِهِ، واللهُ سبحانَهُ لم يَجْعَلْ سُؤالَ غيرِهِ سَبَبًا لإذنِهِ، وإنَّما السَّببُ لإذنِهِ كمَالُ التَّوحيدِ، فجاءَ هذا المشركُ بسببٍ يَمْنَعُ الإذنَ، والمَيِّتُ مُحْتاجٌ إلى مَنْ يَدْعُو لهُ، كمَا أمَرَنَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا زُرْنَا قُبورَ المسلمينَ أن نَتَرَحَّمَ عليهم، ونَدْعُوَ لهم، ونَسْأَلَ لهم العافيةَ والمَغْفِرةَ، فعَكَسَ المشْرِكُونَ هذا وزَارُوهُم زِيارةَ العِبادةِ، وجَعَلُوا قُبورَهُم أَوْثانًا تُعْبَدُ، فجَمَعُوا بينَ الشِّركِ بالمَعْبودِ وتَغْيِيرِ دِينهِ، ومُعاداةِ أهلِ التَّوحيدِ ونِسْبَتِهِم إلى التَّنَقُّصِ بالأمواتِ، وهم قدْ تَنَقَّصُوا الخالقَ سبحانَهُ بالشِّركِ، وأولياءَهُ الموحِّدينَ بذَمِّهِم ومُعاداتِهِم، وتَنَقَّصُوا مَنْ أَشْرَكُوا بهِ غايةَ التَّنَقُّصِ، إذ ظَنُّوا أنَّهُم راضُونَ منهم بهذا، وأنَّهُم أَمَرُوهُم بهِ، وهؤلاءِ هم أعداءُ الرُّسلِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وما أكثرَ المُسْتَجِيبِينَ لهم! وللَّهِ دَرُّ خَليلِهِ إبراهيمَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حيثُ قالَ:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}[إبراهيم:35،36] وما نَجَا مَنْ أَشْرَكَ بهذا الشِّركِ الأَكْبَرِ، إلاَّ مَنْ جَرَّدَ توحيدَهُ للهِ، وعادَى المشرِكِينَ في اللهِ، وتَقَرَّبَ بمَقْتِهِم إلى اللهِ.)
وقالَ الإمامُ الحافظُ
ابنُ عبدِ الهادِي في رَدِّهِ عَلَىالسُّبْكِيِّ وقولِهِ - أيْ قولِ السُّبْكيِّ -: إنَّ المُبالَغةَ في تعظيمِهِ -أيْ: تعظيمِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واجِبةٌ، إن أُرِيدَ بهِ المُبالغةُ بِحَسَبِ ما يَرَاهُ كلُّ أحدٍ تَعْظِيمًا، حتَّى الحَجُّ إلى قَبْرِهِ، والسُّجودُ لهُ، والطَّوافُ بهِ، واعتقادُ أنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ، وأنَّهُ يُعْطِي ويَمْنَعُ، ويَمْلِكُ لِمَن اسْتَغاثَ بهِ مِنْ دونِ اللهِ الضرَّ والنَّفْعَ، وأنَّهُ يَقْضِي حَوائجَ السَّائلينَ، ويُفَرِّجُ كُرُباتِ المَكْرُوبِينَ، وأنَّهُ يَشْفَعُ فيمَنْ يَشاءُ، ويُدْخِلُ الجنَّةَ مَنْ يَشاءُ، فدَعْوَى المبالغةِ في هذا التَّعظيمِ مُبالغةٌ في الشِّركِ، وانْسِلاخٌ منْ جُمْلةِ الدِّينَ.
قُلْتُ: هذا هوَ اعتقادُ عُبَّادِ القبورِ فيمَنْ هوَ دونَ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَضْلاً عن الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كمَا تَقَدَّمَ بعضُ ذلكَ، والأمرُ أَعْظَمُ وأَطَمُّ مِنْ ذلكَ.
وفي (الفَتاوَى البَزَّازيَّةِ) مِنْ كُتُبِ الحَنَفِيَّةِ: قالَ عُلماؤُنَا: مَنْ قَالَ:(أَرْوَاحُ المَشايخِ حاضِرةٌ تَعْلَمُ، يَكْفُرْ).
فإنْ أَرَادَ:
بالعُلماءِ عُلماءَ الشَّريعةِ فهو حِكايةٌ للإجماعِ عَلَى كُفْرِ مُعْتَقِدِ ذلكَ.
وإن أَرَادَ:
عُلماءَ الحنفِيَّةِ خَاصَّةً، فهو حِكايةٌ لاتِّفاقِهم عَلَى كُفْرِ مُعْتَقِدِ ذلكَ، وعلى التَّقديرَيْنِ تَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ صَرِيحًا في كُفْرِ مَنْ دَعَا أهلَ القبورِ؛ لأنَّهُ ما دَعاهم حتَّى اعْتَقَدَ أنَّهُم يَعْلَمُونَ ذلكَ، ويَقْدِرُونَ عَلَى إِجابةِ سؤالِهِ، وقَضاءِ مَأْمولِهِ.
وقالَ الشَّيخُ صُنْعُ اللهِ الحَلَبِيُّ الحَنَفِيُّ في كِتابهِ الَّذي ألَّفَهُ في الرَّدِّ عَلَى مَن ادَّعَى أنَّ لِلأَوْلِياءِ تَصَرُّفًا في الحياةِ وبعدَ المماتِ في سبيلِ الكَرامةِ: (هذا وإنَّهُ قدْ ظَهَرَ الآنَ فيما بينَ المسلِمِينَ جَماعاتٌ يَدَّعُونَ أنَّ للأولياءِ تَصَرُّفاتٍ في حَياتِهِم وبعدَ المماتِ، ويُسْتَغاثُ بِهِم في الشَّدائدِ والبَلِيَّاتِ، وبِهِمَمِهِم تُكْشَفُ المُهِمَّاتُ، فيَأْتُون قُبورَهُم، ويُنادُونَهُم في قَضاءِ الحاجاتِ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى أنَّ ذلكَ منهم كَراماتٌ، وقالُوا: منهم أَبْدالٌ ونُقباءُ، وأَوْتادٌ ونُجَباءُ، وسبعونَ وسبعةٌ، وأربعونَ وأربعةٌ، والقُطْبُ هوَ الغَوْثُ للنَّاسِ، وعليهِ المَدارُ بلا الْتِباسٍ، وجَوَّزوا لهم الذَّبائحَ والنُّذورَ، وأَثْبَتُوا لهم فيهَا الأُجورَ).
قالَ: (وهذا الكلامُ فيهِ تَفْرِيطٌ وإِفْراطٌ، بلْ فيهِ الهَلاكُ الأَبَدِيُّ، والعذابُ السَّرْمَدِيُّ، لِمَا فيهِ مِنْ رَوائحِ الشِّركِ المُحَقَّقِ، ومُصادمةِ الكتابِ العزيزِ المُصَدَّقِ، ومُخالِفٌ لِعَقائدِ الأئِمَّةِ، وما اجْتَمَعَتْ عليهِ الأُمَّةُ).
وفي التَّنْزِيلِ:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النِّساء:114]
إلى أنْ قالَ: (الفَصْلُ الأوَّلُ: فيما انْتَحَلُوهُ من الإِفْكِ الوَخِيمِ والشِّركِ العَظِيمِ …).
إلى أن قالَ:( فأمَّا قَولُهُم: إنَّ للأولياءِ تَصَرُّفاتٍ في حَياتِهِم وبعدَ المماتِ.
فيَرُدُّهُ قولُهُ تعالَى:{أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ}[النمل:60] .
{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}
[الأعراف:54] .
{للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
[الَمَّائدة: 120] ونحوُهُ مِن الآياتِ الدَّالَّةِ عَلَى أنَّهُ المُنْفَرِدُ بالخَلْقِ والتَّدْبِيرِ، والتَّصَرُّفِ والتَّقديرِ، ولا شَيءَ لِغيرِهِ في شيءٍ ما بوجهٍ مِن الوجوهِ، فالكلُّ تحتَ مُلْكِهِ وقَهْرِهِ تَصَرُّفًا ومِلْكًا، وإِحْياءً وإماتةً وخَلْقًا، وتَمَدَّحَ الرَّبُّ سبحانَهُ بانْفِرَادِهِ في مُلْكِهِ بآياتٍ مِنْ كتابِهِ كقولِهِ: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ}[فاطر: 3]{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}.[فاطر: 13] .
وذَكَرَ آياتٍ في هذا المعنَى، ثُمَّ قالَ: (فقولُهُ في الآياتِ كُلِّها {مِنْ دُونِهِ}أيْ: مِنْ غيرِهِ، فإنَّهُ عامٌّ، يَدْخُلُ فيهِ مَن اعْتَقَدْتَهُ، مِنْ وَلِيٍّ وشيطانٍ تَسْتَمِدُّهُ، فإنَّ مَنْ لم يَقْدِرْ عَلَى نَصْرِ نفسِهِ كيفَ يَمُدُّ غيرَهُ).
إلى أن قالَ: (فكيفَ يُتَصَوَّرُ لِغيرِهِ مِنْ مُمْكِنٍ أن يَتَصَرَّفَ، إنَّ هذا مِن السَّفاهةِ لَقَوْلٌ وَخِيمٌ، وشرْكٌ عظيمٌ).
إلى أن قالَ: (وأمَّا القولُ بالتَّصَرُّفِ بعدَ المماتِ، فهو أَشْنَعُ وأَبْدَعُ مِن القولِ بالتَّصرُّفِ في الحياةِ، قالَ جلَّ ذِكْرُهُ:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزُّمَر: 30]، {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ}[الزُّمَر: 42].
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عِمْرانَ: 185].
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المُدَّثِّر: 38] وفي الحديثِ: ((إِذَا مَاتَ ابْنُ آَدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ))الحديثَ، فجميعُ ذلكَ وما هوَ نحوُهُ دَالٌّ عَلَى انْقِطاعِ الحِسِّ والحركةِ مِن المَيِّتِ، وأنَّ أَرْوَاحَهُمْ مُمْسَكَةٌ، وأنَّ أَعْمالَهُم مُنْقَطِعةٌ عنْ زِيادةٍ ونُقْصانٍ، فدَلَّ ذلكَ أنْ ليسَ للمَيِّتِ تَصَرُّفٌ في ذاتِهِ؛ فَضْلاً عنْ غيرِهِ بحركةٍ، وأنَّ رُوحَهُ مَحْبوسَةٌ مَرْهُونةٌ بعملِهَا مِنْ خيرٍ وشرٍّ، فإذا عَجَزَ عنْ حركةِ نفسِهِ، فكيفَ يَتَصَرَّفُ في غيرِهِ؟!
فاللهُ سبحانَهُ يُخْبِرُ أنَّ الأَرْواحَ عندَهُ، وهؤلاء المُلْحِدُونَ يَقولونَ: إنَّ الأرواحَ مُطْلَقةٌ مُتَصَرِّفَةٌ، قُلْ أَأَنْتُم أَعْلَمُ أم اللهُ؟.