وعطف على ذلك (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله) والاستعاذة بغير الله تكون
بالقول الذي معه اعتقاد، فهي مناسبة لأن تكون بعد (باب من الشرك النذر لغير الله).
وقوله - رحمه الله -: (من الشرك) (من) ههنا تبعيضية؛كما ذكرنا فيما سبق من الأبواب.
وهذا الشرك هو الشرك الأكبر،
(من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله) لأن الألف واللام، أو اللام وحدها الداخلة على الشرك، هذه تعود إلى المعهود، وهو: أن الاستعاذة بغير الله شرك أكبر بالله جل جلاله.
(الاستعاذة):
طلب العياذ،
يقال: استعاذ، إذا طلب العياذ، والعياذ: طلب ما يؤمِّن من الشر، الفرار من شيء مخوف إلى ما يؤمن منه، أو إلى من يؤمن منه.
ويقابلها اللياذ،
وهو: الفرار إلى طلب الخير، أو التوجه والاعتصام والإقبال لطلب الخير.
ومادة
استفعل، مثل ما ههنا (استعاذ) وكما سيأتي (استغاث) (استعان) ونحو هذه المادة، هي موضوعة في الغالب للطلب، فغالب مجيء السين والتاء للطلب، استسقى إذا طلب السقيا، واستغاث: إذا طلب الغوث، واستعاذ: إذا طلب العياذ.
قلنا: في الغالب؛ لأنها تأتي أحياناً للدلالة على كثرة الوصف في الفعل، كما في قوله جل وعلا: {واستغنى الله} استغنى: ليس معناها طلب الغنى، وإنما جاء بالسين والتاء هنا للدلالة على عظم الاتصاف بالوصف الذي اشتمل عليه الفعل، وهو الغنى.
فهذه المادة، استعاذ، استغاث، استعان، وأشباه ذلك: فيها طلب.
والطلب من أنواع التوجه والدعاء، إذا طلب فإن هناك مطلوباً منه، والمطلوب منه لمّا كان أرفع درجة من الطالب، كان الفعل المتوجه إليه يسمَّى دعاءً، ولهذا في حقيقة اللغة وفي دلالة الشرع: الاستعاذة: طلب العوذ، أو طلب العياذ، وهو الدعاء المشتمل على ذلك.
الاستغاثة:
طلب الغوث، دعاء مشتمل على ذلك، وهكذا في كل ما فيه طلب، نقول: إنه دعاء، وإذا كان دعاءً فإنه عبادة، والعبادة لله -جل وعلا- بالإجماع وبما دلت عليه النصوص {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً}، {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}، {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً}.
إذاً:
فكل فعلٍ من الأفعال، أو قولٍ من الأقوال، فيه طلب عبادة، لِمَ؟ لأنه دعاء؛ لأن كل طلبٍ دعاء.
فالذي يطلب شيئاً: إذا طلبه من مقارنٍ،
فيقال: هذا التماس؛ وإذا طلبه ممن هو دونه، يقال: هذا أمر؛ وإذا طلبه ممن هو أعلى منه، فهذا دعاء، والمستعيذ والمستغيث لا شك أنه طالبٌ ممن هو أعلى منه لحاجته إليه، فلهذا كل دليل فيه ذكر إفراد الله -جل وعلا- بالدعاء أو بالعبادة دليل على خصوص هذه المسألة، وهي: أن الاستعاذة عبادة من العبادات العظيمة، وإذ كانت كذلك فإن إفراد الله بها واجب.
قال هنا: (من الشرك الاستعاذة بغير الله) وقوله: (الاستعاذة بغير الله) هذا الغير يشمل كل ما يتوجه الناس إليه بالشرك، ويدخل في ذلك بالأوَّلية ما كان المشركون الجاهليون يتوجهون إليه بذلك؛ من الجن، ومن الملائكة، ومن الصالحين، ومن الأشجار، والأحجار، ومن الأنبياء والرسل، إلى غير ذلك.
هل قوله هنا: (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله)، (الاستعاذة بغير الله) هل هذا المقصود منه: أن الاستعاذة جميعاً لا تصلح إلا لله؟ وأنه لو استعاذ بمخلوق فيما يقدر عليه أنه يدخل في الشرك؟
الجواب:
هذا فيه تفصيل:
- ومن أهل العلم من قال: الاستعاذة لا تصلح إلا لله، وليس ثمَّ استعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه؛ لأن الاستعاذة: توجه القلب، واعتصامه، والتجاؤه، ورغبه، ورهبه، فيها هذه المعاني جميعاً، فهي توجه للقلب، وهذه المعاني جميعاً لا تصلح إلا لله جل وعلا.
وقال آخرون:
قد جاءت أدلة بأنه يستعاذ بالمخلوق فيما يَقْدِر عليه؛
لأن حقيقة الاستعاذة طلب انكفاف الشر، طلب العياذ، وهو أن يعيذ من شرٍّ أحدقَ به، وإذا كان كذلك، فإنه قد يكون المخلوق يملك شيئاً من ذلك، قالوا: فإذاً: تكون الاستعاذة بغير الله شركاً أكبر، إذا كان ذلك المخلوق لا يَقْدِر على أن يعيذ، أو لا يقدر على الإعاذة مما طلب إلا الله جل وعلا.
والذي يظهر من ذاك: أن المقام -كما ذكرت لك- فيه تفصيل، وذاك أن الاستعاذة فيها عمل ظاهر، وفيها عمل باطن.
فالعمل الظاهر:
أن يطلب العوذ، أن يطلب العياذ، وهو أن يعصم من هذا الشر، أو أن ينجو من هذا الشر.
وفيها عمل باطن:
وهو توجه القلب، وسكينته، واضطراره، وحاجته إلى هذا المستعاذ به، واعتصامه بهذا المستعاذ به، وتفويض أمر نجاته إليه، إذا كان هذان في الاستعاذة، فإذا قيل: الاستعاذة لا تصلح إلا لله، يعني: لا تصلح إلا بالله، لا يستعاذ بمخلوق مطلقاً، يُعنى به: أنه لا يستعاذ به من جهة النوعين جميعاً؛ لأن منه القلب، يعني: النوعين معاً؛ لأن منه عمل القلب، وعمل القلب الذي وصفت: بالإجماع لا يصلح إلا لله جل وعلا.
وإذا قيل:
الاستعاذة تصلح بالمخلوق فيما يقدر عليه؛ فهذا لما جاء في بعض الأدلة من الدلالة على ذلك، وهذا إنما يُراد منه الاستعاذة بالقول ورغب القلب في أن يخلص مما هو فيه من البلاء، وهذا يجوز أن يتوجه به إلى المخلوق.
فإذاً:حقيقة الاستعاذة تجمع الطلب الظاهر وتجمع المعنى الباطن، ولهذا اختلف أهل العلم فيها، فالذي ينبغي أن يكون منك دائماً على ذكر: أن توجه أهل العبادات الشركية لمن يشركون به من الأولياء، أو الجن، أو الصالحين، أو الطالحين، أو غير ذلك، أنهم جمعوا بين القول باللسان، وبين أعمال القلوب التي لا تصلح إلا لله جل وعلا، وبهذا يبطل ما يقوله أولئك الخرافيون: (من أن الاستعاذة بهم، إنما هي فيما يقدرون عليه، وأن الله أقدرهم على ذلك) فيكون إبطال مقالهم راجعاً إلى جهتين:
فالجهة الأولى:
أن يبطل قولهم في الاستعاذة، وفي أشباهها: أن هذا الميت أو هذا الجني يقدر على هذا الأمر، وإذا لم يقتنع بذلك أو حصل هناك إيراد اشتباه فيه، فالأعظم أن يتوجه المورد للأدلة السنية، أن يتوجه إلى أعمال القلب، وأن هذا الذي توجه إلى ذلك الميت أو الولي، قد قام بقلبه من العبوديات ما لا يصلح إلا لله جل جلاله.
إذاً: فنقول: الاستعاذة بغير الله شرك أكبر؛ لأنها صرف للعبادة لغير الله، صرف العبادة لغير الله جل جلاله، فإن كان ذلك في الظاهر مع طمأنينة القلب بالله، وتوجه القلب إلى الله، وحسن ظنه بالله، وأن هذا العبد إنما هو سبب، وأن القلب مطمئن فيما عند الله؛ فإن هذه تكون استعاذة بالظاهر، وأما القلب فإنه لم تقم به حقيقة الاستعاذة، وإذا كان كذلك كان هذا جائزاً.
قال رحمه الله: (وقول الله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً})
{وأنه}
: هذه معطوفة على أول السورة، وهو ما أوحى الله -جل وعلا- إلى نبيه: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن} ثم بعد آيات {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً}.
ومعنى {رهقاً} هنا: يعني: خوفاً واضطراباً في القلب، أوجب لهم الإرهاق، والرهق في الأبدان وفي الأرواح، فلما كان كذلك تعاظمت الجنَّ وزاد شرها، قال: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن}.
وقد كان المشركون يعتقدون أن لكل مكان مخوف جنِّيّاً، أو سيداً من الجن يخدم ذلك المكان، هوله ويسيطر عليه؛ فكانوا إذا نزلوا وادياً، أو مكاناً قالوا: (نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه) يعنون الجنَّ؛ فعاذوا بالجن، لأجل أن يُكفَّ عنهم الشر مدة مقامهم، لهذا قال جل وعلا: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً}{فزادوهم} يعني: زادوا الجنُّ الإنس خوفاً واضطراباً وتعباً في الأنفس، وفي الأرواح، وإذا كان كذلك كان هذا مما هو من العقوبة عليهم، والعقوبة إنما تكون على ذنب.
فدلت الآية على ذم أولئك،
وإنما ذُمُّوا لأنهم صرفوا تلك العبادة لغير الله جل وعلا، والله -سبحانه- أمر أن يستعاذ به دون ما سواه، فقال سبحانه: {قل أعوذ برب الفلق}.
وقال: {قل أعوذ برب الناس}.
وقال: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون}.
والآيات في ذلك كثيرة؛ كقوله: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} فعُلم من التنصيص على المستعاذ به -وهو الله جل وعلا- أن الاستعاذة حصلت بالله وبغيره، وأن الله أمر نبيه أن تكون استعاذته به وحده دون ما سواه، وذكرت لكم أصل الدليل في ذلك، وأن الاستعاذة عبادة، وإذا كانت عبادة فتدخل فيما دلت عليه الآيات من إفراد العبادة بالله وحده.
في قوله: {فزادوهم رهقاً} ثمّ قول آخر، وهو قول قتادة وبعض السلف: أن {رهقاً} معناها: (إثماً) فزادوهم إثماً، وهذا أيضاً ظاهر من جهة الاستدلال إذا كانت الاستعاذة موجبة للإثم، فهي إذاً: عبادة إذا صُرفت لغير الله.
وعبادة مطلوبة إذا صرفت لله جل جلاله،
وهذا يستقيم مع الترجمة من أن الاستعاذة بغير الله شرك.
قال: (وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((من نزل منزلاً فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك)) رواه مسلم)
وجه الدلالة من هذا الحديث:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيّن فضل الاستعاذة بكلمات الله، فقال: ((من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) وجعل المستعاذ منه: المخلوقات الشريرة، والمستعاذ به: هو كلمات الله.
وقد استدل أهل العلم حين ناظروا المعتزلة وردوا عليهم، استدلوا بهذا الحديث على أن كلمات الله ليست بمخلوقة، قالوا: لأن المخلوق لا يستعاذ به، والاستعاذة به شرك؛ كما قاله الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة.
فوجه الدلالة من الحديث:
إجماع أهل السنة على الاستدلال به على أن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وأنه لما أمر بالاستعاذة بكلمات الله، فإن كلمات الله -جل وعلا- ليست بمخلوقة.
قال: ((من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) المقصود بـ(كلمات الله التامات) هنا: الكلمات الكونية التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر، وهي المقصودة بقوله جل وعلا: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} وبقوله: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله}{وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً}.
وفي القراءة الأخرى:
{وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً} هذه الآية في الكلمات الشرعية، وكذلك في الكلمات الكونية.
إذاً: فقوله: ((أعوذ بكلمات الله التامات)) يعني: الكلمات الكونية.
((
من شر ما خلق))
يعني: من شر الذي خلقه الله جل وعلا، وهذا العموم المقصود منه: من شر المخلوقات التي فيها شر، وليست كل المخلوقات فيها شر؛ بل ثمَّ مخلوقات طيبة ليس فيها شر، كالجنة، والملائكة، والرسل، والأنبياء، والأولياء.
وهناك مخلوقات خُلقت وفيها شر، فاستعيذ بكلمات الله -جل وعلا- من شر الأنفس الشريرة، والمخلوقات التي فيها شر.