الطِّبَاقُ هو الجمْعُ(14) بينَ معنيين متقابلَيْن(15)،
نحوُ قولِه تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً(1) وَهُمْ رُقُودٌ(2)} {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(3)، يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}(4).
ومن(1) الطِّباقِ(2) المقابَلةُ وهي أن يُؤْتَى بمعنَيَيْن(3) أو(4) أكثرَ(5) ثم يؤْتَى(6) بما يقابِلُ ذلك(7) على الترتيبِ(8)، نحوُ قولِه تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً}(9).
____________________
(14) ( الطِّبَاقُ هو الجمْعُ) أي: في كلامٍ واحدٍ أو ما هو كالكلامِ الواحدِ في الاتِّصالِ.
(15) (بينَ معنيين متقابلَيْن) أي: بينَهما تنافٍ وتقابلٌ سواءٌ كان حقيقيًّا بأن كان بينَهما غايةُ الخلافِ لذاتَيْهما كتقابُلِ القِدَمِ والحدوثِ أو اعتباريًّا كتقابُلِ الإحياءِ والإماتةِ فإنهما لا يَتقَابَلان إلا باعتبارِ بعضِ الأحوالِ, وهو أن يَتعلَّقَ الإحياءُ بحياةِ جِرْمٍ في وقتٍ, والإماتةُ بإماتتِه في ذلك الوقتِ, وإلا فلا تَقَابُلَ بينَهما باعتبارِ أنفسِهما, ولا باعتبارِ المتعلِّقِ عندَ تعدُّدِ الوقتِ, وسواءٌ كان التقابُلُ الحقيقيُّ تقابُلَ التضَادِّ بأن كان المتقابلان وجوديَّين كتقابُلِ الحركةِ والسكونِ على الْجِرْمِ الموجودِ بِناءً على أنهما وُجوديَّانِ أو تقابُلَ الإيجابِ والسلْبِ كتقابُلِ مطلَقِ الوجودِ وسلْبِه أو تقابُلَ العدَمِ، والملَكَةِ كتقابُلِ العَمَى والبصَرِ أو تقابُلَ التضايُفِ كتقابُلِ الأبوَّةِ والبنوَّةِ أو تقابُلَ ما يُشبِهُ شيئاً مما ذُكِرَ مما يُشعِرُ بالتنافي لاشتمالِه على ما يُوجِبُ التنافي, كما في قولِه تعالى: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} لما يُشعِرُ به الإغراقُ من الماءِ المشتمِلِ على البرودةِ غالباً وما يُشعِرُ به إدخالُ النارِ من حرارةِ النارِ, ويُسَمَّى هذا النوعُ أيضًا بالمطابَقةِ والتطبيقِ؛ لأن المتكلِّمَ وفَّقَ بينَ المعنيين المتقابلين وطابَقَ أي: قابَلَ بينَهما كأنه جعَلَ أحدَهما منطبِقاً على الآخَرِ بمطابقتِه له وبالتكافؤِ؛ لأن المتكلِّمَ يُكافِئُ أي: يُوافِقُ بينَهما. ثم هو على نوعين؛ أحدُهما طِباقُ الإيجابِ وهو مالم يَخْتَلِفْ فيه المتقابلان إيجاباً وسلْباً.
(1) (نحوُ قولِه تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً}) جمْعُ يَقِظٍ على وزْنِ عَضُدٍ أو كَتِفٍ, بمعنى يَقْظانَ.
(2) ({وَهُمْ رُقُودٌ}) جمْعُ راقدٍ فالجمْعُ بينَ أيقاظٍ ورقودٍ طِباقُ الإيجابِ؛ لأن اليقظةَ تَشتملُ على الإدراكِ بالحواسِّ, والنومَ يَشتمِلُ على عدَمِه, فبينَهما شِبْهُ العدَمِ والملَكَةِ باعتبارِ لازِمِهما, وبينَهما باعتبارِ أنفسِهما التضادُّ؛ لأن النومَ عرَضٌ يَمنَعُ إدراكَ الحواسِّ واليقظةَ عرَضٌ يَقتَضِي الإدراكَ بها, وقد ذُكِرا بطريقٍ واحدٍ هو الإثباتُ. والنوعُ الثاني: طِباقُ السلْبِ وهو ما اختَلَفَ فيه المتقابلان إيجاباً وسلباً بأن يَجْمَعَ بينَ فعلين من مصدرٍ واحدٍ, أحدُهما مُثْبَتٌ والآخَرُ منْفيٌّ نحوُ قولِه تعالى:
(3) ({وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}) أي: ما أُعِدَّ لهم في الآخرةِ من النعيمِ.
(4) ({يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}) مِن إمَّا بيانيَّةٌ أي: يَعْلَمون الظاهرَ الذي هو الحياةُ الدنيا, ويَعدِلُون عن الباطنِ الذي هو الحياةُ الآخِرةُ, أو ابتدائيَّةٌ أي: يَعْلَمون شيئاً ظاهراً ناشئاً من الحياةِ الدنيا وهو التلذُّذُ باللذاتِ المحرَّمةِ باطناً وهي كونُها مَزرَعةً للآخِرةِ فإن الجمْعَ بينَ عدَمِ العلْمِ وبينَ العِلْمِ طباقُ السلْبِ؛ لأن العلْمَ الأوَّلَ منفيٌّ والثاني مُثْبَتٌ وبينَ النفيِ والإثباتِ تقابُلٌ باعتبارِ أصلِهما لا باعتبارِ الحالةِ الراهنةِ لأن الْمَنْفيَّ علْمٌ يَنفعُ في الآخرةِ والْمُثْبَتَ علْمٌ لا يَنفعُ فيها ولا تَنافيَ بينَهما أو أحدَهما أمْرٌ والآخرَ نهيٌ نحوُ قولِه تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي} فالجمْعُ بينَ النهيِ عن الخشيةِ وبينَ الأمْرِ بها طِباقُ السلْبِ؛ لأن بينَ الأمرِ والنهيِ تنافياً باعتبارِ أصلِهما لا باعتبارِ استعمالِهما؛ إذ من المعلومِ أن الخشيةَ لا يُؤْمَرُ بها ويُنْهَى عنها من جهةٍ واحدةٍ بل من جهتين فالأمرُ بها في هذه الآيةِ باعتبارِ كونِها للهِ تعالى, والنهيُ عنها باعتبارِ كونِها للناسِ.
(1) (ومن) ما يَدخُلُ في.
(2) (الطِّبَاقِ) بتفسيرِه السابِقِ.
(3) (المقابَلَةُ وهي أن يُؤْتَى بمعنيين) متوافقين غيرِ متقابِلَيْن.
(4) (أو) يُؤْتَى بـ
(5) (أكثرَ) من المعنيين.
(6) (ثم يُؤْتَى) بعدَ المعنيين أو المعاني.
(7) (بما يُقابِلُ ذلك) المأتيِّ به من المعنيين المتوافقين أو المعاني المتوافِقَةِ.
(8) (على الترتيبِ) أي: يكونُ ما يُؤتَى به ثانياً مَسُوقاً على ترتيبِ ما أُتِيَ به أوًّلاً بحيث يكونُ الأوَّلُ للأوَّلِ والثاني للثاني إلى آخرِه وإنما دَخَلَ هذا النوعُ في الطباقِ لصِدْقِ حَدِّه السابقِ عليه وهو جمْعٌ بينَ معنيين متقابِلَيْن أي: ولو في الجملةِ يعني من غيرِ تفصيلٍ وتعيينٍ لكونِ التقابُلِ على وجهٍ مخصوصٍ دونَ آخَرَ فمقابَلَةُ الاثنين بالاثنين.
(9) (نحوُ قولِه تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً}) فأَتَى في أحدِ الطرفين بالضَّحِكِ والقِلَّةِ, وهما متوافقان, ثم في الطرَفِ الآخَرِ بالبكاءِ والكثرةِ وهما متوافقان أيضًا, وقابَلَ الأوَّلَ من الطرَفِ الثاني, وهو البكاءُ, بالأوَّلِ من الطرَفِ الأوَّلِ وهو الضَّحِكُ وقابَلَ الثانيَ من الطرَفِ الثاني, وهو الكثرةُ بالثاني من الطرفِ الأوَّلِ وهو القِلَّةُ. ومقابَلَةُ الثلاثةِ بالثلاثةِ نحوُ قولِ أبي دلامةَ من شعراءِ الدولةِ العبَّاسيَّةِ أيَّامَ المعتصِمِ باللهِ:
ما أحسَنَ الدينَ والدنيا إذا اجْتَمَعا ..... وأقْبَحَ الكفرَ والإفلاسَ بالرجُلِ
فالحسْنُ والدينُ والغِنَى وهو المعبَّرُ عنه بالدنيا متوافِقَةٌ لعدَمِ التنافي بينَها وقد قُوبِلَتْ بثلاثةٍ هي القُبحُ والكفْرُ والإفلاسُ الأوَّلُ للأوَّلِ والثاني للثاني والثالثُ للثالثِ, وهي متوافقةٌ أيضاً لعدَمِ التنافي بينَها, ومقابَلَةُ الأربعةِ بالأربعةِ، نحوُ قولِه تعالى {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} فالجملةُ الأُولى اجتَمَعَ فيها مُتوافِقاتٌ أربعةٌ, وهي الإعطاءُ والتُّقَى والتصديقُ بالْحُسْنَى وهي كلمةُ التوحيدِ التي هي لا إلهَ إلا اللهُ والتيسيرُ لليُسْرَى, والجملةُ الثانيةُ كذلك اجتَمعَ فيها متوافِقاتٌ أربعةٌ تُقابِلُ تلك على الترتيبِ؛ البُخْلُ المقابِلُ للإعطاءِ والاستغناءُ المقابِلُ للتقوى, والتكذيبُ المقابِلُ للتصديقِ, والتيسيرُ للعُسْرِ المقابِلُ للتيسيرِ لليُسْرَى.