القارئ:
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}
الشيخ:
ثم قال الله -جل وعلا- مبيناً حال المتقين، لما ذكر الله -جل وعلا- حال الفجار الطاغين ذكر حال المتقين، وهذا كثير في كتاب الله -جل وعلا-، يقرن بين الحالين يجمع بين حال الكفار وحال المؤمنين، ويجمع بين ما أعده الله -جل وعلا- للمؤمنين وبين ما أعده للكافرين؛ كما في قول الله -جل وعلا-:
- في سورة طه: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى}.
-وقال -جل وعلا- في سورة هود: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}.
-وفي سورة البينة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ...} إلى آخر الآية.
فالله -جل وعلا- كثيراً ما يقرن بين الحالين، يقرن -جل وعلا- بينهما ليعلم العبد مصيره إن أطاع الله وَوَحَّده، ويعلم مآله ومرده إن هو عصى الله -جل وعلا- ولم يؤمن به، وكفر بما جاءت به الرسل.
وقوله في هذه الآية: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} أي: أن المتقين؛ وهم الذين اتخذوا وقاية من عذاب الله -جل وعلا- بفعل أوامره والكفاف عن نواهيه، لهم مفاز عند الله -جل وعلا-، وهذا المفاز هو الفوز، كما قال الله -جل وعلا-:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
فقوله في هذه الآية: (مفازاً) يعني: أن لهم فوزاً عظيماً عند الله جل وعلا، ومعنى التقوى الذي تقدم دل عليه:
-قول الله -جل وعلا- في أوائل سورة البقرة: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.
-وفي سورة آل عمران: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
فبينت هاتان الآيتان أن معنى التقوى: هو فعل ما أمر الله -جل وعلا- وترك ما نهى الله جل وعلا.
وإذا صنع العبد ذلك فإنه بإذن الله يقي نفسه من عذاب الله جل وعلا.
وليس من شرط التقوى أن لا يقترف العبد إثماً،ولكن من شرطها أن يبادر العبد إلى التوبة إلى الله -جل وعلا- إذا وقعت منه معصية ولا يصر على هذه المعصية؛ لأن الإصرار على المعصية قد يصيرها كبيرة من كبائر الذنوب، أو يجعل القلب يستمرئ هذه السيئات الصغار، ثم بعد ذلك يفعل كبائر الذنوب وعواظمها، وربما وقع في الإشراك بالله -جل وعلا-، لأن المعاصي -كما ذكر بعض العلماء - بريد الكفر، يعني: أنها تورث القلب ضلالاً، وتورثه قسوةً وبعداً عن الله جل وعلا، فربما وقع الإنسان في الإشراك بالله -جل وعلا- والكفر به.
ثم بين -جل وعلا- هذا المفاز بقوله سبحانه وتعالى: {حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً}والحدائق: هي البساتين.
{وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} الكواعب: هن النساء النواهد.
والناهد: هي المرأة التي لم يتدل ثديها؛ لأنها بكر، وهذا جاء في قول الله تبارك وتعالى في سورة الواقعة عن نساء أهل الجنة: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً} فقوله في هذه الآية (أبكاراً) هو معنى قوله في هذه الآية(كواعب) لأن من علامة البكر أن يكون ثديها على هيئة الكعب لم يتدل؛ ولهذا فسر بعض العلماء قوله تعالى في هذه الآية: (كواعب):
-فسرها بأنها: الأبكار.
-وبعضهم فسرها بأنها: العذارى.
وكلها تفاسير صحيحة تعود إلى معنى واحد ذكره الله -جل وعلا- في سورة الواقعة وأنهن أبكاراً، يعني: لسن بثيبات، حتى ولوكانت هذه المرأة في الدنيا ثيباً فإن الله -جل وعلا- ينشؤها يوم الدين نشأةً أخرى، فتعود بكراً، وذلك بقدرته -جل وعلا- وعزته.
وأما قوله في آية الواقعة: (عرباً) فمعناه: أنهن متحببات لأزواجهن، وقوله في الواقعة: (أتراباً) وفي هذه الآية (أتراباً) يعني: أن هؤلاء النساء في الجنة على سن واحدة، قال بعض السلف: سنهن ثلاثون سنة، وقال بعضهم: ثلاث وثلاثون سنة، والله أعلم.
فالشاهد أنهن على سن واحدة، هؤلاء النساء اللاتي في الجنة يرزق بهن عباد الله المؤمنون.
قوله: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً} يعني: كأساً ممتلئة ومتتابعة لا تنقطع أبداً، وإنما كانت لا تنقطع؛ لأن الله -جل وعلا- يمدها بمعين، والمعين: هو الماء الذي يسيح على وجه الأرض من الأنهار وغيرها، فالله -جل وعلا- يمد هذه الكؤوس من معين.
والمراد بالكأس: هنا -والله أعلم- الكأس الممتلئة خمراً؛ لأن العرب كانوا يحبون الخمر حباً شديداً، فلهذا كان الله -جل وعلا- يذكرهم بها في نعيم أهل الجنة، لكنها لا تشبه خمر الدنيا، فخمر الدنيا يكون منها صداع وسكر وبول وقيء كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما خمر الآخرة فقد نزهها الله -جل وعلا- عن ذلك، فقوله -جل وعلا- في هذه الآية: {وَكَأْساً دِهَاقاً} يعني: كأساً ممتلئة.
والظاهر -والله أعلم- أنها ممتلئة بالخمر الذي يتلذذون به في الآخرة؛ وكل ما في الآخرة يتلذذ به عباد الله جل وعلا.
فقوله: {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} جاء بيانه في قول الله -جل وعلا- في سورة الصافات: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} فبين -جل وعلا- أن هذه الكأس من معين، يعني: لا تنقطع أبداً، من أنهار سائحة على وجه الأرض، وأنها بيضاء يعني: أنها مشرقة، أما خمر الدنيا فهي متلونة ولونها مقذع، فضلاً عن رائحتها، فضلاً عن طعمها.
ثم بين -جل وعلا- أنهم يشربونها بلذة،وهذه اللذة لا تحدث لهم وجعاً في البطون؛ لأنه هو معنى الغول، ولا تحدث لهم ذهاباً في عقولهم وهو معنى قوله: {وَلا يُنْزِفُونَ}.وقال -جل وعلا- في سورة الواقعة: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} يعني: أنهم لا يصيبهم صداع من شرب هذه الخمركما يصيب من يشربها في الدنيا، ولا تذهب عقولهم بل عقولهم باقية ويشربونها بلذة؛ لأن الجنة طيبة وما فيها طيب، وقد أعدها الله -جل وعلا- للطيبين.
ثم قال -جل وعلا-: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} يعني: لا يسمعون فيها فضول الكلام، ولا كلاماً لافائدة فيه؛ بل كل الكلام الذي في الجنة له فائدة، وهذا من تمام طيبها ولذتها {وَلا كِذَّاباً} يعني: لا يكذب بعضهم بعضاً، ولايسمعون من بعضهم تأثيماً لبعض؛ كما في الآية الأخرى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً} فإذا كانوا لا يسمعون ذلك، فماذا يسمعون؟
لايسمعون إلا سلاما، كما قال الله -جل وعلا-: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً} وبيَّن -جل وعلا- الكلام الذي في الجنة في:
-قوله جل وعلا: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}.
-{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
-وقال -جل وعلا-: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.
-وقال -جل وعلا-: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}.
فهم في سلام، ويُلَقَّون تحيتهم سلاماً، ويتحدثون بهذا السلام، يحيي بعضهم بعضاً بهذا السلام، وتحييهم الملائكة بهذا السلام؛ لأنهم في دار السلام التي أعدها الله -جل وعلا- لأهل الإسلام والإيمان به.
ثم قال -جل وعلا-: {جَزَاء مِن رَبِّكَ عَطَاء حِسَاباً} يعني: أن هذه الجنة جعلها الله -جل وعلا- جزاءً للمتقين، وهذا الجزاء من الله -جل وعلا- ليس محدوداً له نهاية بل ليس له نهاية أبداً، ولهذا قال الله -جل وعلا-: {عَطَاءً حِسَاباً} يعني: عطاءً كثيراً لاينقطع، كما يقال: أحسبت له، يعني: أكثرت له العطاء فقوله: {عَطَاءً حِسَاباً} يعني: عطاءً لا انقطاع له:
-كما قال الله -جل وعلا-: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}.
-وقال -جل وعلا-: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.-وقال -جل وعلا-: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} فهو غير منقطع بل دائم ومتصل.
-{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا}.
-{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}.
وأما أهل النار؛ فإن الله -جل وعلا- كما تقدم يجزيهم جزاءً وفاقاً لا يزيد عليهم:
-كما قال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
-وقال تعالى في الأنعام: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
-وقال تعالى في يونس:{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}.
فأهل الناركما تقدم جزاءً وفاقاً.
وأما أهل الجنة فهو عطاء كثير لا حد له، ثم إنه عطاء لا ينقطع أبدًا قال الله -جل وعلا-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فهو ممتد في وقته وممتد أيضاً في كثرته؛ لأن خزائن السموات والأرض بيد الله جل وعلا، وهو إذ يصنع ذلك سبحانه وتعالى إنما يعامل عباده برحمته؛ لأن أول عطائه لعباده أنه لو وكلهم إلى أعمالهم لهلكوا، فإن الإنسان لو كان يدخل الجنة بمجرد عمله دون فضل الله ورحمته لم يدخل الجنة أحد، كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)).
فأول عطاء الله لخلقه أنَّه -جلَّ وعلا- لا يكلهم على أعمالهم، ولايعاملهم بعدله؛ لأنه لو عاملهم بعدله لهلكوا، ولكنه يعامل المؤمنين بفضله ورحمته جل وعلا، وهذا يدعو العبد المؤمن إلى أن يتوب إلى الله، وأن ينيب إليه، وأن يحسن العمل؛ لأن الله إذا كان يعاملك بالإحسان، فليس هناك مقابلة للإحسان إلا بالإحسان، فالله -جل وعلا- لما أحسنت في بعض عملك قابلك بإحسان منقطع، فأنت أيضاً أحسن عبادة ربك -جل وعلا- شكراً منك لله -جل وعلا- على هذه النعمة.
فأول عطاء الله للمتقين أنه يدخلهم الجنة بفضله ورحمته، وليس بأعمالهم،
ثم بعد ذلك يفيض عليهم من الخيرات التي لا تنقطع أبداً، ولهذا ذكر الله -جل وعلا- أن أهل الجنة خالدين فيها أبداً: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} فهم خالدون في هذه الجنة أبداً، ومع هذا الخلود ينعمهم الله -جل وعلا- بأحسن النعيم وأكمله، وينعمهم بنعيم لا ينقطع أبداً، وبنعيم كثير وافر فضلاً منه -جل وعلا- ورحمة.
ثم قال جل وعلا: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} يعني: أن الله -جل وعلا- الذي تفضل على الخلق بما تفضل به عليهم؛ هو رب السموات والأرض وما بينهما، والعباد يوم القيامة لا يملكون منه خطاباً؛ لأن الملك يؤمئذ لله -جل وعلا- كما قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيجيب نفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (26) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
فالعباد لا يتكلمون في ذلك اليوم إلا من أذن له الله -جل وعلا- حتى أقرب الخلق وهم الملائكة والمرسلون لا يتكلمون إلا بإذنه، ولا يشفعون لأحد من الخلق إلا بإذنه:
-كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}
-{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}.
-{يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} يعني: يوم يأتي يوم القيامة لا تكلم نفس إلا بإذن الله -جل وعلا-، والملائكة والروح في ذلك اليوم -وهو عند كثير من المفسرين جبريل -عليه السلام- مصطفِّين؛ لأنَّ الملك لله جل وعلا، يجيء للفصل بين العباد فهم مصطفون، ولا يتكلمون إلا بإذن الله، ولا يتكلم أحد إلا بإذن الله، ولا يتكلم أحد في ذلك الموقف إلا إذا كان يقول كلاماً صواباً حقاً بإذن الله جل وعلا، وأما غيرهم فلا يتكلمون في ذلك الموضع الذي يجيء فيه الرب للفصل بين العباد، وإنما لا يتكلمون؛ لأن الله -جل وعلا- يكون في ذلك الموقف قد غضب غضباً لم يغضب مثله قبله ولن يغضب بعده مثله، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال -جل وعلا-: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} يعني: أن يوم القيامة يوم حق لا مرية فيه ولا شك، وهو كذلك يوم حق؛ لأن الله -جل وعلا- يفصل فيه بين عباده بالحق، ويقضي فيه بالحق، ولا تظلم فيه نفس شيئاً؛ وإن كان مثقال حبة من خردل؛ فإن الله -جل وعلا- يأتي بها.
ثم قال -جل وعلا-: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} يعني: مرجعاً وتوبةً إلى الله جل وعلا، وهذه الجملة لمَّا بين الله -جل وعلا- حال الاتقياء وحال الفجار؛ كأنه يقول جل وعلا هذا هو البيان والإيضاح، فمن شاء بعد ذلك منكم فليتخذ إلى ربه مآباً، فمن رجع إلى الله وأناب، واستقام على توحيده وطاعته، فإنه يكون من أهل الجنة، ومن عصى واستنكف واستكبر؛ فإن مصيره إلى النار، فيكون فيها شيء من التهديد كما في قوله -جل وعلا-: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}.
وإلا فالعباد ليسوا مخيرين بشرع الله -جل وعلا- أن يطيعوا الله وأن يعصوه، ولكن بمشيئة الله الكونية من الناس من يطيع الله ومنهم من يعصيه، ولكن مشيئة الله -جل وعلا- الشرعية يريد من عباده شرعاً أن يطيعوه، وإلا لم يرسل الرسل، ولم ينزل الكتب، ولم يجعل الجنة والنار؛ ولكنه يريد منهم أن يطيعوه، وقد بين لهم -جل وعلا- سبيل الحق والهدى فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}.
ومن اتخذ إلى الله -جل وعلا- سبيلا فإنه يكون من أهل الجنة، ومن لم يتخذ سبيلاً يعني: تقرباً إلى الله -جل وعلا- فهو من أهل النار، وهذا كما قال الله -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً}.
-وقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
-وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ}.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} يعني: أنذرناكم عذاباً قريباً في يوم القيامة؛ لأن يوم القيامة قريب؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) وقرن بين أصبيعه دلالةً على قربها، والله -جل وعلا- قد بين في مواضع كثيرة أن الساعة قريبة، وجزاء الله -جل وعلا- يكون بقيام الساعة:
- كما قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}.
-{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}.
-{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}.
-وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً}.
إلى غيرها من الآيات، فيوم القيامة قريب والجزاء فيه يكون قريباً.
ثم قال -جل وعلا-: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} يعني: أن المرء يوم القيامة ينظر ماقدمت يداه إن خيراً فبفضل الله، وإن كان سوى ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه، وهذا دلالة على أن الناس يوم القيامة سيفترقون إلى فريقين؛ كما قسمهم الله -جل وعلا- في هذه السورة: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلْطَّاغِينَ مَآباً}.
وفي قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} ينقسمون إلى قسمين:
- فريق إلى الجنة.
- وفريق إلى النار.
كما قال -جل وعلا-: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} وهذه الآية مثلها مثل قوله -جل وعلا-: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}.
وقال الله -جل وعلا- عن أهل النار: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}، فيوم القيامة ينظر ويعاين العبد ما قدمت يداه ويجزى على ذلك.
ثم بعد ذلك بين الله -جل وعلا- حال الكافرإذا قضى الله -جل وعلا- عليه بالنار: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} لأنه إذا عاين العذاب بأم عينه يتمنى في تلك الساعة أن يكون تراباً لا يحاسب ولايعاقب، يعني: أنه يكون تراباً ما خلق أبداً، أو أنه يكون كالبهائم التي يقتص من بعضها لبعض، ثم يقول الله -جل وعلا- لها: كوني تراباً، فتكون تراباً.
وعلى كلٍ هو يتمنى أن يكون في تلك الساعة تراباً لا يحاسب ولا يعاقب، وفي الآية الأخرى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً}
فهذه الآيات التي بين الله -جل وعلا- فيها عرض العباد على الله، ومصير أهل تقواه ومصير أهل معصيته، هذه أولاً ينبغي للمسلم أن يعلم أن الله -جل وعلا- ذكرها في هذا تذكيراً لنا وعبرةً وعظةً، ولم يذكرها -جل وعلا- مجرد خبر، وإنما ذكرها -جل وعلا- ليقول لنا: افعلوا ما يوجب دخولكم الجنة، واتقوا ما يوجب دخولكم النار، ولهذا أمرنا الله -جل وعلا- في آيات كثيرة بتقواه:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.
ثم إن أحوال القيامة التي ذكرها الله -جل وعلا- في كتابه هذه ليست أخباراً تقال، أو أحداثاً تقع على غيرنا، وإنما نحن يوم القيامة سيبعثنا الله -جل وعلا- وسنشاهد هذه الأحوال يوم القيامة، وإذا كنا قد خاطبنا لله -جل وعلا- بذلك فعلينا أن نستعد لما أمامنا بالعمل الصالح الذي يرضي ربنا جل وعلا، وهو عمل ميسورٌ مسهولٌ على من يسره الله -جل وعلا- عليه، فعلينا أن ننتفع بمثل هذه الآيات وبهذه المواعظ، فلا موعظة أحسن من مواعظ الله جل وعلا، ولاتذكير أعظم من تذكير الله -جل وعلا- لخلقه.
فإذا تذكرنا الجنة والنار، وتذكرنا وقوفنا بين يدي الله -جل وعلا- وأيقنا أننا مخاطبون بهذه الآيات، وأن المخاطب ليس المراد به غيرنا فحسب، وإنما نحن مخاطبون بذلك فعلينا أن نستعد لذلك.
ودليل تصديقنا لهذه الأخبارأن نعمل لما أمامنا من الفزع والنشور والأهوال يوم القيامة، وما أعده الله -جل وعلا- لعباده الطائعين، وما أعده لعباده العاصين، نعمل ذلك لنكون مصدقين بهذه الأخبار حق التصديق، ولينفعنا الله -جل وعلا- بهذه الذكرى التي ذكرنا بها.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.