اكتب رسالة بأسلوب التقرير العلمي في تفسير واحدة من الآيات التالية:
2. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا) اختلف العلماء في الأمر بالإنفاق على قولين:
1. أنه للوجوب، فتكون الآية في الزكاة الواجبة، وهو قول نقله ابن عطية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعبيدة السلماني، ومحمد بن سيرين.
وسبب قولهم بأن الأمر للوجوب لأن المتطوع كما أن له أن يتصدق بالقليل، فكذلك له أن يتصدق بالنازل القدر.
2. أنه الأمر يحمل على الندب لا على الوجوب، فتكون الآية في صدقة التطوع، فلا يتصدق المرء إلا بالجيد المختار على الندب، وذلك لما ورد من سبب نزول في هذه الآية، ففي حديث البراء بن عازب أنه قال عن هذه الآية: (نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل، أخرجت من حيطانها أقناء البسر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف، فيدخله مع أقناء البسر، يظن أن ذلك جائز، فأنزل الله فيمن فعل ذلك: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون..)، وهذا القول هو ظاهر قول البراء بن عازب، والحسن بن أبي الحسن، وقتادة نقله عنهم ابن عطية، وذكره ابن كثير.
وقد جمع ابن عطية بين القولين بجمع جيد، ولم يرجح أحدهما على الآخر، فقال بأن الآية تحتمل المعنيين، فصاحب الزكاة تكون له وجه على الوجوب، أما صاحب صدقة التطوع تكون له على وجه الندب.
أما الزجاج فقد ذكر أنه كان قوم أتوا برديء الثمار ، ولم يحدد هل كانت صدقة تطوع أم زكاة، ولعل أراد بذلك الحديث الذي أورداه في سبب النزول في التطوع، ثم أورد ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر السعاة ألا يخرص الجعرور ومعي الفارة، فلما ذكر هنا أمر السعاة والخرص الذي لا يكون إلا في الزكاة كأنه أشار إلى قول من قال بأن الآية للوجوب، ولم يصرح بشيء، فلعله ممن يرى بأن الآية تعم الأمرين معاً كابن عطية، والله أعلم.
وفي المراد من قوله تعالى: (من طيبات ما كسبتم) ثلاثة أقوال:
1. من جيد ما كسبتموه، وهو قول الجمهور، وقد ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير ورجحه، وفي المقابل يكون المراد من الخبيث في قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث) أي: الرديء والرذل.
2. من حلال ما كسبتم، وهو قول ابن زيد نقله عنه ابن عطية، وذكره ابن كثير، واستشهد له بالحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، .... ولا يكسب عبدٌ مالًا من حرامٍ فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلّا كان زاده إلى النّار، إنّ اللّه لا يمحو السّيّئ بالسّيّئ، ولكن يمحو السّيّئ بالحسن، إنّ الخبيث لا يمحو الخبيث).
وقد علق ابن عطية على قول ابن زيد بأنه ليس بالقوي لأنه لا يناسب نسق الآيات، والمعنى في نفسه سليم، وفي المقابل يكون المراد بالخبيث الحرام.
3. أن الطيب هنا ذكر تبيناً لصفة حسنة في المكسوب وتعديداً للنعمة، فهو حض على الإنفاق دخل عليه ذكر أنه طيب من هذا الباب، فليس المراد الجيد أو الحلال أحدهما دون الآخر، بل هو يعمهما جميعاً، وهذا القول ذكره ابن عطية على وجه الاحتمال، وأيده بقول عبد الله بن مغفل: ليس في مال المؤمن خبيث.
والمراد بــــ(ما كسبتم) أي: ما بذلتم فيه جهد وكانت لكم فيه سعاية، من تجارة وزراعة وغيرها من الأعمال، وذكر ما منّ به عليهم من الأرض: (ومما أخرجنا لكم من الأرض) من ثمار وزروع وركاز ومعدن وما شابه ذلك.
ثم قال تعالى: (ولا تيمموا الخبيث) أي: لا تقصدوا تعمدوا إلى الخبيث، وقد سميّ التيمم بذلك لأنه يقصد بدل الوضوء، وقد وردت قراءات أخرى في اللفظة لها نفس المعنى، كقراءة ابن مسعود التي ذكرها الطبري: (ولا تؤموا الخبيث) من أممت الشيء إذا قصدته، وقراءة الزهري ومسلم بن جندب: (ولاتُيمِّموا) وهي على لغة من قال يممت الشيء إذا قصدته، فجميع القراءات لها معنى القصد وقد ذكرها ابن عطية.
وفي موضع انتهاء الكلام وتمامه في قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) خلاف على قولين:
1. أنه تم عند قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث) وما بعده جملة جديدة وخبراً جديداً يصف الخبيث، فيكون المعنى تنفقون منه وأنتم لا تأخذونه إلا إذا تساهلتم فيه، فالضمير منه عائد على الخبيث، وفي هذا عتاب وتقريع للناس.
2. أنه متصل وتم عند (فيه)، ويكون عائد الضمير في منه يعود على ما كسبتم، وتنفقون وصف لحالهم، فهي في موضع نصب على الحال.
وهذان القولان ذكرهما الجرجاني في نظم القرآن وقد نقلهما عنه ابن عطية وعلق عليهما.
أما في المراد من قوله تعالى: (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) كذلك هناك خلاف بين العلماء:
1. لستم بآخذيه في حقوقكم وديونكم عند الناس إلا أن تساهلوا فيه وتتركوا من حقوقكم مه كرهكم له وعدم رضاكم، وهذا قول البراء وابن عباس والضحاك وغيرهم، ذكره ابن عطية وابن كثير، فكما لا يرضى الإنسان النقصان في حقوقه، فكذلك يجب ألا يرضى أن يفعل ذلك في حق الله، قال تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)
2. لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع إلا ان يهضم لكم من ثمنه، وهذا القول روي عن علي رضي الله عنه، وقال به الحسن بن أبي الحسن، نقله عنهم ابن عطية، وذكره الزجاج.
وهذان القولان أقرب إلى القول بأن الآية في الزكاة الواجبة.
3. ولستم بآخذيه لو أهدي إليكم إلا أن تستحيوا من المهدوي أن تقبل منه ما لا حاجة لك فيه ولا قدر له في نفسك، وهذا قول آخر للبراء بن عازب، نقله عنه ابن عطية، وقال بأنه أقرب إلى القول بأن الآية في التطوع.
4. وليتم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه، وهو قول ابن زيد، نقله عنه ابن عطية.
وفي قوله تعالى: (تغمضوا) عدة قراءات ذكرها ابن عطية، وأعادها من حيث المعنى إلى ثلاث معاني في اللغة:
المعنى الأول: التساهل والتجاوز، كقولهم أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز.
المعنى الثاني: مأخوذة من تغميض العينين، فالذي يصبر على أمر مكروه يغمض عينيه، وهذا المعنى ذكره النقاش وأشار إليه مكي في هذه الآية.
المعنى الثالث: مأخوذة من قول العرب أغمض الرجل إذا أتى أمراً غامضاً، كما نقول أنجد إذا أتى نجداً.
وبعد ذكر المعاني اللغوية التي تحتملها اللفظة، نبين ما تحتمله كل قراءة من معاني:
1. تُغْمِضوا، وهي قراءة الجمهور، تحتمل معنى التجاوز، وتغميض العين، وكذلك على معنى حتى تأتوا غامضاً من التأويل، ونظرهم في أخذه إما لأنه حرام على قول زيد، أو لأنه مهدياً أو مأخوذاً على قول غيره، فقراءة الجمهور تحتمل الثلاثة معاني.
2. تَغْمِضوا، وهي قراءة الزهري، من الهضم والإنقاص، أي: تأخذوها بنقصان.
3. تُغَمِّضوا، وهي كذلك قراءة رويت عن الزهري، وتحتمل المعنى الذكور في قراءته الأولى، وتحتمل كذلك أن تكون من تغميض العين.
4. تَغمَّضوا، وهي قراءة حكاها مكي عن الحسن البصري.
5. تُغْمَضوا، وهي قراءة قتادة، أي: يغمض لكم كما قال أبو عمرو.
وختم سبحانه وتعالى الآية بذكر صفتين من صفاته فقال: (واعلموا أن الله غني حميد) فنبه على غناه وعدم حاجته للصدقة ولأي شيء، فهو لم يأمرنا بالصدقة لعوز أو حاجة، بل لاختبارنا وليساوي الغني بالفقير، وكذلك هو سبحانه وتعالى غني واسع الفضل، فمن تصدق وأعطى غيره سيعوضه الله بخير من ذلك، ويضاعف له الأجور، (حميد): أي: المحمود على غناه وعلى جميع نعمه، ومحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره وفي كل حال، سبحانه وتعالى.