2: قوله تعالى: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
رسالة بالأسلوب العلمي في تفسير الآية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ".
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله يدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، ثم أما بعد،
فإن الآية الكريمة التي بين أيدينا وردت في سورة البقرة المدنية، السورة الثانية من ترتيب المصحف الشريف بعد الفاتحة أعظم سور القرآن، فهي سنام القرآن، حيث روى عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة) [1].
فمما سبق يعلم العبد عظيم شرف السورة وحاجته الماسة لتدبر معانيها والعمل بها فيما يصلح أمور دينه ودنياه.
ومما ذكره بعض أهل العلم في مقصدها: أن معاني آياتها إجمالا تدور حول الاستسلام لله تعالى والخضوع لأوامره امتثالا، ولنواهيه اجتنابا، وهذا يلاحظ منذ أوائل آياتها إلى آخرها فيما تم ذكره من جميع أركان الإسلام والإيمان، وقصص من أطاع وقصص من عصى، حتى ختامها بقول الصحابة رضوان الله عليهم "سمعنا وأطعنا".
وقد جاءت الآية الكريمة في سياق آيات الإنفاق والحث على الصدقة، وقد ذكر ابن عطية وابن كثير في سبب نزولها:
عنِ البراءِ بنِ عازبٍ ، في قولِهِ سبحانَهُ : "وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ" قالَ : نزلَت في الأنصارِ ، كانتِ الأنصارُ تخرجُ إذا كانَ جُدادُ النَّخلِ من حيطانِها أقناءَ البُسرِ ، فيعلِّقونَهُ على حَبلٍ بينَ أسطوانتينِ في مسجدِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ ، فيأكلُ منهُ فقراءُ المُهاجرينَ ، فيعمَدُ أحدُهُم فيُدخلُ قنوًا فيهِ الحشَفُ ، يظنُّ أنَّهُ جائزٌ في كثرةِ ما يوضَعُ منَ الأقناءِ ، فنزلَ فيمن فعلَ ذلِكَ : "وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ" يقولُ : لا تعمَدوا للحشفِ منهُ تنفقونَ ، "وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ" يقولُ : لو أُهْديَ لَكُم ما قَبِلْتُموهُ إلَّا على استحياءٍ من صاحبِهِ ، غَيظًا أنَّهُ بعثَ إليكم ما لم يَكُن لَكُم فيهِ حاجةٌ ، واعلَموا أنَّ اللَّهَ غَنيٌّ عن صدقاتِكُم. [2]
فمن سبب النزول نعلم أن المخاطب في الآية هم المؤمنون أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا واضح جلي في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا". وكما ذكر أحمد شاكر في عمدة التفسير: (أنَّ رجلًا أتى عبدَ اللَّهِ بنَ مسعودٍ فقالَ: اعهَد إليَّ. فقالَ: إذا سمِعتَ اللَّهَ يقولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعِها سمعَكَ، فإنَّهُ خيرٌ يأمرُ بِهِ أو شرٌّ ينهَى عنهُ). وهذا من ألصق المعاني بالاستسلام والانقياد. فنداء الله عباده بمسمى الإيمان لهو من أشرف الأسماء وأدعاها للانقياد، فلا يعقل أن تمر على تالي الآية أو سامعها مرور الكرام، بل يجب التنبه إلى أهمية الأمر بعدها.
وإن الأمر الذي أمر تعالى عباده به بعد ندائهم هو قوله: "أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، وهو الإنفاق من طيب الكسب.
ولنفصل قليلا في تفسير الآية، فمنها يتعلم المرء المعنى ومن ثم التدبر فالعمل.
• المراد بالنفقة المأمور بها هنا
فللمفسرين عدة أقوال فيها، يمكن اختصارها إلى قولين، هما:
القول الأول: الزكاة المفروضة، فيكون الأمر على الوجوب. قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين. وذكره ابن عطية.
قال ابن عطية: نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد.
القول الثاني: أنها صدقة التطوع، فيكون الأمر فيها للندب. قاله ابن عباس و البراء بن عازب والحسن بن أبي الحسن وقتادة، وذكره ابن عطية وابن كثير.
قال ابن عطية: أما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم زائف خير من تمرة.
والتوجيه:
قال ابن عطية: والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب، وهؤلاء كلهم وجمهور المتأولين قالوا معنى من طيّبات من جيد ومختار ما كسبتم، وجعلوا الخبيث بمعنى الرديء والرذالة.
• معنى "من طيبات ما كسبتم"
جاء في معنى "طيبات" ثلاثة أقوال لأهل العلم، هي:
القول الأول: من جيّد ما كسبتموه من تجارة، ومن ورق وعين، وكذلك من جيّد الثمار، فقد كان قوم أتوا في الصدقة برديء الثمار، فلا تقصدوا إلى رديء المال، والثمار فتتصدقوا به. هو حاصل ما ذكره الزجاج وابن عطية ورجحه ابن كثير.
قال ابن عطية: من جيد ومختار ما كسبتم.
قال ابن كثير: ما رزقهم من الأموال الّتي اكتسبوها.
قال مجاهدٌ: «يعني التّجارة بتيسيره إيّاها لهم». ذكره ابن كثير.
وقال عليٌّ والسّدّيّ: يعني: الذّهب والفضّة، ومن الثّمار والزّروع الّتي أنبتها لهم من الأرض». ذكره ابن كثير.
قال ابن عبّاسٍ: «أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التّصدّق برذالة المال ودنيه -وهو خبيثه -فإنّ اللّه طيب لا يقبل إلّا طيّبًا. ذكره ابن كثير.
الأدلة والشواهد:
- يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر السعاة إلا يخرص الجعرور ومعى الفارة وذلك أنها من رديء النخل، فأمر ألا تخرص عليهم لئلا يعتلوا به في الصدقة. ذكره الزجاج.
- وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا يحيى بن المغيرة، حدّثنا جريرٌ، عن عطاء بن السّائب، عن عبد اللّه بن معقل في هذه الآية: "ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون" قال: «كسب المسلم لا يكون خبيثًا، ولكن لا يصّدّق بالحشف، والدّرهم الزّيف، وما لا خير فيه». ذكره ابن كثير.
- وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو سعيدٍ، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن حمّادٍ -هو ابن أبي سليمان -عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: «أتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بضبٍّ فلم يأكله ولم ينه عنه. قلت: يا رسول اللّه، نطعمه المساكين؟ قال: «لا تطعموهم ممّا لا تأكلون». ثمّ رواه عن عفّان عن حمّاد بن سلمة، به. فقلت: يا رسول اللّه، ألّا أطعمه المساكين؟ قال: «لا تطعموهم ما لا تأكلون».ذكره ابن كثير
القول الثاني: من حلال ما كسبتم، ولا تقصدوا الحرام. قاله ابن زيد وذكره ابن عطية وابن كثير.
الأدلة والشواهد:
- الحديث الّذي رواه الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن عبيدٍ، حدّثنا أبان بن إسحاق، عن الصّبّاح بن محمّدٍ، عن مرّة الهمداني، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإنّ اللّه يعطي الدّنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدّين إلّا لمن أحبّ، فمن أعطاه اللّه الدّين فقد أحبّه، والّذي نفسي بيده، لا يسلم عبدٌّ حتّى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتّى يأمن جاره بوائقه». قالوا: وما بوائقه يا نبيّ اللّه؟. قال: «غشمه وظلمه، ولا يكسب عبدٌ مالًا من حرامٍ فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلّا كان زاده إلى النّار، إنّ اللّه لا يمحو السّيّئ بالسّيّئ، ولكن يمحو السّيّئ بالحسن، إنّ الخبيث لا يمحو الخبيث». ذكره ابن كثير.
القول الثالث: حض على الإنفاق فقط، فلا يقصد به لا الجيد ولا الحلال. ثم دخل ذكر الطيب تبيينا لصفة حسنة في المكسوب عاما وتعديدا للنعمة كما تقول: أطعمت فلانا من مشبع الخبز وسقيته من مروي الماء، والطيب على هذا الوجه يعم الجودة والحل. ذكره ابن عطية.
الأدلة والشواهد:
ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال: ليس في مال المؤمن خبيث. ذكره ابن عطية.
التوجيه:
ضعف ابن عطية قول ابن زيد، قائلا: وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية لا من معناه في نفسه.
ورجح ابن كير القول الأول.
• معنى "مما كسبتم"
ذكر ابن عطية أنه ما لكم فيه سعاية: إما بتعب بدن، أو مقاولة في تجارة، ويدخل فيه الموروث، لأن غير الوارث قد كسبه، إذ الضمير في كسبتم إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين.
• مرجع الضمير في "كسبتم"
لأهل العلم قولان في ذلك، هما:
القول الأول: لنوع الإنسان. ذكره ابن عطية.
القول الثاني: للمؤمنين. ذكره ابن عطية وابن كثير.
ومما دل عليه طبيعة حياة العبد مؤمنا كان أم كافرا أن وصفه: حارث همام، مأمور بالكسب، وهو وصف أعم وأشمل.
• معنى "ومما أخرجنا لكم من الأرض"
أي: مما أخرجنا لكم من الأرض من النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك. ذكره ابن عطية.
• معنى "تيمموا"
تعمدوا وتقصدوا. هو حاصل ما ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
يقال تيمم الرجل كذا وكذا إذا قصده، ومنه التيمم الذي هو البدل من الوضوء عند عدم الماء. ذكره ابن عطية.
الأدلة والشواهد:
- ومنه قول امرئ القيس:
تيمّمت العين التي عند ضارج ....... يفيء عليها الظّلّ عرمضها طام ذكره ابن عطية.
- ومنه قول الأعشى:
تيمّمت قيسا وكم دونه ....... من الأرض من مهمه ذي شزن ذكره ابن عطية.
• الوقف والابتداء في "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"
جاء لأهل العلم قولان، هما:
القول الأول: الكلام متصل إلى قوله "فيه". قاله الجرجاني وذكره ابن عطية.
وعلى هذا القول، فالضمير في "منه" عائد على "ما كسبتم"، ويجيء تنفقون كأنه في موضع نصب على الحال، وهو كقوله: أنا أخرج أجاهد في سبيل الله. ذكره ابن عطية.
القول الثاني: إن الكلام تم في قوله: الخبيث ثم ابتدأ خبرا آخر في وصف الخبيث فقال: تنفقون منه وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي ساهلتم». قاله فريق من الناس وذكره ابن عطية.
قال ابن عطية: كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع.
على هذا القول: يعود الضمير في "منه" على الخبيث. ذكره ابن عطية.
• معنى "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"
جاء لأهل العلم عدة أقوال في معناها، جعلها ابن عطية متعلقة بالمراد بالنفقة هنا:
** فمن قال بأن النفقة هنا هي الزكاة الواجبة، ذكر قولان في معناها، هما:
القول الأول: لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع، إلا أن يهضم لكم من ثمنه. قاله الحسن بن أبي الحسن، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. هو حاصل ما ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
قال الزجاج: أنتم لا تأخذون الخبيث منه إلا بوكس، فكيف تعطونه في الصدقة، وأنتم (تعلمون أنكم) لا تأخذونه إلا بالإغماض فيه.
قال ابن كثير: لو أعطيتموه ما أخذتموه، إلّا أن تتغاضوا فيه.
القول الثاني: ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا بأن تساهلوا في ذلك، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه، أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم. قاله البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وغيرهم، وذكره ابن عطية.
روى ابن جرير عن البراء قوله: لو كان لرجلٍ على رجلٍ، فأعطاه ذلك لم يأخذه؛ إلّا أن يرى أنّه قد نقصه من حقّه». ذكره ابن كثير.
قال ابن عباس: لو كان لكم على أحدٍ حقٌّ، فجاءكم بحقٍّ دون حقّكم لم تأخذوه بحساب الجيّد حتّى تنقصوه، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقّي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه!!» رواه ابن أبي حاتمٍ، وابن جريرٍ، وذكره ابن كثير.
الأدلة والشواهد:
قال تعالى: "لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون"، ثمّ روى من طريق العوفيّ وغيره، عن ابن عبّاسٍ نحو ذلك، وكذا ذكر غير واحدٍ. ذكره ابن كثير.
** ومن قال بأن النفقة هي صدقة التطوع، فالمعنى:
ولستم بآخذيه لو أهدي إليكم إلّا أن تغمضوا أي تستحيي من المهدوي أن تقبل منه ما لا حاجة لك فيه، ولا قدر له في نفسه». قاله البراء بن عازب وذكره ابن عطية.
** وأما على قول ابن زيد، فالمعنى:
ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه. قاله ابن زيد وذكره ابن عطية.
• معنى "إلا تغمضوا فيه"
بحسب القراءة:
القراءة الأولى: وقرأ جمهور الناس «إلا أن تغمضوا» بضم التاء وسكون الغين وكسر الميم. ذكره ابن عطية.
القراءة الثانية: وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففا. ذكره ابن عطية.
قال ابن عطية: فمعناها تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم.
القراءة الثالثة: وروي عن الزهري أيضا «تغمّضوا» بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة. ذكره ابن عطية.
قال ابن عطية: فهذا مذهب أبي عمرو الداني فيها». ويحتمل أن تكون من تغميض العين.
قال أبو عمرو:«معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان». ذكره ابن عطية.
القراءة الرابعة: وحكى مكي عن الحسن البصري «تغمّضوا» مشددة الميم مفتوحة وبفتح التاء. ذكره ابن عطية.
القراءة الخامسة: وقرأ قتادة بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففا. ذكره ابن عطية.
قال أبو عمرو: «معناه إلا أن يغمض لكم. ذكره ابن عطية.
وقال ابن جني: «معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس، وهذا كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا إلى غير ذلك من الأمثلة» ذكره ابن عطية.
قال ابن عطية: هذه اللفظة "تغمضوا" تنتزع إما:
** من قول العرب أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز.
الأدلة والشواهد:
- فمن ذلك قول الطرماح بن حكيم: لم يفتنا بالوتر قوم وللضـ ....... ـيم أناس يرضون بالإغماض ذكره ابن عطية.
** وإما أن تنتزع من تغميض العين لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عنه عينيه.
الأدلة والشواهد:
- ومنه قول الشاعر: إلى كم وكم أشياء منكم تريبني ....... أغمض عنها لست عنها بذي عمى ذكره ابن عطية.
وهذا كالإغضاء عند المكروه، وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية وأشار إليه مكي.
** وإما من قول العرب أغمض الرجل إذا أتى غامضا من الأمر.
الأدلة والشواهد:
- كما تقول: أعمن إذا أتى عمان، وأعرق إذا أتى العراق، وأنجد، وأغور، إذا أتى نجدا والغور الذي هو تهامة، ومنه قول الجارية: وإن دسر أغمض فقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى تغميض العين لأن أغمض بمنزلة غمض وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك: إما لكونه حراما على قول ابن زيد، وإما لكونه مهديا أو مأخوذا في دين على قول غيره.
• معنى "غني"
يقال قد غني زيد يغنى غنى - مقصور - إذا استغنى، وقد وقد غني القوم إذا نزلوا في مكان يقيهم، والمكان الذي ينزلون فيه مغنى، وقد غنّى فلان غناء إذا بالغ في التطريب في الإنشاد حتى يستغنى الشعر أن يزاد في نغمته، وقد غنيت المرأة غنيانا. ذكره الزجاج.
الأدلة والشواهد:
- قال قيس بن الخطيم:
أجدّ بعمرة غنيانها... فتهجر أم شأننا شأنها غنيانها: غناها.
والغواني: النساء، قيل إنهن سمين غواني لأنهن غنين بجمالهن. وقيل بأزواجهن. ذكره الزجاج.
• مناسبة ختم الآية ب "واعلموا أن الله غني حميد"
لم يأمركم بأن تتصدقوا من عوز، ولا لحاجة به إلى صدقاتكم، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر، فالله أمركم بالصدقة وبالطيب منها وهو غني عنها وعنكم وعن جميع خلقه، فكلهم فقير إليه، وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه، فمن تصدّق بصدقةٍ من كسبٍ طيّبٍ، فليعلم أنّ اللّه غنيٌّ واسع العطاء، كريمٌ جوادٌ، سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرةً من يقرض غير عديمٍ ولا ظلومٍ، ولكنه لاختباركم، فهو حميد على ذلك وعلى جميع نعمه، محمود في كل حال، في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إله إلّا هو، ولا ربّ سواه. هو حاصل ما ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
فاللهم اجعلنا من المستسلمين المنقادين لله تعالى، العاملين بأوامره، المجتنبين لنواهيه، الكاسبين للحلال، المجنبين للحرام، الطيبي الكسب والنفقة، المنفقين في سبيله تعالى، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا مباركا طيبا إلى يوم الدين.
[1] السلسلة الصحيحة (588)، حسنه الألباني.
[2] صحيح ابن ماجه (1487)، صححه الألباني.