المجموعةالأولى:
1: فسّرقول اللهتعالى:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِيالسَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُوَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْرَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} البقرة.
لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمره الله سبحانه وتعالى أن يصلى قبل بيت المقدس ، وذلك لحكمة علمها الله سبحانه ولكون المدينة كان أكثر أهلها من اليهود ، فاستقبل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القبلة قرابة ستة أو سبعة أشهر ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يستقبل الكعبة لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام و قبلة الأنبياء من قبله ولأنها كانت عنده أدعى لإيمان قومه فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء، فاطلع سبحانه وتعالى على ما في قلب نبيه وخاطبه في سياق هذه الآيات:
قَدْ نَرَى يا محمد تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِيالسَّمَاءِ والمعنى تقلب بصرك في السماء ، وإنما ذكر الوجه لأنه أعم وأشرف وهو المستعمل في طلب الرغائب ، والوجه يتقلب بتقلب البصر ، وقد اختص بذكر التقلب نحو السماء لما عُلم عنها من أنها جهه توالى النعم ونزول الرغائب فَلَنُوَلِّيَنَّكَ يا محمد قِبْلَةً وهي قبلة الكعبة، وكان أول ما نسخ من القرآن القبلة ، و جاء الأمر بالتحول من بيت المقدس إلى الكعبة في صلاة العصرعلى أصح الأقوال ، وكانت صلاة صلاة العصر أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة ، تَرْضَاهَا أي: تحبها ، وقد رويت ثلاثة وجوه لحب صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى الكعبة، منها: لقول اليهود ما علم محمد دينه حتى اتبعنا ، وليصيب قبله إبراهيم عليه السلام ، ومنها: ليستألف العرب لمحبتها في الكعبة فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ: أي نحو أو تلقاءالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وأخرج البخاري ومسلم عن أبي عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام واستدروا إلى الكعبة وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ من نواحي الأرض شرقا أو غربا شمالا أو جنوبا برا أو بحرافَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي: نحو البيت وتلقاءه ، وقد روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المسجد ،والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وهو اليهود والنصارى لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي: استقبال الكعبة هو الْحَقُّ مِنْرَبِّهِمْ لانها قبله الأنبياء من قبلهم وهم يجدونه مكتوبا في كتبهم ولكنهم كعادتهم يتكاتمون ذلك بينهم حسدا وكفرا وعنادا ، لذلك توعدهم سبحانه وتعالى وهددهم وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فيجازيهم به في الدنيا والآخرة.
2: حرّر القول في كلمن:
أ: المراد بالقبلة في قوله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم منيتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}.
الأقوال التي جاء في المراد بالقبلة:
القول الأول: هي بيت المقدس ، وهو قول قتادة والسدي وعطاء وغيرهم ، ويكون المعنى لم نجعلها حين أمرناك بها أولا إلا فتنة لنعلم من يتبعك من العرب الذين إنما يألفون الكعبة أو اليهود الذين يتبعونها وفقا لهواهم وليس اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم وذكره الزجاج ابن عطية وابن كثير.
القول الثاني:هي الكعبة في هذه الآية ، وقوله:{وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} كنت بمعنى أنت ،والمعنى :ما جعلنا هذه القبلة وصرفناك إليها إلا فتنة ، وهو قول ابن عباس، ذكره ابن عطيه.
والراجح هو القول الأول لأن هذه الآيات نزلت بعد الأمر بالتوجه إلى بيت الكعبة فيكون المراد هو بيت المقدس كما أنه أتت أحاديث كثيرة في الصحيحين في ذلك منها ما رواه البخاري عن البراء :أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلّى إلى بيت المقدسستّة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنّه صلّىأوّل صلاةٍ صلاها، صلاة العصر، وصلّى معه قومٌ. فخرج رجلٌ ممّن كان صلّى معه، فمرّعلى أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد باللّه لقد صليت مع النّبيّ صلّى اللّه عليهوسلّم قبل مكّة، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّلقبل البيت رجالًا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ{وما كان اللّه ليضيع إيمانكم إنّ اللّه بالنّاس لرءوفٌرحيمٌ}, انفرد به البخاريّ منهذا الوجه. ورواه مسلمٌ من وجهٍ آخر.
ب: هل كانت الصلاة إلى بيت المقدس بوحيمتلوّ؟
اختلف على العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه بوحي متلو ، فأول ما نسخ من القرآن القبلة ، وهو قول ابن عباس نقله ابن فورك وذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير. وجاء قول الربيع: خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في النواحي فاختار بيت المقدس ليستألف بها أهل الكتاب. وقد جاء في الصحيحين قول عليّ بن أبي طلحة، عن ابنعبّاسٍ: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لمّا هاجرإلى المدينة، أمره اللّه أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول اللّهصلّى اللّه عليه وسلّم بضعة عشر شهرًا، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحبقبلة إبراهيم، فكان يدعو اللّه وينظر إلى السّماء، فأنزل اللّه عزّوجلّ{فولّوا وجوهكم شطره}أي: نحوه. فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولّاهم عن قبلتهم التيكانوا عليها؟ فأنزل اللّه:{قل للّه المشرق والمغربيهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ. كما جاء عن ابن عمر أنه قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. ذكره ابن عطية وابن كثير. وهذا هو القول الراجح لورود أحاديث كثيرة في هذا الباب وهو قول الجمهور.
القول الثاني: أنه بوحي غير متلو ، أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه الصلاة والسلام وأنه كان ذلك ليختبر الله تعالى من آمن من العرب لأنهم كانا يألفون الكعبة وينافرون بيت المقدس ذكره ابن عطية وابن كثير.
3: بيّن ما يلي:
أ: متعلّق "كما" في قولهتعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا} الآية.
ذكر ل"كما" متعلقين: الأول: أن كما هي جواب للآية السابقة في قوله تعالى:{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْوَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، فتكون النعمة وتمام الهداية بإرسال الرسول منهم.
والثاني: أن كما متعلقة بقوله تعالى:{فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} ، ويكون المعنى أي اذكروني بالشكر والإخلاص كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
ب: كيف كان تحويلالصلاة إلى الكعبة دليلا على عناية الله بهذه الأمة.
تحويل الصلاة إلى الكعبة من دلائل عناية الله بهذه الأمة ، فقد وجههم سبحانه وتعالى لوجهه أمام الأمم جميعا إبراهيم عليه السلام الذي بناها على التوحيد ، ووجههم للقبلة التي ألفتها نفوسهم بالحج إليها ، كما أنه سبحانه تبينت عنايته بهذه الأمة بتوفيقهم لامتثال أمره وطاعته حين اختبرهم بما لم يكن يألفوه من توجههم لبيت المقدس ، بخلاف اليهود الذين ضلوا عن الطريق. وقد جاء عن عائشةرضي الله عنها قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -يعني فيأهل الكتاب -: «إنّهم لا يحسدوننا على شيءٍ كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا اللّه لهاوضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلّوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين.رواه الإمام أحمد
ج: مناسبة قوله تعالى: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع} لماقبله.
بيّن الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِاللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} فضل الشهداء ومنزلتهم عند ربهم حتى يقوّي الصبر في نفوس من فقدوهم ويخفف عنهم المصيبة ، ثم أتت هذه الآية{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَالْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِوَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}لبيان الأمور التي لا تتلقى إلا بالصبر ومنها {نقص الأنفس} وهو موت الأحبة والأصحاب والأقارب، فمن صبر بُشر بعظيم الأجر.