دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > مجموعة المتابعة الذاتية > منتدى المستوى السابع (المجموعة الثانية)

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #3  
قديم 17 جمادى الآخرة 1442هـ/30-01-2021م, 10:39 PM
محمد العبد اللطيف محمد العبد اللطيف غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Nov 2017
المشاركات: 564
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
مجلس مذاكرة القسم الثاني من "خلاصة تفسير القرآن"


المجموعة الخامسة:
لخّص مسائل الموضوعات التالية وبيّن فوائد دراستها:

1. تفسير آيات الحدود.

تلخيص مسائل آيات الحدود من من "خلاصة تفسير القرآن" للشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:

المسألة الاولى: بيان فرضية القصاص في القتلى وتعربفه والحكمة منه ودليلله,
يمتن الله على عباده بأنه فرض عليهم القصاص في القتلى، أي: المساواة فيه، وأن يقتل القاتل عمدا على الصفة التي قتل عليها المقتول، إقامة للعدل بين العباد قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178]- إلى آخرها والتي بعدها -[البقرة: 178 - 179] .

المسألة الثانية : بيان وجوب التعاون بين المؤمنين في إقامة القصاص.
توجيه الخطاب لعموم المؤمنين فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم حتى أولياء القاتل، حتى القاتل بنفسه، إعانة ولي المقتول إذا طلب القصاص وتمكينه من القاتل، وأنه لا يحل لهم أن يحولوا بينه وبين القاتل إذا تمت الشروط كما يفعله أهل الجاهلية ومن أشبههم من إيواء المحدثين.

المسألة الثالثة: بيان حكم قتل الذكر بالانثى والانثى باللذكر ودليله.
قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] يدخل في منطوقها وفي منطوق قوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] أن الذكر يقتل بالأنثى، كما تقتل الأنثى بالذكرفيكون هذا المنطوق مقدما على مفهوم قوله: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178] مع دلالة صريح السنة الصحيحة قتل النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي بالجارية.

المسألة الرابعة: بيان حكم قتل الوالدين بولدهما ودليله.
خرج من هذا العموم الأبوان وإن علوا فلا يقتلان بالولد لورود السنة بذلك، مع أن في لفظ القصاص ما يدل على أنه ليس من العدل أن يقتل الوالد بولده، ولأن ما في قلب الوالدين من الرحمة المانعة من صدور هذه الجريمة منهما على ولدهما ما يحدث الشبهة، إما أنه لا بد أن في عقلهما اختلالا أو أذية شديدة أحوجته إلى قتل ولده، أو لم يحرر أن القتل عمد محض.

المسألة الخامسة: بيان حكم قتل المسلم بالكافر ودليله وحكمته.
خرج من هذا العموم أن المسلم لا يقتل بالكافر لثبوت السنة بذلك، مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة، وليس أيضا من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه.

المسألة السادسة: بيان حكم قتل العبد ودليله وحكمته.
{وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ذكرا كان أو أنثى تساوت قيمتهما أو اختلفت، ودل مفهومها على أن الحر لا يقتل بالعبد لكونه غير مساو له.

المسألة السابعة: بيان أن الاصل في قتل العمد هووجوب القود وأن الدية بدل عنه.
وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في العمد العدوان، وأن الدية بدل عنه، فلهذا قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] أي: عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية.

المسألة الثامنة: بيان حكم الخيرة بين القود والدية وأنها للولي.
وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي.

المسألة التاسعة: بيان وجوب الاحسان بين الولي والقاتل قي الاقتضاء والاداء.
فإذا عفا عنه وجب على ولي المقتول أن يتبع القاتل بالمعروف من غير أن يشق عليه ولا يحمله ما لا يطيق، بل يحسن الاقتضاء والطلب ولا يحرجه، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان من غير مطل ولا نقص ولا إساءة فعلية أو قولية.

المسألة العاشرة: بيان وجوب الاحسان بين الناس في ثبت قي الذمم.
هذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان: مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف، ومن عليه الحق بالأداء بإحسان كما قال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله عبدا سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى» .

المسألة الحادية عشر: بيان الحث على العفو في القصاص.
في قوله: {عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة: 178] ترقيق وحث على العفو إلى الدية، وأكمل من ذلك العفو مجانا، وفي قوله: {أَخِيهِ} [البقرة: 178]

المسألة الثانية عشر: بيان عدم كفر القاتل العمد .
في قوله: {أَخِيهِ} [البقرة: 178] دليل على أن القاتل عمدا لا يكفر؛ لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإسلام، فلم يخرج بالقتل عنها، ومن باب أولى سائر المعاصي التي هي دون القتل، فإن صاحبها لا يكفر، ولكنه يستحق العقاب، وينقص بذلك إيمانه إن لم يتب.

المسألة الثالثة عشر: بيان عصمة دم القاتل اذا عفا الولي.
إذا عفا أولياء المقتول أو بعضهم احتقن دم القاتل، وصار معصوما منهم ومن غيرهم، فلهذا قال: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} [البقرة: 178] أي: بعد العفو {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] أي: في الآخرة، وأما قتله وعدمه فيؤخذ مما تقدم؛ لأنه قتل مكافئا له فيجب قتله بذلك.

المسألة الرابعة عشر: بيان حكمة مشروعية القصاص.
بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] أي: تنحقن بذلك الدماء، وتنقمع به الأشقياء؛ لأن من عرف أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ لا يكاد يصدر منه قَتْلٌ؛ وإذا رئي القاتل مقتولا انزجر غيره بذلك؛ فلو كان عقوبة القاتل غير القتل لم يحصل من انكفاف الشر ما يحصل بالقتل، وهكذا سائر الحدود الشرعية: فيها من النكاية والانزجار ما يدل على حكمة الحكيم الغفار

المسألة الخامسة عشر: بيان افادة التنكير في قوله "حياة".
ونكر الحياة لإفادة التعظيم.

المسألة السادسة عشر: بيان الحث على تدبر أحكام الله وما فيها من الحكم.
لما كان هذا الحكم لا يعرفه حقيقة المعرفة إلا أهل العقول الكاملة قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] وهذا يدل على أنه يحب من عباده أن يعملوا أفكارهم وعقولهم في تدبير ما في أحكامه من الحكم والمصالح الدالة على كماله، وكمال حكمته وحمده وعدله ورحمته الواسعة، وأن من كان بهذا الوصف فقد استحق الثناء والمدح بأنه من ذوي الألباب، الذين وجه إليهم الخطاب، وكفى بذلك فضلا وشرفا

المسألة السابعة عشر: بيان فضل التقوى .
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] وذلك أن من عرف ربه، وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة أوجب له أن ينقاد لأمر الله، ويخضع لشرعه طاعة لله ولرسوله.

المسألة الثامنة عشر: بيان حد الزاني غير المحصن.
حد الزاني غير المحصن من ذكر أو أنثى يجلد مائة جلدة، جلدات تؤلمه وتزجره ولا تهلكه

المسألة التاسعة عشر: بيان تعيُن ان يكون الجلد علنا يشهده طائفة من المؤمنين وحكمته.
ويتعين أن يكون ذلك علنا لا سرا بحيث يشهده طائفة من المؤمنين لأن إقامة الحدود من الضروريات لقمع أهل الجرائم، واشتهارها هو الذي يحصل به الردع والانزجار وإظهار شعائر الدين، والاستتار به أو على أحد دون أحد فيه مفاسد كثيرة

المسألة العشرون: بيان حكم تغريب الزاني غير المحصن.
ووردت السنة بتغريب عام كامل عن وطنه مع الجلد

المسألة الحادية والعشرون: بيان حكم حد الزاني المحصن.
كما تواترت السنة وأجمع المسلمون على رجم الزاني المحصن، يرجم بالحجارة حتى يموت.

المسألة الثانية والعشرون: بيان المراد بالسارق وحكمه.
السارق هو من أخذ مال غيره المحترم بغير رضاه، وهو من كبائر الذنوب

المسألة الثالثة والعشرون: بيان حد السرقة ودليله.
هو أنه يجب قطع يده اليمنى كما هي قراءة بعض الصحابة.

المسألة الرابعة والعشرون: بيان المراد باليد في حد السرقة.
اليد إذا أطلقت فهي الكف إلى الكوع فقط

المسألة الخامسة والعشرون: بيان وجوب حسم يد السارق المقطوعة.
فإذا قطعت حسمت وجوبا في زيت أو ودك مغلي لتنسد العروق فيقف الدم.

المسألة السادسة والعشرون: بيان بعض قيود حد السرقة.
منها :لا بد أن يكون المسروق نصابا، وهو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما يساوي ذلك.
ومنها: لا بد أن يكون المأخوذ منه حرزا، وحرز كل مال ما يحفظ به عادة، فلو سرق من مال غير محرز فلا قطع عليه، ويؤخذ هذا من لفظ السارق؛ فإنه الذي يأخذ المال على وجه لا يمكن التحرز منه.

المسألة السابعة والعشرون: بيان حكم من عاد الى السرقة بعد إقامة الحد.
فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى، فإن عاد فقيل تقطع يده اليسرى، ثم إن عاد قطعت رجله اليمنى، وقيل: يحبس حتى يموت، وورد في ذلك آثار عن السلف مختلفة.

المسألة الثامنة والعشرون: بيان الحكمة من إقامة حد السرقة.
قوله: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] من التجري على أموال الناس {نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] أي: ترهيبا منه للسراق ليرتدعوا إذا علموا أنهم يقطعون، وهذا نظير قوله في القتل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] أي: عز وحكم، فقطع بحكمته يد السارق؛ تنكيلا للمجرمين، وحفظا للأموال.

المسألة التاسعة والعشرون: بيان حد قطاع الطريق المحاربين.
هذا حد قطاع الطريق المحاربين في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة: 33] فقيل: إن الإمام مخير فيهم بين هذه الأمور، وعليه أن يفعل ما تقتضيه المصلحة، ويحصل به النكاية، وقيل: إن هذه العقوبة مرتبة بحسب الجريمة؛ فإن جمعوا بين القتل وأخذ المال جمع لهم بين القتل والصلب، وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلوا ولم يصلبوا، وإن أخذوا مالا ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا الناس ولم يقتلوا ولا أخذوا مالا نفوا من الأرض، فلا يتركون يأوون إلى بلد، أو يحبسون كما قاله بعضهم).

من فوائد دراسة تفسير ايآت الحدود:

١- معرفة الاحكام المرتبطة بالحدود الشرعية مثل القصاص والزنا والسرقة.
٢- معرفة حسن شريعة الاسلام في مشروعية الحدود وحمايته للفرد والمجتمع.
٣- معرفة فضل التقوى وعلاقتها بالحدود الشرعية.
٤- معرفة الحث على تدبر ايآت الله وما فيها من الحكم .

2. قصة آدم عليه السلام

المسألة الاولى: بيان بدأ الخلق.
لم يزل الله أولا ليس قبله شيء، ولم يزل فعالا لما يريد، ولا خلا وقت من الأوقات من أفعال وأقوال تصدر عن مشيئته وإرادته بحسب ما تقتضيه حكمة الله الذي هو حكيم في كل ما قدره وقضاه، كما هو حكيم في كل ما شرعه لعباده،

المسألة الثانية : بيان بدأ خلق آدم عليه السلام وقول الله للملائكة .
فلما اقتضت الحكمة الشاملة والعلم المحيط من الله والرحمة السابغة خلق آدم أبي البشر الذين فضلهم الله على كثير ممن خلق تفضيلا، أعلم الملائكة وقال:
{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
يخلف من كان قبلهم من المخلوقات التي لا يعلمها إلا هو.
{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]
وهذا منهم تعظيم لربهم وإجلال له عن أنه ربما يخلق مخلوقا يشبه أخلاق المخلوقات الأول، أو أن الله تعالى أخبرهم بخلق آدم، وبما يكون من مجرمي ذريته، قال الله لملائكته:
{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]
فإنه محيط علمه بكل شيء، وبما يترتب على هذا المخلوق من المصالح والمنافع التي لا تعد ولا تحصى.
فعرفهم تعالى بنفسه بكمال علمه، وأنه يجب الاعتراف لله بسعة العلم، والحكمة التي من جملتها أنه لا يخلق شيئا عبثا، ولا لغير حكمة، ثم بين لهم على وجه التفصيل، فخلقه بيده تشريفا له على جميع المخلوقات، وقبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها، وطيبها وخبيثها، ليكون النسل على هذه الطبائع، فكان ترابا أولا، ثم ألقى عليه الماء فصار طينا، ثم لما طالت مدة بقاء الماء على الطين تغير ذلك الطين فصار حمأ مسنونا، طينا أسود، ثم أيبسه بعدما صوره فصار كالفخار الذي له صلصلة. . وفي هذه الأطوار هو جسد بلا روح، فلما تكامل خلق جسده، نفخ فيه الروح فانقلب ذلك الجسد الذي كان جمادا حيوانا له عظام ولحم وأعصاب وعروق وروح هي حقيقة الإنسان، وأعده الله لكل علم وخير، ثم أتم عليه النعمة، فعلمه أسماء الأشياء كلها.
والعلم التام يستدعي الكمال التام، وكمال الأخلاق، فأراد الله أن يري الملائكة كمال هذا المخلوق، فعرض هذه المسميات على الملائكة وقال لهم:
{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31]
في مضمون كلامكم الأول الذي مقتضاه أن ترك خلقه أَوْلَى، هذا بحسب ما بدا لهم في تلك الحال، فعجزت الملائكة عليهم السلام عن معرفة أسماء هذه المسميات، وقالوا:
{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]
قال الله: {يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33]
شاهد الملائكة من كمال هذا المخلوق وعلمه ما لم يكن لهم في حساب، وعرفوا بذلك على وجه التفصيل والمشاهدة كمال حكمة الله، وعظموا آدم غاية التعظيم؛ فأراد الله أن يظهر هذا التعظيم والاحترام لآدم من الملائكة ظاهرا وباطنا، فقال للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34]
احتراما له وتوقيرا وتبجيلا، وعبادة منكم لربكم، وطاعة ومحبة وذلا؛ فبادروا كلهم أجمعون، فسجدوا.

المسألة الثالثة: بيان عنصر ابليس وامتناعه عن السجود وما فيه من الكبر والحسد.
كان إبليس بينهم، وقد وجه إليه الأمر بالسجود معهم، وكان من غير عنصر الملائكة؛ كان من الجن المخلوقين من نار السموم، وكان مبطنا للكفر بالله، والحسد لهذا الإنسان الذي فضله الله هذا التفضيل؛ فحمله كبره وكفره على الامتناع عن السجود لآدم كفرا بالله واستكبارا، ولم يكفه الامتناع حتى باح بالاعتراض على ربه، والقدح في حكمته، فقال:
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]
فقال الله له: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]
فكان هذا الكفر والاستكبار والإباء منه وشدة النفار هو السبب الوحيد أن يكون مطرودا ملعونا، فقال الله له:
{فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13]
فلم يخضع الخبيث لربه، ولم يتب إليه، بل بارزه بالعداوة، وصمم التصميم التام على عداوة آدم وذريته، ووطن نفسه لما علم أنه حتم عليه الشقاء الأبدي أن يدعو الذرية بقوله وفعله وجنوده إلى أن يكونوا من حزبه الذين كتبت لهم دار البوار، فقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36]
فيتفرغ لإعطاء العداوات حقها في آدم وذريته.

المسألة الرابعة: بيان عداوة إبليس لآدم وذريته والحكمة من تسلطه على آدم وذريته.
ولما كانت حكمة الله اقتضت أن يكون الآدمي مركبا من طبائع متباينة، وأخلاق طيبة أو خبيثة، وكان لا بد من تمييز هذه الأخلاق وتصفيتها بتقدير أسبابها من الابتلاء والامتحان الذي من أعظمه تمكين هذا العدو من دعوتهم إلى كل شر، أجابه: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ - إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 37 - 38]
فقال لربه معلنا معصيته، وعداوته آدم وذريته:
{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ - ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17]
قال إبليس هذه المقالة ظنا منه؛ لأنه عرف ما جبل عليه الآدمي.
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]
فمكنه الله من الأمر الذي يريده إبليس في آدم وذريته، فقال الله له:
{اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا - وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ} [الإسراء: 63 - 64]
أي: إن قدرت فاجعلهم منحرفين في تربية أولادهم إلى التربية الضارة، في صرف أموالهم المصارف الضارة، وفي الكسب الضار، وأيضا شارك منهم من إذ تناول طعاما أو شرابا أو نكاحا، ولم يذكر اسم الله على ذلك في الأموال الأولاد، وعدهم أي: مرهم أن يكذبوا بالبعث والجزاء، وأن لا يقدموا على خير، وخوفهم من أوليائك، وخوفهم عند الإنفاق النافع بالفحشاء والبخل، وهذا من الله لحكم عظيمة وأسرار، وإنك أيها العدو المبين لا تبقي من مقدورك في إغوائهم شيئا، فالخبيث منهم يظهر خبثه، ويتضح شره، والله لا يعبأ به، ولا يبالي به.
وأما خواص الذرية من الأنبياء، وأتباعهم من الصديقين والأصفياء، وطبقات الأولياء والمؤمنين فإن الله تعالى لم يجعل لهذا العدو عليهم تسلطا، بل أقام عليهم سورا منيعا، وهو حمايته وكفايته، وزودهم بسلاح لا يمكن لعدوهم مقاومتهم بكمال الإيمان بالله، وقوة توكُّلهم عليه:
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]
ومع ذلك فأعانهم على مقاومة هذا العدو المبين بأمور كثيرة: أنزل عليهم كتبه المحتوية على العلوم النافعة، والمواعظ المؤثرة، والترغيب إلى فعل الخيرات، والترهيب من فعل الشرور، وأرسل إليهم الرسل مبشرين من آمن بالله وأطاعه بالثواب العاجل، ومنذرين من كفر وكذب وتولى بالعقوبات المتنوعة، وضمن لمن اتبع هداه الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وأنه لا خوف عليه، ولا حزن يعتريه؛ وأرشدهم قي كتبه، وعلى ألسنة رسله إلى الأمور التي بها يحتمون من هذا العدو المبين، وبين لهم ما يدعو إليه هذا الشيطان، وطرقه التي يصطاد بها الخليقة.
وكما بينها لهم ووضحها فقد أرشدهم إلى الطرق التي ينجون بها من شره وفتنته، وأعانهم على ذلك إعانة قدرية خارجة عن قدرتهم؛ لأنهم لما بذلوا المجهود، واستعانوا بالمعبود، سهل لهم كل طريق يوصل إلى المقصود.
ثم إن الله تعالى أتم نعمته على آدم، فخلق منه زوجته حواء من جنسه وعلى شكله؛ ليسكن إليها، وتتم المقاصد المتعددة من الزواج والالتئام، وتنبث الذرية بذلك، وقال له ولزوجته: إن الشيطان عدو لكما، فاحذراه غاية الحذر، فلا يخرجنكما من الجنة التي أسكنكما الله إياها، وأباحكما أن تأكلا من جميع ثمارها، وأن تتمتعا بجميع لذاتها إلا شجرة معينة في هذه الجنة، فحرمها عليهما، فقال: {فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19]
وقال الله لآدم في تمتيعه بهذه الجنة: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى - وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118 - 119]

المسألة الخامسة: بيان وقوع آدم وزوجه في الخطيئة وتوبة الله عليهما.
فمكثا في الجنة ما شاء الله على هذا الوصف الذي ذكره الله، وعدوهما يراقبهما ويراصدهما، وينظر الفرصة فيهما، فلما رأى سرور آدم بهذه الجنة، ورغبته العظيمة في دوامها، جاءه بطريق لطيف في صورة الصديق الناصح، فقال: يا آدم، هل أدلك على شجرة إذا أكلت منها خلدت في هذه الجنة ودام لك الملك الذي لا يبلى؟ فلم يزل يوسوس ويزين ويسول ويعد ويمني ويلقي عليهما من النصائح الظاهرة، وهي أكبر الغش حتى غرهما، فأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها وحرمها عليهما، فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما بعدما كانا مستورين، وطفقا يخصفان على أنفسهما من أوراق تلك الجنة، أي: يلزقان على أبدانهما العارية؛ ليكون بدل اللباس، وسقط في أيديهما، وظهرت في الحال عقوبة معصيتهما، وناداهما ربهما:
{أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22]
فأوقع الله في قلبيهما التوبة التامة، والإنابة الصادقة.
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37]
وقالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]
فتاب الله عليهما، ومحا الذنب الذي أصابا، ولكن الأمر الذي حذرهما الله منه، وهو الخروج من هذه الجنة إن تناولا منها تحتم ومضى، فخرجا منها إلى الأرض التي حشي خيرها بشرها، وسرورها بكدرها.
وأخبرهما الله أنه لا بد أن يبتليهما وذريتهما، وأن من آمن وعمل صالحا كانت عاقبته خيرا من حالته الأولى، ومن كذب وتولى فآخر أمره الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي، وحذر الله الذرية منه فقال:
{يا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]
وأبدلهم الله بذلك اللباس الذي نزعه الشيطان من الأبوين بلباس يواري السوآت، ويحصل به الجمال الظاهر في الحياة، ولباس أعلى من ذلك، وهو لباس التقوى، الذي هو لباس القلب والروح بالإيمان والإخلاص والإنابة، والتحلي بكل خلق جميل، والتخلي عن كل خلق رذيل؛ ثم بث الله من آدم وزوجه رجالا كثيرا ونساء، ونشرهم في الأرض، واستخلفهم فيها؛ لينظر كيف يعملون.

المسألة السادسة: الرد على المنكرين لوجود الله ولما جاء به الرسل.
* فوائد مستنبطة من هذه القصة أصولية وفروعية وأخلاق وآداب: فمنها أن هذه القصة العظيمة ذكرها الله في كتابه في مواضع كثيرة صريحة لا ريب فيها ولا شك، وهي من أعظم القصص التي اتفقت عليها الرسل، ونزلت بها الكتب السماوية، واعتقدها جميع أتباع الأنبياء من الأولين والآخرين، حتى نبغت في هذه الأزمان المتأخرة فرقة خبيثة زنادقة أنكروا جميع ما جاءت به الرسل، وأنكروا وجود الباري، ولم يثبتوا من العلوم إلا العلوم الطبيعية التي وصلت إليها معارفهم القاصرة.
فبناء على هذا المذهب الذي هو أبعد المذاهب عن الحقيقة شرعا وعقلا أنكروا آدم وحواء، وما ذكره الله ورسوله عنهما، وزعموا أن هذا الإنسان كان حيوانا قردا، أو شبيها بالقرد، حتى ارتقى إلى هذه الحال الموجودة، وهؤلاء اغتروا بنظرياتهم الخاطئة المبنية على ظنون عقول من أصلها فاسدة، وتركوا لأجلها جميع العلوم الصحيحة، خصوصا ما جاءتهم به الرسل، وصدق عليهم قوله تعالى:
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]
وهؤلاء أمرهم ظاهر لجميع المسلمين، ولجميع المثبتين وجود الباري، يعلمون أنهم أضل الطوائف، ولكن تسرب على بعض المسلمين من هذا المذهب الدهري بعض الآثار والفروع المبنية على هذا القول، إذ فسر طائفة من العصريين سجود الملائكة لآدم أن معناه تسخير هذا العالم للآدميين، وأن المواد الأرضية والمعدنية ونحوها قد سخرها الله للآدمي، وأن هذا هو معنى سجود الملائكة، ولا يستريب مؤمن بالله واليوم الآخر أن هذا مستمد من ذلك الرأي الأفن، وأنه تحريف لكتاب الله، لا فرق بينه وبين تحريف الباطنية والقرامطة، وأنه إذا أولت هذه القصة إلى هذا التأويل توجه نظير هذا التحريف لغيرها من قصص القرآن، وانقلب القرآن - بعدما كان تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة - رموزا يمكن كل عدو للإسلام أن يفعل بها هذا الفعل، فيبطل بذلك القرآن، وتعود هدايته إضلالا، ورحمته نقمة، سبحانك، هذا بهتان عظيم.
والمؤمن في هذا الموضع يكفيه لإبطال هذا القول الخبيث أن يتلو ما قصه الله علينا من قصة آدم وسجود الملائكة؛ فيعلم أن هذا مناف لما قصد الله ورسوله غاية المنافاة، وإن زخرفه أصحابه، ولووا له العبارات، ونسبوه إلى بعض من يحسن بهم الظن، فالمؤمن لا يترك إيمانه، ولا كتاب ربه لمثل هذه الترويجات المغررة، أو المغرور أصحابها.

المسألة الثامنة: بيان فضل العلم وذم الحسد والكبر.
ومنها فضيلة العلم، وأن الملائكة لما تبين لهم فضل آدم بعلمه عرفوا بذلك كماله، وأنه يستحق الإجلال والتوقير.
ومنها أن مَنْ مَنَّ الله عليه بالعلم عليه أن يعترف بنعمة الله عليه، وأن يقول كما قالت الملائكة والرسل: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، وأن يتوقى التكلم بما لا يعلم، فإن العلم أعظم المنن، وشكر هذه النعمة الاعتراف لله بها، والثناء عليه بتعليمها، وتعليم الجهال، والوقوف على ما علمه العبد، والسكوت عما لم يعلمه.
ومنها أن الله جعل هذه القصة لنا معتبرا، وأن الحسد والكبر والحرص من أخطر الأخلاق على العبد، فكبر إبليس وحسده لآدم صيره إلى ما ترى، وحرص آدم وزوجه حملهما على تناول الشجرة، ولولا تدارك رحمة الله لهما لأودت بهما إلى الهلاك، ولكن رحمة الله تكمل الناقص، وتجبر الكسير، وتنجي الهالك، وترفع الساقط.

المسألة التاسعة: بيان فضل التوبة.
ومنها أنه ينبغي للعبد إذا وقع في ذنب أن يبادر إلى التوبة والاعتراف، ويقول ما قاله الأبوان من قلب خالص، وإنابة صادقة؛ فما قص الله علينا صفة توبتهما إلا لنقتدي بهما، فنفوز بالسعادة، وننجو من الهلكة؛ وكذلك ما أخبرنا بما قاله الشيطان من توعدنا وعزمه الأكيد على إغوائنا بكل طريق إلا لنستعد لهذا العدو الذي تظاهر بهذه العداوة البليغة المتأصلة، والله يحب منا أن نقاومه بكل ما نقدر عليه من تجنب طرقه وخطواته، وفعل الأسباب التي يخشى منها الوقوع في شباكه، ومن عمل الحصون من الأوراد الصحيحة، والأذكار القلبية، والتعوذات المتنوعة، ومن السلاح المهلك له من صدق الإيمان، وقوة التوكل على الله، ومراغمته في أعمال الخير، ومقاومة وساوسه والأفكار الرديئة التي يدفع بها إلى القلب كل وقت بما يضادها، ويبطلها من العلوم النافعة والحقائق الصادقة.

لمسألة العاشرة: بيان مذهب أهل السنة والجماعة في اثبات اسماء الله وصفاته
ومنها أن فيها دلالة لمذهب أهل السنة والجماعة المثبتين لله ما أثبته لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات كلها، لا فرق بين صفات الذات، ولا بين صفات الأفعال.
ومنها إثبات اليدين لله كما هو في قصة آدم صريحا: لما خلقت بيدي، فله يدان حقيقة، كما أن ذاته لا تشبهها الذوات، فصفاته تعالى لا تشبهها الصفات)

3. قصة شعيب عليه السلام

المسألة الاولى: بيان دعوة نبي الله شعيب عليه السلام أهل مدين للتوحيد والعدل في المكيال والميزان وكفرهم بما جاء به.
نبأه الله وأرسله إلى أهل مدين، وكانوا مع شركهم يبخسون المكاييل والموازين، ويغشون في المعاملات، وينقصون الناس أشياءهم، فدعاهم إلى توحيد الله، ونهاهم عن الشرك به، وأمرهم بالعدل في المعاملات، وزجرهم عن البخس في المعاملات، وذكرهم الخير الذي أدره الله عليهم، والأرزاق المتنوعة، وأنهم ليسوا بحاجة إلى ظلم الناس في أموالهم، وخَوَّفهم العذاب المحيط في الدنيا قبل الآخرة، فأجابوه ساخرين وردوا عليه متهكمين فقالوا:
{يا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]
أي: فنحن جازمون على عبادة ما كان آباؤنا يعبدون، وجازمون على أننا نفعل في أموالنا ما نريد من أي معاملة تكون، فلا ندخل تحت أوامر الله وأوامر رسله؛ فقال لهم:
{يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود: 88]
أي: أغناني الله.
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]
أي: ما نهيتكم عن المعاملات الخبيثة وظلم الناس فيها، إلا وأنا أول تارك لها، مع أن الله أعطاني ووسَّع عليَّ وأنا محتاج إلى المعاملة، ولكني متقيد بطاعة ربي، إن أريد في فعلي وأمري لكم إلا الإصلاح، أي: أن تصلح أحوالكم الدينية والدنيوية ما استطعت:
{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]
ثم خوفهم أخذات الأمم التي حولهم في الزمان والمكان فقال:
{لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89]

المسألة الثانية: بيان دعوة نبي الله شعيب أهل مدين للتوبه وعنادهم له.
ثم عرض عليهم التوبة، ورغبهم فيها فقال: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]
فلم يفد فيهم، فقالوا: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]
وهذا لعنادهم وبغضهم البليغ للحق {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ - قَالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 91 - 92]
[ثم لما رأى عتوهم قال:]
{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ - وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود: 93 - 94]
{وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58]

المسألة الثالثة: بيان عقاب أهل مدين لما كذبوا نبي الله شعيب.
فأرسل الله عليهم حرا أخذ بأنفاسهم حتى كادوا يختنقون من شدته، ثم في أثناء ذلك أرسل سحابة باردة فأظلتهم، فتنادوا إلى ظلها غير الظليل، فلما اجتمعوا فيها التهبت عليهم نارا، فأحرقتهم وأصبحوا خامدين معذبين مذمومين ملعونين في جميع الأوقات.

المسأللة الرابعة: بيان ذم بخس المكاييل زبخس الناس اشياءهم.
* وفي قصة شعيب فوائد متعددة:
منها: أن بخس المكاييل والموازين خصوصا، وبخس الناس أشياءهم عموما من أعظم الجرائم الموجبة لعقوبات الدنيا والآخرة.

المسألة الخامسة: بيان عظم المعصية لمن عدم الداعي والحاجة اليها.
ومنها: أن المعصية الواقعة لمن عدم منه الداعي والحاجة إليها أعظم، ولهذا كان الزنا من الشيخ أقبح من الشباب، والكبر من الفقير أقبح من الغني، والسرقة ممن ليس بمحتاج أعظم من وقوعها من المحتاج؛ لهذا قال شعيب لقومه:
{إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84]
أي: بنعم كثيرة، فأي أمر أحوجكم إلى الهلع إلى ما بأيدي الناس بطرق محرمة.
المسألة السادسة: بيان الحث على الرضا بما أعطى الله
ومنها: قوله:
{بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} [هود: 86]
فيه الحث على الرضا بما أعطى الله، والاكتفاء بحلاله عن حرامه، وقصر النظر على الموجود عندك من غير تطلع إلى ما عند الناس.

المسألة السابعة: بيان قضل الصلاة.
ومنها: فيه دلالة على أن الصلاة سبب لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وللنصيحة لعباد الله، وقد علم ذلك الكفار بما قالوا لشعيب:
{أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] وقال تعالى:
{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]
ومن هنا تعرف حكمة الله ورحمته في أنه فرض علينا الصلوات، تتكرر في اليوم والليلة لعظم وقعها، وشدة نفعها، وجميل آثارها، فللَّه على ذلك أتم الحمد.
ومنها: أن العبد في حركات بدنه وتصرفاته، وفي معاملاته المالية، داخل تحت حجر الشريعة، فما أبيح له منها فعله، وما منعه الشرع تعين عليه تركه، ومن يزعم أنه في ماله حر له أن يفعل ما يشاء من معاملات طيبة وخبيثة، فهو بمنزلة من يرى أن عمل بدنه كذلك، وأنه لا فرق عنده بين الكفر والإيمان، والصدق والكذب، وفعل الخير والشر، الكل مباح، ومن المعلوم أن هذا هو مذهب الإباحيين الذين هم شر الخليقة، ومذهب قوم شعيب يشبه هذا؛ لأنهم أنكروا على شعيب لما نهاهم عن المعاملات الظالمة، وأباح لهم سواها، فردوا عليه أنهم أحرار في أموالهم، لهم أن يفعلوا فيها ما يريدون، ونظير هذا قول من قال: إنما البيع مثل الربا، فمن سوَّى بين ما أباحه وبين ما حرمه الله فقد انحرف في فطرته وعقله بعدما انحرف في دينه.

المسألة الثامنة: بيان شرط قبول تصيحة الناصح.
ومنها: أن الناصح للخلق الذي يأمرهم وينهاهم من تمام قبول الناس له: أنه إذا أمرهم بشيء أن يكون أول الفاعلين له، وإذا نهاهم عن شيء كان أول التاركين؛ لقول شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]

المسألة التاسعة: بيان أن كل صلاح ديني ودنيوي فهو من دين الانبياء.
ومنها: أن الأنبياء جميعهم بُعثوا بالإصلاح والصلاح، ونهوا عن الشرور والفساد، فكل صلاح وإصلاح ديني ودنيوي فهو من دين الأنبياء، وخصوصا إمامهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه أبدا وأعاد في هذا الأصل، ووضع للخلق الأصول النافعة التي يجرون عليها في الأمور العادية والدنيوية، كما وضع لهم الأصول في الأمور الدينية، وأنه كما أن على العبد السعي والاجتهاد في فعل الصلاح والإصلاح، فعليه أن يستمد العون من ربه على ذلك، وأن يعلم أنه لا يقدر على ذلك، ولا على تكميله إلا بالله؛ لقول شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]

المسألة العاشرة: بيان حاجة الداعي الى الله الى حسن الخلق.
ومنها: أن الداعي إلى الله يحتاج إلى الحلم وحسن الخلق ومقابلة المسيئين بأقوالهم وأفعالهم بضد ذلك، وأن لا يُحبطه أذى الخلق ولا يصده عن شيء من دعوته، وهذا الخلق كماله للرسل صلوات الله عليهم وسلم، فانظر إلى شعيب عليه السلام، وحسن خلقه مع قومه، ودعوته لهم بكل طريق وهم يسمعونه الأقوال السيئة، ويقابلونه المقابلة الفعلية، وهو صلى الله عليه وسلم يحلم عليهم ويصفح، ويتكلم معهم كلام من لم يصدر منهم له وفي حقه إلا الإحسان، ويهون هذا الأمر أن هذا خُلُقٌ من ظفر به وحازه فقد فاز بالحظ العظيم، وأن لصاحبه عند الله المقامات العالية والنعيم المقيم، ويهونه أنه يعالج أمما قد طبعوا على أخلاق إزالتها وقلعها أصعب من قلع الجبال الرواسي، ومرنوا على عقائد ومذاهب بذلوا فيها الأموال والأرواح، وقدموها على جميع المهمات عندهم، أفتظن مع هذا أن أمثال هؤلاء يقتنعون بمجرد القول بأن هذه مذاهب باطلة وأقوال فاسدة، أم تحسبهم يغتفرون لمن نالها بسوء؟ . . كلا والله، إن هؤلاء يحتاجون إلى معالجات متنوعة بالطرق التي دعت إليها الرسل، يذكرون بنعم الله، وأن الذي تفرد بالنعم يتعين أن يفرد بالعبادة، ويذكر لهم من تفاصيل النعم ما لا يعد ولا يحصى، ويذكرون بما في مذاهبهم من الزيغ والفساد والاضطراب، والتناقض المزلزل للعقائد، الداعي إلى تركها، ويذكرون بما بين أيديهم وما خلفهم من أيام الله ووقائعه بالأمم المكذبة للرسل، المنكرة للتوحيد، ويذكرون بما في الإيمان بالله وتوحيده ودينه من المحاسن والمصالح والمنافع الدينية والدنيوية، الجاذبة للقلوب، المسهلة لكل مطلوب، ومع هذا كله فيحتاج الخلق إلى الإحسان إليهم، وبذل المعروف، وأقل ذلك الصبر على أذاهم، وتحمل ما يصدر منهم، ولين الكلام معهم، وسلوك كل سبيل حكمة معهم، والتنقل معهم في الأمور بالاكتفاء ببعض ما تسمح به أنفسهم ليستدرج بهم إلى تكميله، والبداءة بالأهم فالأهم، وأعظمهم قياما بهذه الأمور وغيرها سيدهم وخاتمهم وإمام الخلق على الإطلاق: محمد صلى الله عليه وسلم)

4. قصة أيوب عليه السلام

المسألة الاولى : بيان قوم نبي الله أيوب عليه السلام وابتلاء الله له وصبره.
كان أيوب من أنبياء بني إسرائيل، ومن الأصفياء الكرام، وقد ذكره الله في كتابه، وأثنى عليه بالخصال الحميدة عموما، وبالصبر على البلاء خصوصا؛ فإن الله تعالى ابتلاه بولده وأهله وماله، ثم بجسده، فأصابه من البلاء ما لم يصب أحدا من الخلق، فصبر لأمر الله ولم يزل منيبا لله.

المسألة الثانية: بيان رحمة الله بأيوب واستجابة دعائه.
ولما تطاول به المرض العظيم، ونسيه الصاحب والحميم نادى ربه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]
فقيل له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]
فركض، فنبعت بركضته عين ماء بارد، فقيل له: اشرب منها واغتسل، ففعل ذلك، فأذهب الله ما في باطنه وظاهره من البلاء، ثم أعاد الله له أهله وماله، وأعطاه من النعم والخيرات شيئا كثيرا، وصار بهذا الصبر قدوة للصابرين، وسلوة للمبتلين، وعبرة للمعتبرين

المسألة الثالثة: بيان كفارة اليمين في شرع من كان قبلنا وقي شرعنا.
وكان في مرضه قد وجد على زوجته المرأة البارة الرحيمة في بعض شيء، فحلف أن يجلدها مائة جلدة، فخفف الله عنه وعنها، وقيل له: خذ بيدك ضغثا حزمة حشيش أو علف أو شماريخ أو نحوها فيها مائة عود فاضرب به ولا تحنث، أي: ينحل بذلك يمينك، وفي هذا دليل على أن كفارة اليمين لم تشرع لأحد من قبل شريعتنا، وأن اليمين عندهم بمنزلة النذر الذي لا بد من وفائه، وفي هذا دليل على أن من لا يحتمل إقامة الحد عليه لضعفه ونحوه أنه يقام عليه مسمى ذلك؛ لأن الغرض التنكيل ليس الإتلاف والإهلاك).

5. قصة الخضر مع موسى عليه السلام

المسألة الاولى: بيان الاسباب في قول موسى انه لا بعلم احدا في الارض اكثر منه علما وإخبار الله عن الخضر.
وذلك أن موسى صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم في بني إسرائيل مقاما عظيما، علَّمهم فيه علوما جَمَّة، وأعجب الناس بكمال علمه، فقال له قائل: يا نبي الله، هل يوجد، أو هل تعلم في الأرض أحدا أعلم منك؟ فقال: لا، بناء على ما يعرفه، وترغيبا لهم في الأخذ عنه، فأخبره الله أن له عبدا في مجمع البحرين عنده علوم ليست عند موسى، وإلهامات خارجة عن الطور المعهود، فاشتاق موسى إلى لقياه رغبة في الازدياد من العلم، فطلب من الله أن يأذن له في ذلك، وأخبره بموضعه وتزودا حوتا وقيل له: إذا فقدت الحوت فهو في ذلك المكان، فذهب فوجده، وكان ما قص الله من نبأهما في الكهف: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60] {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82]

المسألة الثانية: بيان فضل العلم وشرفه ومشروعية الرحلة في طلبه.
وفي هذه القصة من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير ننبه على بعضه بعون الله، ونذكر المهمّ منه.
فمنها: ما اشتملت عليه القصة من فضيلة العلم وشرفه، ومشروعية الرحلة في طلبه، وأنه أهم الأمور؛ فإن موسى رحل في طلبه مسافة طويلة، ولقي في ذلك النصب، وترك الإقامة عند بني إسرائيل لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك.

المسألة الثالثة: بيان أن البداءة في العلم بالنفس .
ومنها: البداءة في العلم بالأهم فالأهم، فإن زيادة علم الإنسان بنفسه أهم من ترك ذلك اشتغالا بالتعليم فقط، بل يتعلم ليعلم.

المسألة الرابعة: بيان جوتز أخذ الخادم في السفر والحضر.
ومنها: جواز أخذ الخادم في السفر والحضر لكفاية المؤن وطلب الراحة، كما فعل موسى صلى الله عليه وسلم.

المسألة الخامسة: بيان أن أظهار السفر أكمل من كتمه اذا دعت الحاجة.
ومنها: أن المسافر بطلب العلم أو الجهاد أو غيرهما من أسفار الطاعة، بل وكذلك غيرهما إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه وأين مراده، فإنه أكمل من كتمه، فإن في إظهاره من فوائد الاستعداد له عدته، وإتيان الأمر على بصيرة، والإعلان بالترغيب لهذه العبادة الفاضلة لقول موسى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60] ولما غزا صلى الله عليه وسلم تبوك أخبر الناس بمقصده، مع أنه كان في الغالب إذا أراد غزوة ورى بغيرها تبعا للمصلحة في الحالتين.

المسألة السادسة: بيان جواز اضافة الشر والنقص الى الشيطان .
ومنها: إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان، وكذلك النقص، لقول فتى موسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]

المسألة السابعة: بيان جواز إخبار الانسان عما يجده مثل النصب والجوع.
ومنها: جواز إخبار الإنسان عما يجده مما هو مقتضى الطبيعة البشرية، من نصب أو جوع أو عطش، إذا لم يكن على وجه التسخط، وكان صدقا لقوله: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62]

المسألة الثامنة: بيان صفات الخادم الذي ينبغي ات يتخذه الانسان.
ومنها: أنه ينبغي أن يتخذ الإنسان خادما ذكيا فطنا كيِّسا ليتم له أمره الذي يريد.

المسألة التاسعة: بيان استحياب اطعام الخادم من مأكله.
ومنها: استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله، وأكلهما جميعا؛ لأن ظاهر قوله: {آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62] أنه للجميع،

المسألة العاشرة: بيان تعلق المعونة بالقيام بأوامر الله.
ومنها: أن المعونة تنزل على العبد بحسب قيامه بالأمر الشرعي، وأن ما وافق رضا الله يعان عليه ما لا يعان على غيره لقوله: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] والإشارة إلى السفر المجاوز لمجمع البحرين، وأما الأول فلم يشتك منه مع طوله.

المسألة الحادية عشر: بيان أن الخضر ليس نبيا.
ومنها: أن ذلك العبد الذي لقياه ليس نبيا، بل هو عبد صالح عالم ملْهَم؛ لأن الله ذكره بالعلم والعبودية الخاصة والأوصاف الجميلة، ولم يذكر معها أنه نبي أو رسول، وأما قوله في آخر القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] فإنه لا يدل على أنه نبي، وإنما يدل على الإلهام والتحديث، وذلك يكون لغير الأنبياء، قال تعالى:
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص: 7]

المسألة الثانية عشر: بيان أنواع علم لله للعبد.
ومنها: أن العلم الذي يعلمه الله للعبد نوعان: علم مكتسب، يدركه العبد بطلبه وجدّه، وعلم إلهي لدنِّي، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده، لقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]
فالخضر أعطي من هذا النوع الحظ الأوفر، ومنها التأدب مع المعلم والتلطف في خطابه لقول موسى:
{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]
فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، وأنك هل تأذن لي أم لا؟ وإظهار حاجته إلى المعلم، وأنه يتعلم منه ومشتاق إلى ما عنده، بخلاف حال أهل الكبر والجفاء الذين لا يظهرون حاجتهم إلى علم المعلم، فلا أنفع للمتعلم من إظهار الحاجة إلى علم المعلم وشكره على تعليمه.

المسألة الثالثة عشر: بيان تواضع الفضل للتعلم ممن هو دونه.
ومنها: تواضع الفاضل للتعلم ممن هو دونه، فإن موسى بلا ريب أفضل من الخضر.
المسألة الرابعة عشر: بيان تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه
ومنها: تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه ممن مهر فيه، وإن كان دونه في العلم درجات؛ فإن موسى من أكابر أولي العزم من الرسل، الذين منحهم الله، وأعطاهم من العلوم ما لم يعط سواهم، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر ما ليس عنده، فلهذا اشتد حرصه على التعلم منه.

المسألة الخامسة عشر: بيان اضافة العلم وغيره من الفضائل الى فضل الله.
ومنها: أنه يتعين إضافة العلم وغيره من الفضائل إلى فضل الله ورحمته، والاعتراف بذلك، وشكر الله عليه لقوله: {تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]

المسألة السادسة عشر: بيان أن العلم النافع هو العلم المشد الى الخير.
ومنها: أن العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير، وكل علم فيه رشد وهداية لطريق الخير، وتحذير عن طريق الشر، أو وسيلة إلى ذلك، فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك فإما أن يكون ضارا، أو ليس فيه فائدة لقوله: {أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66].

المسألة السابعة عشر: بيان حاجة المتعلم للصبر على صحبة العالم.
ومنها: أن من ليس له صبر على صحبة العَالم، ولا قوة على الثبات على طريقة التعلم، فإنه قاصر ليس بأهل لتلقي العلم؛ فمن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن استعمل الصبر ولازمه أدرك به كل أمر سعى إليه، فإن الخضر اعتذر عن موسى أنه لا يصبر على علمه الخاص.

المسألة الثامنة عشر: بيان أن العلم بمنافع الاشياء يعين على الصبر عليها.
ومنها: أن مما يعين على الصبر على الأشياء إحاطة العبد بها علما، وبمنافعها وثمراتها ونتائجها، فمن لا يدري هذه الأمور يصعب عليه الصبر لقوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68]

المسألة التاسعة عشر: بيان الامر بالتثبت قبل الحكم على الاشياء.
ومنها: الأمر بالتأنِّي والتثبت وعدم المبادرة على الحكم على الأشياء حتى يعرف ما يراد منه، وما هو المقصود.

المسألة العشرون: بيان مشروعية تعليق الامور المستقبلية علو مشيئة الله.
ومنها: مشروعية تعليق إيجاد الأمور المستقبلة على مشيئة الله لقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] وإن العزم على الشيء ليس بمنزلة فعله، فموسى عزم على الصبر، ولكن لم يفعل.

المسألة الحادية والعشرون: بيان أن للعلم ان يخبر المتعلم بترك الابتداء في السؤال اذا رأى مصلحة لذلك.
ومنها: أن المعلم إذا رأى من المصلحة أن يخبر المتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها، فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه قاصرا، أو نهاه عن التدقيق الشديد أو الأسئلة التي لا تتعلق بالموضوع، ومنها: جواز ركوب البحر إذا لم يكن في ذلك خطر.

المسألة الثانية والعشرون: بيان عدم مؤاخذة الناسي.
ومنها: أن الناسي غير مؤاخذ، لا في حق الله ولا في حق العباد، إلا إن ترتب على ذلك إتلاف مال، ففيه الضمان حتى على الناسي لقوله: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 73]

المسألة الثالثة والعشرون: بيان انه ينبغي اخذ العفو في معاملة الناس.
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم العفو منها، وما سمحت به أنفسهم، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون، أو يشق عليهم أو يرهقهم، فإن هذا داع إلى النفور، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر.

المسألة الرابعة والعشرون: بيان الاجكام الدنيوية مردها الظاهر.
ومنها: أن الأمور تجري على ظاهرها، وتعلق بها الأحكام الدنيوية في كل شيء، فإن موسى عليه السلام أنكر على الخضر خرق السفينة، وقتل الغلام بحسب أحكامها العامة، ولم يلتفت إلى الأصل الذي أصَّلاه، هو والخضر، أنه لا يسأله ولا يعترض عليه حتى يكون الخضر هو المبتدئ.

المسألة الخامسة والعشرون: بيان قاعدة دفع الشر الكبير بأرتكاب الشر الخفيف.
ومنها: فيه تنبيه على القاعدة المشهورة الكبيرة، وهو أنه يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الخفيف، ويراعى أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما؛ فإن قتل الغلام الصغير شر، ولكن بقاءه حتى يبلغ ويفتن أبويه عن دينهما أعظم شرا، وبقاء الغلام من دون قتل وإن كان في ظاهر الحال أنه خير، فالخير ببقاء أبويه على دينهما خير من ذلك، فلذلك قتله الخضر بعدما ألهمه الله الحقيقة، فكان إلهامه الباطني بمنزلة البينات الظاهرة في حق غيره.

المسألة السادسة والعشرون: بيان قاعدة جواز عمل الانسان في مال غيره على وجه المصلحة.
ومنها: القاعدة الكبيرة الأخرى، وهي: أن عمل الإنسان في مال غيره - إذا كان على وجه المصلحة ودفع المضرة - يجوز بلا إذن، حتى ولو ترتب عليه إتلاف بعض المال، كما خرق الخضر السفينة لتعيب، فتسلم من غصب الملك الظالم، وتحت هاتين القاعدتين من الفوائد ما لا حصر له.

المسألة السابعة والعشرون: بيان جواز العمل في البحر.
ومنها: أن العمل يجوز في البحر كما يجوز في البر، لقوله: {يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79]

المسألة الثامنة والعشرون: بيان أن القتل من أكبر الذنوب
ومنها: أن القتل من أكبر الذنوب.

المسألة التاسعة والعشرون: بيان حفظ لله للعيد الصالح.
ومنها: أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه، وفي ذريته، وما يتعلق به، لقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] وأن خدمة الصالحين وعمل مصالحهم أفضل من غيرهم؛ لأنه علَّل أفعاله بالجدار بقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]

المسألة الثلاثون: بيان وجوب استعمال الادب مع الله حتى في الالفاظ.
ومنها: استعمال الأدب مع الله حتى في الألفاظ؛ فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] وأما الخير فأضافه إلى الله لقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]
وقال إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]
وقالت الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] مع أن الكل بقضاء الله وقدره.

المسألة الحادية والثلاثون: بيان ان لايترك صحبة صاحبه حتى لا يجد ببصبر محلا.
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال ويترك صحبته، بل يفي له بذلك حتى لا يجد للصبر محلا، وأن موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكُّدها، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة.

فوائد دراسة قصص الانبياء

١- معرفة حال الصالحين من بني آدم والاقتداء يهم
٢- زبادة الايمان بمعرفة ان الله وعد رسله بالنصر
٣- معرفة صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قي تفاصيل هذه القصص
٤- بيان فضل العلم زالدعوة الى الله وأنها سبيل الانبياء والصالحين

6. قصة نبيّنا محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم

المسألة الاولى: بيان فضل تعلم سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
علم أن سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم عون على معرفة تفسير كتاب الله، والقرآن إنما كان ينزل تبعا لمناسبات سيرته، وما يقوله للخلق، وجواب ما يقال له، وما يحصل به تحقيق الحق الذي جاء به، وإبطال المذاهب التي جاء لإبطالها، وهذا من حكمة إنزاله مفرقا، كما ذكر الله هذا المعنى بقوله:
{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا - وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 32 - 33]
وقال: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [هود: 120]
فلنشر من سيرته صلى الله عليه وسلم على الأحوال المناسبة لنزول الآيات المعينات، أو لجنس النوع من علوم القرآن ليكون عونا في هذا المقام.

المسألة الثانية: بيان بدابة نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم
فأول مقاماته في إنزال القرآن عليه أنه كان قبل البعثة قد بغضت إليه عبادة الأوثان، وبغض إليه كل قول قبيح وفعل قبيح، وفطر صلى الله عليه وسلم فطرة مستعدة متهيئة لقول الحق علما وعملا، والله تعالى هو الذي طهّر قلبه وزكاه وكمّله، فكان من رغبته العظيمة فيما يقرب إلى الله أنه كان يذهب إلى غار حراء الأيام ذوات العدد، ويأخذ معه طعاما يطعم منه المساكين ويتعبَّد ويتحنث فيه، فقلبه في غاية التعلق بربه، ويفعل من العبادات ما وصل إليه علمه في ذلك الوقت الجاهلي الخالي من العلم، ومع ذلك فهو في غاية الإحسان إلى الخلق، فلما تم عمره أربعين سنة، وتمت قوته العقلية، وَصَلُحَ لتلقي أعظم رسالة أرسل الله بها أحدا من خلقه، تبدَّى له جبريل صلى الله عليه وسلم فرأى منظرا هاله وأزعجه، إذ لم يتقدم له شيء من ذلك، وإنما قدَّم الله له الرؤيا، التي كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
فأول ما أنزل الله عليه:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]
فجاءه بها جبريل وقال له: اقرأ، فأخبره أنه ليس بقارئ - أي لا يعرف أن يقرأ - كما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]
وتفسيرها الآية الأخرى:
{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]
فغطه جبريل مرتين أو ثلاثا ليهيئه لتلقي القرآن العظيم، ويتجرد قلبه وهمته وظاهره وباطنه لذلك، فنزلت هذه السورة التي فيها نبوته، وأمره بالقراءة باسم ربه، وفيها أصناف نعمه على الإنسان بتعليمه البيان العلمي والبيان اللفظي والبيان الرسمي، فجاء بها إلى خديجة ترعد فرائصه من الفرَق، وأخبرها بما رآه وما جرى عليه، فقالت خديجة رضي الله عنها: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، أي: ومن كانت هذه صفته فإنها تستدعي نعما من الله أكبر منها وأعظم، وكان هذا من توفيق الله لها ولنبيه، ومن تهوين القلق الذي أصابه.
وبهذه السورة ابتدأت نبوته، ثم فتر عنه الوحي مدة ليشتاق إليه وليكون أعظم لموقعه عنده، وكان قد رأى الملك على صورته فانزعج، فجاء إلى خديجة أيضا ترعد فرائصه فقال: «دثروني دثروني» فأنزل الله عليه:
{يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5]
فكان في هذا: الأمر له بدعوة الخلق وإنذارهم، فشمر صلى الله عليه وسلم عن عزمه، وصمم على الدعوة إلى ربه مع علمه أنه سيقاوم بهذا الأمر البعيد والقريب، وسيلقى كل معارضة من قومه ومن غيرهم وشدة، ولكن الله أيَّده وقوَّى عزمه، وأيَّده بروح منه، وبالدين الذي جاء به، وجاءته سورة الضحى في فترة الوحي لما قال المكذبون: إن رب محمد قلاه. قال:
{وَالضُّحَى - وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى - مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1 - 3] إلى آخرها. [الضحى: 1 - 3 وما بعدها] .
وهذا اعتناء عظيم من الله برسوله، ونفي لكل نقص، وبشارة بأن كل حالة له أحسن مما قبلها وخير منها، وأن الله سيعطيه من النصر والْأَتباع والعز العظيم وانتشار الدين ما يرضيه.

المسألة الثالثة : بيان دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الى التوحيد ومقاومة قومه لها
فكان أعظم مقامات دعوته: دعوته إلى التوحيد الخالص، والنهي عن ضده؛ دعا الناس لهذا، وقرره الله في كتابه، وصرفه بطرق كثيرة واضحة تبين وجوب التوحيد وحسنه، وتعينه طريقا إلى الله وإلى دار كرامته، وقرار إبطال الشرك والمذاهب الضارة بطرق كثيرة احتوى عليها القرآن، وهي أغلب السور المكية، فاستجاب له في هذا الواحد بعد الواحد على شدة عظيمة من قومه، وقاومه قومه وغيرهم، وبغوا له الغوائل، وحرصوا على إطفاء دعوته بجهدهم وقولهم وفعلهم، وهو يجادلهم ويتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وهم يعلمون أنه الصادق الأمين، ولكنهم يكابرون ويجحدون آيات الله، كما قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]

المسألة الرابعة: بيان حال المشركين والمؤمنين مع القرآن
ولهذا لما كان استماعهم للقرآن على وجه الكفر والجحد والتكذيب، وتوطين نفوسهم على معاداته، أخبر الله تعالى أنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرا، وأنهم لا يهتدون بسبب ما أسسوا من هذا الأصل الخبيث، المانع لصاحبه من كل خير وهدى، وهذا مما يعلم به حكمة الباري في إضلال الضالين، وأنهم لما اختاروا لأنفسهم الضلال ورغبوا فيه ولَّاهم الله ما تولوا لأنفسهم، وتركهم في طغيانهم يعمهون، وأنهم لما ردوا نعمة الله عليهم حين جاءتهم قلب الله أفئدتهم، وأصم أسماعهم، وأعمى أبصارهم وأفئدتهم، وهذا الوصف الذي أشرنا إليه قد ذكره الله في كتابه عنهم، وهو يعينك على فهم آيات كثيرة يخبر الله فيها بضلالهم وانسداد طرق الهداية عليهم، وعدم قبول محالهم وقلوبهم للهدى، والذنب ذنبهم وهم السبب في ذلك؛ قال تعالى:
{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 30]
وبضده تعرف الحكمة في هدايته للمؤمنين، وأنهم لما كانوا منصفين ليس غرضهم إلا الحق، ولا لهم قصد إلا طلب رضا ربهم، هداهم الله بالقرآن، وازدادت به علومهم ومعارفهم وإيمانهم وهدايتهم المتنوعة، قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]
وهذا الوصف الجليل للمؤمنين هو الأساس لهدايتهم، وزيادة إيمانهم، وانقيادهم، وبه ينفتح لك الباب في فهم الآيات في أوصاف المؤمنين، وسرعة انقيادهم للحق: أصوله وفروعه.

المسألة الخامسة: بيان معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للمكذبين.
ومن مقامات النبي صلى الله عليه وسلم مع المكذبين له أنه يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسن، ويدعوهم أفرادا ومتفرقين، ويذكرهم بالقرآن، ويتلوه في الصلاة وخارجها، وكانوا إذا سمعوه صموا آذانهم، وقد يسبونه ويسبون من أنزله، فأنزل الله على رسوله آيات كثيرة في هذا المعنى يبين حالهم مع سماع القرآن وشدة نفورهم كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، وأن شياطينهم ورؤساءهم في الشر فكروا وقدروا ونظروا فيما يقولون عن القرآن ويصفونه به؛ لينفروا عنه الناس، حتى قرار رئيسهم الوليد بن المغيرة الذي سماه الله وحيدا فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر، ولكن أبى الله إلا أن يعلو هذا الكلام كلَّ كلام، ويزهق هذا الحق كل باطل، وكانوا من إفكهم يقولون في القرآن الأقوال المتناقضة، يقولون: إنه سحر، إنه كهانة، إنه شعر، إنه كذب، إنه أساطير؛ فجعلوا القرآن عضين، كل هذا أثر البغض الذي أحرق قلوبهم، حتى قالوا فيه مقالة المجانين، وكلما قالوا قولا من هذه الأقوال أنزل الله آيات يبطل بها ما قالوا، ويبين زورهم وافتراءهم وتناقضهم.

المسألة السادسة: بيان ان مقابلة المكذبين من ادلة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان من الأدلة والبراهين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن من عند الله، مقابلة المكذبين له، فإن من نظر إليها علم أنها سلاح عليهم، وأكبر دليل على أنهم مقاومون للحق، ساعون في إبطاله، وأنهم على الباطل الذي ليس له حظ من العقل، كما ليس له حظ من الدين، وكانوا أيضا يقولون في النبي صلى الله عليه وسلم الأقوال التي ليس فيها دلالة على ما كانوا يعتقدون، وليس فيها نقص بالنبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: لو أن محمدا صادق لأنزل الله ملائكة يشهدون له بذلك، ولأغناه الله عن المشي في الأسواق، وطلب الرزق كما يطلبه غيره، ولجعل له كذا وكذا مما توحي إليه عقولهم الفاسدة، ويذكرها الله في القرآن في مواضع متعددة، تارة يصورها للعباد فقط؛ لأن من تصورها عرف بطلانها، وأنها ليست من الشُّبَه القادحة، فضلا عن الحجج المعتبرة، وتارة يصورها ويذكر ما يبطلها من الأمور الواضحة، وهذا كثير في القرآن.

المسألة السابعة: بيان حال المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم - المداهنة.
ومن مقاماتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يسعون أشد السعي أن يكف عن عيب آلهتهم، والطعن في دينهم، ويحبون أن يتاركهم ويتاركوه، لعلمهم أنه إذا ذكر آلهتهم، ووصفها بالصفات التي هي عليه من النقص، وأنه ليس فيها شيء من الصفات يوجب أن تستحق شيئا من العبادة، يعرفون أن الناس يعرفون ذلك، ويعترفون به، فلا أحب إليهم من التزوير، وإبقاء الأمور على علاتها من غير بحث عن الحقائق؛ لأنهم يعرفون حق المعرفة أن الحقائق إذا بانت ظهر للخلق بطلان ما هم عليه: وهذا الذي منه يفرون، وهذا المقام أيضا ذكره الله في آيات متعددة مثل قوله:
{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] ونحوها من الآيات.

المسألة الثامنة: بيان حكم سب الذين يدعون من دون الله.
وأما: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]
فهذا إذا ترتب على السب المذكور سبهم لله، فإنه يترك لما يترتب عليه من الشر.

المسألة التاسعة: بيان حال المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم - طلبهم للايأت
ومن مقاماتهم المتنوعة مع النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترحون الآيات بحسب أهوائهم، ويقولون: إن كنت صادقا فأتنا بعذاب الله، أو بما تعدنا، أو أزل عنا جبال مكة، واجعل لنا فيها أنهارا وعيونا، وحتى يحصل لك كذا وكذا مما ذكره الله عنهم، فيجيبهم الله عن هذه الأقوال بأن رسوله صلى الله عليه وسلم قد أيده الله بالآيات، والله أعلم بما ينزل من آياته، وأعلم بما هو أنفع لهم، وأنه قد حصل المقصود من بيان صدقه، وقامت الأدلة والبراهين على ذلك، فقول الجاهل الأحمق: لو كان كذا وكذا. . جهل منه وكبر ومشاغبة محضة، وتارة يخبرهم أنه لا يمنعه من الإتيان بها إلا الإبقاء عليهم، وأنها لو جاءت لا يؤمنون، فعند ذلك يعاجلهم الله بالعقاب.
وتارة يبين لهم أن الرسول إنما هو نذير مبين، ليس له من الأمر شيء، ولا من الآيات شيء، وأن هذا من عند الله، فطلبهم من الرسول محض الظلم والعدوان، وهذه المعاني في القرآن كثيرة بأساليب متعددة.
وأحيانا يقدحون في الرسول قدحا يعترضون فيه على الله، وأنه لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، ومحمد ليس كذلك، وأنك يا محمد لست بأولى بفضل الله منا، فلأي شيء تفضل علينا بالوحي؟ . . . ونحوه من الأقوال الناشئة عن الحسد، فيجيبهم الله بذكر فضله، وأن فضله يؤتيه من يشاء، وأنه أعلم حيث يجعل رسالته والمحل اللائق بها، ويشرح لهم من صفات رسوله التي يشاهدونها رأي عين ما يعلمون هم وغيرهم أنه أعظم رجل في العالم، وأنه ما وجد ولن يوجد أحد يقاربه في الكمال، مؤيدا ذلك بالأمور المحسوسة والبراهين المسلمة، وقد أبدا الله هذه المعاني وأعادها معهم في مواضع كثيرة.

المسألة العاشرة: بيان حال النبي صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين.
ومن مقاماته صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين الرأفة العظيمة، والرحمة لهم، والمحبة التامة، والقيام معهم في كل أمورهم، وأنه لهم أرحم وأرأف من آبائهم وأمهاتهم، وأحنى عليهم من كل أحد، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]
فلم يزل يدعو إلى التوحيد وعقائد الدين وأصوله، ويقرر ذلك بالبراهين والآيات المتنوعة، ويحذر من الشرك والشرور كلها منذ بعث إلى أن استكمل بعد بعثته نحو عشر سنين، وهو يدعو إلى الله على بصيرة.

المسألة الحادية عشر: بيان الاسراء والمعراج وما تلاه من فروض الاسلام.
ثم أُسْرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ ليريه من آياته، وعرج به إلى فوق السماوات السبع، وفرض الله عليه الصلوات الخمس بأوقاتها وهيئاتها، وجاءه جبريل على أثرها فعلَّمه أوقاتها وكيفيَّاتها، وصلى به يومين، اليوم الأول صلَّى الصلوات الخمس في أول وقتها، واليوم الثاني في آخر الوقت، وقال: الصلاة ما بين هذين الوقتين، ففرضت الصلوات الخمس قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، ولم يفرض الأذان في ذلك الوقت، ولا بقية أركان الإسلام،

المسألة الثانية عشر: بيان مقدمات الهجرة الى المدينة.
وانتشر الإسلام في المدينة وما حولها.
ومن جملة الأسباب: أن الأوس والخزرج كان اليهود في المدينة جيرانا لهم، وقد أخبروهم أنهم ينتظرون نبيا قد أظل زمانه، وذكروا من أوصافه ما دلهم عليه؛ فبادر الأوس والخزرج واجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكة وتيقنوا أنه رسول الله، وأما اليهود فاستولى عليهم الشقاء والحسد، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وكان المسلمون في مكة في أذى شديد من قريش، فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة أولا إلى الحبشة، ثم لما أسلم كثير من أهل المدينة صارت الهجرة إلى المدينة.

المسألة الثالثة عشر: بيان هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وما صاحبها من احداث.
وحين خاف أهل مكة من هذه الحال اجتمع ملؤهم ورؤساؤهم في دار الندوة يريدون القضاء التام على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاتفق رأيهم أن ينتخبوا من قبائل قريش من كل قبيلة رجلا شجاعا، فيجتمعون ويضربونه بسيوفهم ضربة واحدة. قالوا: لأجل أن يتفرق دمه في القبائل، فتعجز بنو هاشم عن مقاومة سائر قريش فيرضون بالدية، فهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، فجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعزم على الهجرة، وأخبر أبا بكر بذلك وطلب منه الصحبة، فأجابه إلى ذلك وخرج في تلك الليلة التي اجتمعوا على الإيقاع به، وأمر عليًّا أن ينام على فراشه، وخرج هو وأبو بكر إلى الغار، فلم يزالوا يرصدونه حتى برق الفجر، فخرج إليهم عليّ فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري.
ثم ذهبوا يطلبونه في كل وجهة، وجعلوا الجعالات الكثيرة لمن يأتي به، وكان الجبل الذي فيه الغار قد امتلأ من الخلق يطلبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا. فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ وأنزل الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]

المسألة الرابعة عشر: بيان الاذن للنبي صلى الله عليه وسلم في القتال.
فهاجر إلى المدينة واستقر بها، وأذن له في القتال بعدما كان قبل الهجرة ممنوعا لحكمة مشاهدة، فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]
وجعل يرسل السرايا،

المسألة الخامسة عشر: بيان فرض الزكاة والصيام.
ولما كانت السنة الثانية فرض الله على العباد الزكاة والصيام، فآيات الصيام والزكاة إنما نزلت في هذا العام وقت فرضها، وأما قوله تعالى:
{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 6 - 7]
فإن المراد زكاة القلب وطهارته بالتوحيد وترك الشرك.

المسألة السادسة عشر: بيان وقعة يدر.
وفي السنة الثانية أيضا كانت وقعة بدر، وسببها أن عيرا لقريش تحمل تجارة عظيمة من الشام، خرج النبي صلى الله عليه وسلم بمن خف من أصحابه لطلبها، فخرجت قريش لحمايتها، وتوافوا في بدر على غير ميعاد، فالعير نجت والنفير التقوا مع الرسول وأصحابه، وكانوا ألفا كاملي العدد والخيل، والمسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر على سبعين بعيرا يعتقبونها، فهزم الله المشركين هزيمة عظيمة، قتلت سرواتهم وصناديدهم، وأُسر من أُسر منهم، وأصاب المشركين مصيبة ما أُصيبوا بمثلها، وهذه الغزوة أنزل الله فيها وفي تفاصيلها سورة الأنفال، وبعدما رجع إلى المدينة منها مظفرا منصورا ذل من بقي ممن لم يُسلم من الأوس والخزرج، ودخل بعضهم في الإسلام نفاقا، ولذلك جميع الآيات نزلت في المنافقين إنما كانت بعد غزوة بدر.

المسألة السابعة عشر: بيان غزوة احد.
ثم في السنة الثالثة كانت غزوة أحد، غزا المشركون وجيشوا الجيوش على المسلمين حتى وصلوا إلى أطراف المدينة، وخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه وعبأهم ورتبهم، والتقوا في أُحد عند الجبل المعروف شمالي المدينة، وكانت الدائرة في أول الأمر على المشركين، ثم لما ترك الرماة مركزهم الذي رتبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: لا تبرحوا عنه، ظهَرنا أو غُلبنا، وجاءت الخيل مع تلك الثغرة وكان ما كان، حصل على المسلمين في أُحد مقتلة أكرمهم الله بالشهادة في سبيله، وذكر الله تفصيل هذه الغزوة في سورة آل عمران، وبسط متعلقاتها، فالوقوف على هذه الغزوة من كتب السير يعين على فهم الآيات الكثيرة التي نزلت فيها كبقية الغزوات.

المسألة السابعة عشر: بيان غزوة بدر الثانية.
ثم في السنة الرابعة تواعد المسلمون والمشركون فيها - في بدر - فجاء المسلمون لذلك الموعد، وتخلف المشركون معتذرين أن السنة مجدبة، فكتبها الله غزوة للمسلمين:
{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174]

المسألة الثامنة عشر: بيان غزوة الخندق.
ثم في سنة خمس كانت غزوة الخندق، اتفق أهل الحجاز وأهل نجد، وظاهرهم بنو قريظة من اليهود على غزو النبي صلى الله عليه وسلم، وجمعوا ما يقدرون عليه من الجنود، فاجتمع نحو عشرة آلاف مقاتل وقصدوا المدينة، ولما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم خندق على المدينة، وخرج المسلمون نحو الخندق، وجاء المشركون كما وصفهم الله بقوله:
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]
ومكثوا محاصرين المدينة عدة أيام، وحال الخندق بينهم وبين اصطدام الجيوش، وحصل مناوشات يسيرة بين أفراد من الخيل، وسبب الله عدة أسباب لانخذال المشركين، ثم انشمروا إلى ديارهم، فلما رجعوا خائبين لم ينالوا ما كانوا جازمين على حصوله، تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة الذين ظاهروا المشركين بقولهم وتشجيعهم على قصد المدينة، ومظاهرتهم الفعلية ونقضهم ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فحاصرهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وفي هذه الغزوة أنزل الله صدر سورة الأحزاب من قوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27]

المسألة التاسعة عشر: بيان صلح الحديبية واجلاء اليهود.
ثم في سنة ست من الهجرة اعتمر صلى الله عليه وسلم وأصحابه عمرة الحديبية، وكان البيت لا يُصدُّ عنه أحد، فعزم المشركون على صد النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ولما بلغ الحديبية ورأى المشركين قد أخذتهم الحمية الجاهلية جازمين على القتال دخل معهم في صلح لحقن الدماء في بيت الله الحرام، ولما في ذلك من المصالح، وصار الصلح على أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم عامه هذا ولا يدخل البيت، ويكون القضاء من العام المقبل، وتضع الحرب أوزارها بينهم عشر سنين؛ فكره جمهور المسلمين هذا الصلح حين توهموا أن فيه غضاضة على المسلمين، ولم يطلعوا على ما فيه من المصالح الكثيرة، فرجع صلى الله عليه وسلم عامه ذلك، وقضى هذه العمرة في عام سبع من الهجرة، فأنزل الله في هذه القضية سورة الفتح بأكملها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]
فكان هذا الفتح لما فيه من الصلح الذي تمكن فيه المسلمون من الدعوة إلى الإسلام، ودخول الناس في دين الله حين شاهدوا ما فيه من الخير والصلاح والنور، وقد تقدم أن قصة بني قريظة دخلت في ضمن قصة الخندق، أما قبيلة بني النضير من اليهود فإنها قبل ذلك حين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا على جانب المدينة غزاهم صلى الله عليه وسلم واحتموا بحصونهم، ووعدهم المنافقون حلفاؤهم بنصرتهم، فألقى الله الرعب في قلوبهم، وأنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يجلوا عن ديارهم ولهم ما حملت إبلهم، ويدعوا الأرض والعقار وما لم تحمله الإبل للمسلمين؛ فأنزل الله في هذه القضية أول سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] إلى آخر القصة.

المسألة العشرون: بيان فتح مكة.
وفي سنة ثمان من الهجرة، وقد نقضت قريش العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم غزا مكة في جند كثيف من المسلمين يقارب عشرة آلاف، فدخلها فاتحا لها، ثم تممها بغزو حنين على هوازن وثقيف، فتم بذلك نصر الله لرسوله وللمسلمين، وأنزل الله في ذلك أول سورة التوبة.

المسألة الحادية والعشرون: بيان غروة تبوك.
وفي سنة تسع من الهجرة غزا تبوك وأوعب المسلمون معه، ولم يتخلف إلا أهل الأعذار وأناس من المنافقين، وثلاثة من صلحاء المؤمنين: كعب بن مالك وصاحباه، وكان الوقت شديدا، والحر شديدا، والعدو كثيرا، والعسرة مشتدة، فوصل إلى تبوك ومكث عشرين يوما ولم يحصل قتال فرجع إلى المدينة؛ فأنزل الله في هذه الغزوة آيات كثيرة من سورة التوبة، يذكر تعالى تفاصيلها وشدتها، ويثني على المؤمنين، ويذم المنافقين وتخلفهم، ويذكر توبته على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، ويدخل معهم الثلاثة الذين خلفوا بعد توبتهم وإنابتهم.
وفي مطاوي هذه الغزوات يذكر الله آيات الجهاد وفرضه وفضله وثواب أهله، وما للناكلين عنه من الذل العاجل والعقاب الآجل، كما أنه في أثناء هذه المدة ينزل الله الأحكام الشرعية شيئا فشيئا بحسب ما تقتضيه حكمته.

المسألة الثانية والعشرون: بيان فرض الحج وحجة الوداع.
وفي سنة تسع من الهجرة أو سنة عشر فرض الله الحج على المسلمين، وكان أبو بكر حج بالناس سنة تسع، ونبذ إلى المشركين عهودهم، وأتم عهود الذين لم ينقضوا، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين سنة عشر واستوعب المسلمين معه، وأعلمهم بمناسك الحج والعمرة بقوله وفعله، وأنزل الله الآيات التي في الحج وأحكامه، وأنزل الله يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]

من فوائد دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم:

١- معرفة اسباب نزول الايات فيكون ادعى للعلم بها.
٢- معرفة جهاد النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه لنشر الدعوة والاقتداء بهم.
٣- معرفة فضل النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب محبته.
٤- معرفة تفسير بعض الايات من معرفة وقائع السيرة.

والله أعلم.

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المجلس, العاشر

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:24 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir