دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 12:56 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


وتَتَبَيَّنُ صِحَّةُ هذهِ القاعدةِ، وصِحَّةُ ما تَقَرَّرَ سابقًا، ببيانِ أَصْلَيْنِ شريفينِ، ومَثَلينِ مَضروبينِ، وخاتِمَةٍ جامِعَةٍ تَشْتَمِلُ على سَبْعِ قواعدَ نافعةٍ . واللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

فالأصْلُ الأوَّلُ: القولُ في بعضِ الصِّفاتِ كالقولِ في بعضٍ .
والأصْلُ الثاني: القولُ في الصفاتِ كالقولِ في الذاتِ .
والْمَثَلُ الأوَّلُ: الْجَنَّةُ .
والْمَثَلُ الثاني: الرُّوحُ .
ثمَّ القواعدُ السبْعُ، وسيأتي تفصيلُها بإذنِ اللَّهِ تعالى .

الْخُلاصَةُ والمناقَشَةُ

خُلاصَةُ مُقَدِّمَةِ الأصْلِ الأوَّلِ

1- القاعدةُ الأصيلةُ في الصِّفاتِ هيَ أنْ يُوصَفَ اللَّهُ بما وَصَفَ بهِ نفسَهُ نَفْيًا وإثباتًا .
2- طريقةُ السلَفِ في الصفاتِ الإثباتُ بلا تَمثيلٍ، والتَّنْزِيهُ بلا تَعطيلٍ .
3- يكونُ الإلحادُ في أسماءِ اللَّهِ وصِفاتِه وآياتِه الشرعيَّةِ وآياتِه الكَوْنِيَّةِ .
4- جَاءَت النصوصُ بالإثباتِ الْمُفَصَّلِ، والنَّفْيِ الْمُجْمَلِ، في بابِ الصِّفاتِ .
5- كلُّ مَنْ خَالَفَ طريقةَ السلَفِ فهوَ من الزَّائِغِينَ المخالِفينَ لِمَا جاءَ بهِ الرُّسُلُ، ومنهم:

1- الباطنيَّةُ: ومَذْهَبُهُم سلْبُ النَّقِيضَيْنِ عن اللَّهِ؛ لأنَّهُم يَزْعُمُونَ أنَّ الإثباتَ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالموجوداتِ، والنفيَ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالمعدوماتِ، فوَقَعُوا في التشبيهِ بالْمُمْتَنِعَاتِ .
2- الفلاسِفةُ: ومَذْهَبُهُمْ وَصْفُ اللَّهِ بالسُّلُوبِ والإضافاتِ، وجَعْلُه الوجودَ الْمُطْلَقَ بشَرْطِ الإطلاقِ .
3- الْمُعْتَزِلَةُ وأتْبَاعُهُمْ: ومَذْهَبُهُم نَفْيُ الصفاتِ معَ إثباتِهم لأسماءٍ مُجَرَّدَةٍ .
6- لا يَلْزَمُ مِن الاتِّفاقِ في الأسماءِ الاتِّفاقُ في الْمُسَمَّيَاتِ .

المناقَشَةُ

1- اذْكُر القاعدةَ العامَّةَ في بابِ الصِّفاتِ، ( معَ ذِكْرِ آثارِ السلَفِ في ذلكَ ) .
2- ما هيَ خصائصُ طريقةِ السلَفِ؟
3- ما هيَ أُصولُ السلَفِ في الإثباتِ والنفيِ؟
4- اذكُرْ بعضَ الزائِغِينَ في هذا البابِ معَ التعريفِ بهم وبِمَذَاهِبِهم .
5- ما الْمُرادُ بما يَلِي: التكييفُ – التمثيلُ - التعطيلُ – التحريفُ – الإلحادُ؟
6- عَرِّف الْمُصطلحاتِ التاليةِ: واجبُ الوجودِ، الْمُمْكِنُ، المعدومُ، الْمُمْتَنِعُ، النقيضانِ، الضِّدَّانِ، الْمُتَضَايِفَانِ، الْمَلَكَةُ والْعَدَمُ .
7- اذكُرْ مَذْهَبَ الباطنيَّةِ في الصفاتِ، وشُبْهَتَهُمْ، والرَّدَّ عليهم .
8- اذْكُرْ مَذْهَبَ الفَلاسِفَةِ في الصفاتِ، وشُبْهَتَهُمْ، والرَّدَّ عليهم .
9- اذكُرْ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةَ، وشُبْهَتَهُمْ، والرَّدَّ عليهم .
10- كيفَ تَرُدُّ على هذهِ الفِرَقِ رَدًّا إِجْمَالِيًّا؟
11- ما المقصودُ بالقديمِ؟ وهلْ هوَ منْ أسماءِ اللَّهِ؟ وَضِّحْ ذلكَ .
12- لماذا سُمِّيَ أَهْلُ الكلامِ بهذا الاسمِ؟
الكلامُ على الأصلَيْنِ الشريفَيْنِ

الأصْلُ الأوَّلُ
القولُ في بعضِ الصِّفاتِ كالقولِ في بعضٍ

قولُه: ( فصلٌ
فأمَّا الأصلانِ، فأحَدُهما أنْ يُقالَ: القولُ في بعضِ الصِّفاتِ كالقولِ في بعضٍ ) .

التوضيحُ

معني هذا الأصْلِ أنَّ ما يَجِبُ اعتقادُه في بعضِ الصفاتِ يَجِبُ في البعضِ الآخَرِ، فإنْ وَجَبَ إثباتُ بعضِها وَجَبَ إثباتُ البَعْضِ الآخَرِ، ومَنْ نَفَى بَعْضَها لَزِمَه نَفْيُ ما سِوَاهَا، ومَنْ زَعَمَ أنَّ بعضَها يَسْتَلْزِمُ تَشْبيهًا كانَ الكُلُّ كذلكَ. قالَ الإمامُ أبو عُثمانَ الصَّابُونِيُّ ناقلاً عَقِيدَةَ السلَفِ أصحابِ الحديثِ: " وكذلكَ يقولونَ في جميعِ الصِّفاتِ التي نَزَلَ بذِكْرِها القرآنُ، وَوَرَدَتْ بها الأخبارُ الصِّحاحُ ".
وقالَ الإمامُ ابنُ جَريرٍ: فإنْ قالَ لنا قائلٌ: فما الصوابُ من القَوْلِ في معاني هذهِ الصِّفاتِ .... قيلَ: الصوابُ منْ هذا القَوْلِ عِنْدَنا أنْ نُثْبِتَ حقائقَها على ما نَعْرِفُ منْ جِهَةِ الإثباتِ ونَفْيِ التشبيهِ. قال ناظِمُ مُخْتَصَرِ خليلٍ:

" البابُ في الجميعِ واحدٌ فلا تَكُنْ مُعَطِّلاً ولا مُمَثِّلا "

وقالَ الناظِمُ:

" القولُ في بعضِ الصِّفاتِ مِثْلُالقولِ في بعضٍ فهذا أَصْلُ "

وهذا الأصْلُ مَبْنِيٌّ على القاعدةِ العَقْلِيَّةِ السابقةِ، وهيَ ( وجوبُ التسويةِ بينَ الْمُتَمَاثلاتِ ) .
وسَيَرُدُّ بهذا الأصْلِ على الطوائفِ السابقةِ، وبالأخَصِّ الأشاعرةِ والمعتزِلَةِ والْجَهْمِيَّةِ .

أوَّلاً: مُناقَشَةُ الْأَشاعِرَةِ

قولُه: ( فإنْ كانَ المخاطَبُ مِمَّنْ يقولُ: بأنَّ اللَّهَ حَيٌّ بحياةٍ، عليمٌ بعِلْمٍ، قديرٌ بقُدْرَةٍ، سميعٌ بسمْعٍ، بصيرٌ ببَصَرٍ، مُتَكَلِّمٌ بكلامٍ، مُرِيدٌ بإرادةٍ، ويَجْعَلُ ذلكَ كُلَّه حقيقةً، ويُنازِعُ في مَحَبَّتِه ورِضَاهُ، وغَضَبِه وكراهِيَتِه، فيَجْعَلُ ذلكَ مَجازًا، ويُفَسِّرُه إمَّا بالإرادةِ، وإمَّا ببعضِ المخلوقاتِ من النِّعَمِ والعُقوباتِ . فيُقالُ لهُ: لا فَرْقَ بينَ ما نَفَيْتَهُ وبينَ ما أَثْبَتَّهُ، بل القولُ في أحَدِهما كالقولِ في الآخَرِ، فإنْ قُلْتَ: إنَّ إرادتَهُ مِثْلُ إرادةِ المخلوقينَ، فكذلكَ مَحَبَّتُه ورِضاهُ وغَضَبُه، وهذا هوَ التمثيلُ. وإنْ قُلْتَ: إنَّ لهُ إرادةً تَلِيقُ بهِ، كما أنَّ للمخلوقِ إرادةً تليقُ بهِ، قيلَ لكَ: وكذلكَ لهُ مَحَبَّةٌ تَليقُ بهِ، وللمخلوقِ مَحَبَّةٌ تَليقُ بهِ، ولهُ رِضًا وغَضَبٌ يَلِيقُ بهِ، وللمخلوقِ رِضًا وغَضَبٌ يَلِيقُ بهِ. وإنْ قُلْتَ: الغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ لطَلَبِ الانتقامِ، فيُقالُ لكَ: والإرادةُ مَيْلُ النفْسِ إلى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ . فإنْ قُلْتَ: هذهِ إرادةُ الْمَخلوقِ، قيلَ لكَ: وهذا غَضَبُ المخلوقِ ) .

التوضيحُ

لم يُسَمِّ شيخُ الإسلامِ الأشاعِرَةَ باسمِهم، وإنَّما ذَكَرَ مَذْهَبَهُم ليَشْمَلَ الرَّدُّ كلَّ مَنْ وَافَقَهُم، كالْمَاتَرِيدِيَّةِ وغيرِهم. والكلامُ على هذهِ الفِقرةِ منْ خلالِ النِّقَاطِ التاليةِ:

أوَّلاً: التعريفُ بالأشاعرةِ: هم الْمَنسوبونَ إلى الإمامِ أبي الْحَسَنِ الْأَشعريِّ، وهوَ عليُّ بنُ إسماعيلَ بنِ أبي بِشْرٍ، يَنْتَهِي نَسَبُه إلى الصحابيِّ الجليلِ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ . وكان أبو الحسَنِ مُعْتَزِليًّا، ثمَّ أَعْلَنَ رُجوعَه وتَوْبَتَه، وسَلَكَ طريقَةَ عبدِ اللَّهِ بنِ سعيدِ بنِ كِلابٍ، ونَسَجَ على قوانينِه في الصِّفاتِ والقدَرِ. ثمَّ انْتَقَلَ إلى مُتابَعَةِ الإمامِ أَحْمَدَ وأهْلِ الحديثِ ونَصَرَ مَذْهَبَ السلَفِ كما في كُتُبِه الثلاثةِ: ( الإبانةُ، مقالاتُ الإسلاميِّينَ، رسالةٌ إلى أَهْلَ الثَّغْرِ)، وقدْ نَقَلْتُ عنْ هذهِ الكُتُبِ في أثناءِ هذا الشرْحِ. وتُوُفِّيَ سنةَ 324هـ . والأشاعرةُ الْمُنتسبونَ إليه يُتَابِعُونَه في مرحلتِه الثانيةِ؛ لذلكَ يُقالُ: الأشاعرةُ الكِلاَبِيَّةُ، ولهمْ أصولٌ خالَفُوا فيها السلَفَ في مختلِفِ أبوابِ الاعتقادِ .

ثانيًا: مَذْهَبُهُم في الصِّفاتِ:

1- يُقِرُّونَ بالأسماءِ معَ سَبْعِ صِفاتٍ: ( الحياةُ، والقُدْرَةُ، والعلْمُ، والكلامُ، والإرادةُ، والسمْعُ، والبَصَرُ ).
2- ويَجْعَلُونَ هذهِ الصفاتِ حقيقيَّةً وليستْ مَجَازِيَّةً .
3- يُنَازِعُونَ في غيرِها، كالْمَحَبَّةِ والغَضَبِ.
4- فيَجعلونَ هذهِ الصفاتِ مَجَازًا، ويُفَسِّرُونَها بأحَدِ تفسيرينِ:
1- الإرادةُ: فيقولونَ: الْمَحَبَّةُ هيَ إرادةُ الثوابِ، والغَضَبُ إرادةُ الانتقامِ، وهكذا .
2- الإنعامُ والعُقوبةُ: فيقولونَ: الْمَحَبَّةُ هيَ الإنعامُ، والغَضَبُ هوَ العُقوبةُ .

مَلحوظةٌ:
الأشاعرةُ يُثْبِتُونَ الصِّفاتِ السبْعَ على وَجْهِ الحقيقةِ، حتَّى صفةُ الكلامِ، لكنَّهم يُنازِعُونَ في المعنى الحقيقيِّ للكلامِ، فيَزْعُمُونَ أنَّ حقيقةَ الكلامِ هيَ المعنى النفسيُّ، وهذا إطلاقُه الحقيقيُّ عندَهم وليسَ مَجَازِيًّا. أمَّا السلَفُ وأئمَّةُ اللغةِ فالكلامُ عندَهم هوَ الْحَرْفُ والصوْتُ. وأَدَلَّةُ ذلكَ من الكتابِ والسُّنَّةِ واللغةِ والعقْلِ والعُرْفِ أكثَرُ منْ أنْ تُحْصَى، واللَّهُ أَعْلَمُ .

ثالثًا: الرَّدُّ على مَذْهَبِ الأشاعرةِ في الصِّفاتِ:

يُقالُ لهم: لا فَرْقَ بينَ ما نَفَيْتَهُ من الرحمةِ والغَضَبِ والمحَبَّةِ وغيرِها، وبينَ ما أَثْبَتَّهُ من الإرادةِ والكلامِ ..... فإنَّ القوْلَ في أحدِهما كالقولِ في الآخَرِ، ويَلْزَمُكَ أحَدُ ثلاثةِ لوازِمَ:

1- أنْ تقولَ: إنَّ إرادتَهُ مِثْلُ إرادةِ المخلوقِ، فكذا الْمَحَبَّةُ وغيرُها، فتَقَعُ في التمثيلِ .
2- أنْ تَنْفِيَ الجميعَ؛ فِرارًا من الوقوعِ في التمثيلِ، فتَقَعَ في التعطيلِ.
3- أنْ تقولَ فيما تُثْبِتُه من الإرادةِ والكلامِ: إنَّها ثابتةٌ كما تَلِيقُ بهِ، كما أنَّ للمخلوقِ إرادةً تَلِيقُ بهِ، وحينئذٍ يَلْزَمُكَ هذا في الْمَحَبَّةِ والغضَبِ، فتقولُ: لهُ مَحَبَّةٌ كما تَلِيقُ بهِ، كما للمخلوقِ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بهِ، وهكذا.

( جوابُ الْأَشْعَرِيِّ ): فإنْ قالَ: الغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ لطَلَبِ الانتقامِ، وهذا لا يَلِيقُ باللَّهِ.

( رَدُّ أَهْلِ السُّنَّةِ ): قيلَ لهُ: وكذلكَ الإرادةُ التي تُثْبِتُهَا: مَيْلُ النفْسِ إلى جَلْبِ مَنفعةٍ أوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، وهذا لا يَلِيقُ باللَّهِ، فانْفِهِما جميعًا أوْ أَثْبِتْهُما جميعًا .
( جوابُ الْأَشْعَرِيِّ ): هذهِ الإرادةُ التي ذَكَرْتَها هيَ إرادةُ المخلوقِ، أمَّا إرادةُ اللَّهِ فكما تَليقُ بهِ .

( رَدُّ أهْلِ السنَّةِ ): قيلَ لهُ: وهذا الغَضَبُ الذي ذَكَرْتَهُ إنَّما هوَ غَضَبُ المخلوقِ لا غَضَبَ اللَّهِ اللائقَ بهِ .
ثمَّ إنَّ هذا التفسيرَ ليسَ لحقيقةِ الغَضَبِ، وإنَّما هوَ أَثَرٌ منْ آثارِ الغَضَبِ .

متابَعَةُ إلزامِ الأشاعرةِ

قولُه: ( وكذلكَ يَلْزَمُ القولُ في كلامِه وسَمْعِه وبَصَرِه وعِلْمِه وقُدْرَتِه، إنْ نَفَى عنهُ الغَضَبَ والمحَبَّةَ والرِّضَا، ونحوَ ذلكَ مِمَّا هوَ منْ خصائصِ المخلوقينَ، فهذا مُنْتَفٍ عن السمْعِ والبَصَرِ والكلامِ وجميعِ الصِّفاتِ. وإنْ قالَ: إنَّهُ لا حقيقةَ لهذا إلَّا ما يَخْتَصُّ بالمخلوقينَ، فيَجِبُ نفيُه عنهُ، قيلَ لهُ: وهكذا السَّمْعُ والبَصَرُ والكلامُ والعِلْمُ والقُدرَةُ .
فهذا الْمُفَرِّقُ بينَ بعضِ الصِّفاتِ وبعضٍ، يُقالُ لهُ فيما نَفَاهُ، كما يقولُه هوَ لِمُنَازِعِهِ فيما أَثْبَتَهُ .

فإذا قالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: ليسَ لهُ إرادةٌ ولا كلامٌ قائمٌ بهِ؛ لأنَّ هذهِ الصفاتِ لا تقومُ إلَّا بالمخلوقاتِ، فإنَّهُ يُبَيَّنُ للمُعْتَزِلِيِّ أنَّ هذهِ الصفاتِ يَتَّصِفُ بها القديمُ، ولا تكونُ كصفاتِ الْمُحْدَثَاتِ . فهكذا يقولُ لهُ الْمُثْبِتُونَ لسائرِ الصفاتِ من الْمَحَبَّةِ والرِّضَا ونحوَ ذلكَ ) .

التوضيحُ

وبمثْلِ ما سَبَقَ يُلْزَمُ الأشعريُّ إذا قالَ بالكلامِ والسمْعِ والبصَرِ ونَفْيِ الغضَبِ والمحَبَّةِ والرِّضَا، ونحوَ ذلكَ مِمَّا هوَ منْ خصائصِ المخلوقينَ عندَهُ؛ حيثُ يُقالُ لهُ: إنَّ خصائصَ المخلوقينَ مُنْتَفِيَةٌ عن السمْعِ والبصَرِ والكلامِ وجميعِ الصِّفاتِ إذا أُضِيفَتْ إلى اللَّهِ؛ لأنَّها تُصْبِحُ لائقةً بهِ .

( اعْتِرَاضُ الْأَشْعَرِيِّ ): إنْ قالَ: لا حقيقةَ لهذهِ الصِّفاتِ إلَّا ما يَخْتَصُّ بالمخلوقينَ، فلا حقيقةَ للغَضَبِ إلَّا غَلَيَانُ الدَّمِ.

( رَدُّ أَهْلِ السُّنَّةِ ): وهكذا قُلْ في السَّمْعِ والبصَرِ والكلامِ وغيرِها؛ فإنَّنا لا نَرَى سَمْعًا إلَّا بآلَةٍ، ولا نَرَى بَصَرًا إلَّا بانعكاساتٍ ضَوْئِيَّةٍ وحَدَقَاتٍ بَصَرِيَّةٍ وغيرِها .

فهذا الْمُفَرِّقُ بينَ الصِّفاتِ يُقالُ لهُ فيما نَفَاهُ كما يَقولُ هوَ لِمُنَازِعِه في الصفاتِ السبْعِ، أيْ: يُرَدُّ عليهِ بنَفْسِ الرُّدودِ التي يَرُدُّ بها على الْمُعْتَزِلِيِّ .

مِثالُ ذلكَ: إذا قالَ الْمُعْتَزِلِيُّ وهوَ يَنْفِي جميعَ الصفاتِ: ليسَ لهُ إرادةٌ ولا كلامٌ قائمٌ بهِ؛ لأنَّ هذهِ الصفاتِ لا تَقومُ إلَّا بالأجسامِ، فيَلْزَمُ التشبيهُ .
- فيَرُدُّ عليهِ الْأَشْعَرِيُّ: بأنَّ القديمَ يَتَّصِفُ بهذه الصِّفاتِ، ولا تكونُ كخصائصِ الْمُحْدَثَاتِ.
- فيَرُدُّ أهلُ السنَّةِ على الْأَشْعَرِيِّ بعينِ رَدِّه على الْمُعْتَزِلِيِّ فيُقالُ: فهكذا يَقولُ الْمُثْبِتُونَ في سائِرِ الصِّفاتِ من الْمَحَبَّةِ والرِّضَا والغَضَبِ والرَّحْمَةِ وغيرِ ذلكَ. فيُلْزَمُ الْأَشْعَرِيُّ بعَيْنِ ما أَلْزَمَ بهِ الْمُعْتَزِلِيَّ.

احتجاجُ الْأَشَاعِرَةِ بدَلالةِ العَقْلِ على هذهِ الصِّفاتِ

والجوابُ عنْهُ

أوَّلاً: حُجَّةُ الأشعريِّ في إثباتِه للصِّفَاتِ السبْعِ:
قولُه: ( فإنْ قالَ: تلكَ الصِّفاتُ أُثْبِتُها بالعَقْلِ؛ لأنَّ الفِعْلَ الحادِثَ دَلَّ على القُدْرَةِ، والتخصيصَ دَلَّ على الإرادةِ، والإحكامَ دَلَّ على الْعِلْمِ، وهذهِ الصِّفاتُ مُسْتَلْزِمَةٌ للحياةِ، والحيُّ لا يَخْلُو عن السمْعِ والبصَرِ والكلامِ أوْ ضِدِّ ذلكَ ).

التوضيحُ

احْتَجَّ الأشاعِرَةُ في إثباتِهم للصِّفاتِ السبْعِ بأنَّ العَقْلَ قدْ أَثْبَتَ هذهِ الصفاتِ ودَلَّ عليها كما يَلِي:

1) الْقُدْرَةُ: دَلَّ عليها الفِعْلُ الحادِثُ: الفعْلُ هنا مَصْدَرٌ بمعنى المفعولِ، والمقصودُ وجودُ المخلوقاتِ.

2) الإرادةُ: دَلَّ عليها التخصيصُ: أيْ تَمَيُّزُ كلِّ شيءٍ بِمَيْزَةٍ تَخُصُّه منْ صِفةٍ أوْ وقتٍ أوْ مكانٍ دليلٌ على إرادةِ اللَّهِ لذلكَ .

3) العلْمُ: دَلَّ عليهِ الإحكامُ والإتقانُ في المخلوقاتِ، فهذا لا يكونُ إلَّا بكمَالِ العِلْمِ .

4) الحياةُ: لأنَّ الْقُدْرَةَ والإرادةَ والعلْمَ لا تَقومُ إلَّا بالْحَيِّ؛ فهيَ مُسْتَلْزِمَةٌ للحياةِ .

5) 6) 7) السمْعُ والبَصَرُ والكلامُ: لأنَّ الحيَّ لا يَخْلُو من السمْعِ والبصَرِ والكلامِ أوْ ضِدِّها من الصَّمَمِ والْعَمَى والْخَرَصِ . وهذهِ الأضْدَادُ نقائِصُ يَتَنَزَّهُ اللَّهُ عنها، فَوَجَبَ إثباتُ الكمالِ له.
وبهذهِ الدَّلالاتِ العَقْلِيَّةِ أَثْبَتَ الأشَاعِرَةُ تلكَ الصِّفاتِ .

ثانيًا: جوابُ أَهْلِ السُّنَّةِ منْ وَجْهَيْنِ:
قولُه: ( قالَ لهُ سائرُ أَهْلِ الإثباتِ: لكَ جوابانِ:
أحدُهما أنْ يُقالَ: عَدَمُ الدليلِ الْمُعَيَّنِ لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ المدلولِ الْمُعَيَّنِ، فهَبْ أنَّ ما سَلَكْتَهُ من الدليلِ الَعَقْلِيِّ لا يُثْبِتُ ذلكَ، فإنَّهُ لا يَنْفِيهِ، وليسَ لكَ أنْ تَنْفِيَهُ بغيرِ دليلٍ؛ لأنَّ النَّافِيَ عليهِ الدليلُ كما على الْمُثْبِتِ، والسمْعُ قدْ دَلَّ عليهِ، ولم يُعَارِضْ ذلكَ مُعَارِضٌ عَقْلِيٌّ ولا سَمْعِيٌّ، فيَجِبُ إثباتُ ما أَثْبَتَهُ الدليلُ السالِمُ عن الْمُعَارِضِ المقاوِمِ ) .

التوضيحُ

أَجابَ أهْلُ السُّنَّةِ عنْ ذلكَ بجوابَيْنِ شافِيَيْنِ: ذُكِرَ هنا الجوابُ الأوَّلُ، وهوَ كما يَلِي:

( الجوابُ الأوَّلُ: على فَرْضِ التسليمِ )
أيْ: على فَرْضِ التسليمِ بأنَّ العَقْلَ دَلَّ على هذهِ السبْعِ، ولم يَدُلَّ على غيرِها من الصِّفاتِ . ومَضمونُ هذا الْجَوابِ منْ ثلاثِ مُقَدِّمَاتٍ ونتيجةٍ:

1- الْمُقَدِّمَةُ الأُولَى: أنَّ عَدَمَ الدليلِ الْمُعَيَّنِ، وهوَ هنا العَقْلُ، لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَدلولِ الْمُعَيَّنِ، وهوَ هنا بَقِيَّةُ الصِّفاتِ . فلوْ قَدَّرْنَا أنَّ العَقْلَ لا يَدُلُّ على بَقِيَّةِ الصِّفاتِ، لكنَّهُ لا يَنْفِيها؛ لعَدَمِ مُصَادَمَتِها للعَقْلِ .

2- الْمُقَدِّمَةُ الثانيةُ: وما دامَ أنَّ العَقْلَ لا يَنْفِيها فلا يَجوزُ نَفْيُها بلا دَليلٍ؛ لأنَّ النافيَ عليهِ الدليلُ على نَفْيِه، كما أنَّ الْمُثْبِتَ عليهِ الدليلُ، كما قالَ تعالى: { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى }. فهنا نَفَوْا دُخولَ الْجَنَّةِ لغيرِهم، فطالَبَهم اللَّهُ بالدَّليلِ في قولِه: { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ }، وهذا بِناءٌ على تحقيقِ شيخِ الإسلامِ لهذه المسألةِ .

3-الْمُقَدِّمَةُ الثالثةُ: أنَّ السمْعَ قدْ دَلَّ على بَقِيَّةِ الصِّفاتِ كما سَبَقَ سَرْدُ الآياتِ فيها، وهذا السمْعُ لم يُعَارِضْهُ صريحُ العقْلِ كما قُلْنَا، ولم يُعَارِضْهُ دليلٌ من النَّقْلِ أيضًا.

فالنتيجةُ: أنَّهُ يَجِبُ إثباتُ الدليلِ السالِمِ من الْمُعَارِضِ الْمُقاوِمِ لهُ، وهوَ هنا دليلُ النَّقْلِ؛ فإنَّهُ سَلِمَ منْ أيِّ مُعَارِضٍ، فالأصْلُ بقاؤُهُ، وهذا هوَ المطلوبُ .

الجوابُ الثاني على فَرْضِ الْمَنْعِ:

قولُه: ( والثاني: أنْ يُقالَ: يُمْكِنُ إثباتُ هذهِ الصِّفاتِ بنظيرِ ما أُثْبِتَ بهِ تلكَ من العَقْلِيَّاتِ، فيُقالُ: نَفْعُ العِبادِ بالإحسانِ إليهم يَدُلُّ على الرحمةِ، كدَلالةِ التخصيصِ على المشيئةِ . وإكرامُ الطائعينَ يَدُلُّ على مَحَبَّتِهِم، وعِقابُ الكافرينَ يَدُلُّ على بُغْضِهم، كما قدْ ثَبَتَ بالْمُشاهَدَةِ والخبَرِ منْ إكرامِ أوليائِه، وعِقابِ أعدائِه. والغاياتُ المحمودةُ في مفعولاتِه ومأموراتِه، وهيَ ما تَنْتَهِي إليهِ مفعولاتُه ومأموراتُه من العَواقِبِ الْحَميدةِ، تَدُلُّ على حِكْمَتِهِ البالِغَةِ، كما يَدُلُّ التخصيصُ على المشيئةِ وأَوْلَى؛ لقُوَّةِ العِلَّةِ الغائِيَّةِ . ولهذا كانَ ما في القرآنِ منْ بيانِ ما في مخلوقاتِه من النِّعَمِ والْحِكَمِ أعَظْمَ مِمَّا في القرآنِ منْ بيانِ ما فيها من الدَّلالةِ على مَحْضِ المشيئةِ ) .

التوضيحُ

هذا الجوابُ مَبْنِيٌّ على مَنْعِ قولِهم بأنَّ العَقْلَ لا يَدُلُّ على غيرِ تلكَ الصِّفاتِ السبْعِ، بلْ نَستطيعُ أنْ نُدَلِّلَ على باقي الصِّفاتِ بنظيرِ ما دَلَّلْتُمْ بهِ على تلكَ الصِّفاتِ من العَقْلِيَّاتِ، فنقولُ:
1- الرحمةُ: يَدُلُّ عليها نَفْعُ العِبادِ بالإحسانِ إليهم، كدَلالةِ التخصيصِ على المشيئةِ عندَكُم.
2- الْمَحَبَّةُ: يَدُلُّ عليها إكرامُ الطائعينَ في الدنيا والآخرةِ.
3- البُغْضُ: يَدُلُّ عليهِ عِقابُ الكافرينَ عاجِلاً وآجِلاً.
وهذا الإكرامُ والعِقابُ ثابتٌ في الواقِعِ وثابتٌ بالشَّرْعِ كما قالَ شيخُ الإسلامِ: { قدْ ثَبَتَ بالْمُشَاهَدَةِ والْخَبَرِ } .
4- الحكْمَةُ: يَدُلُّ عليها الغاياتُ المحمودةُ في مَفعولاتِه ومأموراتِه، أيْ: في مخلوقاتِه وشَرَائِعِه، وقولُه: ( الغاياتُ المحمودةُ ) وَضَّحَها بقولِه: ( وهيَ ما تَنْتَهِي إليه مفعولاتُه ومأموراتُه من العَوَاقِبِ الْحَميدةِ ) .
ودَلالةُ العَوَاقِبِ الْحَميدةِ على الْحِكْمَةِ التي يُنَازِعُ فيها الأشاعرةُ كدَلالةِ التخصيصِ على الإرادةِ، بلْ هيَ أَوْلَى. وسببُ كونِها أَوْلَى ( قُوَّةُ الْعِلَّةِ الغَائِيَّةِ ). وتوضيحُها كما يَلِي: إنَّ الْعِلَّةَ نوعانِ:

1- عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ: وهيَ سببُ وُجودِ الشيءِ، فيُقالُ عِلَّةُ وجودِ الْخَلْقِ قُدْرَةُ اللَّهِ، فهيَ التي فَعَلَت الشيءَ .

2- عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ: وهيَ الغايةُ منْ وُجودِ الشيءِ، فيُقالُ: عِلَّةُ وجودِ الْخَلْق عِبادةُ اللَّهِ تعالى .
والعِلَّةُ الغَائِيَّةُ هيَ الأكثَرُ في القرآنِ، وتكونُ مُقْتَرِنَةً باللامِ، وهيَ لامُ التعليلِ التي يُنْكِرُها نُفاةُ الْحِكْمَةِ، وهيَ الأَقْوَى؛ لأنَّها منْ أَجْلِها حَصَلَ الفِعْلُ. فلذلكَ كانتْ دَلالةُ الغَاياتِ المحمودةِ على الْحِكْمَةِ أَقْوَى منْ دَلالةِ التخصيصِ على الْمَشيئةِ؛ لأنَّ الحكمَةَ عِلَّةٌ غائيَّةٌ، والْمَشيئةَ عِلَّةٌ فاعليَّةٌ، وهيَ الأكثَرُ في القرآنِ . فبيانُ الحِكَمِ منْ خَلْقِه في القرآنِ أكْثَرُ منْ بيانِ مشيئتِه على إيجادِها .

- ومِنْ أَمْثِلَةِ الْحِكَمِ قولُه تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}،
وقولُه: { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا }، وقولُه: { وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا }، وقولُه: { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }، وغيرُها . ومِنْ ذِكْرِ المشيئةِ
قولُه: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. فالأوَّلُ أَكْثَرُ كما هوَ وَاضِحٌ .


ثانيًا: مُناقَشَةُ الْمُعْتَزِلَةِ

قولُه: ( وإنْ كانَ المخاطَبُ مِمَّنْ يُنْكِرُ الصِّفاتِ، ويُقِرُّ بالأسماءِ، كالْمُعْتَزِلِيِّ الذي يقولُ: إنَّهُ حَيٌّ عليمٌ قديرٌ، ويُنْكِرُ أنْ يَتَّصِفَ بالحياةِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ .
قيلَ لهُ: لا فَرْقَ بينَ إثباتِ الأسماءِ وإثباتِ الصِّفاتِ . فإنَّكَ إنْ قُلْتَ: إثباتُ الحياةِ والعلْمِ والقُدْرَةِ يَقْتَضِي تَشْبِيهًا أوْ تَجْسِيمًا؛ لأنَّا لا نَجِدُ في الشاهِدِ مُتَّصِفًا بالصِّفاتِ إلَّا ما هوَ جِسْمٌ، قيلَ لكَ: ولا نَجِدُ في الشاهِدِ ما هوَ مُسَمَّى حَيٍّ عَلِيمٍ قَدِيرٍ إلَّا ما هوَ جِسْمٌ . فإنْ نَفَيْتَ ما نَفَيْتَ؛ لكونِكَ لم تَجِدْهُ في الشاهِدِ إلَّا للجسْمِ، فانْفِ الأسماءَ، بلْ وكلَّ شيءٍ؛ لأنَّكَ لا تَجِدُهُ في الشاهِدِ إلَّا للجِسْمِ . فكلُّ ما يَحْتَجُّ بهِ مَنْ نَفَى الصفاتِ يَحْتَجُّ بهِ نافي الأسماءِ الْحُسنى، فما كانَ جوابًا لذلكَ كانَ جوابًا لِمُثْبِتِي الصِّفاتِ ) .

التوضيحُ

سَبَقَ الكلامُ عن الْمُعْتَزِلَةِ ومَذْهَبِهِم وأُصولِهم، وأنَّهُم يُثْبِتُونَ الأسماءَ دونَ الصِّفاتِ، فيُقالُ لهم: لا فَرْقَ بينَ إثباتِ الأسماءِ وإثباتِ الصِّفاتِ .

( شُبْهَةُ الْمُعْتَزِلِيِّ ): إثباتُ الصِّفاتِ، كالحياةِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ، تَقْتَضِي تشبيهًا وتَجسيمًا؛ لأنَّنَا لا نَجِدُ في الشاهِدِ، أيْ: في الموجوداتِ، مُتَّصِفًا بالصِّفاتِ إلَّا ما هوَ جِسْمٌ .

( جوابُ أَهْلِ السُّنَّةِ ): إنَّنا لا نَجِدُ أيضًا في الشاهِدِ ما هوَ مُسَمًّى بالحيِّ أو العليمِ أو القديرِ إلَّا ما هوَ جِسْمٌ، وحينئذٍ يَلْزَمُكَ ثلاثةُ لَوَازِمَ:

1- نَفْيُ الأسماءِ والصِّفاتِ جميعًا؛ لأنَّكَ لا تَجِدُ مَوْصُوفًا أوْ مُسَمًّى بأسماءٍ إلَّا ما هوَ جِسْمٌ . بلْ ويَلْزَمُكَ نَفْيُ كلِّ شيءٍ، كالوجودِ والقيامِ بالنفْسِ؛ لأنَّكَ لا تَجِدُ قائمًا بنفسِه إلَّا ما هوَ جِسْمٌ.

2- إثباتُ الجميعِ معَ اعتقادِ التشبيهِ بالأجسامِ، وهذا باطِلٌ أيضًا عندَنا وعندَكَ، بلْ هوَ العُمْدَةُ عندَكَ في نَفْيِ الصِّفاتِ .

3- إثباتُ الجميعِ دونَ تشبيهٍ على ما يَلِيقُ باللَّهِ تعالى، وهوَ الْحَقُّ الخالِي عن التَّنَاقُضِ .

لذلكَ قالَ الطَّبَرِيُّ في رَدِّهِ عليهِم: " فإنْ كانَ الْمُقِرُّ عندَهم بأنَّهُ مُقِرٌّ بإثباتِه ووُجودِه، فكذلكَ الْمُقِرُّ بأنَّهُ عالِمٌ مُقِرٌّ بإثباتِ عِلْمٍ لهُ ... وسائرِ صِفاتِه ... وكذلكَ القولُ في القُدْرَةِ والكلامِ والإرادةِ" .
- فكلُّ ما يَحْتَجُّ بهِ مَنْ نَفَى الصِّفاتِ، وهم الْمُعْتَزِلَةُ، يَحْتَجُّ بهِ نافِي الأسماءِ الْحُسْنَى، كالْجَهْمِيَّةِ وغيرِهم، فما كانَ جوابًا للمُعْتَزِلَةِ على إثباتِ الأسماءِ للجَهْمِيَّةِ كانَ جوابَنا على الْمُعْتَزِلَةِ في إثباتِ الصِّفاتِ الإلَهِيَّةِ .

ثالثًا: مُناقَشَةُ الْجَهْمِيَّةِ ومَنْ وَافَقَهُمْ
( وهمْ على ثلاثِ فِرَقٍ: الْجَهْمِيَّةُ الغُلاةُ، وغُلاةُ الغُلاةِ من الباطنيَّةِ، والفَلاسِفَةِ ).



(أ) الْجَهْمِيَّةُ الغُلاةُ:
قولُه: ( وإنْ كانَ المخاطَبُ من الغُلاةِ نُفَاةِ الأسماءِ والصِّفاتِ، وقالَ: لا أَقولُ: هوَ موجودٌ، ولا حَيٌّ، ولا عَلِيمٌ، ولا قَديرٌ، بلْ هذهِ الأسماءُ لمخلوقاتِه، إذ هيَ مَجازٌ؛ لأنَّ إثباتَ ذلكَ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالموجودِ الحيِّ العليمِ .
قيلَ لهُ: كذلكَ إذا قُلْتَ: ليسَ بِمَوْجودٍ، ولا حَيٍّ، ولا عليمٍ، ولا قديرٍ، كانَ ذلكَ تَشْبِيهًا بالمعدوماتِ، وذلكَ أَقْبَحُ من التشبيهِ بالمَوْجوداتِ )

التوضيحُ

كلامُه الآنَ عن الْجَهْمِيَّةِ، وقدْ سَبَقَ الكلامُ عنهمْ ووَصَفُهُمْ بالغُلاةِ لنَفْيِهِم الأسماءَ والصِّفاتِ، فقالَ:
أوَّلاً: إنْ قالَ الْجَهْمِيُّ: لا أقولُ: موجودٌ، ولا حَيٌّ، ولا عليمٌ، ولا قديرٌ، بلْ هذهِ أسماءٌ لمخلوقاتِه، أوْ هيَ مُجَرَّدُ مَجَازاتٍ لا حقيقةَ لها.
ثانيًا: شُبْهَتُه في ذلكَ أنَّ الإثباتَ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالموجوداتِ الْحَيَّةِ العَلِيمَةِ القديرةِ.
ثالثًا: الجوابُ على شُبْهَتِهِمْ منْ وَجْهَيْنِ:

الوجهُ الأوَّلُ: على فَرْضِ التسليمِ بأَنَّ الإثباتَ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالموجوداتِ، فكذلكَ النفيُ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالْمَعدوماتِ، وذلكَ أَقْبَحُ من التشبيهِ بالموجوداتِ .

الوجهُ الثاني: على فَرْضِ الْمَنْعِ، ولمْ يَذْكُرْهُ شيخُ الإسلامِ هنا، ولكنَّهُ مفهومٌ منْ خلالِ الرسالةِ سابقًا ولاحِقًا، وهوَ أنَّ إثباتَ الأسماءِ والصِّفاتِ لا يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ، وغايةُ ما يَحْصُلُ هوَ إثباتُ القَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الكلِّيِّ عندَ الإطلاقِ؛ ولذا فإنَّ التشبيهَ الذي نَفَتْهُ الأدلَّةُ النقليَّةُ والعقليَّةُ ليسَ هوَ الاتِّفاقَ في الْمُسَمَّيَاتِ، وإنَّما نَفَتْ ما يَسْتَلْزِمُ اشتراكَ الخالقِ والمخلوقِ فيما يَخْتَصُّ بهِ الخالِقُ منْ صِفاتِ الكمالِ .

قالَ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: " وأَنَّ وَصْفَهُ بذلكَ لا يُوجِبُ تَشبيهَهُ لِمَنْ وُصِفَ منْ خَلْقِه بذلكَ منْ قِبَلِ أنَّ الشيئينِ لا يُشَبَّهَانِ بغيرِهما ولا باتِّفاقِ أسمائِهما، وإنَّما يُشَبَّهَانِ بأنفسِهما . فلمَّا كانتْ نفْسُ الباري تعالى غيرَ مُشَبَّهَةٍ بشَيْءٍ من العالَمِ .. لمْ يكُنْ وَصْفُه بأنَّهُ حيٌّ وقادرٌ وعالِمٌ يُوجِبُ تَشَبُّهَه بِمَنْ وَصَفْنَاهُ بذلكَ مِنَّا .. "، إلى آخِرِ كلامِه .

(ب) غُلاةُ الغُلاةِ من الباطنيَّةِ:
قولُه: ( فإنْ قالَ: أنا أَنْفِي النَّفْيَ والإثباتَ، قيلَ لهُ: فيَلْزَمُكَ التشبيهُ بما اجْتَمَعَ فيهِ النقيضانِ من الْمُمْتَنِعَاتِ؛ فإنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يكونَ الشيءُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا، أوْ لاَ مَوجودًا ولا مَعدومًا، ويَمْتَنِعُ أنْ يُوصَفَ باجتماعِ الوجودِ والعَدَمِ، أو الحياةِ والموتِ، أو العِلْمِ والجهْلِ، أوْ يُوصَفَ بنَفْيِ الوجودِ والعَدَمِ، ونَفْيِ الحياةِ والموتِ، ونَفْيِ العلْمِ والجَهْلِ .


فإنْ قُلْتَ: إنَّما يَمْتَنِعُ نَفْيُ النقيضينِ عمَّا يكونُ قابلاً لهما، وهذانِ يَتقابلانِ تَقَابُلَ العَدَمِ والْمَلَكَةِ، لا تَقَابُلَ السلْبِ والإيجابِ، فإنَّ الْجِدارَ لا يُقالُ لهُ: أَعْمَى ولا بَصيرٌ، ولا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ؛ إذْ ليسَ بقَابِلٍ لهما ) .

التوضيحُ

سَبَقَ بيانُ مَذْهَبِ الباطنيَّةِ، وهوَ أنَّهُم يَنْفُونَ عن اللَّهِ النفيَ والإثباتَ، فيقولونَ: (لا موجودَ، ولا مَعْدُومَ). وشُبْهَتُهُمْ أنَّ الإثباتَ تَشْبِيهٌ بالموجوداتِ، والنفيَ تشبيهٌ بالمعدوماتِ .

( مناقَشَةُ الباطنيَّةِ ): يُقالُ لهُ: يَلْزَمُكَ بنَفْيِكَ للنَّفْيِ والإثباتِ التشبيهُ بما اجْتَمَعَ فيهِ النقيضانِ، ومِثْلُه ارتفاعُ النقيضينِ . وقدْ سَبَقَ أنَّهُ من الْمُمْتَنِعَاتِ، فيَمْتَنِعُ أنْ يكونَ الشيءُ لا مَوجودًا ولا مَعدومًا، ولا عالِمًا ولا جاهلاً، ولا حيًّا ولا ميِّتًا، كما يَمْتَنِعُ أنْ يَجْتَمِعَ فيهِ الوجودُ والعَدَمُ، والحياةُ والموتُ، والعلْمُ والجهْلُ، ففَرَرْتَ من التشبيهِ بالموجوداتِ أو المعدوماتِ، ووَقَعْتَ في التشبيهِ بالْمُمْتَنِعَاتِ، وهوَ أَشْنَعُ صُوَرِ التعطيلِ .

( اعتراضُ الباطنيَّةِ ): هذا اعتراضُهم الْمَشهورُ، وهوَ مَبْنِيٌّ على مُقَدِّمَاتٍ ثلاثٍ ونتيجةٍ:
الأُولَى: أنَّ نَفْيَ النقيضينِ إنَّما يَمْتَنِعُ عمَّا يكونُ قابِلاً للنقيضينِ .
الثانيةُ: أنَّ هذهِ الْمُتَقابلاتِ هيَ منْ قَبيلِ تَقَابُلِ الْمَلَكَةِ والعَدَمِ، أيْ: قدْ يَرتفعانِ عن الْمَحَلِّ الذي لا يَقْبَلُهُما .
الثالثةُ: أنَّ اللَّهَ تعالى ليسَ بقابِلٍ لهذه الْمُتَقَابِلاَتِ أَصْلاً .
والنتيجةُ عِنْدَهم أنَّ اللَّهَ تعالى لا يَمْتَنِعُ عليهِ رَفْعُ النقيضينِ؛ لأنَّهُ ليسَ بقابِلٍ لهما أَصْلاً. وهذا الاعتراضُ ذَكَرَهُ شيخُ الإسلامِ هنا، وسَيَذْكُرُه مرَّتَيْنِ ويُفَصِّلُ الرَّدَّ عليهِ في القاعدةِ السابعةِ .

الجوابُ على الاعتراضِ منْ ثلاثةِ وجوهٍ

الوجهُ الأوَّلُ: على فَرْضِ الْمَنْعِ:
قولُه: ( قيلَ لكَ أوَّلاً: هذا لا يَصِحُّ في الوجودِ والعَدَمِ؛ فإنَّهما مُتقابِلانِ تَقَابُلَ السلْبِ والإيجابِ باتِّفاقِ العُقلاءِ، فيَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ أَحَدِهما ثُبوتُ الآخَرِ . وأمَّا ما ذَكَرْتَهُ من الحياةِ والموتِ والعِلْمِ والجَهْلِ، فهذا اصطلاحٌ اصْطَلَحَتْ عليهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ. والاصطلاحاتُ اللفظيَّةُ ليستْ دَلِيلاً على الحقائقِ العَقْلِيَّةِ، وقدْ قالَ اللَّهُ تعالى: { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }، فسَمَّى الجمادَ مَيِّتًا، وهذا مَشهورٌ في لُغةِ العرَبِ وغيرِهم ) .

التوضيحُ

إنَّ هذا الكلامَ، وهوَ أنَّ هذهِ الْمُتقابِلاتِ منْ قَبيلِ الْمَلَكَةِ والعَدَمِ، على نَوْعَيْنِ:
1- الوجودُ والعَدَمُ: وهذا لا يَصِحُّ كونُهما من الْمَلَكَةِ والْعَدَمِ؛ لأنَّهُما منْ قَبيلِ السلْبِ والإيجابِ، أي: النقيضينِ، عندَ عامَّةِ العُقلاءِ، فيَلْزَمُ منْ رَفْعِ أحدِهما ثبوتُ الآخَرِ، ويَستحيلُ جَمْعُهما أوْ رَفْعُهما معًا، فلا بُدَّ أنْ يكونَ الشيءُ إِمَّا موجودًا وإمَّا مَعدومًا لا ثالثَ لهما، وهذا مِمَّا لا يَخْتَلِفُ فيهِ العُقلاءُ .
2- أمَّا الحياةُ والموتُ والعِلْمُ والجهْلُ، فتَسْمِيَتُهَا بالْمَلَكَةِ والعَدَمِ، ومَنْعُ اتِّصافِ الجماداتِ بها إنَّما هوَ اصْطِلاحٌ للفَلاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ، وهم أَتْبَاعُ أَرِسْطُو، وَسُمُّوا بذلكَ لأنَّهُ كانَ يُلْقِي الدروسَ وهوَ يَتَمَشَّى والتلاميذُ يَسيرونَ منْ حولِه. وهذا الاصطلاحُ مَرْدُودٌ لوجوهٍ، منها:

أوَّلاً: أنَّهُ معلومٌ عَقْلاً ما ليسَ بحيٍّ فهوَ مَيِّتٌ، وما ليسَ بعالِمٍ فهوَ جاهِلٌ، والاصطلاحاتُ لا تَدُلُّ على نَفْيِ الحقائقِ العقليَّةِ الثابتةِ .

ثانيًا: أنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْجَماداتِ بالموتِ، كما في قولِه تعالى: { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } .

ثالثًا: أنَّ تَسميةَ الْجَماداتِ بالأمواتِ مشهورٌ في لُغةِ العَرَبِ، كتسميتِهم الأرضَ الجرداءَ بالْمَيْتَةِ، ويُقالُ: إحياءُ الْمَواتِ، وغيرُه كثيرٌ .

الوجهُ الثاني: على فَرْضِ التسليمِ:
قولُه: ( وقيلَ لكَ ثانيًا: فما لا يَقْبَلُ الاتِّصافَ بالحياةِ والموتِ، والْعَمَى والبصَرِ، ونحوَ ذلكَ من الْمُتقابِلاتِ، أَنْقَصُ مِمَّا يَقْبَلُ ذلكَ. فالْأَعْمَى الذي يَقْبَلُ الاتِّصافَ بالبَصَرِ أَكْمَلُ من الْجَمادِ الذي لا يَقْبَلُ واحدًا منهما، فأنْتَ فَرَرْتَ منْ تشبيهِه بالحيواناتِ القابِلَةِ لصِفاتِ الكَمالِ، ووَصَفْتَهُ بصِفاتِ الْجَماداتِ التي لا تَقْبَلُ ذلكَ .

وأيضًا: فما لا يَقْبَلُ الوُجودَ والعَدَمَ أعْظَمُ امْتِنَاعًا من القَابِلِ للوجودِ والعَدَمِ، بلْ ومِن اجتماعِ الوجودِ والعَدَمِ ونَفْيِهما جميعًا، فما نَفَيْتَ عنهُ قَبولَ الوجودِ والعَدَمِ كانَ أعْظَمَ امتناعًا مِمَّا نَفَيْتَ عنه الوجودَ والعَدَمَ، وإذا كانَ هذا مُمْتَنِعًا في صرائحِ العقولِ كانَ هذا أَعْظَمَ امتناعًا، فجَعَلْتَ الوجودَ الذي لا يَقْبَلُ العَدَمَ هوَ أعْظَمَ الْمُمْتَنِعَاتِ، وهذا غايةُ التناقُضِ والفَسَادِ ) .

التوضيحُ

لوْ سَلَّمْنَا بأنَّ اللَّهَ تعالى لا يَقْبَلُ هذهِ الْمُتقابِلاتِ، وأنَّها كتَقَابُلِ الْمَلَكَةِ والعَدَمِ في حَقِّه، فيُقالُ:

1- إنَّ ما لا يَقْبَلُ الاتِّصافَ بالحياةِ والموتِ والعَمَى والبَصَرِ وغيرِها، أَنْقَصُ مِمَّا يَقْبَلُ ذلكَ . فالأعمى الذي يَقْبَلُ الاتِّصافَ بالبَصَرِ أكْمَلُ من الْجَمادِ الذي لا يَقْبَلُ الاتِّصافَ بالعمى ولا بالبَصَرِ، فأنْتَ فَرَرْتَ منْ تَشْبِيهِه بالأحياءِ القابِلَةِ لصِفاتِ الكمالِ فوَصَفْتَهُ بالجماداتِ غيرِ القَابِلَةِ لها .

2- وأيضًا، فإنَّ ما لا يَقْبَلُ الوجودَ والعَدَمَ أعْظَمُ امتناعًا مِمَّا يَقْبَلُهُما، بلْ ما لا يَقْبَلُهما أَعْظَمُ امتناعًا مِمَّا يَقْبَلُ اجتماعَهما أو ارتفاعَهما . فإذا كانَ اجتماعُهما وارتفاعُهما مُمْتَنِعًا في صرائحِ العُقولِ، فعَدَمُ قَبولِه لهما أَعْظَمُ امتناعًا . فبقَوْلِكَ هذا جَعَلْتَ الواجبَ الذي لا يَقْبَلُ أيَّ عَدَمٍ هوَ أَعْظَمَ الْممْتَنِعَاتِ، وهذا غايةُ التناقُضِ والفَسَادِ .
وقدْ سَبَقَ ترتيبُ الأشياءِ حَسَبَ الوجودِ والعَدَمِ كما يلي:

1- واجبُ الوجودِ . 2- مُمْكِنُ الوجودِ . 3- الْمَعْدُومُ الْمُمْكِنُ . 4- الْمَعْدُومُ الْمُمْتَنِعُ .
- والْمُمْتَنِعُ ثلاثةُ أقسامٍ أَعْظَمُها: 1) الْمُمْتَنِعُ لعَدَمِ قَبولِه النقيضينِ . 2) ثمَّ الْمُمْتَنِعُ لجمْعِ النقيضينِ . 3) ثمَّ الْمُمْتَنِعُ لرَفْعِهِمَا .

اسْتِطْرَادٌ في بيانِ أقسامِ الباطنيَّةِ

قولُه: ( وهؤلاءِ الباطنيَّةُ منهمْ مَنْ يُصَرِّحُ برَفْعِ النقيضينِ؛ الوجودُ والعَدَمُ، ورَفْعُهما كجَمْعِهما . ومنهمْ مَنْ يَقولُ: لا أُثْبِتُ واحدًا منهما. وامتناعُه عنْ إثباتِ أحدِهما في نَفْسِ الأمْرِ لا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ واحدٍ منهما في نَفْسِ الأمْرِ، وإنَّما هوَ كَجَهْلِ الجاهِلِ، وسكوتِ الساكِتِ، الذي لا يُعَبِّرُ عن الْحَقَائِقِ ) .

التوضيحُ

اسْتَطْرَدَ شيخُ الإسلامِ هنا في بيانِ قِسْمَيْنِ للبَاطِنيَّةِ، معَ أنَّهُ لمْ تَكْتَمِلْ وُجوهُ الرَّدِّ، فقالَ:
الباطنيَّةُ قِسمانِ:
1) مَنْ يُصَرِّحُ برَفْعِ النقيضينِ، وهمْ مَنْ سَبَقَ الرَّدُّ عليهم .
2) مَنْ يَمْتَنِعُ عن الإثباتِ .

والرَّدُّ عليهِ: أنَّ امتناعَهُ عن الإثباتِ لا يَمْنَعُ تحقُّقَ أحدِهما في الحقيقةِ، وإنَّما امتناعُه، كجَهْلِ الجاهِلِ وسكوتِ الساكِتِ، لا يُعَبِّرُ عن الحقائقِ نَفْيًا ولا إثباتًا . قالَ شيخُ الإسلامِ في شرْحِ حديثِ النُّزُولِ: " فامتناعُكَ منْ إثباتِ أَحَدِ النقيضينِ لا يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ النقيضينِ في نفسِ الأمْرِ؛ فإنَّ النقيضينِ لا يُمْكِنُ رَفْعُهُما، بلْ في نفْسِ الأمْرِ لا بُدَّ أنْ يكونَ الشيءُ إمَّا موجودًا وإمَّا أنْ لا يكونَ، وليسَ بينَ النفْيِ والإثباتِ واسطةٌ أَصْلاً ... فإعراضُ الإنسانِ عنْ رُؤْيَةِ الشمْسِ والقَمَرِ والكواكبِ والسماءِ لا يَدْفَعُ وجودَها، ولا يَرْفَعُ ثبوتَ أَحَدِ النقيضينِ". وهذا كلامٌ نَفِيسٌ يَدُلُّ على وَحدةِ الْمَنهَجِ في مُصَنَّفَاتِ شيخِ الإسلامِ رَحِمَه اللَّهُ .

النُّقْطَةُ الثالثةُ في الوجْهِ الثانِي من الجوابِ
3- قولُه: ( وإذا كانَ ما لا يَقْبَلُ الوجودَ ولا العَدَمَ أَعْظَمَ امْتِنَاعًا مِمَّا يُقَدَّرُ قَبولُه لهما معَ نفْيِهما عنهُ، فما يُقَدَّرُ لا يَقْبَلُ الحياةَ ولا الموتَ، ولا العِلْمَ ولا الْجَهْلَ، ولا القُدرَةَ ولا العَجْزَ، ولا الكلامَ ولا الْخَرَسَ، ولا العَمَى ولا البَصَرَ، ولا السَّمْعَ ولا الصَّمَمَ، أقربُ إلى المعدومِ والْمُمْتَنِعِ مِمَّا يُقَدَّرُ قَابِلاً لهما معَ نَفْيِهما عنهُ. وحينئذٍ فَنَفْيُهُما معَ كونِه قَابِلاً لهما أَقْرَبُ إلى الوجودِ والْمُمْكِنِ، وما جازَ لواجِبِ الوجودِ قابلاً، وَجَبَ لهُ لِعَدَمِ توقُّفِ صِفاتِه على غيرِه . فإذا جَازَ القَبولُ وَجَبَ، وإذا جازَ الْمَقبولُ وَجَبَ . وقدْ بَسَطَ هذا في مَوْضِعٍ آخَرَ، وبَيَّنَ وُجوبَ اتِّصافِه بصِفاتِ الكَمالِ التي لا نَقْصَ فيها بوَجْهٍ من الوُجوهِ ) .

التوضيحُ

هذه العِبارةُ تُعْتَبَرُ النُّقطَةَ الثانيةَ في الوجْهِ الثاني من الجوابِ، وحاصِلُها: سَبَقَ أنَّ ما لا يَقْبَلُ النقيضينِ أَعْظَمُ امتناعًا مِمَّا يُقَدَّرُ قَبُولُه لهما معَ نَفْيِهِما عنهُ، معَ أنَّ كِلاَ الأمرينِ مُحَالٌ، لكنَّ عَدَمَ قَبولِه للنقيضينِ أَشَدُّ امتناعًا منْ قَبولِه لهما معَ نَفْيِهما عنْهُ، وعَكْسُ ذلكَ أنَّ نفيَهما عنهُ معَ تقديرِه قَابِلاً لهما أَقْرَبُ إلى الإمكانِ، وما كانَ مَقبولاً للَّهِ تعالى فإنَّهُ يُصْبِحُ واجبًا في حَقِّه، فكلُّ ما جَازَ في حَقِّه وكان كَمالاً فإنَّهُ يَجِبُ اتِّصافُه بهِ . وهذهِ قاعدةٌ عَقْلِيَّةٌ بَرْهَنَ لها شيخُ الإسلامِ بتَوَسُّعٍ أكثَرَ في رسالتِه الأَكْمَلِيَّةِ؛ حيثُ قالَ: "وإذا ثَبَتَ إمكانُ ذلكَ لهُ، فما جَازَ لهُ من الكَمالِ الْمُمْكِنِ الوجودِ فإنَّهُ واجبٌ لهُ لا يَتَوَقَّفُ على غيرِه، فإنَّهُ لوْ تَوَقَّفَ على غيرِه لم يكُنْ موجودًا لهُ إلَّا بذلكَ الغَيْرِ، وذلكَ الغيرُ إنْ كانَ مَخْلوقًا لَزِمَ الدَّوْرَ... فإذا كلُّ كمالٍ جازَ في حَقِّه فيكونُ وَاجِبًا لهُ .

الوجهُ الثالثُ:
قولُه: ( وقيلَ لهُ أيضًا: اتِّفاقُ الْمُسَمَّيَيْنِ في بعضِ الأسماءِ والصِّفاتِ ليسَ هوَ التشبيهَ والتمثيلَ الذي نَفَتْهُ الأدِلَّةُ؛ السَّمْعِيَّاتُ والعَقْلِيَّاتُ، وإنَّما نَفَتْ ما يَسْتَلْزِمُ اشتراكَهما فيما يَخْتَصُّ بهِ الخالِقُ مِمَّا يَخْتَصُّ بوجوبِه أوْ جَوازِه أو امتناعِه، فلا يَجوزُ أنْ يَشْرَكَهُ فيهِ مخلوقٌ . ولا يَشْرَكُه مخلوقٌ في شيءٍ منْ خصائصِه سبحانَهُ وتعالى . وأمَّا ما نَفَيْتَهُ فهوَ ثابتٌ بالشرْعِ والعقْلِ، وتَسْمِيَتُكَ ذلكَ تشبيهًا وتجسيمًا تَمْوِيهٌ على الْجُهَّالِ الذينَ يَظُنُّونَ أنَّ كلَّ معنًى سَمَّاهُ مُسَمٍّ بهذا الاسْمِ يَجِبُ نفيُه، ولوْ ساغَ هذا لكانَ كلُّ مُبْطِلٍ يُسَمِّي الحقَّ بأسماءٍ يَنْفِرُ عنها بَعْضُ الناسِ؛ لِيُكَذِّبَ الناسُ بالحقِّ المعلومِ بالسمْعِ والعقْلِ . وبهذهِ الطريقةِ أَفْسَدَت الْمَلاحِدَةُ على طوائفِ الناسِ عَقْلَهُم ودِينَهم، حتَّى أَخْرَجُوهم إلى أَعْظَمِ الكُفْرِ والْجَهَالَةِ، وأَبْلَغِ الغِيِّ والضَّلاَلَةِ ) .

التوضيحُ

قدْ سَبَقَ هذا الوجْهُ، وهوَ باختصارٍ: إنَّ اتِّفاقَ الشيئينِ في بعضِ الأسماءِ والصِّفاتِ ليسَ هوَ التشبيهَ والتمثيلَ الذي نَفَتْهُ الأدِلَّةُ النقليَّةُ والعقليَّةُ، وإنَّما التشبيهُ الْمَنْفِيُّ هوَ الذي يَستلزِمُ اشتراكَ المخلوقِ فيما يَخْتَصُّ بهِ الخالِقُ، فما يَجِبُ على اللَّهِ يَخْتَلِفُ عمَّا يَجِبُ على المخلوقِ، كذلكَ ما يَمْتَنِعُ على اللَّهِ يَخْتَلِفُ عما يَمْتَنِعُ على المخلوقِ، وهكذا الجوازُ . فهذه الخصائصُ لا يُمْكِنُ أنْ تَشترِكَ بينَ الخالقِ والمخلوقِ . ويُوَضِّحُها الْجَدْوَلُ التالي:



في حقِّ المخلوقِ
في حقِّ اللَّهِ
الصفاتُ
صِفاتُ النقْصِ، كالافتقارِ إلى الغِذاءِ، والضَّعْفِ العامِّ، كما قالَ شيخُ الإسلامِ:
" الفَقْرُ لي وصْفُ ذاتٍ لازمٌ أَبَدًا
كما الْغِنَى وَصْفٌ لهُ ذَاتِي ".
صِفاتُ الكَمالِ، كالعِلْمِ والحياةِ والغِنَى والقُدْرَةِ وغيرِها.
الواجبةُ
صِفاتُ الكَمالِ، كالعِلْمِ والسمْعِ والبصَرِ، فهيَ مُمْكِنَةٌ للمخلوقِ، وليستْ وَاجبةً .
خَلْقُ العالَمِ والإنسانِ وغيرِها، فهيَ مِمَّا يَفْعَلُه اللَّهُ بمشيئتِه.
الجائزةُ
صِفاتُ الكَمَالِ الخاصَّةُ باللَّهِ تعالى، فهيَ مُمْتَنِعَةٌ على المخلوقينَ .
صِفاتُ النَّقْصِ، كالْمَرَضِ والنوْمِ والْمُمَاثَلَةِ للمخلوقينَ
الْمُمْتَنِعَةُ

(هنا جدول يحتاج للتنسيق)
وأمَّا ما نَفاهُ هؤلاءِ فهوَ ثَابِتٌ لهُ تعالى، وإنَّما سَمَّوْهُ تَشبيهًا وتَجسيمًا؛ ليُمَوِّهُوا على الْعَوَامِّ، ويُنَفِّرُوا الْجُهَّالَ عنْ إثباتِ صِفاتِ الكَمالِ، وبهذا أَفْسَدُوا على الناسِ دِينَهم. وهذهِ طريقةُ أهْلِ البِدَعِ، فإنَّهُم يُلَقِّبُونَ أهْلَ السُّنَّةِ ومعتقداتِهم بألقابٍ شنيعةٍ؛ ليُنَفِّرُوا الناسَ عن الحقِّ، كرَمْيِ الْجَهْمِيَّةِ لهمْ بالتشبيهِ، وإطلاقِ الرافِضَةِ لهم أنَّهُم نَواصِبُ، والْمُرْجِئَةِ بأنَّهُم شَكَّاكَةٌ، والقَدَرِيَّةِ بأنَّهُم جَبْرِيَّةٌ . قالَ ابنُ أبي حاتمٍ: " وسَمِعْتُ أبي يقولُ: وعَلامَةُ أهْلِ البِدَعِ الوَقِيعَةُ في أهْلِ الأثَرِ، وعَلامَةُ الزنادِقَةِ تسميتُهم أهْلَ السُّنَّةِ حَشْوِيَّةً، يُريدونَ إبطالَ الآثارِ، وعَلامَةُ الْجَهْمِيَّةِ تَسميتُهم أهْلَ السُّنَّةِ مُشَبِّهَةً، وعلامَةُ القَدَرِيَّةِ تَسميتُهُمْ أَهْلَ السنَّةِ مُجَبِّرَةً، وعَلامَةُ الْمُرْجِئِيَّةِ تَسْمِيَتُهُم أهْلَ السنَّةِ مخالِفَةً ونَقْصَانِيَّةً، وعَلامَةُ الرافِضَةِ تَسْمِيَتُهُمْ أهْلَ السنَّةِ نَاصِبَةً . ولا يَلْحَقُ أهلَ السنَّةِ إلَّا اسمٌ واحدٌ، ويَسْتَحِيلُ أنْ تَجْمَعَهُمْ هذهِ الأسماءُ " .
بلْ لقدْ أَخَذَ هذا الزمانُ نَصيبَه منْ هذهِ الافتراءاتِ، فأَهْلُ البِدَعِ يُلَقِّبُونَ أهلَ التوحيدِ والسُّنَّةِ بالوَهَّابِيَّةِ وغيرِ ذلكَ مِمَّا هوَ معلومٌ، واللَّهُ الْمُستعانُ .


(جـ) الرَّدُّ على الفَلاسِفَةِ وأتْبَاعِهم في شُبْهَةِ التركيبِ:
قولُه: ( وإن قالَ نُفَاةُ الصِّفَاتِ: إثباتُ العلْمِ والقُدْرَةِ والإرادةِ مُسْتَلْزِمٌ تَعَدُّدَ الصِّفَاتِ, وهذا تركيبٌ مُمْتَنِعٌ .
قِيلَ: وإذا قُلْتُمْ: هو موجودٌ واجبٌ وعَقْلٌ وعاقِلٌ ومعقولٌ، أَفَلَيْسَ المفهومُ من هذا هو المفهومَ من هذا؟ فهذه معانٍ مُتَعَدِّدةٌ متَغَايِرَةٌ في العقْلِ, وهذا تَرْكِيبٌ عندَكم، وأنتم تُثْبِتُونَه, وتُسَمُّونَه تَوْحِيدًا .
فإن قالوا: هذا توحيدٌ في الحقيقةِ، وليس هذا تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا .
قِيلَ لهم: واتِّصَافُ الذاتِ بالصِّفَاتِ اللازِمةِ لها توحيدٌ في الحقيقةِ، وليس هذا تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا ) .

التوضيحُ

أَوَّلاً:- من شُبَهِ الفَلاسِفَةِ - ومَن تَبِعَهُمْ من المُعْتَزِلةِ وغيرِهم من نُفَاةِ الصِّفَاتِ: أنَّ إثباتَ العلْمِ والقُدْرَةِ والإرادةِ وغيرِها يَسْتَلْزِمُ تَعَدُّدَ الصِّفَاتِ، وهذا تَرْكِيبٌ مُمْتَنِعٌ؛ لأنها صِفاتٌ مُتَغَايِرةٌ, فيَلْزَمُ أن يكونَ الموصوفُ بها مُرَكَّبًا منها، وفي هذا تشبيهٌ بالمخلوقِ, فلذلك فَهُمْ يقولون: إنَّ جميعَ الصِّفَاتِ بمعنًى واحدٍ, وهي عينُ ذاتِه, وليست شيئًا زَائِدًا .

قالَ الغزاليُّ في حكايةِ قولِ الفَلاسِفَةِ: " التَّرْكِيبُ بالصِّفَاتِ بتقديرِ العلْمِ والقُدْرَةِ والإرادةِ فإنَّ هذه الصِّفَاتِ إن كانت واجبةَ الوجودِ كان وُجوبُ الوجودِ مُشْتَرَكًا بينَ الذاتِ وبينَ هذه الصِّفَاتِ، ولَزِمَتْ كَثْرَةٌ في واجبِ الوجودِ وانْتَفَتْ الوَحدةُ " وقالَ التَّفْتَازَانيُّ في حكايةِ قولِ المُعْتَزِلةِ: لو كان موصوفًا بصفاتٍ قائمةٍ بذاتِه لكانت حقيقةُ الإلهيَّةِ مُرَكَّبَةً من تلك الذاتِ والصِّفَاتِ " .

ثانيًا:- الرَّدُّ عليهم من ثلاثةِ وُجوهٍ ذَكَرَ هنا الوجهَ الأوَّلَ وتفصيلُه ما يَلِي:

الوجهُ الأوَّلُ على فَرْضِ التسليمِ ( وهو رَدٌّ على الفَلاسِفَةِ ):
أي: على فَرْضِ التسليمِ بأنه تَرْكِيبٌ فأنتم أيضًا تقولون في اللهِ: هو موجودٌ واجبٌ وعقْلٌ وعاقِلٌ ومعقولٌ وعاشِقٌ ومعشوقٌ ولذيذٌ ومُلْتَذٌّ ولَذَّةٌ، وهذه المعاني مُتَعَدِّدَةٌ مُتَغَايِرةُ المعنى, وأنتم تُثْبِتُونَها، فهو تَرْكِيبٌ كذلك على مَذْهَبِكم وأنتم تُسَمُّونَه تَوحيدًا، وهذا غايةُ الاضْطِرابِ .
وهذه المعاني مع كونِها دَليلاً عليهم لم يَرِدْ بها النصُّ, وفيها ما يَتَنَزَّهُ عنه تعالى من النَّقْصِ .
فالعَقْلُ: مأخوذٌ من الْمَنْعِ؛ لأنه يَضْبِطُ النفسَ لِمَا فيها من الْقُصُورِ، وهذا لا يَلِيقُ باللهِ تعالى .
والعِشْقُ: هو الْحُبُّ الْمُفْرِطُ المتعلِّقُ بالشهْوَةِ وهذا باطِلٌ يَتَنَزَّهُ اللهُ عنه .
واللَّذَّةُ: لم تَرِدْ بها النصوصُ الشرعيَّةُ، فجميعُ هذه المعاني باطِلَةٌ، وإن تَعَسَّفُوا في تفسيرِها .

( اعتراضٌ ): إن قالوا: هذه الإطلاقاتُ توحيدٌ, وليست تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا .

( الجوابُ ): إنَّ اتِّصَافَ الذاتِ بالصِّفَاتِ اللازِمةِ لها توحيدٌ كذلك, وليس بتَرْكِيبٍ مُمْتَنِعٍ, بل هي أَوْلَى لدّلالَةِ النقْلِ عليها ومُوَافَقَةِ العقْلِ لها .

الوجهُ الثاني: على فَرْضِ الْمَنْعِ:
قولُه: ( وذلك أنه من الْمَعلومِ بصريحِ المعقولِ أنه ليس معنى كونِ الشيءِ عالِمًا هو معنى كونِه قَادِرًا، ولا نفْسُ ذاتِه هو نفْسَ كونِه عالِمًا قادرًا، فمَن جَوَّزَ أن تكونَ هذه الصِّفَةُ الأُخرى وأن تكونَ الصِّفَةُ هي الموصوفَ فهو من أَعْظَمِ الناسِ سَفْسَطَةً، ثم إنه مُتناقِضٌ فإنه إن جَوَّزَ ذلك جازَ أن يكونَ وجودُ هذا هو وجودَ هذا, فيكونُ الوُجودُ واحدًا بالعينِ لا بالنوعِ، وحينئذٍ فإذا كان وجودُ الْمُمْكِنِ هو وجودَ الواجِبِ كان وجودُ كلِّ مخلوقٍ - يُعْدَمُ بعدَ وجودِه ويُوجَدُ بعدَ عَدَمِه – هو نفسَ وجودِ الحَقِّ القديمِ الدائمِ الباقي الذي لا يَقْبَلُ العَدَمَ . وإذا قُدِّرَ هذا كان الوجودُ الواجبُ مَوصوفًا بكلِّ تشبيهٍ وتَجسيمٍ وكلِّ نقْصٍ وكلِّ عَيْبٍ كما يُصَرِّحُ بذلك أهلُ وَحْدَةِ الوجودِ الذين طَرَدُوا هذا الأصْلَ الفاسِدَ، وحينئذٍ فتكونُ أقوالُ نُفَاةِ الصِّفَاتِ باطِلَةً على كلِّ تقديرٍ ) .

التوضيحُ

هذا الجوابُ مَبْنِيٌّ على مَنْعِ قولِهم: إنَّ جميعَ الصِّفَاتِ بمعنًى واحدٍ، وأنها هي عينُ ذاتِه لا شيئًا زائدًا، ويكونُ الْمَنْعُ بالإبطالِ من ثلاثةِ وجوهٍ:
أنه من المعلومِ بصريحِ العَقْلِ الاختلافُ بينَ كونِ الشيءِ عالِمًا وبينَ كونِه قادرًا، وبينَ نفسِ الذاتِ ومعاني الصِّفَاتِ، فإنَّ كونَ الموصوفِ عالِمًا قادرًا زائدًا على مُجَرَّدِ الذاتِ. فمَن جَوَّزَ أن تكونَ هذه الصِّفَةُ هي الأخرى أو هذه الصِّفَةُ هي الموصوفَ فهو من أَعْظَمِ الناسِ سَفْسَطَةً وتَمْوِيهًا ومُكَابَرَةً لصريحِ المعقولِ وصحيحِ المنقولِ .

ثم في قولِهم هذا تَناقُضٌ واضحٌ ووَجْهُهُ: أنه إن لم يكنْ للواجِبِ, وهو اللهُ تعالى, صِفاتٌ تُمَيِّزُه عن غيرِه لم يكن واجبًا؛ لأنَّ الشيءَ الْمُجَرَّدَ عن جميعِ الصِّفَاتِ مُمْتَنِعُ الوجودِ فلا يكونُ واجبًا ضرورةً، وهؤلاءِ إنما نَفَوا التَّرْكِيبَ؛ لأنه يَسْتَلْزِمُ عندَهم نَفْيَ الوجوبِ فوَقَعُوا- بنَفْيِ التَّرْكِيبِ- في نَفْيِ الوجوبِ الذي فَرُّوا منه فوَقَعُوا في التناقُضِ الواضِحِ الفاضِحِ .

ثم إن جَوَّزْنَا أن تكونَ الصِّفَةُ هي عينَ الذاتِ جازَ أن يكونَ وُجودُ هذا هو وجودَ هذا؛ لأنَّ صِبْغَةَ الخلْقِ والإحداثِ تُصْبِحُ هي عينَ الخالِقِ فيكونُ المخلوقُ هو الخالِقَ، وهذا يَقْتَضِي أنَّ الوجودَ واحدٌ بالعينِ، أي: مُتَّحِدٌ بينَ الخالقِ ومخلوقاتِه, وليس مُشْتَمِلاً على أفرادٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وهذا مَدْخَلُ أهلِ وَحْدَةِ الوجودِ, وهم الذين لا يُثْبِتُون وُجودًا مُتَنَوِّعًا, بل عندَهم وجودٌ واحدٌ, والخالِقُ هو المخلوقُ, تعالى اللهُ عن قولِهم .
وعليه يكونُ وجودُ الْمُمْكِنِ المخلوقِ هو عينَ وجودِ الواجِبِ الذي لا يَقْبَلُ العَدَمَ، وهذا القولُ هو الذي يُفْضِي إليه زَعْمُهُمْ بأنَّ الصِّفَاتِ عينُ الذاتِ, واللهُ أعْلَمُ .

الوجهُ الثالثُ:- الاستفصالُ:
وهذا جوابٌ لم يَأْتِ به شيخُ الإسلامِ في هذه الرسالةِ مع أنه كَرَّرَه في مواضِعَ من كُتُبِه، وكان يَنْبَغِي أن يكونَ من أوَّلِ أوْجُهِ الرَّدِّ، وإنما أَخّضرْتُه لعَدَمِ وجودِه في الرسالةِ، وخُلاصَةُ هذا الوجهِ الاسْتِفْصَالُ .

فإنَّ لفْظَ التَرْكِيبِ أَصْبَحَ من الألفاظِ المجمَلَةِ التي عارَضَ به الْمُبْتَدِعَةُ النصوصَ، وقد بَيَّنَ شيخُ الإسلامِ حُكْمَ الألفاظِ المُجْمَلةِ بقولِه: " والمقصودُ هنا أنَّ الأئمَّةَ الكِبارَ كانوا يَمْنَعُونَ من إطلاقِ الألفاظِ المُبْتَدَعَةِ المُجْمَلةِ لِمَا فيها من لَبْسِ الحقِّ بالباطِلِ مع ما تُوقِعُهُ في الاشتباهِ والاختلافِ والفِتنةِ .
وقالَ: " فمَن لم يَسْتَفْصِلْ عنها الْمُتَكَلِّمَ بها .. كما كان السلَفُ والأَئِمَّةُ يَفْعَلُون صارَ متَناقِضًا أو مُبْتَدِعًا من حيث لا يَشْعُرُ " وسيأتي تفصيلُ ذلك في القاعدةِ الثانيةِ بإذنِ اللهِ .

فيُقالُ في التَرْكِيبِ إنَّ له معانِيَ منها:-
المُرَكَّبُ: ما كان مُتَفَرِّقًا فرَكَّبَه غيرُه، وهذا لا يَجُوزُ وَصْفُ اللهِ به، بل ولم يَعْتَقِدْهُ أحَدٌ من طوائفِ الأمَّةِ .
المُرَكَّبُ: ما له أَبْعَاضٌ مختلِفةٌ، ويَقْبَلُ التفريقَ والانفصالَ, واللهُ تعالى مُقَدَّسٌ عن ذلك .
المُرَكَّبُ: ما يَقْبَلُ الانقسامَ والتفريقَ وإن كان بَسِيطًا غيرَ مُرَكَّبٍ من أعضاءٍ كالماءِ، واللهُ مُنَزَّهٌ عنه أيضًا .

فهذه المَعَاني لا نَخْتَلِفُ في نفيِها مع الْمُتَفَلْسِفَةِ والمُعْتَزِلةِ، ولكنَّهم لا يَعْنُونَ بنفيِهم للتَرْكِيبِ ما سَبَقَ، بل لكلٍّ منهم اصطلاحاتٌ خَاصَّةٌ في لفظِ التَّرْكِيبِ أَوْجَبُوا نَفْيَها, وزَعَمُوا أنَّ التوحيدَ لا يَتِمُّ إلا بنفيِها، قالَ شيخُ الإسلامِ: " وهؤلاءِ أَحْدَثُوا اصطلاحًا لهم في لفظِ التَرْكِيبِ لم يَسْبِقْهُم إليه أحَدٌ من أهْلِ اللغةِ ولا من طوائفِ أهْلِ العلْمِ, ومنها:
أنَّ التَرْكِيبَ هو ما تَرَكَّبَ من الذاتِ والصِّفَاتِ كَمُسَمَّى الحيِّ والعالِمِ والقادِرِ، وهذا إن سَلَّمْنَا أنه تَرْكِيبٌ فنَفْيُه باطِلٌ كما سَبَقَ في الوجْهِ الثاني .

نتيجةُ الأصْلِ الأوَّلِ: وهو أنَّ القولَ في بعضِ الصِّفَاتِ كالقولِ في بعضٍ .
قولُه: ( وهذا بابٌ مُطَّرِدٌ؛ فإنَّ كلَّ واحدٍ من النُّفَاةِ لِمَا أَخْبَرَ به الرسولُ من الصِّفَاتِ لا يَنْفِي شيئًا فِرارًا مِمَّا هو مَحذورٌ إلا وقد أَثْبَتَ ما يَلْزَمُه فيه نظيرُ ما فَرَّ منه، فلا بُدَّ في آخِرِ الأمْرِ من أنْ يُثْبِتَ موجودًا واجِبًا قديمًا، مُتَّصِفًا بصفاتٍ تُمَيِّزُه عن غيرِه, ولا يكونُ فيها مُمَاثِلاً لِخَلْقِهِ .

فيُقالُ له: هكذا القولُ في جميعِ الصِّفَاتِ، وكلُّ ما تُثْبِتُه من الأسماءِ والصِّفَاتِ فلا بُدَّ أن يَدُلَّ على قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ تَتَوَاطَأُ فيه المُسَمَّياتُ، ولولا ذلك لَمَا فُهِمَ الْخِطَابُ، ولكنَّا نَعْلَمُ أنَّ ما اخْتَصَّ اللهُ به وامتازَ عن خَلْقِه أَعْظَمُ مِمَّا يَخْطِرُ بالبالِ أو يَدورُ في الخيالِ ) .





التوضيحُ

كلُّ مَن نَفَى الصِّفَاتِ الواردةَ في الوحيِ فِرارًا من مَحذورٍ فإنه يَلْزَمُه نظيرُ ما فَرَّ منه, فلا بُدَّ في آخِرِ الأمْرِ أن يُثْبِتَ موجودًا واجبًا بنفسِه مُتَّصِفًا بصفاتٍ تُمَيِّزُه عن غيرِه، وإلا فكيف يَحْصُلُ التمييزُ بينَ الخالقِ والمخلوقِ، والخالقِ والمعدومِ، وهذه الصِّفَاتُ لا تكونُ مماثِلَةً لِخَلْقِه, فيَجِبُ طَرْدُ هذا البابِ في جميع الأسماءِ والصِّفَاتِ، ولا بُدَّ أن تَتَّفِقَ هذه الأسماءُ والصِّفَاتُ في قَدْرٍ مشترَكٍ, وهو المعنى الْكُلِّيُّ الذي تَتَوَاطَأُ فيه المُسَمَّياتُ، ولْيُعْلَمْ أنَّ فائدةَ هذا القَدْرِ الْمُشْتَرَكِ هي فَهْمُ الْخِطَابِ.

ولكن مع هذا الاتِّفاق في اللفظِ و المعنى العامِّ فإننا نَقْطَعُ بأنَّ ما اخْتَصَّ به الخالِقُ جَلَّ وَعَلاَ أعْظَمُ مِمَّا يَخْطِرُ بالبالِ أو يَدورُ في الخيالِ، كما سيأتي في مِثالِ الْجَنَّةِ .
وهذا الذي قِيلَ لازِمٌ لجميعِ الطوائفِ لو تَفَكَّرُوا فيه بالعقولِ وتَدَبَّرُوا ما وَرَدَ فيه من المنقولِ .
ويَزِيدُه اتِّضَاحًا ما سَيُقَرِّرُه شيخُ الإسلامِ في الأصْلِ الثاني .


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
القول, في

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:20 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir