وقال بشامة بن عمرو بن معاوية
ابن الغدير بن هلال بن واثلة بن سهم من مرة، وكان الأسقع بن رياح بن واثلة بن سهم هو الذي جر حلف الحرقة، فهمت غطفان بأكلهم فخافوا فانصرفوا، فلحقهم حصين بن الحمام فردهم وشد الحلف بينهم وبينه وبشامة غائب، فلما بلغه ذلك ردهم وقال هذه القصيدة:
1: هجرت أمامة هجرًا طويلاً.......وحملك النأي عبئًا ثقيلا
(النأي) البعد يقال قد نأى ينأى إذا بعد، و(العبء) الثقل والمشقة، وقال أبو المنذر هشام بن محمد الكلبي: كان بشامة مقعدًا ولد وهو مقعد، فقال يحضض بني سهم بن مرة في حربهم التي كانت بينهم وبين بني صرمة في حلفائهم بني حميس بن عامر بن جهينة هذه القصيدة، قال: ويروى نأتك أمامة نأيًا طويلاً، (وحملك) الحب وقرًا (ثقيلا)، قال أحمد: هو بشامة بن عمرو بن معاوية بن الغدير بن هلال بن سهم بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار.
2: وحملت منها على نأيها.......خيالا يوافي ونيلاً قليلاً
يقول: (حملت) مع بعدها منك أن ترى خيالها فيزدك شوقًا، و(الخيال) ما وافى في المنام.
3: ونظرة ذي شجن وامق.......إذا ما الركائب جاوزن ميلا
يقول (وحملت نظرة من ذي شجن) أي تنظر إلى كل ما رأيته والوامق المحب، و(المقة) المحبة، و(الركائب): جمع ركوبة وهي الناقة تصلح للركوب، قال الشاعر:
بأدم كسن الظبي لم أر مثلها.......ركوبة شيخ أو حلوبة جائع
غير أبي عكرمة: كلما نظرت إلى قوم مسافرين اشتد نظرك إليهم، وروى الأصمعي: ونظرة ذي علق أي: كلما رأى قومًا مسافرين نظر نظرة ذي علق، وهو ما تعلق به منها، ويقال في مثل نظرة من ذي علق، وهي علامة الحب، وهو أن ينظر بود أي بأمر يثبت له، يقال له علاقة من فلانة والعلاقة الهوى تكون للرجل في المرأة، يقال إنه لذو علق في فلانة، والعلق أيضًا النشوب في الشيء في حبل أو أرض وما أشبهها.
يقال قد علق فلان يعلق علقًا أي نشب، والعلق علق الدم، الواحدة علقة، والعلق الدود الأسود يكون في الماء، إذا شربت الدابة فعلقت بها العلقة قيل قد علقت الدابة تعلق علقًا، والعلق: الرشاء، والغرب والمحور والبكرة، يقال أعيرونا العلق فيعارون هذا كله والعلقة القميص لا كمي له وهي الصدرة، والعلقة ما يمسك النفس من الطعام، يقال ما يأكل فلان إلا علقة، والعلاقة الخصومة يقال لفلان في أرض فلان علاقة أي خصومة.
والعلاقة علاقة السوط والقدح والمصحف وما أشبهها، يقال أعلقت القدح والسوط أي جعلت له علاقة، والمعلقة بعض متاع الراعي والعلق الثوب الكريم والقوس والسيف وكذا الشيء الواحد الكريم من غير الروحانيين والإعلاق: وقوع التيس في الحبل، يقال نصب له فأعلقه والعلق أكل البهائم ورق الشجر يقال علقت تعلق، والعلوق من الإبل التي ترأم بأنفها، وتمنع درها، وحكى الكسائي: لها في قلبي علاقة حب وعلاقة حب وعلق حب، ولم يعرف الأصمعي علاقة وعرف علاقة وعلقًا، والعلائق البضائع أيضًا والعليق شجر أحمر، والميل القطعة من الأرض الواسعة تكون قدر مد البصر ثم جعلها الناس بعد أعلاما، وقد قيل الميل ما بين العلمين.
4: أتتنا تسائل ما بثنا.......فقلنا لها قد عزمنا الرحيل
ويروى: وجاءت (تسائل) عن حالنا فقلنا إلخ.
5: وقلت لها كنت قد تعلميـ.......ـن منذ ثوى الركب عنا غفولا
يقال (ثوى) وأثوى بمعنى واحد، و(الثوي): الإقامة، غيره (يقول كنت غفولاً عنا تعلمين)، قال وهو كقولك كنت لي طال ما نعلم ذاك، قال أحمد يقال ثوى الرجل ولا يقال أثوى وأنشد بيت الأعشى: أثوى وقصر ليله ليزودا، قال ما سمعنا أحدًا من شيوخنا ينشده إلا بالاستفهام، وبه قرأت القراء {والنار مثوى لهم}، ولم يسمع مثوى لهم، ويقال للرجل المقيم: الثاوي، ولم يسمع المثوي، قال: فكل هذا يشهد لثوى، ومعنى قوله (غفولاً) أي غافلة ويقال معناه كنت غفولاً عنا فاعلمي ذاك.
6: فبادرتاها بمستعجل.......من الدمع ينضح خدًا أسيلا
قال الأصمعي: (النضح) لكل ما رق والنضخ لما ثخن، ويقال (النضح) ما سقط من فوق والنضخ ما ارتفع من أسفل إلى فوق، و(الأسيل) الصلت السهل يعني خدها، غيره: (بادرتها) يعني عينيها، أضمرهما ولم يجر لهما ذكر ومثله قول لبيد يصف الشمس، ولم يتقدم لها ذكر:
حتى إذا ألقت يدًا في كافر.......وأجن عورات الثغور ظلامها
أي دخلت في المغيب والكافر الليل، ومثله قول طرفة يصف الفلاة ولم يجر لها ذكر:
على مثلها أمضي إذا قال صاحبي.......ألا ليتني أفديك منها وأفتدي
أي على مثل هذه الناقة أفديك من الفلاة ولم يجر لها ذكر، ويقال (خد أسيل) وقد أسل أسالة، وقد قيل النضح ما لم يتعمد به مما رق مثل الماء ونحوه، و(النضخ) ما تعمدت به مما غلظ مثل الطيب ونحوه، ويروى:
فبادرها الدمع مستعجلاً * على الخد ينضح وجهًا أسيلاً
7 وما كان أكثر ما نولت.......من القول إلا صفاحًا وقيلا
ويروى: من العرف و(الصفاح) الإعراض، ويروى من البذل ويروى من الحب.
8: وعذرتها أن كل امرئ.......معد له كل يوم شكولا
(الشكول) جمع شكل وهو المثل، تعرض له بأنه قد تغير لها، ويروى مجد (له كل يوم شكولا) ويروى مجد له الدهر يومًا شغولا، أحمد أي أرى كل امرئ مجدًا شكلاً بعد شكل أي حالاً بعد حال يتجددها، ويروى كل عام، ومجد له أي لنفسه، ويروى: وقالت أرى العام (كل امرئ)
9: كأن النوى لم تكن أصقبت.......ولم تأت قوم أديم حلولا
أصقبت دنت وقاربت و(الحلول) المقيمون يقال هو منا بصقب و((الجار أحق بصقبه)) أي: القريب واللصيق إن شاء الله، أحمد (قوم أديم) أي: مجتمعون أمرهم واحد مجتمع فيهم أديم واحد فعزهم الدهر، ويقال قوم أديم أي قوم أشراف ملوك لهم قباب الأدم لا تكون إلا للملوك والأشراف.
10: فقربت للرحل عيرانة.......عذافرة عنتريسًا ذمولا
ويروى فلما هممت كسوت القتود، و(عيرانة) ناقة شبهها بالعير في صلابتها، و(العذافرة): الشديدة الضخمة، ومن هذا قيل للأسد عذافر ومنه سمي الرجل عذافرًا، و(العنتريس) الشديدة الجريئة، ومنه قولهم أخذ فلان فلانًا بالعترسة أي بالشدة والجرأة، و(الذمول) السريعة، و(الذميل) ضرب من السير، وروى الأصمعي: فلما هممت كسوت القتود (عذافرة عنتريسًا ذمولا)، قال: وإنما شبهت بالعير لوقاحته وشدته، والقتود: عيدان الرحل و(العترسة): الأخذ بشدة وجفاء، وسيقال عترس يعترس عترسة، قال: وإذا ارتفع السير عن العنق فهو التزيد.
فإذا ارتفع عن التزيد فهو الذميل، ويروى: فلما يئست كسوت القتود، ومعنى كسوت أي جعلت القتود لباسًا لها.
11: مداخلة الخلق مضبورة.......إذا أخذ الحاقفات المقيلا
(مداخلة الخلق) محكمة البنية قد أخذ بعضها بعضًا و(المضبورة) المجتمعة ومن هذا سميت إضبارة الكتب لاجتماعها وشدها، ويروى موثقة (الخلق والحاقفات) الظباء تكون في الأحقاف أنصاف النهار من شدة الحر، وواحد الأحقاف حقف، أراد أنه يسير في الهواجر وهو أشد السير.
ويروى (إذا اتخذ الحاقفات) وهي البقر في كنسهن من شدة الحر اتخذنه (مقيلاً) يقلن فيه، وذلك من شدة الحر وهو وقت إعياء الإبل، يقول فهذه الناقة في وقت كلال الإبل وإعيائهن نشيطة لم يكسرها السير و(المضبورة) المجموع بعض خلقها إلى بعض، ومنه قيل: ضبر الفرس إذا جمع قوائمه ووثب، وقال ساعدة بن جوية:
بينا هم يومًا كذلك راعهم.......ضبر لباسهم الحديد مؤلب
راعهم أفزعهم ضبر جماعات، يقال رجل مضبر الخلق مجتمع: ومنه إضبارة كتب قد جمعت وقوله مؤلب يريد ضبرًا مؤلبًا مجمعًا من قولهم تألبوا عليه أي اجتمعوا إليه طائفة بعد طائفة ألبًا بعد ألب، ويروى لباسهم القتير، ويروى بينا هم يومًا هنالك، قال العجاج:
قد ضبر القوم لها أضبارا.......كأنما تجمعوا قبارا
والقبار بكلام أهل عمان قوم يجتمعون فيجرون ما وقع في الشباك من صيد البحر فشبه جذبهم لحبال المنجنيق بجذب هؤلاء، وقوله لها أي للمنجنيق، والقبار جمع قابر أي: جمعوا جما عات، والحاقفات اللواتي يثنين أعناقهن للنوم يعني البقر.
12: لها قرد تامك نيه.......تزل الولية عنه زليلا
يعني (بالقرد) السنام وأصل التقرد التجمع، يريد أن سنامها مكتنز، كقول الآخر:
كساها تامكا قردًا عليها.......مراتعها الصحاري فالوجينا
والوجين الغليظ من الأرض ومنه ناقة موجنة تشبه في صلابتها بالوجين، و(التامك) المرتفع العالي، و(الني) الشحم، و(الولية) حلس يكون تحت الرحل يوقي الظهر، وجمع (الولية) ولايا، قال أبو زبيد:
كالبلايا رؤوسها في الولايا.......مانحات السموم حر الخدود
وقوله (تزل الولية) يريد أنها سمينة مكتنزة، فالولية تزل عنها لملامستها، تامك: مرتفع.
13: تطرد أطراف عام خصيب.......ولم يشل عبد إليها فصيلا
(تطرد) يريد أنها ترعى حيث شاءت لا تمنع لعز صاحبها كما قال الراعي:
سيكفيك الإله ومسنمات.......كجندل لبن تطرد الصلالا
الصلال: قطع المطر، يريد أنها تتبع الربيع حيث كان، وقوله (ولم يشل عبد إليها فصيلا)، يريد أنها عقيم فهو أصلب لها كما قال عنترة: لعنت بمحروم الشراب مصرم، وأصل الإشلاء الدعاء، قال أحمد والطوسي جميعًا الصلة، وجمعها صلال الأرض الممطورة بين أرضين غير ممطورتين، والخطيطة وجمعها خطائط الأرض لم تمطر بين أرضين ممطورتين، تطرد تتبع وأصل الإشلاء الدعاء.
14: توقر شازرة طرفها.......إذا ما ثنيت إليها الجديلا
ويروى (توقر) ويروى تخاوص أي تنظر بوقار وفرق، لم يقل فيه أبو عكرمة شيئًا، وروى الأصمعي: تخاوص رافعة (طرفها)، أي كأنها خوصاء، وأصل الخوص تأخر العين في الرأس وغؤورها، يقال خوصت عينه تخوص خوصًا وبئر خوصاء إذا كانت غائرة، وأما الحوص فضيق في العين حتى تراها كأنها مخيطة، يقال حص عين صقرك، وحص شقاقًا في رجلك، والشزر النظر في اعتراض، قال أحمد: (توقر) يقول هي أديبة إذا رأتني أثني لها (الجديل) لم تنفر لحسن أدبها، ويروى: تحاول رافعة (طرفها) إذا ما رفعت، و(الجديل) الزمام.
15: بعين كعين مفيض القداح.......إذا ما أراغ يريد الحويلا
يقال في مثل يضرب في شدة الحذر، نظر (بعين مفيض)، وقوله (أراغ) أي حاول والتمس يقال (أرغت حاجة) أي كنت في طلبها والتماسها، و(الحويل) الاحتيال، وروى الأصمعي: (بعين كعين المفيض) الأريب رد (القداح يريد الحويلا)
(المفيض) الذي يفيض بالقداح، أي يدفع بها، ويقال أفاض البعير بجرته إذا دفع بها، وأفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه، رد (القداح) أي ردها في كمه، (يريد الحويلا) أي ينظر في أمره فيريد أنها حديدة.
16: وحادرة كنفيها المسيـ.......ـح تنضح أوبر شثا غليلا
يريد (بكنيفها) ناحيتيها، يعني (بالحادرة) أذنه و(المسيح) العرق، و(الأوبر) ذو وبر، و(الشث) الكثير المتراكب ومثله الكث، و(الغليل) الذي انغل بعضه في بعض، أي دخل، قال أحمد: قوله (تنضح أوبر) يعني تسيل العرق على عثنونها، وهو (أوبر) كثير الوبر، وهذا مما تنعت به الإبل، و(الغليل) يقول هو متداخل في غرز الرقبة محكم الهامة، ويروى: وسامعة (كنفيها المسيح)، يعني الأذن، قال أحمد: وأما الأصمعي فكان يروي (تنضح أوبر) كثا، وقال يعني الذفرى، أي ذافرها كثيرة الوبر، وقال (غليلا) أي قد غل بعضه في بعض أدخل، قال ويقال نعم غلول الشيخ هذا يعني الطعام يدخله جوفه، و(الشث) الغليظ.
17: وصدر لها مهيع كالخليف.......تخال بأن عليه شليلا
(المهيع): الواسع، و(الخليف) الطريق، و(الشليل) كساء له خمل يكون على عجز البعير، شبه صدرها بوبر الشليل.
قال الأصمعي: قد أخطأ في هذه الصفة لأن من صفة النجائب قلة الوبر والانجراد، وإنما توصف بكثرة الوبر الإبل السائمة، ولا توصف بالوبر نجيبة عتيقة كريمة، قال أحمد: غير الأصمعي يقول لم يخطئ الشاعر الوصف لأنه لم يرد الوبر، وإنما أراد أن جلد صدرها يموج من سعته، فلذلك قال (شليلا) وهو كساء أملس، ولم يرد الشاعر الوبر إنما أراد سعة الصدر، ولو أراد الوبر لقال: (تخال) بأن عليه خميلا.
فالشاعر قد أجاد والمتأول عليه أنه أخطأ الوصف هو أخطأ، وهذا مستحب في وصف الإبل والخيل حتى كأن (عليه شليلا) أي كساء يضطرب من سعته، وقال غيره (المهيع) الواسع الإبط، و(الخليف) طريق في المنحنى.
18: فمرت على كشب غدوة.......وحاذت بجنب أريك أصيلا
قال الأصمعي: بين كشب وأريك نأي من الأرض فوصف سرعتها، وأنها سارت في يوم ما يسار في أيام.
كذا أنشده أبو عكرمة كشب بضم الكاف والشين، ورواه أحمد (كشب) بفتح الكاف وكسر الشين، قال وهو جبل معروف قريب من وجرة، وأنشد للعجاج يصف جيشًا:
وبالمذار عسكرًا مشتيبا.......كأن من حرة ليلى ظربا.......أسود مثل كشب أو كشبا
حرة ليلى موضع، والظرب: جبل ليس بمشرف، يقول هذا الجيش كظرب من حرة ليلى أو ككشب نفسه أسود، وإنما وصف سرعة سيرها كما قال امرؤ القيس:
فكأنما بدر وصيل كتيفة.......وكأنما من عاقل أرمام
قال الأصمعي بدر ماء، وكتيفة موضع متنح عنه وبعيد منه، فيقول قطعت الناقة هذين الموضعين على بعد ما بينهما قطعًا سريعًا كأن كل واحد منهما متصل بصاحبه، وكأنه منه أي بعضه لسرعة ما قطعت ما بينهما، وكأنما أرمام من عاقل على ما مضى
19: توطأ أغلظ حزانه.......كوطئ القوي العزيز الذليلا
(الحزان ما غلظ) من الأرض واحدها حزيز، قال الراجز: لا تركبيني واركبي الحزيزا لن تجدي في جانبي غميزا. قال أحمد: يصف قوتها ونشاطها، وأن طول السير ما كسرها فوطؤها قوي لم ينكسر، قال الحزيز الغليظ المنقاد المستدق وجمعه أحزة وحزان
20: إذا أقبلت قلت مذعورة.......من الرمد تلحق هيقا ذمولا
ويروى من الربد وهو جمع ربداء، جعلها مذعورة لأنه أشد لسيرها، و(الرمد) النعام وهي الربد أيضًا، و(الهيق) ذكر النعام، ويروى من الربد وهي جمع ربداء وهي المنكسفة اللون تعلو سوادها كدرة، والربدة سواد يكسف الوجه ويغيره، يقال لأربدن وجهه، و(الهيق) الطويل، والأنثى هيقة، (ذمول) مسرع.
21: وإن أدبرت قلت مشحونة.......أطاع لها الريح قلعًا جفولا
المشحونة الممملؤة، شبهها بسفينة مملؤة لأنه أقوم لسيرها وأعدل، و(القلع) الشراع، و(الجفول) التي تنجفل أي تسرع.
22: وإن أعرضت رآء فيها البصيـ.......ـر ما لا يكلفه أن يفيلا
يقال (فال رأيه) يفيل إذا أخطأ، ورجل فيل الرأي أي ضعيفه، ويقال ما كنت أحب أن أرى في رأيك فيالة أي خطأ وضعفًا، أي إذا رئيت هذه الناقة لم يخطئ البصير في نجابتها، قال الأصمعي: وأحسن من هذا قول حميد بن ثور وهو يصف بعيرًا:
محلى بأطواق عتاق يبينها.......على الضر راعي الضأن لا يتقوف
قال الأصمعي إنما خص راعي الضأن لأنه أجفى عندهم من غيره، وقوله لا يتقوف أي لا يطلب أثرًا يستدل به على نجابته لأن النظر إليه يدل على نجابته، ومنه قول الشاعر: إن الجواد عينه فراره
23: يدًا سرحًا مائرًا ضبعها.......تسوم وتقدم رجلاً زجولا
لم يقل فيه أبو عكرمة شيئًا، (سرح) منسرحة سهلة، ويقال ما أعطاني في سريح، أي إذا لم يسهل عطيتي، ويقال للمرأة إذا سهلت ولادتها ولدته سرحًا سهلاً، و(الضبع) العضد، (تسوم) تعدو على وجهها، زجولاً تزجل نفسها، قال أحمد (تسوم) تمر مرًا سهلاً، ويقال في مثل خله وسومه أي وذهابه على وجهه، وأنشد عن عيسى بن عمر لأمية:
فما تجري سوابق ملجمات.......كما تجري ولا طير تسوم
وقوله (زجولا) يقول تقدم اليد رجلا أي تزجل نفسها لتلحقها، ويروى: (تسوم) وتلحق رجلاً زجولا
24: وعوجًا تناطحن تحت المطا.......وتهدى بهن مشاشًا كهولا
هكذا رواها الأصمعي، وروى أبو عبيدة تحت الفقار، (والعوج): القوائم، و(المطا): الظهر، و(المشاش): رؤوس العظام، و(الكهول): الضخام، ومنه قولهم اكتهل النبت إذا تكاثف، وهذا مثل.
والفقار: فقار الظهر وهو خرزه، قال أحمد: (العوج): يعني الضلوع، (تناطحن) دخل بعضهن في بعض، (تحت المطا) تحت الظهر، يعني دخلن في السناسن، قال الراعي:
وكأنما انتطحت على أثباجها.......فدر بشابة قد يممن وعولا
و(المشاش) موصل صدرها وكركرتها، و(كهول) ضخام طوال من قولهم اكتهل النبت إذا طال، قال أبو بكر قال أبي قال الطوسي، والفدر المسان الواحد فادر.
25: تعز المطي جماع الطريق.......إذا أدلج القوم ليلاً طويلاً
(تعز): تغلب، ومن قولهم من عز بز أي من غلب صاحبه سلبه، و(المطي): جمع مطية سميت بذلك لأنه يمطى ظهورها أي يركب، ويقال سميت مطية لأنه يمطى بها في السير أي يمد، ومنه تمطي الإنسان وهو تمدده، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مشت أمتي المطيطاء)) وهو التبختر، ويروى إذا أدلج الركب، والمعنى تغلب المطي على معظم الطريق.
26: كأن يديها إذا أرقلت.......وقد جرن ثم اهتدين السبيلا
لم يقل فيه أبو عكرمة شيئًا، قال أحمد: (الإرقال) أن تعدو وتنفض رأسها، قال أحمد قوله (وقد جرن) أي جرن عن محجة الطريق لنشاطهن، أخذن يمنة ويسرة ليس يدعهن المرح يلزمن المحجة، وإنما يلزمن المحجة عند الكلال، قوله: (ثم اهتدين) أي أعيين ولغبن فلزمن المحجة إعياءً وكلالاً، فكأن يدي هذه الناقة في وقت كلال غيرها من الإبل ولزومهن المحجة يدا سابح.
27: يدا عائم خر في غمرة.......قد أدركه الموت إلا قليلا
فهو أشد لتحريك يديه مخافة عل نفسه، ومثله قول نفيلة الأشجعي:
كأن أوب يديها وهي لاهية.......إذا المطايا غشين السربخ القرقا
شد النهار يدا مستصرخ وحد.......في لجة البحر لما شاهد الغرقا
يقال قاع قرق وقاع قرقوس إذا كان واسعًا كثير الحصى، والسربخ البعيد من الأرض، و(الغمرة) معظم الماء، وأنشد:
كأن يديها حين جد نجاؤها.......يدا سابح في غمرة يتذرع
ويروى: فأدركه الموت إلا قليلا
28: وخبرت قومي ولم ألقهم.......أجدوا على ذي شويس حلولا
هكذا رواه أبو عكرمة، وروى غيره: بجنب سميراء شطوا حلولا، ويروى سميراء، ويروى: نبئت قومي ولم آتهم (أجدوا على) إلخ
29: فإما هلكت ولم آتهم.......فأبلغ أماثل سهم رسولا
(أماثلهم) خيارهم، وذو شويس: موضع، والحلول: المقيمون، ويروى (فبلغ)
30: بأن قومكم خيروا خصلتيـ.......ـن كلتاهما جعلوها عدولا
ويروى (فإن قومكم)، كذا رواها عامر، أي عدلوا فيها عن الحق، ولم يجعلوها عدلاً والعدل: النصفة، ويروى: بأن التي سامكم قومكم هم جعلوها عليكم عدولا، غيره: الرواية: بأن قومكم خيروا خصلتين، وينصب البيت الآخر ردا على الخصلتين خزي الحياة أو حرب الصديق والمعنى (أن قومك ختروكم خصلتين) ثم بين الخصلتين فقال: خزي وما بعده جعلوها عليكم (عدولا) أي جورًا، ويروى (عدولاً) أي جعلوها خصلة عادلة وليست بعدل.
31: خزي الحياة وحرب الصديق.......وكلا أراه طعاما وبيلا
كذا روى أبو عكرمة (خزي وحرب) بالرفع، والرواية (خزي وحرب) بالنصب ردًا على (الخصلتين)، ويقال كلا وبيل وماء (وبيل) أي لا يستمرأ، (خزي الحياة) في العار يلحقهم، و(الصديق) يكون واحدًا وجمعًا في المؤنث والمذكر. (والوبيل): غير المستمرأ، يقال استوبلت ذلك الموضع إذا لم يوافقك المقام فيه ويروى: هوان (الحياة وخزي) الممات، وهي رواية الأصمعي، وكل أراه، وكلا أراه بالرفع والنصب.
32: فإن لم يكن غير إحداهما.......فسيروا إلى الموت سيرًا جميلاً
لم يقل فيه أبو عكرمة شيئًا، والمعنى إن لم يكن إلا أن تحيوا مهانين، أو تجزوا بالموت (فسيروا إلى الموت سيرًا جميلاً). أي فقاتلوا حتى تقتلوا.
33: ولا تقعدوا وبكم منة.......كفى بالحوادث للمرء غولا
(المنة) من الأضداد تكون القوة والضعف وهي ههنا القوة، يحرضهم على قتال عدوهم، ويروى: ولا تهلكوا وبكم منة، و(الغول) ما غال الشيء فذهب به، يقول (كفاكم بالحوادث غولاً) لكم فما بالكم تصبرون على الضيم، يقول لو كان صبركم على الضيم واحتمالكم إياه يزيد في بقائكم وأعماركم عذرتم في احتماله، فأما إذا كان لا يزيد في عمر والموت لاحقكم لا محالة فألقوا الموت أحرارًا كرامًا غير قابلين ضيمًا ولا مقرين به.
يقال انقطعت (منته) أي قوته يقول لم تعطون الضيم والموت لا بد من أن يغتالكم، وشبيه به قول قيس بن زهير العبسي وهو يماشي قتادة بن مسلمة بن عبيد الحنفي الذي كان أجاره في سياحته بعد قتله بني بدر، وضرب بيده إلى عظم نخر ففته ثم قال كم ضيم قد أقررت به مخافة هذا اليوم ثم لم تئل. فرجع الحنفي إلى قومه فقال: إني لأرى رجلاً والله لا يعطى ضيمًا من نفسه أبدًا، ثم قال له: أردد علي جواري فرده عليه.
34: وحشوا الحروب إذا أوقدت.......رماحًا طوالاً وخيلاً فحولا
(حشوا أوقدوا) وأرثوا نار الحرب، يقول أوقدوا لعدوكم كما يوقدون لكم لا تضعفوا فتقصروا كقول الشاعر:
إذا أنت عاديت الرجال فأشجعهم.......بما كرهوا حتى يملوا التعاديا
وكقول الآخر:
لك الخيرات أقدمنا عليهم.......وخير الطالبي الترة الغشوم
أي خير من طلب الترة من ظلم فيها وغشم فيها.
35: ومن نسج داؤد موضونة.......ترى للقواضب فيها صليلا
الموضونة الدروع التي نسجت حلقتين حلقتين مضاعفة، ويروى: (ومن نسج داؤد) ماذية، والماذية الدروع السهلة اللينة الصافية الحديدة وكل سهل ماذي ومنه قيل للعسل ماذي وذلك إذا صفا وخلص، و(القواضب) السيوف وأصل القضب القطع، و(الصليل) الصوت على الشيء اليابس وهو الصلة أيضًا، قال الراعي:
فسقوا صوادي يسمعون عشية.......للماء في أجوافهن صليلا
أي صوتًا من شدة العطش ويبوس الأكراش، قال عمرو بن شأس:
ألم تعلمي يا أم حسان أنني.......إذا عبرة نهنهتها فتجلت
رجعت إلى صدر كجرة حنتم.......إذا قرعت صفرًا من الماء صلت
الصفر: الخالية، قال الأصمعي: الماذية من الدروع السهلة اللينة وكل لين سهل ماذي، وقال أبو عبيدة: هي اللينة الصافية الخالصة من الخبث بمنزلة العسل الماذي الخالص الصافي من الأقذاء، والقاضب والقضابة من السيوف السريع القطع. قال أحمد قوله صليلا أي لا تعمل فيها السيوف فتصل إذا ضربت أي تصوت، قال الطوسي: حنتم جرار خضر كانت تحمل فيها الخمر، وأصحاب الحديث يقولون حمر وهي في كلام العرب الخضر، قال أبو الحسن الطوسي: كذا حكاه لنا أبو عبيدة قال: وقد يكون الأمران جميعًا، والمعنى رجعت من نفسي إلى صدر فارغ من الحزن كفراغ هذه الجرة التي تصل إذا لم يكن فيها شيء، وإنما يصف نفسه بحسن العزاء، وصفر خالية لا شيء فيها.
36: فإنكم وعطاء الرهان.......إذا جرت الحرب جلا جليلا
ويروى خطبًا (جليلاً)، لم يقل فيه أبو عكرمة شيئًا، يقول أعطيتم منكم رهنًا، وقد اشتد الأمر فحبستموه وردعتموه، وكان الحصين بن الحمام رهن ابنه في تلك الحرب.
37: كثوب ابن بيض وقاهم به.......فسد على السالكين السبيلا
قال الأصمعي: (ابن بيض) رجل نحر بعيره على ثنية فسدها فلم يقدر أحد على جوازها، فضرب به المثل، فقيل (سد ابن بيض السبيل) يعني الطريق، قال وأراد أن يقول كبعير ابن بيض فلم يستقم له، فقال (كثوب).
وقال غير الأصمعي ابن بيض رجل كانت عليه إتاوة فهرب بها، فأتبعه مطالبوه فلما خشي لحاقهم وضع ما يطالبونه به على الطريق، فلما أخذوه رجعوا فقالوا (سد ابن بيض) الطريق، أي منعنا من اتباعه فكأن الطريق مسدود علينا، والمعنى قطعتم الشر كما قطع (ابن بيض) الطريق بعقره بعيره، وأراد أن يقول كبعير ابن بيض فقال (كثوب)، تمت.
قال محمد بن آدم أبو بكر العبدي: قال ابن الأعرابي: قال المفضل الضبي: يقال إن (ابن بيض) كان رجلاً من عاد وكان مكثرًا تاجرًا، فكان لقمان يجيز له تجارته ويجيزه ابن بيض أي ويعطيه في كل عام جائزة وحلة.
فلما حضر ابن بيض الموت خاف لقمان على ماله فقال لابنه: سر إلى أرض كذا وكذا ولا تقارن لقمان في أرضه، وإن له في عامنا هذا حلة وجائزة وراحلة فسر بأهلك ومالك حتى إذا كنت بثنية كذا وكذا فاقطعها وضع للقمان فيها حقه فإن قبله فهو حقه عرفناه له واتقيناه به، وإن هو لم يقبله وبغى أدركه الله بالبغي والعدوان، فسار الفتى حتى قطع الثنية بأهله وماله ووضع للقمان حقه، وبلغ لقمان الخبر فتبعهم فلما كان في الثنية وجد حقه فأخذه وانصرف وقال سد ابن بيض السبيل فأرسلها مثلاً، وقال عمرو بن الأسود الطهوي:
سددنا كما سد ابن بيض سبيله.......فلم يجدوا فرج الثنية مطلعا
وقال المخبل:
لقد سد السبيل أبو حميد.......كما سد المخاطبة ابن بيض
وقال عوف بن الأحوص:
سددنا كما سد ابن بيض فلم يكن.......سواها لذي أحلام قومي مذهب
[شرح المفضليات: 79-91]