69 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: ((إِنْ شِئْتَ)). قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
مفرداتُ الحديثِ:
- الغَنَمِ: بفتحِ الغينِ المعجمةِ والنونِ: القطيعُ من المَعْزِ والضأنِ، اسمُ جِنْسٍ، مؤنَّثَةٌ، لا واحدَ لها مِن لفظِها، جمعُه: أغنامٌ، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنه ليسَ لها آلةُ دفاعٍ، فكانَتْ غنيمةً لكلِّ طالبٍ.
- الإِبِلِ: بكسرِ الهمزةِ وكسرِ الباءِ الموحَّدَةِ: الجِمالُ والنُّوقُ, لا واحدَ له مِن لفظِه، مُؤَنَّثٌ، جَمْعُه آبالٌ.
- أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ: بتقديرِ همزةِ الاستفهامِ المحذوفةِ، والأصلُ: أَأَتَوَضَّأُ... إلخ.
- مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ: أي: لأجلِ أكلِها.
- نَعَمْ: تَقَدَّمَ شَرْحُها في حديثِ رَقْمِ (60).
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- إباحةُ الوُضوءِ بعدَ أكلِ لحومِ الغنَمِ، ولا يَجِبُ؛ لأنَّ لحمَها غيرُ ناقضٍ للوضوءِ.
2- أنَّ أكلَ لُحُومِ الإبلِ يَنْقُضُ الوضوءَ ويُوجِبُه عندَ فِعْلِ الصلاةِ ونحوِها ممَّا يُشْتَرَطُ له الطهارةُ.
3- المشهورُ مِن مَذْهَبِ الإمامِ أحمدَ: أنَّ الناقِضَ من أجزاءِ الإبلِ هو الهَبْرُ فقطْ؛ لأنهم خَصُّوا اللَّحْمَ بالهَبْرِ دونَ بقيَّةِ أجزائِها، فهم يَرَوْنَ أنَّ القلبَ والكَبِدَ والكَرِشَ والسَّنَامَ ونحوَ ذلكَ مِن أجزائِها لا يَتَناوَلُه النصُّ.
قالَ في المُغْنِي: والوجهُ الثاني: يَنْقُضُ؛ لأنَّه مِن جملةِ الجَزُورِ، وإطلاقُ اللحمِ في الحيوانِ يُرَادُ به جملتُه؛ لأنه أكثرُ ما فيه، وكذلك لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تعالى لحمَ الخِنْزِيرِ كانَ تحريماً لجملتِه.
قالَ في المُبْدِعِ: الوجهُ الثاني: يَنْقُضُ؛ فإطلاقُ لفظِ اللحمِ يَتَناوَلُه.
قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السِّعْدِيُّ: الصحيحُ أنَّ جميعَ أجزاءِ الإبلِ؛ كالكَرِشِ والقلبِ، داخلٌ في حُكْمِها ولفظِها ومعناها, والتفريقُ بينَ أجزائِها ليسَ له دليلٌ ولا تعليلٌ، ولا يَدْخُلُ في ذلك الحليبُ واللَّبَنُ والدُّهْنُ؛ لأنه ليس لحماً ولا يَشْمَلُ مُسمَّاه.
4- لا يوجدُ في الشريعةِ الإسلاميَّةِ حيوانٌ تُبَعَّضُ الأحكامُ في أجزائِه؛ بعضُها حلالٌ وبعضُها حرامٌ، وإنما الحيوانُ: إمَّا حرامٌ كلُّه كالخِنْزِيرِ، وإمَّا حلالٌ كلُّه كبهيمةِ الأنعامِ. وهذا التبعيضُ يُوجَدُ في شريعةِ اليهودِ؛ فهم الذين حَرَّمَ اللَّهُ عليهم من الحيوانِ الطاهرِ الحلالِ؛ فأباح لهم البَقَرَ والغَنَمَ، وحَرَّمَ عليهم بعضَ شُحُومِها.
أما هذه المِلَّةُ السَّمْحَةُ: فإنَّ اللَّهَ لم يُعْنِتْها، ولم يُشَدِّدْ عليها، فالحيوانُ إمَّا خَبِيثٌ فكلُّه حرامٌ، وإما طيِّبٌ فكلُّه حلالٌ.
5- الأصلُ في وجوبِ الوضوءِ من لحمِ الإبلِ: حديثانِ صحيحانِ، هما: حديثُ جابرِ بنِ سَمُرَةَ، وحديثُ البَرَاءِ ابنِ عازِبٍ، وكلاهما في صحيحِ مسلمٍ، ولكنَّ العلماءَ تَلَمَّسُوا معرفةَ السرِّ والحكمةِ، فكانَ أقربُ ما وَصَلُوا إليه هو أنَّ الإبلَ فيها قوَّةٌ شيطانيَّةٌ، أشارَ إليها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولِه: ((إِنَّهَا مِنَ الْجِنِّ)). رَوَاهُ أحمدُ (20034)، فأَكْلُها يُورِثُ قوَّةً شيطانيَّةً تَزُولُ بالوضوءِ. واللَّهُ أعلمُ.
ويُؤَيِّدُ ذلك: أنَّ رُعاةَ الإبلِ عندَهم كِبْرٌ وزَهْوٌ وتَرَفُّعٌ، اكْتَسَبُوا هذه الطباعَ مِن طولِ بقائِهم عندَها، ومعاشرتِهم لها، بخلافِ أصحابِ الغنَمِ: فعليهم السكينةُ والهدوءُ ولِينُ القلبِ، ولعلَّ هذا هو السرُّ في أنه ما من نبيٍّ إلاَّ وقدْ رَعَى الغَنَمَ.
6- قولُه: ((إِنْ شِئْتَ)). يُفِيدُ عدمَ وجوبِ الوضوءِ مِن أكلِ لحمِ الغَنَمِ.
7- لدينا حديثانِ:
أحدُهما: حديثُ البابِ: أَتَوَضَّأُ مِن لحومِ الغَنَمِ؟ قالَ: ((إِنْ شِئْتَ)) رَوَاهُ مسلمٌ (360).
الثاني: ما رَوَاهُ مسلمٌ (253) عن عائشةَ وأبي هُرَيْرَةَ، أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((تَوَضَّؤُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ)).
ففي هذين الحديثيْن عمومٌ وخصوصٌ؛ فالأولُ عامٌّ في المطبوخِ من لحمِ الغنمِ، والثاني عامٌّ في الشيءِ المطبوخِ.
والفاصلُ في ذلك: ما رَوَاهُ أبو داودَ (192)، والنَّسائيُّ (185) عن جابرٍ، قالَ: آخِرُ الأمريْن من رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ الوضوءِ مِمَّا مَسَّتِ النارُ. وما جاء في البُخَارِيِّ (210)، ومسلمٍ (355) أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكَلَ مِن كَتِفِ شاةٍ وصَلَّى ولم يَتَوَضَّأْ. فيكونُ حديثُ البابِ مِن نواسخِ حديثِ الوضوءِ ممَّا مَسَّتِ النارُ.
8- ألبانُ الإبلِ فيها روايتانِ عن الإمامِ أحمدَ في نقضِها الوضوءَ، والروايةُ الراجحةُ في المذهَبِ: أن الألبانَ لا تَنْقُضُ، وهو الصحيحُ؛ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَأْمُرِ العُرَنِيِّينَ بالوضوءِ مِن ألبانِ الإبلِ، وقد أَمَرَهم بشُرْبِها، وتأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ لا يَجُوزُ، أمَّا قِياسُها على اللحْمِ بجامعِ التغذِّي بها كاللحمِ: فإنَّ هذه العِلَّةَ لم يُنَصَّ عليها، وإنما ظَنَّها بعضُ العلماءِ ظَنًّا.
خِلافُ العلماءِ:
ذَهَبَ الأئمَّةُ الثلاثةُ أبو حنيفةَ ومالكٌ والشافعيُّ وأتباعُهم إلى عدمِ الوضوءِ من أكلِ لحمِ الجَزُورِ.
قالَ النوويُّ: احْتَجَّ أصحابُنا بأنباءٍ ضعيفةٍ في مقابِلِ هذين الحديثيْنِ، وكأنَّ الحديثيْن لم يَصِحَّا عندَ الإمامِ الشافعيِّ؛ ولذا قالَ: إنْ صَحَّ الحديثُ في لحومِ الإبلِ قلتُ به.
وقالَ النوويُّ في موضعٍ آخرَ: لعَلَّهُم لم يَسْمَعُوا نصوصَه أو لم يَعْرِفُوا العِلَّةَ. وذَهَبَ الإمامُ أحمدُ وأتباعُه: إلى نقضِ الوضوءِ من أكلِ لحمِ الإبلِ، وهو قولُ إسحاقَ بنِ رَاهُويَهْ.
قالَ الخَطَّابِيُّ: ذَهَبَ إلى هذا عامَّةُ أصحابِ الحديثِ.
وقالَ ابنُ خُزَيْمَةَ: لم نَرَ خِلافاً بينَ علماءِ الحديثِ.
وأشارَ البَيْهَقِيُّ إلى تَرْجِيحِه واخْتِيَارِهِ والذَّبِّ عنه.
وقالَ الشافعيُّ: إنْ صَحَّ الحديثُ في لحومِ الإبلِ قلتُ به.
قالَ البَيْهَقِيُّ: قد صَحَّ فيه حديثانِ.
وقالَ النوويُّ في المجموعِ: القولُ القديمُ: إنه يَنْقُضُ، وهو الأقوَى مِن حيثُ الدليلُ، وهو الذي أَعْتَقِدُ رُجْحَانَه. ودليلُ النقضِ هذا الحديثانِ الصحيحانِ:
أحدُهما: حديثُ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ: أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَنَتَوَضَّأُ مِن لُحُومِ الإِبِلِ؟ قالَ: ((نَعَمْ)). قالَ: أَنَتَوَضَّأُ مِن لحومِ الغَنَمِ؟ قالَ: ((لاَ)). رَوَاهُ أحمدُ ومسلمٌ وأبو داودَ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ ماجَهْ.
الثاني: حديثُ جابرِ بنِ سَمُرَةَ، أنَّ رجلاً سَأَلَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَتَوَضَّأُ مِن لُحُومِ الغَنَمِ؟ قالَ: ((إِنْ شِئْتَ)). قالَ: أَنَتَوَضَّأُ مِن لحُومِ الإبلِ؟ قالَ: ((نَعَمْ)). أَخْرَجَهُ مسلمٌ.
واخْتارَ البَيْهَقِيُّ هذا القولَ, والنوويُّ، والشيخُ تقيُّ الدينِ, وابنُ القَيِّمِ والشَّوْكَانِيُّ، وعلماءُ الدعوةِ السلفيَّةِ النجديَّةِ، ورجالُ الحديثِ الذين يُقَدِّمُونَ الآثارَ على الآراءِ.
فائدةٌ:
أصحابُ القياسِ الفاسدِ قالُوا: إنَّ الوضوءَ من لحومِ الإبلِ على خلافِ القياسِ؛ لأنها لحمٌ، واللَّحْمُ لا يُتَوَضَّأُ منه.
أما صاحِبُ الشريعةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففَرَّقَ بينَ لحمِ الإبلِ ولحمِ الغنمِ ونحوِها، كما فَرَّقَ بينَهما في:
1- المعاطِنِ: حيثُ أجازَ الصلاةَ في معاطنِ الغنمِ، ومَنَعَ الصلاةَ في معاطنِ الإبلِ.
2- أصحابُ الإبلِ أصحابُ فخرٍ وخُيَلاَءَ، وأصحابُ الغنمِ ذَوُو سَكِينَةٍ وهدوءٍ.
ذلك أن الإبلَ فيها قوَّةٌ شيطانيَّةٌ، والغذاءُ له تأثيرٌ على المُتَغَذِّي؛ ولذا حَرَّمَ أكلَ كلِّ ذِي نابٍ مِن السباعِ، وكلِّ ذي مِخْلَبٍ من الطيرِ؛ لأنها جارحةٌ، فالاغتذاءُ بلحومِها يَجْعَلُ في خُلُقِ الإنسانِ مِن العُدوانِ ما يَضُرُّ بدينِه، فنَهَىَ عن ذلك، والثورةُ الشيطانيَّةُ إنما يُطْفِئُها الماءُ، فكانَ الوضوءُ مِن لحومِها على وَفْقِ القياسِ الصحيحِ. واللَّهُ أعلمُ.