سورة الكهف
من الاية 1 الى الاية 54
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قوله عزّ وجلّ: (الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا (1)
قال أهل التفسير وأهل اللغة إن معناه الحمد للّه الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. ومعنى قيّم مستقيم، والعوج - بكسر العين - فيما لا يرى له شخص، وما كان له شخص قيل فيه عوج بفتح العين.
تقول: في دينه عوج، وفي العصا عوج - بفتح العين -.
وتأويله الشكر للّه الذي أنزل على محمد الكتاب مستقيما ولم يجعل له عوجا، أي لم يجعل فيه اختلافا كما قال جل ثناؤه: (ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).
وقوله: (قيّما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشّر المؤمنين الّذين يعملون الصّالحات أنّ لهم أجرا حسنا (2)
أي لينذرهم بالعذاب البائس.
(من لدنه) من قبله.
(ويبشّر المؤمنين الّذين يعملون الصّالحات أنّ لهم أجرا حسنا)
[معاني القرآن: 3/267]
المعنى بأن لهم أجرا حسنا.
وقوله: (ماكثين فيه أبدا (3)
(ماكثين) منصوب على الحال في معنى خالدين.
وقوله: (ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلّا كذبا (5)
(كبرت كلمة تخرج من أفواههم).
وتقرأ كلمة بالرفع والنصب، فمن نصب فالمعنى كبرت مقالتهم " اتخذ اللّه ولدا " كلمة، فكلمة منصوب على التمييز.
ومن قرأ كلمة بالرفع فالمعنى عظمت كلمة هي قولهم: " اتخذ الله ولدا " ويجوز في كبرت كبرت كلمة - بتسكين الباء، ولا أعلم أحدا قرأ بها.
وقوله: (فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6)
تأويله فلعلك مهلك نفسك، وقال بعضهم قاتل نفسك.
والمعنى واحد.
قال الشاعر:
ألا أيّهذا الباخع الوجد نفسه... لشيء نحته عن يديه المقادر
المعنى ألا أيهذا الذي أهلك الوجد نفسه.
ومعنى (على آثارهم)، أي من بعدهم.
(إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا).
يعنى بالحديث القرآن، و (أسفا) منصوب لأنه مصدر في موضع الحال،
[معاني القرآن: 3/268]
والأسف المبالغة في الحزن أو الغضب. يقال قد أسف الرجل فهو أسيف وآسف.
قال الشاعر:
أرى رجلا منهم أسيفا كأنّما... يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضّبا
وقوله: (إنّا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيّهم أحسن عملا (7)
أي لنختبرهم، و (أيّهم) مرفوع بالابتداء، إلا أن لفظه لفظ الاستفهام المعنى ليخبر أهذا أحسن عملا أم هذا، فالمعنى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها)، أي اختبارا ومحنة، فالحسن العمل من زهد فيما زيّن له من الدنيا، ثم أعلمهم أنه مبيد ومفن ذلك كلّه مقال:
(وإنّا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا (8)
والصعيد الطريق الذي لا نبات فيه، والجرز الأرض التي لا تنبت شيئا كأنها تأكل النبت أكلا، يقال أرض جرز، وأرضون أجراز.
وقوله: (أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرّقيم كانوا من آياتنا عجبا (9)
والرقيم قيل إنه اسم الجبل الذي كان فيه الكهف، والكهف كالفجّ وكالغار في الجبل، وقيل إن الرقيم اسم القرية التي كانوا فيها.
وقيل إن الرقيم لوح كان فيه كتاب في المكان الذي كانوا فيه - واللّه أعلم.
وقيل كان المشركون سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين، وذلك أنهم أعياهم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فصارت جماعة منهم إلى يثرب فأعلمت جماعة من رؤساء اليهود بقصة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقالت اليهود إنّ اسمه عندنا مكتوب وأن يبعث على فترة من الرسل فاسألوه عن هذه الأشياء فإن أجاب عنها فهو نبي، فصارت الجماعة من المشركين إلى مكة وجمعوا
[معاني القرآن: 3/269]
جمعا كثيرا وسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الأشياء. فأعلمهم أنه لا يعلمها، وأنه إن نزل عليه وحي بها أعلمهم.
فروى بعضهم أنه قال: سأخبركم بها ولم يقل إن شاء الله فأبطأ عنه الوحي أياما ونزلت: (ولا تقولنّ لشيء إنّي فاعل ذلك غدا (23) إلّا أن يشاء اللّه).
فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أوحى الله إليه وأنزله الله في كتابه مما دل على حقيقة نبوته.
ثم أعلم الله عزّ وجلّ أنّ قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات اللّه، لأنّا نشاهد من خلق السّماوات والأرض وما بينهما مما يدل على توحيد اللّه ما هو أعجب من قصة أصحاب الكهف فقال جلّ وعزّ:
(أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرّقيم كانوا من آياتنا عجبا (9)
أي: حتى نبيّن قصتهم.
وقوله: (إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربّنا آتنا من لدنك رحمة وهيّئ لنا من أمرنا رشدا (10)
ومعنى أووا إليه صاروا إليه وجعلوه مأواهم، والفتية جمع فتى مثل غلام وغلمة، وصبي وصبية، وفعلة من أسماء الجمع، وليس ببناء يقاس عليه، لا يجوز غراب وغربة، ولا غنى وغنية.
وقوله: (فقالوا ربّنا آتنا من لدنك رحمة).
أي أعطنا من عندك رحمة، أي مغفرة ورزقا.
(وهيّئ لنا من أمرنا رشدا).
يجوز في (رشدا) (رشدا) إلا أنه لا يقرأ بها ههنا لأن فواصل الآيات على فعل نحو أمد وعدد، فرشد أحسن في هذا المكان أي أرشدنا إلى ما يقرب منك ويزلف عندك.
[معاني القرآن: 3/270]
وقوله: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا (11)
معنى (ضربنا على آذانهم) منعناهم - أن يسمعوا، لأن النائم - إذا سمع انتبه. فالمعنى أنمناهم، ومنعناهم السمع.
و (عددا) منصوب على ضربين:
أحدهما على المصدر، المعنى نعدّ عددا، ويجوز أن يكون نعتا للسنين.
المعنى سنين ذات عدد، والفائدة في قولك عدد في الأشياء المعدودات أنك تريد توكيد كثرة الشيء لأنه إذا قل فهم مقداره ومقدار عدده، فلم يحتج إلى أن يعدّ، فإذا كثر احتاج إلى أن يعد، فالعدد في قولك أقمت أياما عددا أنك تريد بها الكثرة.
وجائز أن تؤكد بعدد معنى الجماعة في أنها قد خرجت من معنى الواحد.
فمعنى قوله: (ثمّ بعثناهم لنعلم أيّ الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12)
أي بعثناهم من نومهم، ويقال لكل من خرج من الموت إلى الحياة أو من النوم إلى الانتباه مبعوث.
وتأويل مبعوث أنه قد زال عنه ما كان يحبسه عن التصرف والانبعاث.
وقوله: (لنعلم أيّ الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا).
الأمد الغاية، و (أمدا) منصوب على نوعين، وهو على التمييز منصوب وإن شئت كان منصوبا على أحصى أمدا فيكون العامل فيه أحصى، كأنه قيل لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد أم هؤلاء، ويكون منصوبا بـ لبثوا، ويكون أحصى متعلقا بـ (لما) فيكون المعنى أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد.
وقوله: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربّنا ربّ السّماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا (14)
(لقد قلنا إذا شططا).
أي قد قلنا إذن جورا.
و (شططا). منصوب على المصدر، المعنى لقد قلنا
[معاني القرآن: 3/271]
إذن قول شطط. يقال شط الرجل وأشط إذا جار.
قال الشاعر:
ألا يا لقومي قد أشطت عواذلي... ويزعمن أني أقصر اليوم باطلي
وقوله: (هؤلاء قومنا اتّخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن فمن أظلم ممّن افترى على اللّه كذبا (15)
أنكر الفتية عبادة قومهم، وأن يعبدوا مع الله غيره، فقالوا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون.
ولولا في معنى هلّا، المعنى هلّا يأتون عليهم بحجة بينة، ومعنى عليهم أي على عبادة الآلهة.
وقوله: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلّا اللّه فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربّكم من رحمته ويهيّئ لكم من أمركم مرفقا (16)
موضع (ما) نصب، المعنى إذا اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون إلا اللّه فإنكم لن تتركوا عبادته.
(فأووا إلى الكهف).
أي اجعلوا الكهف مأواكم
(ينشر لكم ربّكم من رحمته).
أي ينشر لكم من رزق
(ويهيّئ لكم من أمركم مرفقا).
يقال هو مرفق اليد بكسر الميم وفتح الفاء، وكذلك مرفق الأمر مثل مرفق اليد سواء.
قال الأصمعي: لا أعرف غير هدا. وقرأت القراء مرفقا
[معاني القرآن: 3/272]
- بفتح الميم وكسر الفاء.
وذكر قطرب وغيره من أهل اللغة اللغتين جميعا في مرفق الأمر ومرفق اليد.
وقالوا جميعا المرفق لليد بكسر الميم. هو أكثر في اللغة وأجود.
وقوله: (وترى الشّمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشّمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات اللّه من يهد اللّه فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليّا مرشدا (17)
في (تزاور) ثلاثة أوجه: تزاور، وتزورّ - بغير ألف، على مثال تحمرّ.
وتزوارّ على مثال تحمارّ، ووجه رابع تزاور. والأصل فيه تتزاور فأدغمت التاء في الزاي.
(وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال).
(تقرضهم) بكسر الراء، وتقرضهم - بضم الراء -.
والكسر القراءة عليه، وتأويله تعدل عنهم وتتركهم.
قال ذو الرؤبة:
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف... شمالا وعن أيمانهنّ الفوارس
يقرضن يتركن، وأصل القرض القطع والتفرقة بين الأشياء، ومن هذا قولك: اقرضني درهما، تأويله اقطع لي من مالك درهما.
وقوله: (وهم في فجوة منه).
أي في متسع منه
(ذلك من آيات اللّه).
قيل إنّ باب الكهف كان بإزاء بنات نعش، فلذلك لم تكن الشمس
[معاني القرآن: 3/273]
تطلع عليهم وهذا التفسير ليس ببيّن، إنما جعل اللّه فيهم هذه الآية لأن الشمس لا تقربهم في مطلعها ولا عند غروبها.
وقوله: (ذلك من آيات اللّه من يهد الله فهو المهتد).
أكثر اللغة فهو المهتدي بإثبات الياء، وفي المصحف في هذا.
الموضع بغير ياء وهذا في هذا الموضع كالذي في الأعراف، فهذا هو الوجه، وهو في الأعراف بالياء وفي الكهف بغير ياء. -
وحذف الياء جائز في الأسماء خاصة ولا يجوز في الأفعال، لأن حذف الياء في الفعل دليل الجزم.
وحذف الياء في الأسماء واقع إذا لم يكن أمع الاسم، الألف واللام، نحو مهتد ومقتد، فأدخلت الألف واللام وترك الحذف على ما كان عليه. ودلت الكسرة على الياء المحذوفة.
وقوله: (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشّمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطّلعت عليهم لولّيت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا (18)
الأيقاظ: المنتبهون، والرقود النيام، وواحد الأيقاظ يقظ ويقظان والجمع أيقاظ.
قال الراجز:
ووجدوا إخوتهم أيقاظا
وقيل في التّفسير إنهم كانوا مفتحي الأعين، الّذي يراهم يتوهمهم منتبهين وقيل لكثرة تقلبهم يظن أنهم غير نيام، ويدل عليه (ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال)
ويجوز وتحسبهم، وتحسبهم.
(وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد).
والوصيد فناء البيت، وفناء الدار.
[معاني القرآن: 3/274]
وقوله: (لو اطّلعت عليهم).
بكسر الواو، وتقرأ لو اطلعت عليهم بضم الواو، والكسر أجود، لأن الواو ساكنة والطاء ساكنة، فكسرت الواو لالتقاء السّاكنين، وهذا هو الأصل.
وجاز الضم لأن الضم من جنس الواو، ولكنه إذا كان بعد الساكن مضموم فالضم هناك أحسن منه ههنا. نحو (أو انقص) - واو انقص بالضم والكسر - وقوله: (لولّيت منهم فرارا).
(فرارا) منصوب على المصدر، لأن معنى ولّيت فررت منهم.
(ولملئت منهم رعبا).
ورعبا ورعبا، ورعبا منصوب على التمييز، تقول: امتلأت ماء وامتلأت فرقا، أي امتلأت من الفرق ومن الماء.
وقيل في التفسير إنهم طالت شعورهم جدا وأظفارهم، فلذلك كان الرائي لو رآهم لهرب منهم مرعوبا.
وقوله: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربّكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيّها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطّف ولا يشعرنّ بكم أحدا (19)
(فابعثوا أحدكم بورقكم).
فيها أربعة أوجه - بفتح الواو وكسر الراء، وبورقكم بتسكين الراء وبورقكم - بكسر الواو وتسكين الراء، يقال ورق، وورق، وورق، كما قيل: كبد، وكبد، وكبد. وكسر الواو أردؤها. ويجوز " بورقكم " تدغم القاف في الكاف وتصير كافا خالصة.
وقوله: (فلينظر أيّها أزكى طعاما).
(أيها) مرفوع بالابتداء، ومعنى (أيّها أزكى طعاما) أي أي أهلها أزكى طعاما، وأزكى خبر الابتداء، وطعاما منصوب على التمييز.
وقيل: إن تأويل
[معاني القرآن: 3/275]
(أزكى طعاما) أحل طعاما، وذكروا أن القوم كان أكثرهم مجوسا، وكانوا لا يستنظفون ذبائحهم، وقيل: (أزكى طعاما) أي طعاما لم يؤخذ من غصب، ولا هو من جهة لا تحل.
وقوله: (فليأتكم برزق منه).
وفليأتكم - بإسكان اللام وكسرها - والقراءة بإسكان اللام.
والكسر جائز.
قوله: (ولا يشعرنّ بكم أحدا).
قيل لا يعلمن بكم، أي إن ظهر عليه فلا يوقعنّ إخوانه فيما يقع فيه.
وقوله: (إنّهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملّتهم ولن تفلحوا إذا أبدا (20)
أي يقتلوكم بالرجم، والرجم من أخبث القتل.
(أو يعيدوكم في ملّتهم ولن تفلحوا إذا أبدا).
" إذا " تدل على الشرط، أي ولن تفلحوا إن رجعتم إلى ملّتهم.
وقوله: (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أنّ وعد اللّه حقّ وأنّ السّاعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربّهم أعلم بهم قال الّذين غلبوا على أمرهم لنتّخذنّ عليهم مسجدا (21)
أي أطلعنا عليهم (ليعلموا أنّ وعد اللّه حقّ)، أي ليعلم الذين يكذبون بالبعث أنّ وعد الله حق، ويزداد من يؤمن به إيمانا.
(وأنّ السّاعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم).
أي يتناظرون في أمرهم، فيجوز أن يكون " إذ " منصوبا بقوله (أعثرنا عليهم) فيكون المعنى وكذلك أعثرنا عليهم أي أطلعنا عليهم إذ وقعت المنازعة في أمرهم، ويجوز أن يكون منصوبا بقوله: ليعلموا، أي ليعلموا في وقت منازعتهم.
[معاني القرآن: 3/276]
وقوله: (قال الّذين غلبوا على أمرهم لنتّخذنّ عليهم مسجدا).
هذا يدل - واللّه أعلم - أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور لأن المساجد للمؤمنين.
وقوله: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربّي أعلم بعدّتهم ما يعلمهم إلّا قليل فلا تمار فيهم إلّا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا (22)
(ثلاثة) مرفوع بخبر الابتداء، المعنى سيقول الذين يتنازعون في أمرهم؛ هم ثلاثة رابعهم كلبهم.
(رجما بالغيب).
أي يقولون ذلك رجما، أي ظنّا وتخرصا.
قال زهير:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمو... وما هو عنها بالحديث المرجّم
(ويقولون خمسة سادسهم كلبهم).
(ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم).
دخول الواو ههنا وإخراجها من الأول واحد، وقد يجوز أن يكون الواو يدخل ليدل على انقطاع القصة وأن الشيء قد تمّ.
وقوله: (قل ربّي أعلم بعدّتهم ما يعلمهم إلّا قليل).
روي عن ابن عباس أنه قال، كان أصحاب الكهف سبعة، وأنا من القليل الذين يعلمونهم، وقول ابن عباس إذا صح عنه فهو من أوثق التفسير.
وقوله: (فلا تمار فيهم إلّا مراء ظاهرا).
أي لا تأت في أمرهم بغير ما أوحي إليك، أي أفت في قصتهم بالظاهر الذي أنزل إليك.
[معاني القرآن: 3/277]
(ولا تستفت فيهم منهم).
أي في أصحاب الكهف.
(منهم أحدا).
أي من أهل الكتاب.
وقوله: (ولا تقولنّ لشيء إنّي فاعل ذلك غدا (23) إلّا أن يشاء اللّه).
موضع (أن) نصب، المعنى: لا تقولن إني أفعل أبدا إلا بمشيئة اللّه، فإذا قال القائل: إني أفعل ذلك إن شاء اللّه فكأنّه قال: لا أفعل إلا بمشيئة اللّه.
وقوله: (واذكر ربّك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربّي لأقرب من هذا رشدا (24)
أي أي وقت ذكرت أنك لم تستثن، فاستثن، وقل: إن شاء اللّه.
(وقل عسى أن يهدين ربّي لأقرب من هذا رشدا).
أي قل عسى أن يعطيني من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد وأدل من قصة أصحاب الكهف.
وقوله: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25)
جائز أن يكون (سنين) نصبا، وجائز أن تكون جرّا.
فأما النصب فعلى معنى فلبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة، ويكون على تقدير آخر " سنين " معطوفا على ثلاث عطف البيان والتوكيد، وجائز أن تكون (سنين) من نعت المائة، وهو راجع في المعنى إلى ثلاث كما قال الشاعر:
[معاني القرآن: 3/278]
فيها اثنتان وأربعون حلوبة... سودا كخافية الغراب الأسحم
فجعل سودا نعتا لحلوبة، وهو في المعنى نعت لجملة العدد، فجائز أن يكون: ولبثوا في كهفهم، محمولا على قوله: سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون لبثوا في كهفهم وهذا القول دليله قوله: (قل اللّه أعلم بما لبثوا).
ويجوز - وهو الأجود عندي - أنه إخبار عن الله أخبرهم بطول لبثهم.
وأعلم أنّه أعلم بذلك.
وكان هذا أبلغ في الآية فيهم أن يكون الصحيح أنهم قد لبثوا هذا العدد كلّه.
فأمّا قوله: (وازدادوا تسعا).
فلا يكون على معنى وازدادوا تسع ليال، ولا تسع ساعات، لأن العدد يعرف تفسيره، وإذا تقدم تفسيره استغنى بما تقدم عن إعادة ذكر التفسير.
تقول: عندي مائة درهم وخمسة فيكون الخمسة قد دل عليها ذكر الدرهم
وكذلك قوله: (والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشرا).
قال أبو العباس محمد بن يزيد: (وعشرا) معناه وعشر مدد، وتلك المدد كل مدة منها يوم وليلة، والعرب تقول: ما رأيته منذ عشر.
وأتيته لعشر خلون، فيغلّبون الليالي على ذكر الأيام، والأيام داخلة في الليالي والليالي مع اليوم مدة معلومة من الدهر، فتأنيث عشر يدل على أنه لا يراد به أشهر فهذا أحسن ما فسّر في هذه الآية.
وقوله: (قل اللّه أعلم بما لبثوا له غيب السّماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من وليّ ولا يشرك في حكمه أحدا (26)
(أبصر به وأسمع).
[معاني القرآن: 3/279]
أجمعت العلماء أن معناه ما أسمعه وأبصره. أي هو عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم:
وقوله: (ولا يشرك في حكمه أحدا).
قرئت: (ولا يشرك) على النهي.
والآية - واللّه أعلم - تدل على أحد معنيين:
أحدهما أنه أجرى ذكر علمه وقدرته، فأعلم عزّ وجلّ أنه لا يشرك في حكمه مما يخبر به من الغيب أحدا، كما قال: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا) وكذلك إذا قرئت: ولا تشرك - بالتاء - في حكمه أحدا، أي لا تنسبنّ أحدا إلى علم الغيب، ويكون - واللّه أعلم، وهو جيد بالغ - على معنى أنه لا يجوز أن يحكم حاكم إلا بما حكم اللّه، أو بما يدل عليه حكم اللّه، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه، فيكون شريكا للّه في حكمه، يأمر بحكم كما أمر اللّه عزّ وجلّ.
وقوله: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربّك لا مبدّل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا (27)
أي لن تجد معدلا عن أمره ونهيه، ولا ملجأ إلا إليه.
وكذلك: (لا مبدّل لكلماته).
أي ما أخبر الله به، وما أمر به فلا مبدّل له.
وقوله: (واصبر نفسك مع الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدّنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطا (28)
وقرئت بالغدوة والعشي، وبالغداة والعشي أجود في قول جميع العلماء لأن " غدوة " معرفة لا تدخلها الألف واللام، والذين أدخلوا الألف واللام
[معاني القرآن: 3/280]
جعلوها نكرة، ومعنى يدعون ربهم بالغداة والعشي، أي يدعونه بالتوحيد والإخلاص له، ويعبدونه يريدون وجهه، أي لا يقصدون بعبادتهم إلا إياه.
وقوله: (ولا تعد عيناك عنهم).
أي لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة.
روي أن جماعة من عظماء المشركين قالوا للنبي عليه السلام،: باعد عنك هؤلاء الذين رائحتهم كرائحة الضّأن، وهم موال وليسوا بأشراف لنجالسك ولنفهم عنك، يعنون خبّابا، وصهيبا وعمّارا - وبلالا ومن أشبههم، فأمره اللّه بأن لا يفعل ذلك وأن يجعل إقباله على المؤمنين وألا يلتفت إلى غيرهم فقال: (ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدّنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطا).
أي كان أمره التفريط، والتفريط تقديم العجز.
وقوله: (وقل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنّا أعتدنا للظّالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشّراب وساءت مرتفقا (29)
المعنى وقل الذي أتيتكم به الحقّ من ربّكم.
(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
هذا الكلام ليس بأمر لهم، ما فعلوه منه فهم فيه مطيعون، ولكن كلام وعيد وإنذار قد بين بعده ما لكل فريق من مؤمن وكافر.
قال عزّ وجلّ: (إنا أعتدنا للظّالمين نارا).
معنى أعتدنا جعلناها عتادا لهم كما تقول: جعلت هذا عدة لهذا.
والعتاد: الشيء الثابت اللازم.
وقوله: (أحاط بهم سرادقها).
[معاني القرآن: 3/281]
أي صار عليهم سرادق من العذاب، والسرادق كل ما أحاط بشيء نحو الشقة في المضرب والحائط المشتمل على الشيء.
وقوله: (كالمهل).
يعنى أنهم يغاثون بماء كالرّصاص المذاب أي الصّفر والفضّة، وكل ما أذبته من هذه الأشياء فهو مهل.
وقيل المهل: درديّ الزّيت أيضا.
وقيل المهل صديد الجرح.
(يشوي الوجوه).
أي إذا قدّم ليشرب أشوى الوجه من حرارته.
(بئس الشّراب وساءت مرتفقا).
(مرتفقا) منصوب على التمييز، و (مرتفقا) منزلا.
وقال أهل اللغة (مرتفقا): متكأ.
وأنشدوا:
إني أرقت فبتّ الليل مرتفقا... كأنّ عيني فيها الصّاب مذبوح
[معاني القرآن: 3/282]
وقوله: (إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملا (30)
خبر (إنّ) هنا على ثلاثة أوجه:
فأحدها أن يكون على إضمار " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم "، ولم يحتج إلى ذكر منهم لأن الله تعالى قد أعلمنا أنه يحبط عمل غير المؤمنين، قال عزّ وجلّ: (وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما).
ويجوز أن يكون خبر (إنّ): (أولئك لهم جنّات عدن)
ويكون قوله: (إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملا) قد فصل به بين الاسم وخبره، لأن فيه ذكر ما في الأول، لأن من أحسن
عملا بمنزلة الذين آمنوا.
ووجه ثالث، أن يكون الخبر (إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملا) في معنى إنا لا نضيع أجرهم، لأن ذكر " من " كذكر الذي، وذكر حسن العمل كذكر الإيمان.
فيكون كقولك: إن الذين يعملون الصالحات إن الله لا يضيع أجر من آمن، فهو كقولك إن اللّه لا يضيع أجرهم.
(أولئك لهم جنّات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلّون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متّكئين فيها على الأرائك نعم الثّواب وحسنت مرتفقا (31)
ومعنى (جنات عدن) جنات إقامة.
وقيل في التفسير جنات عدن، جنات من الأربع الجنان التي أعدها الله لأوليائه.
(يحلّون فيها من أساور من ذهب).
أساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار. يقال هو سوار في اليد بالكسر، وقد حكي سوار وحكي قطرب إسوار، وذكر أن أساور جمع إسوار، على حذف الياء، لأن جمع أسوار أساوير.
[معاني القرآن: 3/283]
(ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق).
والسندس والإستبرق نوعان من الحرير.
(متّكئين فيها على الأرائك نعم الثّواب وحسنت مرتفقا).
الأرائك واحدتها: أريكة، والأرائك الفرش في الحجال.
و (مرتفقا) منصوب على التمييز وقد فسرنا المرتفق.
وقوله: (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنّتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا (32)
كان المشركون سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشورة اليهود عليهم أن يسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قصة أصحاب الكهف وعن الروح وعن هذين الرجلين، فأعلمه اللّه الجواب وأنه مثل له عليه السلام وللكفار، ومثل لجميع من آمن باللّه وجميع من عند عنه وكفر به، فقال تعالى: (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنّتين من أعناب وحففناهما بنخل).
(رجلين) منصوب على معنى المفعول على معنى واضرب لهم مثلا مثل رجلين.
(وحففناها بنخل) أي جعلنا النخل مطيفا بهما، يقال: قد حفّ القوم بزيد إذا كانوا مطيفين به.
(وجعلنا بينهما زرعا).
فأعلم اللّه أن عمارتهما كاملة متصلة لا يفصل بينهما إلا عمارة، وأعلمنا أنهما كاملتان في تأدية حملهما من نخلهما وأعنابهما والزرع الذي بينهما.
فقال: (كلتا الجنّتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجّرنا خلالهما نهرا (33)
أي لم تنقص منه شيئا، وقال آتت ولم يقل آتتا، رده على (كلتا) لأن لفظ
[معاني القرآن: 3/284]
(كلتا) لفظ واحد، والمعنى كل واحد؛ منهما آتت أكلها، ولو كان (آتتا) لكان جائزا أن يكون المعنى الجنتان كلتاهما آتتا أكلهما.
(وفجّرنا خلالهما نهرا).
ولو قرئت نهرا لكان جائزا.
يقال نهر ونهر، فأعلمنا أن شربهما. كان من ماء نهر وهو من أغزر الشرب.
(وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعزّ نفرا (34)
وقرئت ثمر، وقيل الثمر ما أخرجته الشجر، والثمر المال، يقال قد ثمّر فلان مالا. والثمر ههنا أحسن، لأن قوله: (كلتا الجنتين آتت أكلها).
قد دلّ على الثمر، وتجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة. وثمار وثمر.
وقوله: (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعزّ نفرا).
مالا، ونفرا، منصوبان على التمييز، وأخبره أنه أعز منه ناصرا، أي يخبر أنّ نصّاره كثير.
وقوله: (ودخل جنّته وهو ظالم لنفسه قال ما أظنّ أن تبيد هذه أبدا (35)
وكل من كفر باللّه فنفسه ظلم، لأنه يولجها النار ذات العذاب الدائم.
فأي ظلم للنفس فوق هذا.
وقوله: (ما أظنّ أن تبيد هذه أبدا (35) وما أظنّ السّاعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي لأجدنّ خيرا منها منقلبا (36)
فأخبر بكفره بالساعة وبكفره بفناء الدنيا.
(ولئن رددت إلى ربّي لأجدنّ خيرا منها منقلبا).
فدل على أن صاحبه المؤمن قد أعلمه أن السّاعة تقوم وأنه يبعث،
[معاني القرآن: 3/285]
فأجابه بأن قال له: (ولئن رددت إلى ربّي) كما أعلمتني أن أبعث ليعطيني في الآخرة خيرا مما أعطاني في الدنيا، لأنه لم يعطني هذا في الدنيا إلا وهو يزيدني إن كان الأمر على هذا في الآخرة، فقال له صاحبه منكرا له بهذا القول:
(أكفرت بالّذي خلقك من تراب ثمّ من نطفة ثمّ سوّاك رجلا (37)
أي ثم أكملك، فأنكرت أمر البعث حتى شككت فيه، وقد أعلمنا أن الشاكّ في أمر اللّه كافر، وأن بعض الظنّ إثم أي باطل، وقد قال اللّه تعالى:
(وما خلقنا السّماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظنّ الّذين كفروا فويل للّذين كفروا من النّار (27).
ثم أعلمه صاحبه أنه موحّد للّه، وأن كل ما قدر عليه الإنسان من ملك ونعمة فلا قوة له ولا قدرة عليه إلا باللّه، فقال:
(لكنّا هو اللّه ربّي ولا أشرك بربّي أحدا (38)
فدل خطابه على أنّ صاحب الجنتين مشرك عابد مع الله غيره، وفي قوله: (لكنّا هو اللّه ربّي) خمسة أوجه:
لكنّ هو الله ربي - بتشديد النون وفتحها، ويوقف عليها بالألف، ويوصل بغير ألف، ويقرأ: لكنا هو الله ربي بالألف موصولة، ويقرأ لكن هو اللّه ربي بسكون النون.
ويجوز - ولا أعلم أحدا قرأ به - لكنن هو اللّه ربي بنونين مفتوحتين، ويجوز لكننا هو الله ربي بنونين وألف.
فمن قرأ بتشديد النون فالمعنى لكن أنا هو الله ربي فطرحت الهمزة على النون فتحركت بالفتح واجتمع حرفان من جنس واحد، فأدغمت النون الأولى في الثانية، وحذفت الألف في الوصل لأنها تثبت في الوقف وتحذف في الوصل ومن قرأ: لكنّا فأثبت الألف في الوصل كما كان تثبيتها في
[معاني القرآن: 3/286]
الوقف فهذا على لغة من قال أنا قمت فأثبت الألف قال الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني جميعا قد تذرّيت السّناما قال أبو إسحاق وألف أنا في كل هذا إثباتها شاذ في الوصل؛ ولكن من أثبت فعلى الوقف كما أثبت الهاء في قوله: (وما أدراك ما هيه).
و(كتابيه).
ومن قرأ (لكنّ هو اللّه ربّي)، وهي لكن وحدها ليس معها اسم، ومن قرأ لكنن لم يدغم لأن النونين من كلمتين، وكذلك من قال: لكننا بنونين وألف، على قياس لكن أنا، لم يدغم لأن النونين من كلمتين، وفي أنا في الوصل ثلاث لغات أجودها أنا قمت، مثل قوله (أنا ربكم) بغير ألف في اللفظ، ويجوز أنا قمت بإثبات الألف، هو ضعيف جدا، وحكوا أن قمت بإسكان النون، وهو ضعيف أيضا فأما (لكنّا هو اللّه ربّي) - فهو الجيّد بإثبات الألف، لأن الهمزة قد حذفت من أنا، فصار إثبات الألف عوضًا من الهمزة.
فهذا جميع ما يحتمله هذا الحرف.
والجيّد البالغ ما في مصحف أبي بن كعب ولم نذكره في هذه القراءات لمخالفته المصحف وهو " لكن أنا هو الله ربي "، فهذا هو الأصل، وجميع ما قرئ به جيد بالغ، ولا أنكر القراءة بهذا، لأن الحذف قد يقع في الكتاب كثيرا في الياءات والهمزات، فيقرأ بالحذف وبالتمام نحو قوله:
(يوم يدع
[معاني القرآن: 3/287]
الدّاع إلى شيء نكر (6).
من قرأ الداعي فمصيب، ومن قرأ الداع فمصيب.
وكذلك من قرأ لكنّا، ولكن أنا فهو مصيب، والأجود اتباع القراء ولزوم الرواية، فإن القراءة سنة، وكلما كثرت الرواية في الحرف وكثرت به القراءة فهو المتبع، وما جاز في العربية ولم يقرأ به قارئ فلا تقرأنّ به فإن القراءة به بدعة، وكل ما قلّت فيه الرواية وضعف عند أهل العربية فهو داخل في الشذوذ، ولا ينبغي أن تقرأ به.
وقوله (ولولا إذ دخلت جنّتك قلت ما شاء اللّه لا قوّة إلّا باللّه إن ترن أنا أقلّ منك مالا وولدا (39)
والجنة البستان. ومعنى: (ولولا) هلّا، وتأويل الكلام التوبيخ.
(قلت ما شاء اللّه).
(ما) في موضع رفع، المعنى قلت: الأمر ما شاء اللّه.
ويجوز أن تكون (ما) في موضع نصب على معنى الشرط والجزاء، ويكون الجواب مضمرا، ويكون التأويل أيّ شيء شاء اللّه كان، ويضمر الجواب كما أضمر جواب لو في قوله: (ولو أنّ قرآنا سيّرت به الجبال) المعنى لكان هذا القرآن.
وقوله: (لا قوّة إلّا باللّه).
الاختيار النصب بغير تنوين على النفي كما قال لا ريب فيه، ويجوز لا قوة إلا باللّه على الرفع بالابتداء، والخبر " باللّه " المعنى أنه لا يقوى أحد في ديدنه ولا في ملك يمينه إلا باللّه، ولا يكون له إلا ما شاء اللّه.
وقوله: (إن ترن أنا أقلّ منك).
(أقلّ) منصوب، وهو مفعول ثان بـ ترني، وأنا يصلح لشيئين، إن شئت كانت توكيدا للنون والياء، وإن شئت كانت فصلا، كما تقول: كنت أنت
[معاني القرآن: 3/288]
القائم يا هذا، ويجوز رفع (أقلّ)، وقد قرأ بها عيسى بن عمر: إن ترني أنا أقلّ منك مالا، على أن أنا ابتداء، وأقل خبر الابتداء، والجملة في موضع المفعول الثاني لترني.
وقوله: (فعسى ربّي أن يؤتين خيرا من جنّتك).
جائز أن يكون أراد في الدنيا، أو في الآخرة.
(ويرسل عليها حسبانا من السّماء).
وهذا موضع لطيف يحتاج أن يشرح وهو أن الحسبان في اللغة – هو الحساب قال تعالى: (الشّمس والقمر بحسبان) المعنى بحساب، فالمعنى في هذه الآية أن يرسل عليها عذاب حسبان، وذلك الحسبان هو حساب ما كسبت يداك.
وقوله (فتصبح صعيدا زلقا)
الصعيد الطريق الذي لا نبات فيه، وكذلك الزلق.
(أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا (41)
معناه غائرا، يقال ماء غور، ومياه غور، وغور مصدر مثل عدل ورضى.
وقوله: (فلن تستطيع له طلبا).
أي يغور فلا تقدر على أثر تطلبه من أجله.
(وأحيط بثمره فأصبح يقلّب كفّيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربّي أحدا (42)
أي أحاط اللّه العذاب بثمره.
(فأصبح يقلّب كفّيه على ما أنفق فيها).
[معاني القرآن: 3/90]
تقلب الكفين، يفعله الناس كثيرا.
(وهي خاوية على عروشها)
أي حيطانها قائمة لا سقوف عليها، وقد تهدّمت سقوفها فصارت في قرارها والعروش: السقوف، فصارت الحيطان كأنّها على السقوف.
وقوله: (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون اللّه وما كان منتصرا (43)
(ينصرونه) محمول على معنى فئة، المعنى ولم يكن له أقوام ينصرونه.
ولو كان ينصره لجاز، كما قال: (فئة تقاتل في سبيل اللّه).
(وما كان منتصرا).
وما كان هو أيضا قادرا على نصر نفسه.
وقوله: (هنالك الولاية للّه الحقّ هو خير ثوابا وخير عقبا (44)
وتقرأ (الولاية) - بكسر الواو وفتحها - (للّه الحقّ)، وتقرأ (الحقّ)، المعنى: في مثل تلك الحال بيان الولاية للّه.
أي عند ذلك يتبين نصره، ولي اللّه - يتولى الله إياه.
فمن قرأ (الحقّ) بالرفع، فهو نعت للولاية، ومن قرأ (الحقّ) فهو بالجر فهو نعت للّه - جلّ وعزّ.
ويجوز (الحقّ)، ولا أعلم أحدا قرأ بها.
ونصبه على المصدر في التوكيد، كما تقول: هنالك الحقّ، أي أحقّ الحقّ.
وقوله: (هو خير ثوابا وخير عقبا).
وعقبا، ويجوز و (خير عقبى) على وزن بشرى، وثوابا وعقبا منصوبان على التمييز.
وقوله: (واضرب لهم مثل الحياة الدّنيا كماء أنزلناه من السّماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرّياح وكان اللّه على كلّ شيء مقتدرا (45)
[معاني القرآن: 3/289]
تأويله أنه نجع في النبات حتى خالطه، فأخذ النبات زخرفة.
(فأصبح هشيما).
والهشيم النبات الجاف الذي تسفيه الريح.
(تذروه الرّياح).
ويقرأ الريح، وفي تذروه لغتان لا يقرأ بهما: تذريه - بضم التاء وكسر الراء، وتذريه بفتح التاء. أعلم اللّه - عزّ وجلّ - أن الحياة الدنيا زائلة، ودليل ذلك أنّ ما مضى منها بمنزلة ما لم يكن، وأعلم أن مثلها هذا المثل.
وقوله: (وكان اللّه على كلّ شيء مقتدرا).
أي على الإنشاء، والإفناء، مقتدرا.
فإن قال قائل: " فالكلام كان اللّه "، فتأويله أنّ ما شاهدتم من قدرته ليس بحادث عنده، وأنه كذلك كان لم يزل.
هذا مذهب سيبويه، وقال الحسن: (وكان اللّه على كلّ شيء مقتدرا) أي كان مقتدرا عليه قبل كونه.
وقال بعضهم: " كان " من اللّه بمنزلة كائن ويكون.
وقول الحسن في هذا حسن جميل ومذهب سيبويه والخليل مذهب النحويين الحذاق كما وصفنا، لأنهم يقولون: إنما خوطبت العرب بلغتها ونزل القرآن بما يعقلونه ويتخاطبون به، والعرب لا تعرف كان في معنى يكون، إلا أن يدخل على الحرف آلة تنقلها إلى معنى الاستقبال، وكذلك لا يعرف الماضي في معنى الحال.
فهذا شرح ما في القرآن من هذا الباب نحو قوله: (وكان اللّه غفورا رحيما)، (وكان اللّه بكلّ شيء عليما)، وقد فسرناه قبل هذا الموضع.
[معاني القرآن: 3/291]
وقوله: (المال والبنون زينة الحياة الدّنيا والباقيات الصّالحات خير عند ربّك ثوابا وخير أملا (46)
(الباقيات الصّالحات) هي الصلوات الخمس، - وقيل هي: سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر.
والباقيات الصّالحات - واللّه أعلم - كل عمل صالح يبقى ثوابه، فالصلوات الخمس وتوحيد اللّه وتعظيمه داخل في الباقيات الصّالحات، وكذلك الصدقات والصيام والجهاد وأعمال الخير والبر كلّها.
وقوله: (ويوم نسيّر الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا (47)
(يوم) منصوب على معنى التلاوة والذكر، المعنى واذكر يوم نسير الجبال.
ويجوز أن يكون نصبه على " والباقيات الصالحات خير يوم يسير الجبال " أي: خير في القيامة من الأعمال التي تبقى آثامها.
وقوله (وترى الأرض بارزة)، معناه ظاهرة، وقد سيّرت جبالها، واجتثت أشجارها، وذهبت أبنيتها فبقيت ظاهرة، وقد ألقت ما فيها وتخلت.
وقوله: (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا).
أي لم نخلّف أحدا منهم.
(وعرضوا على ربّك صفّا لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرّة بل زعمتم ألّن نجعل لكم موعدا (48)
معناه أنهم كلهم ظاهرون للّه، ترى جماعتهم كما يرى كل واحد منهم.
لا يحجب واحد واحدا.
وقوله: (لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرّة).
أي بعثناكم كما خلقناكم.
وجاء - في التفسير أنهم يحشرون عراة غرلا حفاة.
معنى غرلا، جمع أغرل وهو الأقلف.
[معاني القرآن: 3/292]
وقوله: (بل زعمتم ألّن نجعل لكم موعدا).
أي بل زعمتم أن لن تبعثوا، لأن الله جل ثناؤه، وعدهم بالبعث.
وقوله: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين ممّا فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربّك أحدا (49)
معناه - والله أعلم - وضع كتاب كل امرئ بيمينه أو شماله.
(فترى المجرمين مشفقين ممّا فيه ويقولون يا ويلتنا).
كل من وقع في هلكة دعا بالويل.
(مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها)
أي لا تاركا صغيرة.
(ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربّك أحدا).
أي إنما يعاقبهم فيضع العقوبة موضعها في مجازاة الذنوب.
وأجمع أهل اللغة أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه.
وقوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه أفتتّخذونه وذرّيّته أولياء من دوني وهم لكم عدوّ بئس للظّالمين بدلا (50)
قوله: (ففسق عن أمر ربّه) دليل على أنه أمر بالسجود مع الملائكة، وأكثر ما في التفسير أن إبليس من غير الملائكة وقد ذكره اللّه عزّ وجلّ أنه كان من الجن بمنزلة آدم من الإنس، وقد قيل إن الجن ضرب من الملائكة، كانوا خزان الأرض، وقيل خزان الجنان.
فإن قال قائل: فكيف استثنى مع ذكر الملائكة، فقال فسجدوا إلّا إبليس، فكيف وقع الاستثناء وليس هو من الأول، فالجواب في هذا أنه أمر معهم بالسجود فاستثنى من أنه لم يسجد، والدليل على ذلك أنك تقول: أمرت عبدي وأخوتي فأطاعوني إلا عبدي، وكذلك قوله عزّ وجلّ: (فإنّهم عدوّ لي إلّا ربّ العالمين)، ورب العالمين ليس كمثله شيء، وقد جرى ذكره في
[معاني القرآن: 3/293]
الاستثناء - وهو استثناء ليس من الأول.
ولا يقدر أحد أن يعرف معنى الكلام غير هذا.
(ففسق عن أمر ربّه).
فيه ثلاثة أوجه، يجوز أن يكون معناه: خرج عن أمر ربّه، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، وقال قطرب: يجوز أن يكون معناه فسق عن ردّ أمر ربّه، ومذهب سيبويه والخليل وهو الحق عندنا أن معنى (فسق عن أمر ربّه) أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب فسقه أمر ربّه، كما تقول أطعمه عن جوع وكساه عن عري.
المعنى كان سبب فسقه الأمر بالسّجود لما كان سبب الإطعام الجوع، وسبب الكسوة العرى.
وقوله: (بئس للظّالمين بدلا).
معناه أنه بئس ما استبدل به الظالمون من رب العزة جلّ وعزّ، إبليس.
وقوله: (ما أشهدتهم خلق السّماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متّخذ المضلّين عضدا (51)
أي لم يكونوا موجودين إذ خلقت السّماوات والأرض.
(وما كنت متّخذ المضلّين عضدا).
ويقرأ (وما كنت متّخذ المضلّين) - بفتح التاء - المعنى في فتحها: ما كنت يا محمد لتتخذ المضلّين أنصارا، وضم التاء هي القراءة، وعليها المعنى.
يخبر اللّه عزّ وجلّ بقدرته، وأنه لا يعتضد فيها ولا في نصرته بالمضلّين والاعتضاد التقوى. وطلب المعونة، يقال: اعتضدت بفلان، معناه استعنت به.
و(عضدا) فيه. خمسة أوجه، وجهان منها كثيران جيّدان، وهما
[معاني القرآن: 3/294]
عضد بفتح العين وضم الضاد، وعضد - بضم العين والضاد - ويجوز عضدا، وعضدا، بتسكين الضاد وضم العين وفتحها.
وقد رويت عضد بكسر الضّاد ويجوز في عضد بكسر الضاد (عضدا).
وقوله: (ويوم يقول نادوا شركائي الّذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا (52)
أضافهم إليه على قولهم.
وقوله: (وجعلنا بينهم موبق).
جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم، أي يهلكهم، والموبق المهلك.
يقال وبق الرجل يوبق، وبقا ويقال ييبق، وبائق، وفيه لغة أخرى وبق يبق وبوقا، وهو وابق، والأول هو وبق.
وقوله عزّ وجلّ: (ورأى المجرمون النّار فظنّوا أنّهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا (53)
القراءة (ورأى)، ويجوز " وراء " المجرمون مثل وراع، كما قال كثير:
وكل خليل راءني فهو قائل... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
قوله: (فظنّوا أنّهم مواقعوها).
معناه أيقنوا. وقد بيّنّا ذلك.
(ولم يجدوا عنها مصرفا).
أي معدلا، قال أبو كبير:
[معاني القرآن: 3/295]
أزهير هل عن شيبة من محرف... أم لا خلود لباذل متكلّف
وقوله: (ولقد صرّفنا في هذا القرآن للنّاس من كلّ مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا (54)
أي من كل مثل يحتاجون إليه، أي بيّناه لهم.
وقوله: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا).
معناه كان الكافر، ويدل عليه قوله: (ويجادل الّذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحقّ).
فإن قال قائل: وهل يجادل غير الإنسان؟
فالجواب في ذلك أن إبليس قد جادل، وأن كل ما يعقل من الملائكة والجنّ يجادل، ولكن الإنسان أكثر هذه الأشياء جدلا.