المجموعة الثالثة
1: تكلّم عن جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه.
لما استحر القتل بالقراء في حرب اليمامة بين المسلمين ومسيلمة الكذاب وأصحابه بني حنيفة بحديقة الموت , وكان معه مائة ألف , جهز أبو بكر الصديق جيشا بقيادة خالد بن الوليد في قريب من ثلاثة عشر ألفا , فلما اشتد القتال قال القراء من كبار الصحابة : يا خالد ميزنا من هؤلاء الأعراب فكنوا ثلاثة آلاف , وصدقوا الحملة على المنافقين , وكانوا يتنادون : يا أصحاب سورة البقرة , فلم يزالوا كذلك حتى فتح الله على أيديهم وولى جيش الكفار , وقتل من القراء ذلك اليوم قرابة الخمسمائة قارئ , فتفطن لذلك عمر بن الخطاب وأشار على أبي بكر الصديق بجمع القرآن ؛ لكي لا يذهب منه شيء , فراجعه في ذلك أبو بكر حتى يستثبت الأمر ثم وافقه على ذلك , وكذلك راجعهما زيد بن ثابت حتى صار إلى ما رأياه رضي الله عنهم جميعا .
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن عبيد بن السباق، أن زيد بن ثابت قال: أرسل إلى أبو بكر -مقتل أهل اليمامة- فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر بن الخطاب أتاني، فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان علي أثقل مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر، رضي الله عنهم.
وأخذ زيد بن ثابت يجمع القرآن من العسب واللخاف وصدور الرجال , ,الرقاع والأكتاف والأقتاب .
ويعد هذا من أفضل وأحسن وأجل ما فعل أبو بكر رضي الله عنه , فقد أقامه الله تعالى مقاما بعد نبيه صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لأحد بعده , فقد قاتل المنافقين ومانعي الزكاة , والمرتدين , والفرس والروم , وبعث السريا , وجمع القرآن من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القارئ من حفظه , عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين.
2: بيّن معنى التغنّي بالقرآن.
معنى التغني بالقرآن : الجهر بالقراءة وتحسينها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (لم يأذن الله لشيء، ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن ) .
وذكر سفيان بن عيينة قول آخر في معنى التغني وهو : الاستغناء به . وقد رد هذا القول ابن كثير فقال : فإن أراد: أنه يستغني عن الدنيا، وهو الظاهر من كلامه الذي تابعه عليه أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره، فخلاف الظاهر من مراد الحديث؛ لأنه قد فسره بعض رواته بالجهر، وهو تحسين القراءة والتحزين بها.
ورده أيضا الشافعي فيما رواه عنه حرملة فقال : سمعت ابن عيينة يقول: معناه: يستغني به، فقال لي الشافعي: ليس هو هكذا، ولو كان هكذا لكان يتغانى به، وإنما هو يتحزن ويترنم به، ثم قال حرملة: وسمعت ابن وهب يقول: يترنم به، وهكذا نقل المزني والربيع عن الشافعي، رحمه الله.
3: أيهما أفضل: القراءة من المصحف أم القراءة عن ظهر قلب؟
اختلف أهل العلم في أيهما أفضل على أقوال :
الأول : القراءة عن ظهر قلب أفضل . وهو قول البخاري رحمه الله واستدل لقوله بحديث سهل بن سعد , وفيه أنه، عليه السلام، قال لرجل: ((فما معك من القرآن؟)). قال: معي سورة كذا وكذا، لسور عددها. قال: ((أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟)). قال: نعم. قال: ((اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن)).
الثاني : أن القراءة من المصحف أفضل ؛ لأنها تشتمل على التلاوة والنظر في المصحف وهو عبادة . وهو قول كثير من أهل العلم . ذكره ابن كثير . واستدلوا لهذا القول بحديث في اسناده ضعف عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرأه ظهرا، كفضل الفريضة على النافلة ).
واستدلوا أيضا ببعض الأثار منها : عن ابن مسعود قال: أديموا النظر في المصحف.
عن عمر: أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه.
ورجح ابن كثير القول الثاني لعدة أسباب منها :
1 – لئلا يعطل المصحف فلا يقرأ منه .
2 – لأنه قد يقع للحفاظ نسيان أو تصحيف أو تحريف أو تقديم آية أو تأخيرها فيستثبت من المصحف أولى .
وجمع بين القولين بعض العلماء فقالوا : المدار في هذه المسألة على الخشوع في القراءة، فإن كان الخشوع عند القراءة على ظهر القلب فهو أفضل، وإن كان عند النظر في المصحف فهو أفضل فإن استويا فالقراءة نظرا أولى؛ لأنها أثبت وتمتاز بالنظر في المصحف .
وذكر النووي أن ظاهر كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفضيل .
والله أعلم