سيرة التابعي الجليل مسروق بن الأجدع الهمداني (ت62ه)
مسروق ابن الأجدع، الإِمَامُ، القُدْوَةُ، العَلَمُ، أَبُو عَائِشَةَ الوَادِعِيُّ الهَمْدَانِيُّ، الكُوْفِيُّ. وَعِدَادُهُ فِي كِبَارِ التَّابِعِيْنَ، وَفِي المُخَضْرَمِيْنَ الَّذِيْنَ أَسْلَمُوا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو السَّفَرِ: مَا وَلدَتْ هَمْدَانِيَّةٌ مِثْلَ مَسْرُوْقٍ. فمن هو مسروق ولماذا سمي بهذا الاسم وما الذي زكّاه وعطر سيرته؟
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ: يُقَالُ إِنَّهُ سُرِقَ وَهُوَ صَغِيْرٌ ثُمَّ وُجِدَ, فَسُمِّيَ مَسْرُوْقاً. وَأَسْلَمَ أَبُوْهُ الأَجْدَعُ.
ويروي الشعبي عن مسروق قصته تغيير عمر رضي الله عنه لاسم أبيه:قال مُجَالِدٌ, عَنِ الشَّعْبِيِّ, عَنْ مَسْرُوْقٍ قَالَ: لَقِيْتُ عُمَرَ فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ فَقُلْتُ: مَسْرُوْقُ بنُ الأَجْدَعِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: "الأَجْدَعُ شَيْطَانٌ"، أَنْتَ مَسْرُوْقُ بنُ عبد الرحمن.
كان مسروقا رجلا مأموما ، يعني ضربة في رأسه ، وذلك عندما شهد القادسية هو وثلاثة إخوه له فقتلوا جميعا وجرح مسروق فشلت يده وأصابته آمة. يقول مسروق عن آمته:ما يسرّني أنـّه ليس بي لعلّها لو لم تكن بي كنتُ في بعض هذه، وقال أبو شهاب: أظنّه يعني الجيوش.
زكّاه رحمه الله الكثير من السلف ، كان حريصا على طلب العلم ، علما في الفتوى ، كان مخلصا في عبادته وفي عمله كثير العبادة زاهدا ورعا.
يقول الشعبي:مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَداً كَانَ أَطْلَبَ لِلْعِلْمِ فِي أُفُقٍ مِنَ الآفَاقِ مِنْ مَسْرُوْقٍ. ولما قدم عبدالله بن زياد الكوفة، قال: من أفضل الناس؟ قالوا له : مسروق.
وقال ابن المديني: أَنَا مَا أُقَدِّمُ عَلَى مَسْرُوْقٍ أَحَداً صَلَّى خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَلَقِيَ عُمَراً وَعَلِيّاً, وَلَمْ يَرْوِ عَنْ عُثْمَانَ شَيْئاً.
ويقول عنه العِجْلِيُّ: تَابِعِيٌّ, ثِقَةٌ, كَانَ أَحَدَ أَصْحَابِ عَبْدِ اللهِ الَّذِيْنَ يُقْرِئُوْنَ وَيُفْتُوْنَ. وَكَانَ يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ.
كان مسروق رحمه الله أعلم بالفتوى من شريح ، وكان شريح أعلم بالقضاء من مسروق ، وكان شريح يستشير مسروقا ، وكان مسروق لا يستشير شريحا: وقد روى ذلك عبدالملك بن أجر عن الشعبي.
كان رحمه الله شديد الحرص على تحقيق العدل في الفتوى ، والإخلاص في العمل، يروي مجالد عن الشعبي قول مسروق: لأَنْ أُفْتِيَ يَوْماً بِعَدْلٍ وَحَقٍّ, أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَغْزُوَ سَنَةً. وهو مع ذلك كان لا يأخذ على الفتوى رزقا ، قَالَ عَلِيُّ بنُ الجَعْدِ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ المُنْتَشِرِ, عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ مَسْرُوْقاً كَانَ لاَ يَأْخُذُ عَلَى القَضَاءِ أَجْراً, وَيَتَأَوَّلُ هَذِهِ الآيَةَ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} الآية التوبة (111).
حَجَّ مَسْرُوْقٌ, فَلَمْ يَنَمْ إلَّا سَاجِداً عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى رَجَعَ. وَرَوَى أَنَسُ بنُ سِيْرِيْنَ, عَنِ امْرَأَةِ مَسْرُوْقٍ, قَالَتْ: كَانَ مَسْرُوْقٌ يُصَلِّي حَتَّى تَوَرَّمَ قَدَمَاهُ, فُرُبَّمَا جَلَسْتُ أَبْكِي مِمَّا أَرَاهُ يَصْنَعُ بِنَفْسِهِ.
قال عنه أنس بن سيرين: بلغنا بالكوفة أنّ مسروقًا كان يفرّ من الطاعون فأنكر ذلك محمّد، وقال: انطلقْ بنا إلى امرأته فلنسألها، فدخلنا عليها فسألناها عن ذلك فقالت: كلا والله ما كان يفرّ، ولكنه يقول: أيّام تشاغُل فأحبّ أن أخلو للعبادة، فكان يتنحّى فيخلو للعبادة، قالت فربّما جلستُ خلفه أبكي ممّا أراه يصنع بنفسه، قالت وكان يصلّي حتى تورّم قدماه، قالت وسمعته يقول: الطاعون، والبطن، والنّفساء، والغرق، مَن مات فيهنّ مسلمًا فهي له شهادة.وكان رحمه الله رغم كثرة عبادته كان شديد الحرص على اخلاصه ، وقد اشتهرت مقولته :كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللهَ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ يَعْجَبَ بِعَمَلِه.
كان رحمه زاهدا فيما أيدي الناس طامعا في رضا ربه ، قَالَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ المُنْتَشِرِ: أَهْدَى خَالِدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أُسَيْدٍ عَامِلُ البَصْرَةِ إِلَى عَمِّي مَسْرُوْقٍ ثَلاَثِيْنَ أَلْفاً, وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُحْتَاجٌ, فَلَمْ يَقْبَلْهَا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيْعِيُّ: زَوَّجَ مَسْرُوْقٌ بِنْتَهُ بِالسَّائِبِ بنِ الأَقْرَعِ عَلَى عَشْرَةِ آلاَفٍ لِنَفْسِهِ, يَجْعَلُهَا فِي المُجَاهِدِيْنَ وَالمَسَاكِيْنِ.
وكان رحمه الله يرى هذه الدنيا على حقيقتها بما كانت له من البصيرة ، يقول حمزة بن عبد الله بن عُتْبة بن مسعود: بلغني أنّ مسروق بن الأجدع أخذ بيد ابن أخٍ له فارتقى به على كُناسة بالكوفة فقال: ألا أريكم الدنيا؟ هذه الدنيا أكلوها فأفنوها، لبسوها فأبلوها، ركبوها فأنضوها، سفكوا فيها دماءهم واستحلّوا فيها مَحارِمَهم وقطعوا فيها أرحامهم.
قال الشَّعْبِيِّ: غُشِيَ عَلَى مَسْرُوْقٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ, وَكَانَتْ عَائِشَةُ قَدْ تَبَنَّتْهُ, فَسَمَّى بِنْتَهُ عائشة, وكان لاَ يَعْصِي ابْنَتَهُ شَيْئاً. قَالَ: فَنَزَلتْ إِلَيْهِ, فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ, أَفْطِرْ وَاشْرَبْ. قَالَ: مَا أَرَدْتِ بِي يَا بُنَيَّةُ؟ قَالَتِ: الرِّفْقَ. قَالَ: يَا بُنَيَّةُ, إِنَّمَا طَلَبْتُ الرِّفْقَ لِنَفْسِي فِي يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
وكان يقول: مَا مِنْ شَيْءِ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ لَحْدٍ قَدِ اسْتَرَاحَ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا وَأَمِنَ مِنْ عَذَابِ اللهِ.
وورد عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَقِيَنِي مَسْرُوقٌ فَقَالَ: «يَا سَعِيدُ مَا بَقِيَ شَيْءٌ يُرْغَبُ فِيهِ إِلَّا أَنْ نُعَفِّرَ وُجُوهَنَا فِي التُّرَابِ».
وكان رحمه الله أحسن ما يكون ظنا بربه عندما يضاق عليه في الرزق ، فقد روى أبو إسحاق، عن أبيه: أصبح مسروق يومًا وليس لعياله رزق فجاءته امرأته قَمِير فقالت له: يا أبا عائشة إنّه ما أصبح لعيالك اليوم رزق، قال فتبسّم وقال: والله ليأتينّهم الله برزق.
وروى الثوري عن الأعمش قول مسروق:إِنِّي أَحْسَنُ مَا أَكُونُ ظَنًّا حِينَ يَقُولُ لِي الْخَادِمُ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ قَفِيزٌ وَلَا دِرْهَمٌ.
فسبحان من رزق مسروق حسن الظن وصدق التوكل على ربه ، ولعل هذا من أعظم الأرزاق التي يرزقها الله سبحانه وتعالى لعبده إذا أحبه ورضي عنه.
مات رحمه الله سنة اثنتين وستين، وقيل: سنة ثلاث وستين، وهو قول الجمهور. مات رحمه الله ولم يترك ثمن كفنه . وروى أبو وائل أنّ مسروقًا حين حضره الموت قال: اللهمّ لا أموت على أمرٍ لم يسنه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر، والله ما تركتُ صفراء، ولا بيضاء عند أحدٍ من الناس غير ما في سيفي هذا فكفّنوني به. رحمه الله عليه رحمه واسعة.
الفوائد المستفادة من سيرة التابعي مسروق بن الأجدع:
1. إذا أردت معرفة كيف يكون العلم النافع وبركته ، فانظر في سيرة هذا التابعي ، فقد رزق علما عزيرا أورثه إخلاصا صادقا نفع بعلمه الخلق الكثير مع كثرة عبادة وزهد في الدنيا.
2. رأس الحكمة هو خشية الله ، ومن أشهر أقوال مسروق رحمه الله: كفى بالمرء علما أن يخشى الله. فلا شك أنه قد رزق حكمة واسعة.
3. من أعظم الرزق هو اليقين وحسن الظن بالله ، وهذا كان واضحا في سيرة مسروق رحمه الله.
4. ومن حكمة هذا الرجل أنه كان حريصا أن يكون على السنة قبل وفاته ، فبهذا يكون به نجاته ونجاة كل مسلم.