التعريف ببعض ما حدث في عصر التابعين
عصر التابعين كان خير عصور الأمة بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، وفيه اتسعت الفتوح الإسلامية، وانتشر العلم، وعرفت الأسانيد، وكان الخلفاء المعدودون من التابعين أقرب إلى الصلاح والإصلاح من كثير ممن جاء بعدهم؛ فقد سيَّروا الجيوش وفتحوا البلدان حتى فتحوا السند وبلاد ما وراء النهر شرقاً وبلاد الأندلس غرباً.
وفي عهد عمر بن عبد العزيز انتشر تدوين السنة، وولَّى على الولايات أهل العلم والرأي والتدبير، وعزل كلّ من بلغه عنه ظلم للرعية، واجتهج في ردِّ المظالم وإعطاء الحقوق، حتى فشا العلم والعدل، وكثر الخير، وصلح أمرُ الرعية، وبقيت آثار هذا الصلاح مدّة من الزمن، ومن ذلك فشوّ العلم وانتشار الكتب واشتهارها.
ومما ينبغي أن يُعلم أنّ الصحابة امتازوا على غيرهم من الأمّة بأنّهم كلّهم عدول ثقات يُحتجّ بمروياتهم، وأما التابعون ومن بعدهم ففيهم الثقات وفيهم دون ذلك.
وقد حدث في عصر التابعين أمور لها آثار على الحركة العلمية في ذلك العصر، ومنها:
1: ظهور بعض مظاهر الغلو والتفريط ومخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، مع بقاء كثرة كاثرة من التابعين على الهدي القويم والاتباع الحسن للصحابة رضي الله عنهم، لكن لبعض من وقع منهم تفريط أو إفراط أتباع كثروا فيما بعد.
2: كثرة الحروب والفتن ولا سيما في أواخر سنيّ الدولة الأموية وأوائل عهد الدولة العباسية، حتى قُتل جماعات من حملة العلم وكبار الرواة في تلك الفتن، وحُبس بعضهم، وهجّر بعضهم، وكان أكثر من ناله الأذى في تلك المحن أهل خراسان:
- فكان ممن قتلهم أبو مسلم الخراساني: يزيد النحوي راوي التفسير عن عكرمة، وإبراهيم بن ميمون الصائغ وكان عالم مرو ومفتي أهلها، وغيرهما.
- قال يزيد النحوي: أتاني إبراهيم الصائغ فقال: أما ترى ما يعمل هذا الطاغية إن الناس معه في سعة غيرنا أهل العلم؟
قلت: لو علمتُ أنه يصنع بي إحدى الخصلتين لفعلت، إن أمرتُ ونهيتُ يقبل منا أو يقتلنا، ولكني أخاف أن يبسط عليَّ العذاب وأنا شيخ كبير لا صبر لي على السياط.
فقال الصائغ: لكني لا أنتهي عنه؛ فدخل عليه فأمره ونهاه فقتله.
ثم إنّ أبا مسلم ظفر بيزيد النحوي وقتله، والنحوي نسبة إلى نحو بطن من الأزد، وليس إلى علم النحو.
- وكان ممن حُبس فطال حبسه الربيع بن أنس البكري تلميذ الحسن وأبي العالية، قال الذهبي: (سجنه أبو مسلم تسعة أعوام).
- وكان ممن هرب خوفاً من بطش أبي مسلم مقاتل بن حيان البلخي صاحب التفسير، فلحق بكابل، ودعا إلى الإسلام فأسلم على يديه خلق كثير، وكان أهل كابل يعظّمونه فلما مات حزن عليه ملكهم وتسلَّب عليه أي لبس ثياب الحداد، فقيل له: إنه ليس على دينك!!
قال: (إنه كان رجلا صالحاً).
والمقصود أن هذه الفتن العظيمة كان لها أثر في الحركة العلمية بظهور بعض التأولات الخاطئة، والفرق والأهواء، والعصبية لبعض الأهواء، وقد وضع الوضّاعون في أوائل الدولة العباسية أحاديث كثيرة، وكان جهابذة أهل الحديث يبيّنون كذبها ويحذرون الناس من الوضاعين والمتهمين بالكذب حتى حذرهم الناس.
3: نشأة الفرق والأهواء، واستفحال خطر بعضها كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية والمعتزلة، وظهر لبعضهم شوكة في بعض البلدان؛ فتغلّبت الإباضية على عمان وبعض بلاد المغرب، وظهر للخوارج في المشرق إمارات إثر إمارات.
وقد قتلت الخوارج جماعة من أهل العلم، منهم:
- أبو الأحوص عوف بن مالك الجشمي، وكان من كبار الرواة عن ابن مسعود رضي الله عنه.
- وسميّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن صاحب المرويات الكثيرة عن مولاه أبي بكر وعن أبي صالح السمان عن أبي هريرة.
قال سفيان بن عيينة: (قتلته الحرورية يوم قُديد، وكان جميلاً).
4: ظهور العجمة وفشوّ اللحن، بسبب اختلاط العجم بالعرب وكثرة الموالي ودخول كثير من الأعاجم في الإسلام.
5: إسلام بعض أحبار اليهود، ونشرهم ما قرأوه في كتبهم من أخبار بني إسرائيل، وفشوّ التحديث عنهم.
6: كثرة القُصّاص والأخباريين، الذين كانت أكثر عنايتهم بالوعظ والتذكير والقصص والأخبار، وقد دخل على كثير منهم أخطاء في فهم المرويات وروايتها.
وهذه الأمور وإن كان نصيب التابعين منها أقلّ من نصيب من جاء بعدهم إلا أنّ لها أثراً لا ينكر في كثير من العلوم، ولذلك احتاج أهل العلم إلى ضبط مسائل العلم ؛ بضبط روايته ودرايته:
أ: فأما ضبط روايته فبمتييز الأسانيد، فما كان من رواية الثقات قُبل وما كان من رواية الضعفاء وأهل الأهواء ردّ.
- قال محمد بن سيرين: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم). رواه مسلم في مقدمة صحيحه.
ب: وأما ضبط درايته؛ فكان بفحص المتون، وعرضها على ما لديهم من محكم العلم، فما وافقه قُبل، وما خالفه رُدَّ.
وقد يختلفون في مسائل يدخلها الاجتهاد.