عكرمة البربري مولى ابن عباس
( انطلق فأفت الناس وأنا عون لك )
كلمات قالها المعلم والمربي والمؤدب لمن تفرس فيه نجابة وفهما وعلما من تلامذته فرأى لزاما عليه أن ينشر علمه ويظهره ...
هكذا قال ابن عباس رضي الله عنه لمولاه عكرمة البربري بعد أن رأى أنه قد بلغ من علمه ما يؤهله للفتيا والتصدر بالعطاء ...
عكرمة الذي كانت له تلك الحظوة عند ابن عباس حتى قدمه ، بل كما قال هو : (
كنت أفتي بالباب وابن عباس في الدار ) كما روى العقيلي
-
هو أبو عبد الله القرشي ، مولاهم المدني ، البربري الأصل ...
كان عبدا للحصين بن أبي حر العنبري ، فوهبه لابن عباس حين ولي البصرة ... أوائل خلافة علي رضي الله عنه ...
خدمته لابن عباس ونهله العلم منه :
وقد كان لرقه عند ابن عباس أثر عظيم عليه ، حيث مكنته خدمته لابن عباس من ملازمته والتعلم منه ، وقد تفرس فيه ابن عباس نجابة وفهما وحفظا فألزمه العلم ... فقد قال عكرمة : (
كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل يعلمني القرآن ويعلمني السنة ) رواه ابن سعد
وقد كان هذا دأب سلفنا في حرصهم على تعليم أبنائهم ومواليهم القرآن ، فكيف بحبر الأمة وترجمان القرآن ...
كان عكرمة يتدارس القرآن مع معلمه حتى روي عن ابن عباس أنه سأل عن قوله تعالى في أهل السبت
( لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ) لم أدر أنجا القوم أم هلكوا ؟ قال عكرمة فما زلت أبين له أبصره حتى عرف أنهم قد نجوا ، فكساني حلة ... رواه ابن سعد
فقد أدرك عكرمة بفهمه أن الله وإن لم يذكر عاقبتهم لكنه ذكر إنكارهم لفعل القوم بدلالة قولهم (
لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ) ... وإنكارهم للمنكر نجاة لهم ...
ظل عكرمة ينهل من علم ابن عباس حتى توفي ابن عباس رضي الله عنه وهو ما زال مملوكا له ، وقد كانت مدة مكثه عنده ثلاثين عاما أخذ منها بحظ وافر من العلم والفهم ... ورغم رقه إلا أن علمه رفعه مصداقا لقوله تعالى (
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات )
ولما توفي ابن عباس قام علي ابنه ببيع عكرمة بأربعة آلاف دينار ، فبلغ ذلك عكرمة فعاتبه وقال له أتبيع علم أبيك بأربعة آلاف ؟ فرده واستقال المشتري وأعتق عكرمة إكراما لما حواه صدره من علم أبيه ...
- و قال عبد الصمد بن معقل : لما قدم عكرمة الجند ، أهدى له طاوس نجبا بستين دينارا ، فقيل لطاوس :
ما يصنع هذا العبد بنجب بستين دينارا ؟ ، قال : أتروني لا أشتري علم ابن عباس بستين دينارا لعبد الله بن طاوسسير أعلام النبلاء
مكانته بين العلماء :
فقد تتلمذ على يد حبر الأمة فصار بحرا في العلم ... فأثنى عليه علماء الأمة وفقهاؤها وذكروا له فضله ...
-
فهذا جابر بن زيد يؤكد تلك المكانة له ، فيقول : (
عكرمة من أعلم الناس )
ويروي عمرو بن دينار فيقول دفع إلي جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة، وجعل يقول: (
هذا عكرمة، هذا مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه). رواه ابن سعد في الطبقات
-
وذاك سعيد بن جبير يسأل : تعلم أحدا أعلم منك؟
فيقول: (نعم؛ عكرمة).رواه ابن أبي خيثمة
- وقال الشعبي : ( ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة ) رواه أبو نعيم في الحلة
- وهذا قتادة يعدد العلماء في زمانه فيقول : ( و أعلمهم بالتفسير عكرمة )
- وقال سفيان الثوري : ( خذوا التفسير عن أربعة ؛ عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة و الضحاك )
برز مع من برز من تلامذة ابن عباس ، حتى قال يحيى بن سعيد القطان: (أصحاب ابن عباس ستة: مجاهد، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وجابر بن زيد).رواه ابن عساكر
سعة علمه :
- وفي سعةعلمه قال حبيب بن أبي ثابت :
اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم أبدا: عطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة؛ فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير؛ فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا)
رواه أبو نعيم في الحلة
وقد كان لغزارة علمه تنفتح له أبواب العلم في كل شيء حتى قال عن نفسه (
إني لأخرج إلى السوق فأسمع الرجل يتكلم بالكلمة فينفتح لي خمسون باباً من العلم).
-وإضافة إلى ابن عباس فقد سمع من عائشة ، وأبي هريرة ، وأبي قتادة ، وعبد الله بن عمرو ، وابن عمر كما ذكر المديني . كما أخذ العلم من غيرهم
-و حدث عنه إبراهيم النخعي ، والشعبي ، وماتا قبله ، وعمرو بن دينار ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، وحبيب بن أبي ثابت ، وحصين بن عبد الرحمن ، والحكم بن عتيبة ، وعبد الله بن كثير الداري ، وعبد الكريم الجزري ، وعبد الكريم أبو أمية البصري ، وعلي بن الأقمر ، وقتادة ، ومطر الوراق ، وموسى بن عقبة ، وأبو إسحاق الهمداني ، وأبو إسحاق الشيباني ، وأبو صالح مولى أم هانئ مع تقدمه ، وأبو الزبير المكي ، وخلق كثير من جلة التابعين لا يتسع المقام لذكرهم
ما انتقد فيه :
مع وفرة علمه وتحديثه بكثير مما علمه ووعاه تعرض للانتقادات ... إذ أن علمه اشتمل على غرائب لا يعرفها كثير من الناس فأنكرت عليه ...
بل وصل بعضهم إلى اتهامه بالكذب أي الخطأ في الرواية لا تعمد الكذب ، أو خطأ الفهم عن ابن عباس ...وإن كان من تتبع تلك الروايات الغريبة وجد أنه لم ينفرد بها بل رواها غيره على مثل ما رواها ...
وقد ساءه ذلك فقال :
أرأيت هؤلاء الذين يكذبوني من خلفي، أفلا يكذبوني في وجهي؛ فإذا كذبوني في وجهي؛ فقد والله كذبوني). رواه ابن سعد
ولما قيل لسعيد بن جبير عما يحدث به حضر مجلسه فحدث بما استنكره عليه القوم فلما قام قال لهم لقد أصاب الحديث ، وهذا يدل أن من ينقلون عنه ما يستنكر يخطئون في نقلهم ...
-
وكان ممن تكلّم في عكرمة: سعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك بن أنس، ثمّ تركه مسلم فلم يرو عنه في صحيحه إلا حديثاً واحداً مقروناً بسعيد بن جبير.
بينما احتجّ به جماعة من الأئمة، منهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، والبخاري، وأبو حاتم الرازي، والنسائي، والعجلي، وابن حبان، وغيرهم.
🔹
وقد تتبع ابن حجر الطعون التي طعن بها عكرمة ووجدها ترجع إلى أمور ثلاثة :
1-
الأول:
ما روي عن بعض السلف في اتهامه بالكذب ... والحقيقة أنه بريء من هذه التهمة ..
أ. فقد اتهم بها إما لخطأ من النقلة عنه ، كما ذكر في ما قاله عنه ابن جبير حين أخبره قوم باستنكارهم لما يروي فلما سمع منه قال أصاب الحديث
ب. وإما هو جرح من مجروح ، ولا يصح أن يجرح العدل بكلام المجروح
-قال ابن حبان:
(لا يجب على من شم رائحة العلم أن يعرّج على قول يزيد بن أبي زياد حيث يقول: "دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة مقيد على باب الحش قلت: من هذا؟ قال: إن هذا يكذب على أبى".
-قال: (ومن أمحل المحال أن يُجرح العدل بكلام المجروح؛ لأن يزيد بن أبى زياد ليس ممن يحتج بنقل حديثه ولا بشيء يقوله).
ج. وإما لإكثاره النقل فقد يكون سمع الحديث من رجلين ، وكان إذا سئل حدث به عن واحد ، ثم يسأل عنه بعد ، فيحدث به عن الآخر ، فكانوا يقولون : ما أكذبه ، فسألوا عنه إسماعيل بن عبيد الله الأنصاري فاختبره ثم قال: (
الرجل صدوق، ولكنَّه سمع من العلم فأكثر وكلما سنح له طريق سلكه) رواه ابن عدي وابن عساكر
-وقال طاووس : (
لو أن مولى ابن عباس اتقى الله وكف من حديثه لشدت إليه المطايا).
د. وإما لما ورد عن ابن المسيب من قوله لمولاه برد : (
انظر لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس).
وقد ذكر تكذيبه له في سؤال عطاء لابن المسيب عن قول عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله تزوج ميمونا وهو محرم ، فقال سعيد بن المسيب : (
كذب مخبثان، اذهب إليه، فسبّه، سأحدثكم: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فلما حلَّ تزوجها).
والحقيقة أنه قد روي عن ابن عباس القولين ، فقد ورد ظن ابن عباس أن رسول الله تزوجها وهو محرم ، وقالت أمنا ميمونة رضي الله عنها وأرضاها : «
تَزَوَّجَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفَ» (رواه مسلم).
وبذلك تعلم براءة عكرمة من الكذب ،
وحتى وإن أخطأ في الفهم فكم من عالم عدل أخطأ فلم يقدح خطؤه بعدالته ؛
ولذلك قال حماد بن زيد : قيل لأيوب: أكنتم أو كانوا يتهمون عكرمة؟ قال: (أما أنا فلم أكن أتهمه). رواه العقيلي وابن عساكر.
- وقال أبو معمر القطيعي: حدثنا ابن فضيل، عن عثمان بن حكيم قال: (
رأيت عكرمة جاء إلى أبي أمامة بن سهل بن حنيف فقال: أنشدك بالله، أما سمعت ابن عباس يقول: ما حدثكم عكرمة عني فهو حق؟ فقال أبو أمامة: بلى). رواه العقيلي وابن عساكر. قال ابن حجر: (وهذا إسناد صحيح).
وهذه شهادة من ابن عباس له وتوثيق منه ، وما كان ابن عباس رضي الله عنه يأمر عكرمة بالفتيا وهو في الدار إلا لما رأى من علمه وثقته به ..
روى يزيد النحوي عن عكرمة قال: قال ابن عباس: (
انطلق فأفتِ الناس وأنا لك عون)
قال قلت: لو كان مع الناس مثلهم أفتيتهم.
قال: (انطلق فأفتِ الناسَ فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته فإنَّك تطرح عنك ثلثي مؤنة الناس)
2-
الأمر الثاني : ما اتهم به بأنه كان يرى رأي الخوارج
وقد رد ابن حجر ذلك ، اذ سيرة الرجل تدل على غير ذلك ، فلم يعرف عنه إلا أنه كان داعيا إلى السنة معظما للصحابة مصافيا للأئمة ، يخرج في الغزوات وينشر علمه ، بل أساتذته كلهم من الصحابة ، وتلامذته من كبار التابعين ... وهذا ليس من صفات الخوارج ...
وقد ذكرت بعض فلتات من لسانه جعلت بعض من سمعه ينسبه إلى الحرورية وهي وإن صحت نسبتها إليه فإن سيرته تنفي ذلك ...
وقد يكون حصل توافق بين بعض أقواله وأقوال الخوارج لكن هذا لا يعني أنه منهم ...
🔺
وقد ذب عنه كثير من العلماء ورد عنه هذه التهمة
قال العجلي في شأن عكرمة : (
مكي، تابعي، ثقة، بريء مما يرميه به الناس من الحرورية)
وقد أبدع ابن جرير في رد تلك التهمة عنه فرسم منهجا مهما لكل من يأتي بعده فيسمع جرحا فيمن وثقه العلماء أو اتهاما في الانتساب إلى فرقة من الفرق الضالة فقال :
(
وأمَّا ما نُسِبَ إليه عكرمة من مذهب الصُّفْريَّة، فإنَّه لو كان كل من ادُّعي عليه مذهبٌ من المذاهب الرديئة ونحلةٌ ثبت عليه ما ادُّعي عليه من ذلك ونُحِلَهُ -يجب علينا إسقاط عدالته وإبطال شهادته وترك الاحتجاج بروايته- لزمنا ترك الاحتجاج برواية كل من نُقل عنه أثَرٌ من مُحَدِّثي الأمصار كُلِّها؛ لأنه لا أحد منهم إلاَّ وقد نسبه ناسبون إلى ما يَرغب به عنه قوم ويرتضيه له آخرون).
3-
وأما الأمر الثالث الذي أخذ عليه فهو أنه كان يقبل أعطيات الأمراء
ومعلوم ما كان عليه السلف من التزهيد بل والتحذير من أعطيات السلاطين والأمراء والوقوف ببابهم لئلا يمتهن العلم على أبوابهم ويصير مادة للمساومة ، ولئلا يميل العالم إليهم فيميل عن الحق مقابل إكرامهم له ..
وقد كان سفيان الثوري -رَضِيَ اللَّهُ عنه- يَقُول: ((
مَا أخاف من إهانتهم لي إنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم))
وقال ابن الجوزي :
«ولا تلتفت -يا هذا- إلى ما ترى من بذل العلماء على أبواب السلاطين؛ فإن العزلة أصون للعالم والعلم، وما يخسره العلماء في ذلك أضعاف ما يربحونه».
ومع ما روي عن عكرمة في قبول إكرام الأمراء وأعطياتهم إلا أن ذلك لا يقدح في عدالته
وقد قال الكسائي لما انتقد في ملازمته للرشيد حتى كان يرى بحلة مختلفة عند ذهابه إليه فقالوا له : يا أبا الحسن ما هذا الزي ؟ قال :
أدب من أدب السلطان لا يثلم دينا ولا يدخل في بدعة ولا يخرج عن سنة
وخلاصة القول فيه
كما قال عنه ابن منده: (
وأما حال عكرمة مولى ابن عباس رحمه الله في نَفْسِهِ، فَقَدْ عَدَّلَهُ أئمةٌ من نُبلاء التابعين ومَنْ بَعْدَهم، وحَدَّثوا عنه، واحتجّوا بمفاريده في الصفات والسنن والأحكام.
روى عنه زُهاء ستمائة رجل من أئمة البلدان فيهم زيادة على سبعين رجلاً من خيار التابعي ورفعائهم، وهذه منزلةٌ لا تكاد توجد لكبير أحد من التابعين إلاَّ لعكرمة مولى ابن عباس رحمة الله عليه).
- و
قال أبو بكر المروذي: قلت لأحمد بن حنبل: يحتج بحديث عكرمة؟ فقال: (
نعم، يحتج به).
- وقال
البخاري: (
ليس أحد من أصحابنا إلا احتجّ بعكرمة).
- وقال
ابن حبان: (
أما عكرمة فحمل أهل العلم عنه الحديث والفقه في الأقاليم كلها وما أعلم أحدا ذمه بشيء إلا بدعابة كانت فيه).
- وقال أيضا: (
ومن زعم أنا كنا نتقي حديث عكرمة فلم ينصف إذ لم نتّق الرواية عن إبراهيم بن أبي يحيى وذويه).
🔺وقد تعجب ابن جرير ممن قدح فيه فقال : (
أتعجَّب كلَّ العجب مِمَّن عَلِمَ حال عكرمة ومكانه من عبد الله بن عباس وطول مكثه معه وبين ظهرانَيْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثمَّ مَنْ بَعْدَ ذلك من خيار التابعين والخالفين وهم له مقرِّظون، وعليه مُثْنون، وله في العلم والدِّين مقدِّمون، وله بالصدق شاهدون؛ ثم يجيء بَعْدَ مُضيِّه لسبيله بدهرٍ وزمان نوابغُ يجادلون فيه من يَشْهَدُ له بما شهد له به مَنْ ذكرنا من خيار السلف وأئمة الخلف: من مُضيِّه على ستره وصلاحه وحاله من العدالة وجواز الشهادة في المسلمين ...)
وفاته :
وأما وفاته رحمه الله فقيل أنه توفي وكثير عزة في نفس اليوم سنة خمس ومئة
وقيل أنه قبل وفاته كان متغيبا عن السلطان إذ طلبه بعض ولاة المدينة لما أشيع عنه في رأيه فتغيب عن داود بن الحصين حتى مات رحمه الله
وقال خالد بن القاسم البياضي: (
مات عكرمة وكثير عزة الشاعر في يوم واحد سنة خمس ومائة , فرأيتهما جميعا صلي عليهما في موضع واحد بعد الظهر في موضع الجنائز؛ فقال الناس: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس).
-وقد قيل أن أحدا لم يشيع جنازته ...وفي الخبر اضطراب ، وإن صح فهو كما قال الذهبي : (
ما تركوا عكرمة - مع علمه - وشيعوا كثيرا إلا عن بلية كبيرة في نفوسهم له رضي الله عنه).
-
كان من وصاياه رحمه الله في حفظ العلم وبيان مكانته ما رواه أرطاة بن أبي أرطاة: قال رأيت عكرمة يحدّث رهطا فيهم سعيد بن جبير؛
فقال: إن للعلم ثمناً قيل: وما ثمنه يا أبا عبد الله؟
قال: (ثمنه أن يضعه عند من يحسن حمله، ولا يضيعه).
وهي وصية تكتب بماء الذهب ، فكم من علم امتهن عندما وضع عند من لا يعرف مكانته أو يحسن صيانته
- قال الشافعي رحمه الله :
وَمَنْ مَنَحَ الجهّالَ عِلْماً أضَاعَهُ .... وَمَنْ مَنَعَ المستوجِبين فقَدْ ظَلَم
-
وقال شعبة : أتاني الأعْمَش وأنا أحدِّث قومًا ، فقال: وَيْحَكَ ، تُعَلِّقُ اللؤلؤَ في أعْنَاق الخنازير ؟ قال مهنَّا للإمام أحمد ـ رضي الله عنه: “ما معنى قوله ؟ قال: لا ينبغي أن يحدِّث من لا يستأهل .
فوائد من سيرة عكرمة :
القراءة في سير الأعلام مما تجنى ثماره يسيرة لمن بحث عنها ... وسيرة عكرمة كانت حافلة مليئة بالفوائد منها :
- كل مرب أو ولي راع ومسؤول عمن تحت ولايته من أبناء أو موال ، ومن مسؤوليته تعليمهم ما ينفعهم في أمر دينهم ...
- المربي الحق من يتفرس فيمن تحت ولايته ويعلم مكامن الخير والموهبة فيه فيسعى لتنميتها
- قد يقاد البعض إلى الجنة بالسلاسل كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قد يجر العالم أول أمره إلى العلم بالسلاسل ، وليس هذا من القسوة بل هو من الرعاية التي يعرف صاحبها قدرها لاحقا ... فمن الرأفة بالصغار والموالي الحرص على تعليمهم وإن رافق ذلك بعض الشدة
- يرفع الله بهذا الكتاب أقواما ويضع آخرين ، فهاهو عكرمة مع رقه وعبوديته إلا أنه برز بعلمه حتى فاق أقرانه وصار مقصد من أراد علم القرآن
- من صيانة العلم وضعه عند أهله ، ولعل عكرمة عندما وصى بذلك كان ذلك بتأثير ما حصل معه إذ حدث بكثير مما تعلم عند من لا يعلمه ، وعدد الرواة عند من يجهلهم حتى اتهمه بعضهم بالكذب وليس كذلك
- لا بد لمن أراد العلم من الصبر عليه فقد قال عكرمة ( طلبت العلم أربعين عاما ) فلا يصل من وصل إلا وقد أنفق فيه من نفيس جهده ووقته
- من حاز الشرف والعلم والفضل لا بد أن يتوقع أن يتعرض له بسوء أو انتقاد ، وهذا لا ينقص من فضله ويغض من قيمته
- الأصل توقير العلماء وتقديرهم ، وإن وصلك عن أحدهم ما يخدش فيه أو يسوؤه فمواجهته بما قيل فيه والتثبت فيه خير من تناقل الاتهام بلا دليل ، فما من إنسان إلا وله أعداء ، ولو كل عالم جرح وأسقطت عدالته بما أشيع عنه ما بقي لعلمائنا وقار ...
- وهذا يقودنا إلى أن الأصل حسن الظن بالمسلم ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا )
- ومع ذلك كله فرحم الله امرءا ذب عن عرضه النميمة ، فلعل ترك بعض مما لا بأس به أحفظ لعرض المسلم فضلا عن العالم أن يتعرض له كما قيل في عجرمة في قبوله أعطيات الأمراء مع ما يقال في ذلك وكراهة أهل زمانه له .