هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزهد
هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو أقوم الهدي في الزهد وغيره، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من أصحابه رضي الله عنهم أنه قال: (خير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها)، وفي لفظ: (أحسن الهدي)، وصحّ كذلك موقوفاً عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
ولم يزل أهل العلم يعرضون الأمور على هذا الميزان الأعظم، كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر، فعليه تعرض الأشياء، على خلقه وسيرته وهديه، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل» رواه الخطيب البغدادي في الجامع.
فالنبي صلى الله عليه وسلم إمام الزاهدين، ولا يصحّ أن يأتي أحد من هذه الأمة أو غيرها بهدي في الزهد أحسن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فبهديه يُميّز الزهد الصحيح من الزهد الفاسد.
وزهد النبي صلى الله عليه وسلم وسط بين الغلوّ والجفاء، وفيه تحقيق للمقاصد الشرعية في حقّ الفرد وفي حقّ الأمة؛ فتقوم مصالح المسلمين على أساس متين من التناصح والقصد وأداء الحقوق في غير تشاحٍّ ولا تشاحن؛ ففيه جمع بين إصلاح القلب، وإصلاح المجتمع المسلم.
ومن تأمّل الأحاديث المرويّة عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الزهد وجدها منادية بهذا المنهج القويم والهدى المستقيم الذي لا وكس فيه ولا شطط.
1. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا.
وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.
وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من طرق عن أنس رضي الله عنه.
2. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: زوَّجني أبي امرأةً من قريش، فلما دخلتْ عليَّ جعلتُ لا أنحاش لها، مما بي من القوة على العبادة، من الصوم والصلاة، فجاء عمرو بن العاص إلى كنته، حتى دخل عليها، فقال لها: كيف وجدت بعلك؟
قالت: خير الرجال أو كخير البعولة من رجل لم يفتش لنا كنفا، ولم يعرف لنا فراشا
فأقبل علي، فعذَمني، وعضَّني بلسانه، فقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب، فعضلتها، وفعلت، وفعلت ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاني، فأرسل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته، فقال لي: «أتصوم النهار؟»
قلت: نعم.
قال: «وتقوم الليل؟»
قلت: نعم
قال: «لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني». رواه أحمد والنسائي في الكبرى من حديث حصين بن عبد الرحمن عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
3. وقالت عائشة رضي الله عنها: دخلت علي خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية، وكانت عند عثمان بن مظعون قالت: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها، فقال لي: (( يا عائشة، ما أبذّ هيئة خويلة؟))
قالت: فقلت: يا رسول الله، امرأة لا زوج لها، يصوم النهار، ويقوم الليل؛ فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها وأضاعتها.
قالت: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن مظعون فجاءه، فقال: ((يا عثمان، أرغبةً عن سنتي؟!" فقال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنَّتك أطلب.
قال: ((فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإنَّ لأهلك عليك حقاً، وإنَّ لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصم وأفطر، وصل ونم)). رواه أحمد وأبو داوود والنسائي من حديث ابن إسحاق قال: حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
4. قال موسى بن علي بن رباح وكان أمير مصر زمن أبي جعفر المنصور: سمعت أبي يقول: سمعت عمرو بن العاص يخطب الناس بمصر يقول: (ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، أما هو فكان أزهد الناس في الدنيا، وأما أنتم فأرغب الناس فيها). رواه أحمد وابن حبان والحاكم.
5. وفي الصحيحين من حديث عبيد عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خبر طويل وفيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم، حشوها ليف، وإن عند رجليه قرظا مضبورا، وعند رأسه أُهُباً معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبكيت؛ فقال: «ما يبكيك؟»
فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تكون لهما الدنيا، ولك الآخرة».
6. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر الحصير بجلده، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه، وأقول: يا رسول الله، ألا آذنتني قبل أن تنام على هذا الحصير فأبسط لك عليه شيئا يقيك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا! وما للدنيا ولي! ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل في فيء، أو ظل شجرة ثم راح وتركها» رواه ابن المبارك في الزهد وأحمد وابن أبي شيبة والترمذي والحاكم وغيرهم من طريق المسعودي قال: حدثنا عمرو بن مرة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود، وله شاهد من حديث عكرمة عن ابن عباس عن عمر عند أحمد والطبراني وغيرهما.