(4) عناية الصحابة رضي الله عنهم بالقرآن وعلومه
عُني الصحابة رضي الله عنهم بعلوم القرآن مع بداية تعلّم تلاوته وتدبّره والتفقّه فيه؛ فكان الصحابة رضي الله عنهم يتلقّون القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم بحروفه وقراءاته، ويضبطون عدد الآي، ويكتبون ما يملي عليهم النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن، ويشاهدون كثيراً من أحوال النزول وأسبابه، ويعرفون فضائل القرآن وفضائل سوره وآياته، ويتعاهدون حفظه، ويتلونه حقّ تلاوته، ويؤمنون به، ويتأدّبون بآدابه، ويتدبّرون معانيه، ويعقلون أمثاله، ويتفقهّون في أحكامه، ويدرسون تفسيره، وناسخه ومنسوخه، ويتدارسونه بينهم، وهذه هي أصول علوم القرآن.
1. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: « كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن ».رواه ابن أبي شيبة وابن جرير.
2. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:« والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً طَلْقاً » رواه ابن سعد في الطبقات وأبو نعيم في الحلية.
3. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: « والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله، تبلغه الإبل لركبت إليه» رواه البخاري في صحيحه.
4. وقال مجاهد: « لقد عرضتُ القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كل آية أسأله فيم أنزلت؟ وفيم كانت؟ ». رواه الدارمي وابن جرير.
5. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن:« ما رأيت أحدا أعلم بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أفقه في رأي إن احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نزلت، ولا فريضة من عائشة» رواه ابن سعد.
6. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أيضاً: « من أراد العلم فليثوّر القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين ». رواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والطبراني.
7. وقال القاسم بن عوف الشيباني: سمعت ابن عمر، يقول:« لقد عشنا برهة من دهرنا وإنَّ أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلَّم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده فيها كما تعلَّمون أنتم القرآن، ثم لقد رأيت رجالاً يُؤتَى أحدهم القرآن فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، ينثره نثر الدقل ». رواه الطحاوي والحاكم والبيهقي.
8. وقال أبو عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله البجلي قال: « كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلَّمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا » رواه البخاري في التاريخ الكبير وابن ماجه في سننه.
9. وقال عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: « حدَّثنا من كان يُقرِئُنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات؛ فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل ». رواه الإمام أحمد وابن جرير الطبري وابن سعد في الطبقات.
وأبو عبد الرحمن السلمي قرأ القرآن على عثمان وعليّ وأبيّ بن كعب وابن مسعود وزيد بن ثابت.
10. وذكر أبو عبد الرحمن السلمي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رأى رجلا يقصّ، قال: «علمت الناسخ والمنسوخ؟» قال: لا، قال: «هلكتَ وأهلكت» رواه ابن أبي شيبة والبيهقي.
والإنكار على هذا القاصّ الجاهلِ جَهْلَهُ بالناسخ والمنسوخ دليل على أنه من العلوم التي كان الصحابة يُعنون بتعليمها طلاب العلم من التابعين، وأن من لم يعرف الناسخ والمنسوخ فلا ينبغي له أن يتصدّر في مجالس العلم.
وهذه الآثار وأمثالها تدلّ دلالة بيّنة على عناية الصحابة رضي الله عنهم بعلوم القرآن، والتفقّه فيه وتدبّره، واستثارة علومه الكثيرة، وإقرائه وتعليمه، فعَلِمُوا وعلّموا من علوم القرآن ما لا يدركهم فيه مدرك، ولا يبلغ شأوهم فيه أحد ممن أتى بعده، ولو لم يكن من ذلك إلا مشاهدتهم لأحوال النزول، وعلمهم بكثير مما نسخت تلاوته من القرآن مما يُستعان به على التفسير، ونزول القرآن بلسانهم قبل طروء اللحن بعدهم، وجودة قرائحهم، وسعة معرفتهم بدلائل الخطاب العربي، واتسائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وتلقيهم العلم والعمل منه؛ لكان كافياً في تقدّمهم وإمامتهم في العلم والعمل.