بسم الله الرحمن الرحيم
مجلس مذاكرة القسم الرابع من كتاب التوحيد
س1: بيّن معنى النذر، وأقسامه، وحكم الوفاء به بالتفصيل والاستدلال.
معنى النذر:
النذر هو إلزام المكلف نفسه بعبادة لله جل وعلا، إما مطلقا أو بقيد.
أقسام النذر:
النذر قسمان:
-نذر مطلق.
-نذر مقيد.
فالنذر المطلق: هو أن يلزم العبد نفسه بعبادة لله جل وعلا بلا قيد.
مثاله: أن يقول: لله عليَّ نذر أن أصلي ركعتين.
والنذر المقيد: هو إلزام العبد نفسه بطاعة لله جل وعلا مقابلا بشيء يحدثه الله جل وعلا له ويقدره ويقضيه.
مثاله: أن يقول: : إن أعاد الله لي ابني من السفر، فلله علي نذر أن أتصدق بكذا وكذا.
وحكمه: قد كرهه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما يستخرج به من البخيل".
حكم الوفاء به:
فيه تفصيل:
*إذا كان النذر نذر طاعة لله مطلق أو مقيد؛
مثاله: قول: لله علي اعتكاف ليلة، وقوله: لله علي صيام شهر إن رد الله علي ضالتي.
فحكمه: وجوب الوفاء به.
الدليل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه".
*وإذا كان النذر نذر معصية.
مثاله: قول أحدهم: لله علي أن لا أكلم أبي شهرا.
فحكمه: يحرم الوفاء به وتلزم في حقه الكفارة.
الدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه".
*وإذا كان النذر في المباح.
مثاله: قول أحداهن: لله علي ضرب الدف فوق رأس أبي.
فحكمه: وجوب الوفاء به.
الدليل: ما رُوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن بريدة: "أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال: أوفي بنذرك"، رواه أبو داود وأحمد والترمذي.
*أما إذا كان نذر اللجاج والغضب.
مثاله: أن يقال له: سافر مع فلان، فيقول: إن سافرت فعلي صوم كذا وكذا.
فحكمه: فهو يمين عند أحمد، فيخير بين فعله وكفارة يمين.
الدليل: حديث عمران بن حصين مرفوعا: "لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين" رواه سعيد بن منصور وأحمد والنسائي.
*وأما إذا كان نذره في حال إكراه.
مثاله: نذر مكرها أن يطلق زوجته.
حكمه: يستحب أن يكفر، ولا يفعله.
س2: كيف تثبت أنّ النذر عبادة لا يجوز صرفها لغير الله عزّ وجل؟
مدح الله جل وعلا الموفون بالنذر؛ فقال تعالى: {يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا}، فدل أن الوفاء بالنذر أمر محبوب لله جل وعلا، فيكون عبادة يتقرب بها إلى الله جل وعلا.
وقال تعالى: {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه}، فهذا أيضا يدل على محبة الله جل وعلا لأن الله جل وعلا عظمه وعظم أهله، وإذا كان كذلك فهو عبادة من العبادات؛ وإذا صُرف النذر لغير الله جل وعلا كان شركا بالله جل جلاله.
وكذلك جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" الحديث، فبين النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الوفاء بالنذر فدل على أنه طاعة وقربة لله جل وعلا.
ومعلوم أ العبادات يجب صرفها لله وحده، ولا يجوز صرفها لغير الله جل وعلا، وأن من صرفها لغير الله جل وعلا فقد أشرك الشرك الأكبر، قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}، وقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وقال: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا}
وقال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا}.
والنذر عبادة كما سبق بيانه، والله جل وعلا نهى أن تصرف العبادة لغيره، ومن نذر لغير الله جل وعلا فقد أشرك الشرك الأكبر.
س3: ما معنى الاستعاذة؟ وما الدليل على أنها عبادة لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل؟
*معنى الاستعاذة:
طلب العياذ، وهو الهرب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه.
وحقيقتها: الالتجاء والاعتصام والتحرز، مع توجه القلب ورغبه ورهبه.
*الدليل على أنها عبادة لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل:
الاستعاذة هي طلب العياذ كما سبق بيانه؛ والطلب من أنواع التوجه والعبادة، فإذا طلب فإن هناك مطلوبا منه، والمطلوب منه لما كان أرفع درجة من الطالب، كان الفعل المتوجه إليه دعاء، ولهذا كانت الاستعاذة دعاء بلسان الحال والمقال؛ فإذا كانت الاستعاذة دعاء فهي عبادة، والعبادة لا يجوز صرفها لغير الله، فمن صرفها لغير الله فقد أشرك الشرك الأكبر؛
قال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا}، وقال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}، وقال: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا}
وقد جاءت نصوص خاصة تدل على أن الاستعاذة عبادة من العبادات العظيمة، وإذا كانت كذلك فإن إفراد الله بها حتم لازم، قال تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا}، فعاقب الله جل وعلى الإنس بأن زادهم الجن خوفا واضطرابا وتعبا لما استعاذوا بغيره، وإنما عاقبهم الله جل وعلا وذمهم لأنهم صرفوا تلك العبادة لغيره، والله جل وعلا أمر أن يستعاذ به دون ما سواه؛ فقال تعالى: {قل أعوذ برب الفلق}، وقال: {قل أعوذ برب الناس}، وقال: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون}، وقال: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله}.
والآيات في ذلك كثيرة؛ فقد أمر الله جل وعلا نبيه أن تكون الاستعاذة به وحده دون ما سواه فعُلم أن صرفها لغيره شرك كما مر معنا.
س4: كيف تردّ على من زعم من القبوريين أنه يستعيذ بالأولياء فيما أقدرهم الله عليه؟
معلوم أن حقيقة الاستعاذة الالتجاء والاعتصام والتحرز، مع توجه القلب ورغبه ورهبه.
فيكون فيها عمل ظاهر وعمل باطن:
-فالعمل الظاهر: هو أن يطلب العياذ بأن يعصمه من هذا الشر وينجيه.
-والعمل الباطن: هو توجه القلب وسكينته، واضطراره، وحاجته إلى المستعاذ به، مع اعتصامه بهذا المستعاذ وتفويض أمر نجاته إليه.
*الاستعاذة تصلح بالمخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه دون توجه القلب[لغير] الله.
وقلنا: الحي لأن الميت لا يسمع فكيف يجيب قال تعالى: {إنك لا تسمع الموتى}.
وقلنا: حاضر فإن من استعاذ بغائب فلزم أنه يعتقد فيه أمورا لا تكون إلا لله جل وعلا.
وقلنا: فيما يقدر عليه لأن الاستعاذة بمخلوق في أمور لا يقدر عليها إلا الله ينم عن اعتقاد في ذلك الشخص وهضم للربوبية.
وقلنا: دون توجه القلب لأن التوجه من أعمال القلوب التي لا تصلح إلا لله جل وعلا.
*فمن زعم من القبوريين أنه يستعيذ بالأولياء فيما أقدرهم الله عليه رُد عليه من وجوه:
أولها: أن هذا الولي ميت فكيف لميت أن يعيذ حيا وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث..."الحديث.
ثانيا: زعم أن الله أقدرهم على ذلك مردود باطل لا برهان عليه وبيننا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في أن تثبتوا ذلك ولن يجدوا.
ثالثا: أن التوجه القصد لهذا الميت أو الولي لم يكن إلا بعد أن قام بقلبهم من العبوديات ما لا يصلح إلا لله جل وعلا.
رابعا: أنهم جمعوا بين القول باللسان وبين التوجه بالقلب الذي لا يصلح إلا له جل وعلا.
س5: ما معنى الاستغاثة؟ وما حكم الاستغاثة بغير الله تعالى؟ فصّل القول في ذلك مستدلا لما تقول.
*معنى الاستغاثة:
الاستغاثة هي طلب الغوث، والغوث يحصل لمن وقع في شدة وكرب يخشى معه المضرة الشديدة أو الهلاك، فيقال أغاثه: إذا فزع إليه، وأعانه على ما به، وخلصه منه.
*حكم الاستغاثة بغير الله جل وعلا:
فيها تفصيل:
*الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله.
حكمه: شرك أكبر.
قال تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}، فالاستغاثة دعاء.
قال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا}،
وقال تعالى: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك من الظالمين * وإن يمسسك لله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم}، فنهى الله جل وعلا أن يُتوجه لغير الله جل وعلا بدعاء المسألة أو دعاء العبادة، أو بأي نوع من أنواع العبادات؛ فلا طلب فيما لا يقدر عليه إلا الله يصلح إلا منه جل وعلا، ويدخل في ذلك الاستغاثة لأنها دعاء.
قال تعالى: {إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو}، فالغرض من أن يسأل أحدٌ غير الله عز وجل في إنجاء ما به هو طلب كشف الضر وهو عين الاستغاثة بغير الله جل وعلا ولهذا ذمه.
فإذا كانت الاستعاذة دعاء فهي عبادة، والعبادة لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل كما هو معلوم؛ فمن صرفها لغير الله فقد أشرك الشرك الأكبر، قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}، وقال: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا}.
*الاستغاثة بمخلوق فيما يقدر عليه غير الله:
حكمه: استغاثة جائزة، بشرط أن يكون حي، حاضر، قادر، دون توجه القصد إليه.
كما قال تعالى في قصة موسى: {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه}،
ومن كمال التوحيد أن يعلق العبد قلبه بالله جل وعلا في حصول ذلك، فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الرجال الذين استغاثوه فيما يقدر عليه حماية لجناب التوحيد، فقد روى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله".
س6: فسّر قول الله تعالى:{ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذّبهم فإنّهم ظالمون} وكيف تردّ بهذه الآية على من غلا في النبيّ صلى الله عليه وسلم.
التفسير:
أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشجه حتى سال الدم، فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؛ فنزلت الآية.
وورد في الصحيحين أيضا عن ابن عمر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو؛ فنزلت الآية"، وقد آل أمر هؤلاء إلى الإسلام والحمد لله.
المعنى: أي أن الله مالك أمرهم يصنع بهم ما يشاء من الإهلاك أو الهزيمة أو التوبة إن أسلموا، أو العذاب.
وفي قوله: {أو يتوب عليهم أو يعذبهم} تلميح بأن قريش سيكون مصيرها الإسلام.
وفي هذه الآية رد على من غلا في النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد بين الله جل وعلا أن أشرف الخلق على الإطلاق لا يملك نفع أحد من الخلق؛ فقد نُفي عنه أنه يملك شيئا من ملكوت الله، فإذا كان كذلك بطلت كل التوجهات إليه صلى الله عليه وسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لو كان له من الأمر شيء؛ لنصر نفسه وأصحابه يوم أحد، ولكن في يوم أحد حصل ما حصل، فمن لم يملك نفع نفسه فنفع غيره ممتنع من باب أولى.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يتركه فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، فقال: "يا معشر قريش –أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم؛ لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية –عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم- لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا".
س7: فسّر قول الله تعالى: {أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون}
التفسير:
{أيشركون ما لا يخلق شيئاً}، أي: أيجعلون الأصنام شركاء لله في العبادة، وهم يعلمون أن هذه الأصنام لم تخلق شيئا من الخلق.
{وهم يُخلقون} أي: وهؤلاء الذين جعلوهم شركاء من الأصنام أو الشياطين مخلوقون.
{ولا يستطيعون لهم نصراً} إذا طلبوه منهم.
{ولا أنفسهم ينصرون} ومَن عجز عن نصر نفسه؛ فهو عن نصر غيره أعجز، لأن النصر في الحقيقة إنما هو من الله جل وعلا، فلو أراد الله أن يمنع نصر الناصر لمنعه.
ففي الآيتين إنكار وتوبيخ للمشركين؛ كيف يشركون الذي لا يخلق شيئا وهو يخلق؟
فالله جل وعلا هو الذي خلق من عُبد من دونه، وهو الذي خلق العابد أيضا، فالذي يستحق العبادة وحده دون ما سواه إنما هو الله جل وعلا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم