دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العالي للمفسر > منتدى الامتياز

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28 ذو الحجة 1438هـ/19-09-2017م, 09:19 PM
هيئة الإدارة هيئة الإدارة غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 29,544
افتراضي المجلس الأول: مجلس مذاكرة القسم العشرين من تفسير سورة البقرة

مجلس مذاكرة القسم العشرين من تفسير سورة البقرة
(الآيات: 275- 286)


بالاستعانة بالتفاسير الثلاثة المقرّرة اكتب رسالة تفسيرية في واحد من الأقسام التالية:
1: آيات الربا،
بأسلوب التقرير العلمي.
2: آيات الدين بالأسلوب الاستنتاجي.
3: آخر ثلاث آيات من سورة البقرة، بأسلوب الحجاج.



إرشادات:
- يقسّم الطلاب إلى ست مجموعات، وتكلّف كل مجموعتين بنفس الرسالة.
- مصادر الرسائل هي التفاسير الثلاثة المقرّرة للدراسة، ويمكن الاستعانة بتفاسير أخرى من باب توسيع دائرة الاطّلاع.
- تراجع الإرشادات الخاصّة بكل أسلوب تفسيري في دورة أساليب التفسير، وكذلك خطة إعداد الرسالة التفسيرية (هنا).
- يمكن أن يضاف للأسلوب الأساسي للرسالة غيره من الأساليب مما يستدعيه المقام ويعين على تحسين الرسالة.



والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات..


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11 محرم 1439هـ/1-10-2017م, 09:21 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي رسالة في تفسير خواتيم سورة البقرة بالأسلوب المقاصدي

رسالة في تفسير قول الله تعالى:
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}. سورة البقرة.


القلب تلك المضغة التي تتقلب صباح مساء إلا أن يثبتها الله على الحق بفضله.
مضغة بحجم قبضة اليد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن صلاح الجسد كله بصلاحها وفساده بفسادها ، فهو ملك الجوارح ، والجوارح - كل الجوارح - تابعة لأمره خاضعة لسلطانه.
قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ".رواه البخاري ومسلم.
(1)
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم دومًا :" يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك" رواه الترمذي.(2)
وإن المرء ليعجب جدًا حين يتأمل النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ويجد عظيم الاهتمام بصلاح القلب ، ثم يتأمل أحوالنا فيجد غفلتنا الشديدة عن مراقبة أعماله وانشغالنا بإصلاح الظاهر عن الباطن !
وقد جاءت خواتيم سورة البقرة بعد بيان كثير من الأحكام، لتبين لنا حقيقة عمل القلب وأنه الأساس في كل ما مضى من عمل وتفصل بين فريقين أفرَطوا وفرَّطوا في أمر القلب ؛ فما بين مدعٍ أن الله يحاسبنا على كل خاطرةٍ تمر به ، وما بين مدعٍ أن لا حساب على عمل القلب أيًا ما كان حتى تقوم به الجوارح !
وكانت البداية بتقرير حقيقة يعلمها الجميع وإن تخلف أثرها ، حقيقة أنَّ{للهِ ما في السماوات وما في الأرض}، فلك أن تتصور أنك شيء في أرض الله الواسعة وسماواته السبعة الفسيحة ، وما بين السماوات والأرض ، كل ذلك ملك لله ، هو خالقها وهو العليم بها وبما فيها ، وأنت جزء من هذا الكون الفسيح ، ألا يعلم ما بقلبك وما يجول بخاطرك ؟
{ ألا يعلمُ من خلق وهو اللطيف الخبير}[سورة الملك : 14 ]
فسواء عنده أن تظهر ما في قلبك أو تخفيه ، فهو يعلمه ، كما قال تعالى : { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات والأرض والله على كل شيء قدير }[ سورة آل عمران: 29]
غير أنّ آيات سورة البقرة لم تتوقف عند معنى العلم - وإن كان وحده كافيًا لمن استحضر خشية الله وعظمته ، أن يزجره عن أن ينغلق قلبه على ما لا يرضي الله - ولكن قال الله - عز وجل - في خواتيم سورة البقرة : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }
وهذا المعنى الذي أفزعني وأفزعك ، أفزع الصحابة حين تصوروا أن الله يحاسبهم على كل ما جال بخاطرهم ، فكان ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال : ( لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير }
قال : اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الرّكب ؛ فقالوا : " أي رسول الله ! كُلفنا من الأعمال ما نُطيق ، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة.
وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نُطيقها !
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : { سمعنا وعصينا .. } ، بل قولوا : { سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } ، فقالوا : { سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } ، فلما اقترأها القومُ ذلّت بها ألسنتهم ، فأنزل الله في إثرها : {آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله عز وجل : { لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ..} قال : نعم ، { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } قال : نعم ،{ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } ، قال : نعم ، { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } قال : نعم ) (3)
وهذا الحديث ظاهره التعارض -وحقيقته غير ذلك- مع ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : جاء ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه : " إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به " ، قال : " وقد وجدتموه "! ،قالوا : " نعم " ، قال : " ذاك صريح الإيمان ". (4)
قال ابن كثير : " وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان " (5)
قال ابن تيمية : " وأما إن كان وسواسًا والعبدُ يكرهه فهذا صريح الإيمان كما هو مصرح به في الصحيح ، وهذه الوسوسة هي مما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان ". (6)
وهذا مما يسري عن القلب ، فأن يهجم عليه وسواس شك في حكمة الله وعدله ، ثم يدفعه وينفيه ، ورسوله صلى الله عليه وسلم يطمئنه أنه غير مؤاخذ بذلك ، بل كراهيته ودفعه من صريح الإيمان ، لا شك أنه يسري عن قلب المؤمن ويثبته.
لكن لما نزلت الآية توهم الصحابة أنهم مؤاخذون بذلك ، ومحاسبون عليه وأنهم لا يطيقونه فقالوا ما قالوا !
وهنا جاء رد رسول الله صلى الله عليه وسلم معلمهم وقدوتهم :" أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : { سمعنا وعصينا .. } ، بل قولوا : { سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } .. "
إنها تربية على عبادة عظيمة من عبادات القلب ألا وهي التسليم لأمر الله والإيمان بحكمته وعدله ، وإقرار لمنهج تخلف عنه كل الأمم السابقة فتخلفوا في السبق ، وجاء به الصحابة رضوان الله عليهم فاستحقوا السبق وهو منهج : " سمعنا وأطعنا "
هذا المنهج القويم الذي ما تخلفنا اليوم إلا بسبب تخلفنا عنه …
منهج قائم على إيمان راسخ بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
لذا لما أقرت قلوب القوم بالسمع والطاعة وذلت جارحة اللسان تابعة لأمر ملكها القلب بقول السمع والطاعة أنزل الله آيتين جعلهما خاتمة سورة عظيمة - سورة البقرة - من تحت كنز العرش ، منبهًا على فضلهما وفضل ما نزلت به؛ ففيهما ثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ، وفيهما بيان لعظيم قدر الإيمان والاستسلام للمولى ، وفيهما بيان لحقيقة أمر التكليف الذي توهم منه الصحابة ما ليس فيه ..
قال تعالى :{ ءامن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون .. }
قال الشيخ ابن عثيمين في شرحه للأربعين النووية : " والإيمان في اللغة هو الإقرار والاعتراف المستلزم للقبول والإذعان وهو مطابق للشرع ". (7)
فهم حين أقروا بأن هذه الآيات نزلت من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقد أقروا بها إقرارًا يستلزم إذعانهم لما تضمنته من حكم فقالوا سمِعنا وأطعنا !
وقوله : { بما أُنزل إليه من ربه } يشعر بالإيمان بحكمة الله عز وجل فهو الرب المدبر لشؤون العباد العليم بأحوالهم، وما يُصلحهم ، فما ظلمهم فيما شرع لهم ولكن ظلموا أنفسهم حين خالفوا أمره وفعلوا ما نهى عنه وزجر.

لكن الصحابة آمنوا بما أنزل الله مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله ، ولم يُفرقوا بين رسل الله ، بل آمنوا بموسى وعيسى ومحمد وجميع أنبياء الله ورسله صلى الله عليهم جميعًا وسلم تسليمًا كثيرًا ، وكما أنهم لم يفرقوا بين رسل الله - كما فعل أهل الكتاب من قبل فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض - ، كذلك فقد آمنوا بجميع ما أنزل الله ولم يُفرقوا بين آية وآية ، ولم يكن مقياس الاتباع عندهم ما يوافق أهواءهم وإنما قالوا لكل أمر الله : " سمعنا وأطعنا غفرانكَ ربنا وإليكَ المصير "
قال الزجاج : " وقوله عز وجل : { وقالوا سمعنا وأطعنا } أي : سمعنا سمع قابلين و{ أطعنا } : قبلنا ما سمعنا لأن من سمع فلم يعمل قيل له أصم - كما قال جل وعز : {صم بكم عمي} ليس لأنهم لا يسمعون ولكنهم صاروا في ترك القبول بمنزلة من لا يسمع "اهـ. (8)
قال ابن عطية في المحرر الوجيز : " وقوله تعالى :{ وقالوا سمعنا وأطعنا } مدح يقتضي الحض على هذه المقالة وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر "اهـ. (9)
قال الشيخ فريد الأنصاري في مجالس القرآن : " فالتخلق بالسمع والطاعة في الدين معناه : التحقق بصفة العبدية الكاملة لله، التي هي أرفع منازل الإيمان وأقربها وأحبها إلى الله؛ ولذلك كان قول { سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} من أشد السهام ، بل من أشد الرصاصات - ضمن ذخيرة الخواتيم الحية ! - التي تُطلق على الشيطان فيفر من البيت ولا يقربه أبدًا ما دامت تُقرأُ فيه " اهـ.(10)
وهنا جاء تفريج الكرب من الله - عز وجل - بنسخ ما تأوله الصحابة في فهم الآية وبيان حقيقة تكليف الله - عز وجل -
فقال : { لا يُكلفُ الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}
وهنا فصل النزاعِ بين الفريقين؛ فمن قال أن الله يُحاسبنا على كل خاطرةٍ تمر بالقلب وإن عارضها القلب ودافعها إرضاء للمولى ، قيل له : إن هذا الأمر مما ليس في وسع النفس البشرية فعله ، والله رحيم بعباده وقد توهم الصحابة ما توهمت فرد الله عليهم بقوله :{ لا يُكلف الله نفسًا إلا وُسعها }
ومن قال بأن الله لا يحاسب على عمل القلب ما لم تقره الجوارح ، قيل له :{ لا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها }
وهذا مما في وسع المرء فعله؛ فبوسعه كراهية الكفر والمعاصي وحب الإيمان، وبوسعه الإقرار والإذعان لأمر الله بقلبه كما بجوارحه وليس لأحد من الخلق سلطانٌ على قلبه ؛ فإن أُكره بالسلاح على قول كلمة الكفر، فزلّ بها اللسان ، فليس للقلب أن يفعل ، بل قلبه مطمئن بالإيمان !
وبوسعه ترك الكبر والعجب والحسد وغيرها من أمراض القلوب.
وبوسعه أن يؤمن بحكمة الله فيما أمر ، وإن عجز عقله القاصر عن فهم هذه الحكمة ، وبوسعه أن يؤمن بعدل الله بين عباده وأنه لا يظلمهم شيئًا ، وبوسعه أن يرضى بالله ربًا يُدبر أمره ويرزقه وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولا جاء بالوحي المنزل من ربه بواسطة جبريل عليه السلام ؛ فما آتانا الرسول أخذناه وما نهانا عنه انتهينا عنه ، وأن يرضى بالإسلام دينًا يرفعُ به رأسه ولا يخجل من أمره ونهيه حتى وإن خالفت في ذلك كل الأمم - التي يبدو أنها متقدمة - في عصرنا وتخلف المسلمون بين الأمم ؛ وما تخلفهم إلا بتخلفهم عن منهج " سمعنا وأطعنا " ، وتحرجهم من الاعتزاز بدينهم بين الخلائق!
كل هذا في وسع المرء أن يفعله فقوله عز وجل:{ لا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها } فيها من التيسير الكثير ؛ لكن فيها أيضًا من التكليف فهي تعني أنه يُكلف النفس البشرية وُسعها ؛ فهل أتيت بوسعك ؟!
لذا قال عز وجل بعدها : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت }
قال ابن عطية في المحرر الوجيز : " وجاءت العبارة في الحسنات بـ " لها " من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه ويسر به ، فتضاف إلى ملكه ، وجاءت في السيئات بـ " عليها " من حيث هي أوزار وأثقال ومحتملات صعبة وهذا كما تقول : لي مال ، وعليّ ديْنٌ " (11)
ثم أذن الله لنا بالدعاء وعلّمنا منه ما يرفع عنا الحرج ووعدنا بالإجابة، قال تعالى يعلمنا أن نقول : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين }
ومع كل دعاء ، يقول الله عز وجل : " نعم " ، أي : " قد فعلت " ، ولك أن تتصور ما بهذه الكلمات من رحمات تتنزل على عباد الله ، ألا يؤاخذك بما تركت فعله نسيانًا أو ما فعلته خطأ ، وألا يحملك من الآصار ما تحملته الأمم السابقة فيثقل عليك وإن كنت تستطيعه ، وأن يعفوَ عنك ما بينك وبينه ، ويسترك ويرحمك ويتولى أمرك وينصرك على عدوك وعدوه حتى تتمكن من رفع راية دينك ولا تجد صعوبة في طاعته وتنفيذ أوامره.
فإذا أدركنا كل ذلك علمنا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ". رواه البخاري ومسلم.
(12)
ولعل السر في إبهام متعلق الكفاية أن تدل على العموم.
وقد اختلف العلماء في تحديد ما تكفيه هاتان الآيتان من أمر الإنسان، من قائل تكفيه الشيطان ووساوسه، ومن قائل كفتاه ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة، أو كفتاه عن قيام الليل أو عن قراءة القرآن، لكن المتأمل في معنى الآيتين يجد أنها تكفياه كل هذا !
تكفيك وساوس الشيطان الذي يلقي في قلبك الشك، ويزين لك ترك الطاعات وفعل المحرمات؛ فمتى قوي إيمانك بحكمة الله وعدله ورحمته في أمره ونهيه أقبلت عليه وأعرضت عن كل ما يُخالفه.
وتكفيك هموم الدنيا والآخرة؛ فمتى أسلمت واستسلمت لأمر الله علمت أنه لن يُضيعك وأنه مفرج عنكَ إن عاجلا أو آجلا ، فلئن فاز أهل الباطل بعاجلة الدنيا فللمتقين البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
قال تعالى:{ ألا إنّ أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون. لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم }[ سورة يونس : 62- 64]
وتكفيك العجز والكسل فمتى علمت بأن الله كلفك بأمر فقد خلق فيك القدرة على فعله فعزمت وتوكلت واستعنت به على الإتيان به.
وتكفيك هموم ذنوبك وآثامك ؛ فأنت في كل ليلة تستغفر الله وتتذكر العودة إليه يوم الحساب وتطلب عفوه ومغفرته ورحمته
{ غفرانك ربنا وإليك المصير }
{ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين }



تمت بحمد الله ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

________________________________

(1) صحيح البخاري : كتاب الإيمان ، باب فضل من استبرأ لدينه (52) ، وصحيح مسلم: كتاب المساقاة ، باب أخذ الحلال وترك الشبهات ( 1599)
(2) سنن الترمذي : كتاب الدعوات (3522)
(3) صحيح مسلم : كتاب الإيمان (125)
(4) صحيح مسلم : كتاب الإيمان (132)
(5) تفسير ابن كثير: الجزء الأول ، صفحة : 397.
(6) مجموع فتاوى ابن تيمية: الجزء الرابع عشر ، صفحة : 108.
(7) شرح الأربعين النووية لابن عثيمين ، صفحة 30.
(8) معاني القرآن وإعرابه : الجزء الأول،صفحة:369.
(9)المحرر الوجيز: المجلد الثاني، صفحة: 138.
(10) مجالس القرآن : مداراسات في رسالات الهدي المنهاجي للقرآن الكريم من التلقي إلى البلاغ : الجزء الثالث، صفحة: 634.
(11) المحرر الوجيز: المجلد الثاني، صفحة: 142.
(12) صحيح البخاري : كتاب فضائل القرآن ، باب فضل البقرة (5009).


المراجع :
1: صحيح البخاري للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري(ت: 256هـ ) ط.دار طوق النجاة، بيروت.
2: صحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري(ت:261هـ ) ط.دار إحياء التراث العربي، بيروت.
3: سنن الترمذي لمحمد بن عيسى الترمذي (ت: 279هـ)، ط.دار الغرب الإسلامي، بيروت.
4: معاني القرآن وإعرابه للزجاج ( ت : 311هـ)
، تحقيق الدكتور عبد الجليل عبده شلبي، ط.عالم الكتب، بيروت.
5: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لأبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) ، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر.
6: مجموع الفتاوى لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت:728هـ)، ط.مجمع الملك فهد، المدينة النبوية.
7: تفسير القرآن العظيم لعماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي( ت:774هـ)، ط.مكتبة الصفا، القاهرة.
8: شرح الأربعين النووية لابن عثيمين (ت: )، ط.دار ابن الجوزي ، القاهرة.

9: مجالس القرآن لفريد الأنصاري (ت: 1430هـ)، ط.دار السلام، القاهرة.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 17 محرم 1439هـ/7-10-2017م, 09:00 AM
عابدة المحمدي عابدة المحمدي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 483
افتراضي

رسالة بأسلوب الحجاج في أواخر سورة البقرة مقدمهم ن ( مضاوي الهطلاني - منيره محمد - عابده المحمدي )

بدأ الله عز وجل الآيات بذكر صفة من صفاته الحسنى التي لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه وهي إثبات صفة الملك لله تعالى الملك الكامل يملك سمعهم ،وأبصارهم، وخواطرهم،وضمائرهم،وإليه معادهم ,ومرجعهم فقال تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) سورة البقرة ( 284) وقَالَ عز من قائل :{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } سورة البقرة (107) وحق له ذلك، لإنه خالقهم, ورازقهم ,ومربيهم, ولا غنى لهم عنه طرفة عين،فهم في حاجة إليه دائمة،فهو يحفظهم من الشر ويعينهم على الشدائد، ويهديهم إلى الصراط المستقيم،ولذلك بعث فيهم رسولاً من أنفسهم خيرة خلقه،وصفوة رسله،من أطاعه دخل الجنّة ومن عصاه دخل النّار،قال تعالى :{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } وجعل أمته أفضل وآخر الأمم وأول من يدخل الجنة،واختار لنبيه صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، فهم أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ،وأقلها تكلفا ،وأقومها هديا ،وسمتاً، يصفهم علي رضي الله عنه فيقول: لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئا يشبههم كانوا يصبحون ضمرا شعثا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله ويراوحون بين جباههم وأقدامهم فإذا أصبحوا ذكروا الله مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح فهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم .
هذه حالهم رضي الله عنهم وأرضاهم في ليلهم مع آيات ربهم ، فكيف حالهم معها في نهارهم ، قال الحسن البصري :(إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَأَوْا الْقُرْآنَ رَسَائِلَ مِنْ رَبِّهِمْ فَكَانُوا يَتَدَبَّرُونَهَا بِاللَّيْلِ وَيُنَفِّذُونَهَا بِالنَّهَارِ) لقد ضربوا رضي الله عنهم أجمعين ، أروع الأمثلة في تنفيذ أوامر الله والتسليم للوحي والانقياد له ،دون اعتراض أو تلكؤ أو تقصير أو عصيان،وكانوا ذا خوف ووجل وشدة خشية لله, وتعظيماً لجنابه,ومع ماعندهم من الفهم والعلم والتقى إلا أنهم يقفون عند آيات الله ويجلونها ويوقعونها على أنفسهم،فما تبين لهم أتمروا به مباشرة وما أشكل عليهم عرضوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليبين لهم ما عرض لهم ، ويبصرهم بما خفي عليهم، ويهديهم للحق الذي طلبوه ، فتطيب نفوسهم وتستسلم قلوبهم وتذل جوارحهم , فنزلت عليهم هذه الآية البينة التي أخبر الله فيها عباده عن سعة ملكه ، وإحاطة علمه، فله ملك السموات والأرض ومن فيهن وما بينهن لا شريك له وأنه مطلع على خفايا قلوب عباده ، كما هو مطلع على ظواهرهم ، يعلم ما يبدون وما يكتمون ،والتي أخبر أنه محاسبهم على جليل الأعمال وحقيرها ، بقدرته التي عمت كل شيء ، سبحانه وبحمده فكان لهم معها شأن عظيم ،وأمر جسيم حيث جثوا على الركب، واشتد عليهم الأمر، وهي قوله تعالى :{ للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَاواتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قال المفسرون في معنى هذه الآية أقوال، :
< فقيل أنها في معنى الشهادة التي نهى الله عن كتمها، فأعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي في نفسه محاسب , قال به ابن عباس وعكرمة والشعبي ، وقال مجاهد من الشك واليقين، وقيل من الاحتيال للربا، ذكره "ابن حيان"
< وأما صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم فقد فهموا منها معنى آخر وهو ما تصفه لنا الأحاديث التي وردت عن ابن عباس وأبو هريرة والشعبي وجماعة من الصحابة والتابعين قالوا «إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا هلكنا يا رسول الله إن حوسبنا بخواطر نفوسنا، وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكنه قال لهم: «أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا؟! بل قولوا سمعنا وأطعنا» فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} البقرة ، فكشف عنهم الكربة ونسخ الله بهذه الآية تلك»
فقال بعض أهل العلم بالنسخ لهذه الآية
فمن قال من العلماء بالنسخ احتج بما روي من أحاديث عن ابن عباس وابن عمر من عدة طرق عن الإمام أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير الطبري منها،ما ورد عن أبي هريرة ، قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جثوا على الركب ، وقالوا : يا رسول الله ، كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير " . فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم ، أنزل الله في أثرها : {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل : {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إِلَى آخِرِهِ فقال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة والشعبي أن قوله تعالى :{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}. ناسخة ، لقوله تعالى :{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّه ...} قال ابن عباس : نسخت الوسوسة وثبت القول والعمل .
ومنها ما ذكره ابْنُ جَرِير الطبري : في ما روي عن سَالِمٍ: أنّ أباه قرأ : (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّه) فدمعت عيناه،فبلغ صنيعه ابن عباس،فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن،لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت،فنسختها الآية التي بعدها : {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}.
وهكذا روي عن علي ،وابن مسعود،وكعب الأحبار،والشعبي،والنخعي،ومحمد بن كعب القرظي ،وعكرمة،وسعيد بن جبير ،وقتادة :( أنها منسوخة بالتي بعدها فنسخت الوسوسة و أثبتت القول والعمل )ذكره ابن كثير وابن عطية .
ويرد هذا القول من يرى من العلماء أنها محكمة وغير منسوخة ،من رواية لابن عباس والحسن البصري والربيع ،ورجح هذا القول الطبري ،وذكر أنه أولى الأقوال ،والزجاج وابن عطية رحمهم الله تعالى .

واحتج لهذا القول بالحجج التالية :
أولاً: إن الآية من باب الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ ، وإنما النسخ في الأمر والنهي .
ثانياً : علل "ابن رجب" قول ابن عباس بالنسخ (أنه يراد به البيان وأنّ الآية التي بعدها أزالت الإبهام الحاصل في الآية الأولى وبينت المراد منه ،وأن مثل هذا البيان كان السلف يسمونه نسخا) جرياً على تسمية ضبْط المصطلحات الأصولية
،وهو كثير في عبارات المتقدمين .
ثالثاً: أخبر سبحانه وبحمده في الآية ،أنه يحاسبهم على ما يبدون ويكتمون،ولا يلزم من المحاسبة العقاب،فقد يحاسب فيغفر, وقد يحاسب فيعذب .
وقيل : المحاسبة تكون يوم القيامة بأن يقرر العبد المؤمن بذنوبه ثم يغفر له ، ليعرفهم تفضله عليهم بعفوه لهم عنها ، والكافر يعذب على ذنوبه ، جاء في حديث ابن عمر،رواه ابن جرير عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يدنو المؤمن من ربه عزّ وجلّ حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول له: هل تعرف كذا؟ فيقول: رب أعرف مرتين، حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، قال: فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد { هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } " ذكره ابن عطية عن ابن عباس ومجاهد .
وقيل : المحاسبة تكون في الدنيا ، بما يصيبه من النكبة والبلاء والمصائب ، والحمى ، وما يحزن العبد ، جاء ذلك عن عائشة رضي الله عنها في الحديث الذي رواه الطبري عن طريق حماد بن سلمه ،عن علي بن زيد , عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية : { إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } { ومن يعمل سوءا يجز به } فقالت : ما سألني عنها أحد مذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : " يا عائشة , هذه متابعة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة , حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع لها , فيجدها في ضبنه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير "
رابعاً: بعد أن أثنى الله عليهم عظيم الثناء في الآية التي بعدها وصدقهم فيما حصل منهم من إيمان وإذعان واستسلام لأمره، قال عز من قائل :{لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ..} حيث بين لهم ما أراده في الآية الأولى ونص على حكمه فيها بأنه:{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } والخواطر والوسوسة ليست في وسع العبد ليمنعها ولا من كسبه فهي تهجم على القلب ، وتغلب عليه . وجاء في السنة الصحيحة ما يدل على عدم المحاسبة على حديث النفس من الخواطر
وهوما رواه الجماعة في كتبهم الستة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل ".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" قال الله إذا همَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشراً "
أما الوسوسة للمؤمن فهي صريح الإيمان . فقد روي عن أبي هريرة قال:
" جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: " وقد وجدتموه؟ " قالوا: نعم، قال: " ذاك صريح الإيمان ". رواه مسلم
وعن عبدالله قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال:" تلك صريح الإيمان ". رواه مسلم .
وبعد أن أذعن الصحابة لكلام ربهم ، وتلهج ألسنتهم {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ*} مدحهم الله وأثنى عليهم فقال :{*آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ*} فجمع لهم بين التشريف والمدح،والتخفيف ورفع المشقة،في أمر الخواطر وحديث النفس،وهذه ثمرة الطاعة والاستجابة لأمر الله،وهذا الذي ينبغي للمسلم أن يفعله في كلّ أمر من أمور دينه أن يوكل أمره إلى الله،ويجتهد في أدائه،فالله عز وجل يكفيه ما أهمه، ويدهشه بجميل عطاياه وفيض كرمه جزاء طاعته لأوامر الله تعالى .
ففي هذه الآية أثنى الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه رضي الله عنهم ، فوصفهم بالإيمان بالله الواحد الخالق إيمانا صادقاً لا ريب فيه خالق الخلق ومدبر الأمر لا شريك له ، والإيمان بملائكته جملة وتفصيلا،عباد مكرمون ، لا يسبقونه بالقول ، ويفعلون ما يؤمرون، ويؤمنون بكتبه التى أنزلها هدى للعالمين،وبرسله الذين أرسلهم لعباده ليخرجوهم من الظلمات إلى النور،رسلاً مبشرين ومنذرين،فأدوا الأمانة وبلغوا الرسالة،وكذلك التصديق بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ،وما ورد في القرآن الكريم من أحوال اليوم الآخر،وكذلك الرضا بالقضاء والقدر خيره وشره ,وعدم الاعتراض بشيء على أقدار الله تعالى،وهذا الوصف يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه, ويدل على ذلك لفظ العموم ( كل آمن ) ،فهم صدقوا بقلوبهم وامتثلوا بأفعالهم ودللوا على ذلك بحسن قولهم ( سمعنا وأطعنا ) أي سمعنا قولك ربنا وفهمناه ,وامتثلناه بالعمل فاستحقوا بذلك أعظم ثناء وأعظم تشريف من الله عز وجل لهم , ثم بعد ذلك طلبوا من الله أن يتجاوز عن تقصيرهم في العمل التقصير الذي هو من طبيعة البشر وخارج عن إرادتهم وقالوا
{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي مرجعنا ومآبنا إليك وحدك, دل عليه أسلوب الحصر من تقديم الجار والمجرور وفي هذا غاية الذل لله تعالى ,فاستحقوا بذلك أن يكافئهم الله تعالى فبشرهم بأجمل بشارة لهم ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم من بعدهم وذلك ما ذكره ابن كثير من حديث رواه ابْنُ جَرِيرٍ الطبري عَنْ حَكِيمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} قَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ، فَسَلْ تُعْطه. فَسَأَلَ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ أي لا يكلف الله أحدا فوق طاقته وبهذا يكون رفع الحرج والمشقة عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لطفا وكرما من الله عز وجل بعد أن خشوا من ذلك بعد نزول الآية السابقة، والتكليف بما ليس في الوسع والطاقة مرفوع عن كل المكلفين وفي جميع الأديان ,ويدل على ذلك وقوع كلمة ( نفسا) للعموم في سياق النفي فالله عز وجل له الحكمة البالغة فما شرع الشرائع إلا ليصلح أحوال الخلق وليس الغرض تعذيبهم أو تعجيزهم ويدل عليه قوله تعالى :{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } البقرة ،وقوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } الحج وقوله: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }التغابن .
وهناك قاعدة فقهيه ( المشقة تجلب التيسير ) وقد يسر الله على المسافر رخص عدة لما في السفر من مشقة كالجمع والقصر للصلاة والفطر في نهار رمضان ,كذلك المسح على الخفين لمدة ثلاثة أيام وغيرها, كثير من أحكام الشريعة الميسرة وأما ما وجد من تكليف شاق كقتال الواحد من المسلمين لقتال العشرة من الكفار فهذا خاص أول الإسلام لقلة المسلمين ,واتفق المفسرين على عدم وقوع التكليف في الأحكام الشرعية بدليل هذه الآية , وخالف بعض أهل الكلام ك أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين في وقوع تكليف ما لا يطاق في الأحكام الدنيوية وزعموا جواز ذلك عقلا وذكروا أن ذلك دلالة على تعذيب المكلف كحديث ( ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ فيها ) رواه البخاري.
وأما اختلافهم في وقوعه في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم واحتجاجهم بقصة أبي لهب وإخبار الله عنه بأنه سيصلى نار ذات لهب ثم تكليفه بالإيمان فهذا اختلاف باطل لا ينظر إليه لإن ذلك دليل على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيموت كافرا ,ولن يؤمن فيستحق العقاب الذي ذكره الله عز وجل .
ثمّ بين لهم أن العبد مُحاسب على ما كسب من الحسنات واكتسب من السيئات ، فقال {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ} وجاءت العبارة في الحسنات (لها) لأن الحسنات مما يفرح الإنسان بكسبه ويسرّ به فتضاف إلى ملكه ، وجاءت في السيئات ( عليها) لأنها أوزار وأثقال يتحملها العبدوتكتب عليه.
وجاء لفظ الكسب مع الحسنات ، لأن الحسنات كسب دون تكلف ، إذ كانت على الأمر الشرعي ، والسيئات جاءت بلفظ بناء المبالغة ( اكتسبت) لأن كسبها فيه تكلف ومشقة لأنها تعدي على حدود الأمر الشرعي ، وخرق له .
وقال بعض المفسرين في معناها أنه لا يؤخذ يوم القيامة أحدٌ بذنب أحد .
وكان من ثمرة الاستجابة لإمر الله ورسوله أن أرشد عباده ، إلى سؤاله، وقد تكفل لهم بالإجابة، فقال أي قولوا {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا}
واختلف في المراد بالنسيان والخطأ في هذه الآية، قيل : بمعنى الترك أي ترك الطاعة و الخطأ المقصود ، أما النسيان الذي يغلب على المرء ، والخطأ الذي عن اجتهاد موضوع عنه، فليس بمأمور بالدعاء بأن لا يؤاخذ به ، ذهب لهذا الطبري وغيره.
وقيل : المراد النسيان الغالب والخطأ غير المقصود ، ذهب لهذا القول كثير من العلماء ورجحه ابن عطيه رحمه الله ثم ذكر قول قتادة في تفسير الآية فقال "بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطأها. وقال السدي نزلت هذه الآية فقالوها؛ قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: قد فعل الله ذلك يا محمد
قال ابن عطية : فظاهر قوليهما ما صححته، وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى: (يحاسبكم به الله) أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه، وذلك في النسيان والخطأ.
وقوله {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} أي لا تكلفنا من الأعمال ما يشق عليناكما كلفت الأمم السابقة من الأغلال والآصار التي كانت عليهم وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: نَعَمْ".
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ".رواه مسلم .
قوله :{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}
من ضمن الأدعية التي علمنا إياها الله عز وجل أن نسأل الله العافية من المشقة في التكاليف والمصائب التي فيها ابتلاء عظيم لا يستطيعه الإنسان وفي الحديث السابق "قَالَ اللَّهُ: نَعَمْ" وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ".
واختلف العلماء في جواز تكليف مالا يطاق:
أولا : تكليف مالا يطاق في الشرع،فاتفقوا على عدم وقوعه في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الآية {لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}تدل عليه.ذكره ابن عطية.
ثانياً :تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا ، فاختلفوا فيه
1- فقال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً ولا يخرم ذلك شيئاً من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف واستدل عليه بتكليف المصور أن يعقد شعيرة حسب الحديث .والرد عليهم :لا دليل فيه لأنّ هذا في أمور الآخرة . ذكره الطاهر بن عاشور
واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا ؟
قالت فرقة : وقع في نازلة أبي لهب ، فقد حكم عليه بصلي النار، وهذا يدل على أنه لا يؤمن ، وهو مكلف بالإيمان ومخاطب بالشرع ، فيكون كلف بأن يؤمن أنه لن يؤمن ، لأنه بإيمانه سوف يؤمن بسورة المسد .
وقالت فرقة: لم يقع قط ، وقوله تعالى : ( سيصلى نارا ) أي إذا ختم له بالكفر .
كما استدل القائلون بجواز وقوعه بقوله تعالى : {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرا} فمعنى الإصر : الثقل وما لا يطاق على أتم أنواعه، وهذه الآية على هذا القول تقضي بجواز تكليف ما لا يطاق، ولذلك أمر المؤمنون بالدعاء في أن لا يقع هذا الجائز الصعب.
ولرد حجتهم ذكر ابن عطية أقسام ما لا يطاق فقال : وما لا يطاق ينقسم أقساماً: فمنه المحال عقلاً
كالجمع بين الضدين، ومنه المحال عادة، كرفع الإنسان جبلاً، ومنه ما لا يطاق من حيث هو مهلك
كالاحتراق بالنار ونحوه، ومنه ما لا يطاق للاشتغال بغيره، وهذا إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير.

والنوع الأخير هو المراد من الآية ، فمعنى ما لا طاقة للمرء به تجوزا كما تقول لا طاقة لي على خصومة فلان ، تستصعب ذلك ،وإن كنت في الحقيقة تطيقه ، أو (ما لا طاقة لنا به) من حيث أنه مهلك لنا كعذاب جهنم وغيره.
وذهب لعدم جواز تكليف مالا يطاق ابن جرير و الزجاج ،فالنسيان عندهم المتروك من الطاعات. والخطأ هو المقصود من العصيان، والإصر هي العبادات الثقيلة كتكاليف بني إسرائيل من قتل أنفسهم وقرض أبدانهم ومعاقباتهم على معاصيهم في أبدانهم حسبما كان يكتب على أبوابهم وتحميلهم ،العهود الصعبة. وما لا طاقة للمرء به هو عندهم على تجوز.
ثم تضرعوا بهذه الدعوات التامات ، {وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ }
{وَاعْفُ عَنَّا}أي طلب العفو في الذنوب التي بيننا وبينك سواء كان تقصيرا في العمل أو خللا في الأداء.
(وَاغْفِرْ لَنَا} أَيْ: في الذنوب التي بيننا وبين العباد فلا تفضحنا بما فعلنا من الذنوب واسترنا في الدنيا والآخرة .
{وَارْحَمْنَا} أي : أعصمنا برحمتك من الوقوع في ذنب آخر في المستقبل,وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّ الْمُذْنِبَ مُحْتَاجٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَنْ يَسْتُرَهُ عَنْ عِبَادِهِ فَلَا يَفْضَحُهُ بِهِ بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَعْصِمَهُ فَلَا يُوقِعُهُ فِي نَظِيرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: نَعَمْ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ".
وقَوْلُهُ: {أَنْتَ مَوْلانَا} علمنا الله عز وجل أن نثني عليه في الدعاء ونتقرب إليه بمدحه فهو أحرى بالقبول كما في هذا الموضع أي أنت مولانا فلا مولى لنا نستعين به ونتوكل عليه إلا أنت .
وقوله {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أَيِ: أظهر ديننا على دين الكفار الذين أشركوا بك وعبدوا معك غيرك واجعل عاقبة الأمور لنا في الدنيا والآخرة , وختم به لإن النصر على الكفار والجهاد أساس قوام الدين وهو ذروة سنامه , ولإنه إذا تسلط أهل الكفر تعطلت كثير من أمور الدين ,ولم يتمكن المسلمين من إظهارها أو الدعوة إليها وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: نَعَمْ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ".
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما أظن أحداً عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما.
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه إذا قرأ هذه الآيات قال آمين .
وهذه الآيتين لها فضل عظيم كما دلت عليه نصوص السنة فروي عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاه" رواه البخاري في صحيحة
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي" رواه الإمام أحمد في مسنده
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يخلق السموات وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلَا يُقْرَأْنَ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ".قال عنه الترمذي صحيح على شرح مسلم ولم يخرجه .
وروى سَعِيدِ بْنِ جُبير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده جِبْرِيلُ؛ إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَوْقَهُ، فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِح قَط. قَالَ: فنزل منه مَلَك، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتُهُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ،) .ذكره ابن كثير.

فحري بنا أن نقتدي بسلفنا الصالح في كل صغيرة وكبيرة، ونحافظ على قراءة هاتين الآيتين على الأقل ثلاث مرات في اليوم والليلة ففيها والله الربح العظيم فيما يخص أمر الدنيا والآخرة فقد وعدنا الله بالإجابة ولكن المحروم من حرم الخير بذنبه, وغفل قلبه وأعرض عن أمر ربه، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ،فالحمد لله الذي وسع كلّ شيء علما،وأحاطت قدرته بكل شيء عددا، وسع سمعه السر و أخفى، يرى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء ، شرع الدين لعباده وجعله سمحاً سهلا ، ورفع عنهم الحرج والمشقة ، وعفى عن النسيان والخطأ ، علمهم دعائه ووعدهم بجزيل العطاء
فاللهمّ وفقنا لصدّق الدعاء وعِظم اليقين ،واجعلنا من المقتفين لنهج سيد المرسلين ،وآتنا ما وعدتنا على رسلك, وأنت أكرم الأكرمين .
وصلى الله وسلم على خير عباده الهادي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين .

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 17 محرم 1439هـ/7-10-2017م, 10:33 PM
هبة الديب هبة الديب غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 1,274
افتراضي رسالة في آيات الرّبا بأسلوب التقرير العلمي:( فاطمة الزهراء - هبة )


يقول تعالى في محكم التنزيل:
{
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءه مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات وأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}(275ـ281).

* * *

المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه.
أما بعد:
فإن الرّبا من السّبع الموبقات التي حذّر الله تعالى منها في كتابه العزيز فقال : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)}
وقال عليه الصلاة والسلام :"اجتنبوا السّبع الموبقات - يعني المهلكات - قلنا: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)كما جاء في الصحيحين .

وبيان حكم الرّبا والتحذير منها وبيان عاقبة آكلها أمر مهم للأمة جمعاء ، وذلك لأسباب منها تفشي الرّبا في هذا الزّمان ،فقلما يسلم بيت منها إلا من أحاطت به عناية الله وحفظه ،و كان محتاطا ورعا في كسبه ،وقد ورد في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بين يدي الساعة يظهر الربا))
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليأتينّ على النّاس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام)) .

وهذه الأحاديث تنطبق على كثير من المسلمين في هذا الزمان فلا يبالي أحدهم أأكل من حلال أو حرام 
، و كذلك كثر المشككين في حرمته ،ونشرهم لهذه الحجج الباطلة بين المسلمين ،واستغلالهم لجهل العامة بهذا الحكم ، فوجب دحض حججهم وبيان الحق وتبليغه للعامّة، وغالبا ما كانت العرب تفعل الرّبا من قولها للغريم أتقضي أم تربي؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه،وعندما جاء الاسلام حرم هذا الأمر وحذّر منه أشدّ التّحذير وأرشد إلى التوبة منه .

وعن هذا الأمر في سياق سورة البقرة سيدور محور حديثنا بيانا لخطورته وتفصيلا لبعض أحكامه .

في قوله تعالى :{وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ۗ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} إلى قوله تعالى:{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}بيّن الله تعالى في الآيات الكريمة الوسيلة لحفظ مال الأمة بنظام دقيق متنوع بتوزيع فضل أموال أغنيائهم وردّها على فقرائهم من خلال فرض الزكاة وندب الصدقات ،حاثّا على هذا الفعل مرغّبا بثوابه ، ثم دعا في المقابل لإبطال وسيلة لابتزاز أموال المحتاجين من قبل أغنيائهم من شأنها أن تدمّر أواصر المجتمع وتنشر العداوة والبغضاء بينهم وهي التعامل بالربا، فبيّن محذّرا من مآل من يسلك هذا الطّريق فقال: {الّذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشّيطان من المسّ} ،وبيّن شبهاتهم فقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، وفيما يأتي مزيد بيان .


يقول جلّ وعلا : {الّذين يأكلون الرّبا} نزلت هذه الآية في الكفّار المربين ، ينذرهم الله تعالى بمصيرهم إن لم يتوبوا،ولاتزال الأمة إلى يومنا هذا على مثل ما كان عليه أهل الجاهلية من أكلهم الربا ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالخطاب لكل من يفعل ذلك وإن كان من المسلمين .
وجاء التعبير عن كسب الربا وفعله بلفظة الأكل ،فالأكل يطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص ، قال ابن عطية :"وقصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال، ولأنها دالة على الجشع، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في قوله: {الّذين يأكلون}" اهـ.
ولفظة الأكل لا تطلق فقط على المراد بأكل الباطل كما في قوله تعالى :{الذين يأكلون أموال اليتامى }[النساء:10] ، وإن اشتهر هذا اللفظ عرفا بين النّاس بهذا المراد ، لكنّ الله تعالى ذكره أيضا في موطن الأكل المباح كما في سورة النساء:{فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا }[النساء:4] .

ثمّ يذكر تعالى صورة مؤلمة لحال آكل الّربا فيقول:{لا يقومون إلا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشّيطان من المسّ} يعني بذلك القيام قيام البعث من القبور يوم القيامة ؛قاله ابن عبّاس ومجاهد وابن جبير وقتادة والرّبيع والضّحاك وابن زيد ذكر ذلك ابن كثير وابن عطية رحمهما الله في تفسيرهما .

{يتخبّطه الشيطان من المسّ} يتخبّطه من خبط يخبط، أي ضربه ضربا شديدا، كما تقول: تملكه وتعبده وتحمله ، والمسّ الجنون ،حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، يعني: من الجنون.. )ذكره ابن جرير في تفسيره،والمعنى أنّ آكل الرّبا يقوم يوم القيامة من قبره كالمصروع حال صرعه ؛وتخبّط الشيطان له ،فأصبح علما له في ذلك الموقف، حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: " الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ". الآية، قال: (يبعث آكل الربا يوم القيامة مَجْنونًا يُخنق).وروي عن عوف بن مالكٍ،والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ، ومقاتل بن حيّان، نحو ذلك ، وقيل أنّه يبعث معه شيطان يخنقه.

هذه الصورة ذكر ابن عاشور لها احتمالين: إمّا أن يكون القيام هنا حقيقي ، فقيامهم حينئذ كقيام الذي يتخبّطه الشيطان ، وعليه يكون وعيد لهم من وقت قيامهم من قبورهم لحين دخولهم النار والعياذ بالله .
والاحتمال الآخر أن يكون القيامَ مجازيّا؛ وعليه فالمعنى : دلالة على حرصهم ونشاطهم في معاملات الربّا كقيام المجنون تشنيعاً لجشعهم ، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب النّاس من استقامة حالهم ، ووفرة مالهم ، وقوة تجارتهم ، بما يظهر من حال الّذي يتخبّطه الشيطان حتى تخاله قوياً سريع الحركة ، مع أنّه لا يملك لنفسه شيئاً ، وهو قول ابن عطية. وعليه المعنى للتشنيع ، أو للتوعّد بسوء الحال في الدنيا ولُقِّيَ المتَاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة .
ويكفي هذا الوعيد رادعا لمن يؤمن بالله واليوم الآخر.

وقوله تعالى:{ذَلِكَ} أي الجزاء الذي حلّ بهم هو بسبب { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وقولهم هذا فيه ردّ على شرع الله واعتراض على أحكامه.
وحتى نتبين صورة هذا القول لابد من معرفة حقيقة كلا من البيع والربا ومعنى قياس أحدهما على الآخر.

البيع مصدر باع ؛أي دفع عوضا وأخذ معوضا ، وأركانه أربعة : البائع: وهو المالك أو من ينزل منزلته، والمبتاع: الذي يبذل الثمن، والمثمن: المبيع الذي يبذل في مقابلته الثمن ، ويكون بالقبول والإيجاب بلفظ صريح أو كناية.

وأمّا الرّبا: فهو الزيادة وهو مأخوذ من ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان، وله أبواب عديدة كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن عليٍّ الصّيرفيّ، حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن شعبة، عن زبيدٍ، عن إبراهيم، عن مسروقٍ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الرّبا ثلاثةٌ وسبعون بابًا «، وأبوابه كثيرا ما تشكل على كثير من أهل العلم ،حتى أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:«ثلاثٌ وددت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عهد إلينا فيهنّ عهدًا ننتهي إليه: الجدّ، والكلالة، وأبوابٌ من أبواب الرّبا».
ومن أوضح أنواعه هو التفاضل في النوع الواحد لأنه زيادة، والزيادة إما في عين المال أو في منفعة لأحد الطرفين من تأخير ونحوه، ونجد ذلك في أكثر البيوع الممنوعة، ومن البيوع الممنوعة ما ليس فيه معنى الزيادة ، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة ، وقد روى الأئمة واللفظ لمسلم حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء ". وفي حديث عبادة بن الصامت :( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد )، وللعلماء في هذه الأصناف مسائل وأحكام متنوعة ومتفرعة ، ذكر ذلك القرطبي وبيّن أنّ معرفة ذلك وربطه بالنّظر إلى ما اعتبره كل واحد من العلماء في علة الرّبا.


وقولهم {إنما البيع مثل الربا} ذكر القرطبي معنى قولهم هذا في أنّ الزيادة عند حلول الأجل آخرا كمثل أصل الثمن في أول العقد ، وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك ، فكانت إذا حل دينها قالت للغريم : إما أن تقضي وإما أن تربي ،أي تزيد في الدين.

قال ابن عاشور إنما أرادوا البيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته برأس ماله.

وقال:[واعلم أنّ مبنى شبهة القائلين { إنما البيع مثل الربوا } أنّ التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض ، ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجّل ، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلاً على أنّه يرجعها له أحد عشر درهماً ، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد ماله لمن يستسلفه؛ لأنّ المقرض تصدّى لإقراضه وأعدّ ماله لأجله ، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله .]اهـ

والسؤال الذي يطرح نفسه سبب قياس البيع على الربا.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :[وليس هذا قياسًا منهم للرّبا على البيع؛ لأنّ المشركين لا يعترفون بمشروعيّة أصل البيع الّذي شرعه اللّه في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنّما الرّبا مثل البيع، وإنّما قالوا: {إنّما البيع مثل الرّبا} أي: هو نظيره، فلم حرّم هذا وأبيح هذا؟ ] اهـ


{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} يحتمل أن يكون هذا القول تابع لقولهم ، ويُحتمل أن يكون من تمام الكلام والردّ على شبهتهم هذه فردّ تعالى قولهم بقوله الحقّ ،لأنّه تعالى الحكيم لا يُشرّع أمرا إلا ما فيه خير لعباده . وهو ما اختاره القرطبي وابن عطية وابن عاشور.

وللعلماء في قوله تعالى :{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا }قولان ذكرهما ابن عطية:أنّه من عموم القرآن وكل ما عارضه تخصيص له، وقد رجّح هذا القول.
والقول الآخر أنّه مجمل بيّن تعالى فيه حلال البيع من حرامه، قال القرطبي:"العموم يدل على إباحة البيوع في الجملة، والتفصيل ما لم يخص بدليل . والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان . والأول أصح"اهـ.

والربا لا يجوز بحال وعقده مفسوخ ،ومما دلّ على ذلك ما رواه الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال : جاء بلال بتمر برني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أين هذا ) ؟ فقال بلال : من تمر كان عندنا رديء ، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به وفي رواية ( هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا ) . وأوه الربا أي هو الربا المحرم نفسه لا ما يشبهه ، وقوله : ( فردوه ) دليل على وجوب فسخ صفقة الربا وأنها لا تصح بوجه ، وهو قول الجمهور ذكر ذلك القرطبي.

ولتحريم الربا أسباب منها :
منه أنّ فيه أخذ مال الغير بغير عوض ، ومنع الناس من اقتحام مشاقّ الاشتغال في الاكتساب؛ لأنّه إذا تعوّد صاحب المال أخذ الربا خفّ عنه اكتساب المعيشة ، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق لأنّ مصلحة العالم لا تنتظم إلاّ بالتجارة والصناعة والعمارة ، ومنها الإفضاء إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض ،ومنه أنّ الغالب في المقرِض أن يكون غنياً ، وفي المستقرض أن يكون فقيراً ، فلو أبيح الربا لتمكّن الغني من أخذ مال الضعيف كما في قوله تعالى
: { يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة }[ال عمران]



ثمّ فرّع تعالى على الوعيد السابق بقوله :{فمن جاءه موعظةٌ من ربّه فانتهى} ، ويجوز في العربية تذكير وتأتيث المؤنث الغير حقيقي فكلمة موعظة مؤنثة تأنيثا لفظيا فيجوز أن نقول : جاءه موعظة وجاءته موعظة كما في قوله تعالى:{قد جاءتكم موعظة من ربّكم}.
أي فمن علم حكم الله في الربا وبلغه هذا التهديد فانتهى حال وصول الأمر إليه {فله ما سلف} ما تقدم ومضى من المعاملة ، وجاء عن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكّة: «وكلّ ربًا في الجاهليّة موضوعٌ تحت قدمي هاتين، وأوّل ربًا أضع ربا العبّاس» ولم يأمرهم بردّ الزّيادات المأخوذة في حال الجاهليّة، بل عفا عما سلف، قال سعيد بن جبيرٍ والسّدّيّ: «{فله ما سلف}فإنّه ما كان أكل من الرّبا قبل التّحريم».
قال ابن عاشور أنّ المراد بالسّلف هنا أي ما سلف قبْضُه من مال الربا لا ما سلف عقده ولم يُقبض ، بدليل قوله تعالى:{ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } [ البقرة : 279 ] .

{وأمره إلى اللّه} أربع احتمالات في مرجع الضمير ذكرها ابن عطية :

أحدها :أن الضمير يعود الربا ومعنى ذلك: وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك.
الثاني: أن يكون الضمير عائدا على ما سلف، والمعنى:أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعية فيه.
الثالث: أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا بمعنى أنّ أمره إلى الله في أن يثيبه على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا.
والرابع : أن يكون الضمير عائدا على المنتهي ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير. كما تقول وأمره إلى طاعة وخير وموضع رجاء، والأمر هاهنا ليس خاصّا في الربا بل يشمل جملة أموره.

واستنبط أهل العلم من الأثر الذي أورده ابن أبي حاتم حيث قال: قرئ على محمّد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني جرير بن حازمٍ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن أمّ يونس -يعني امرأته العالية بنت أيفع -أنّ عائشة زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قالت لها أمّ محبّة أمّ ولدٍ لزيد بن أرقم-:
«يا أمّ المؤمنين، أتعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم. قالت: فإنّي بعته عبدًا إلى العطاء بثمانمائةٍ، فاحتاج إلى ثمنه، فاشتريته قبل محلّ الأجل بستّمائةٍ. فقالت: بئس ما شريت! وبئس ما اشتريت! أبلغي زيدًا أنّه قد أبطل جهاده مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن لم يتب قالت: فقلت: أرأيت إن تركت المائتين وأخذت السّتّمائة؟ قالت: نعم، {فمن جاءه موعظةٌ من ربّه فانتهى فله ما سلف}». تحريم مسألة العينة .


{ومن عاد}لما حرّم الله من فعل الربا واستحلاله لها بعدما بيّن حكمه {فأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} فالكافر له الخلود الحقيقي في النّار والعياذ بالله وأمّا عصاة المسلمين من أصحاب الكبائر فالخلود في النار ليس على المعنى الحقيقي فخلوده خلود مستعار لأن أصحاب الكبائر تحت المشيئة ؛إن شاء تعالى عذّبهم بعدله وإن شاء عفا عنهم بكرمه .

{يمحق اللّه الرّبا ويربي الصّدقات واللّه لا يحبّ كلّ كفّارٍ أثيمٍ (276)}
ثمّ يخبر تعالى عن مصير هذا المال الخبيث فيقول تعالى:{ يمحق الله الربا} ،يمحق : أي ينقصه ويذهبه ومنه يقال محاق القمر أي انتقاصه، وهنا خبر منه تعالى لمصير هذا المال فيحرم صاحبه بركته وقد يذهبه منه بالكلية فلا ينتفع به صاحبه في الدنيا والآخرة ،كما روى ابن جرير زالإمام أحمد في مسنده عن عبد اللّه بن مسعودٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، أنّه قال: «الرّبا وإن كثر فإلى قلّ»، بل ويكون وبال عليه كما قال تعالى:{ويجعل الخبيث بعضه على بعضٍ فيركمه جميعًا فيجعله في جهنّم}[الأنفال: 37]، وهو من باب المعاملة بنقيض المقصود، ومثّل ابن كثير لذلك بما روي عن الإمام أحمد؛حيث قال: حدّثنا أبو سعيدٍ مولى بني هاشمٍ، حدّثنا الهيثم بن رافعٍ الطّاطريّ، حدّثني أبو يحيى -رجلٌ من أهل مكّة -عن فرّوخٍّ مولى عثمان: «أنّ عمر -وهو يومئذٍ أمير المؤمنين -خرج إلى المسجد، فرأى طعامًا منثورًا. فقال: ما هذا الطّعام؟ فقالوا: طعامٌ جلب إلينا. قال: بارك اللّه فيه وفيمن جلبه. قيل: يا أمير المؤمنين، إنّه قد احتكر. قال: ومن احتكره؟ قالوا: فرّوخٌ مولى عثمان، وفلانٌ مولى عمر. فأرسل إليهما فدعاهما فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا يا أمير المؤمنين، نشتري بأموالنا ونبيع!! فقال عمر: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه اللّه بالإفلاس أو بجذامٍ ». فقال فرّوخٌ عند ذلك: أعاهد اللّه وأعاهدك ألّا أعود في طعامٍ أبدًا. وأمّا مولى عمر فقال: إنّما نشتري بأموالنا ونبيع. قال أبو يحيى: فلقد رأيت مولى عمر مجذومًا.


ولمّا بيّن خسارة المرابي عطف بذكر الزيادة والنماء للمتصدق فقال تعالى:
{ويربي الصّدقات}. قرأت بضم الياء والتخفيف وأيضا بضم الياء والتشديد (يربّي)، فالأولى من ربا الشيء يربوه :كثّره ونمّاه، قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [سورة البقرة: 245]والقراءة الثانية بالتشديد من التربية ويقوي ذلك ما جاء في البخاري : حدّثنا عبد اللّه بن منيرٍ، سمع أبا النّضر، حدّثنا عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن دينارٍ، عن أبيه، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من تصدق بعدل تمرة من كسبٍ طيّبٍ، ولا يقبل اللّه إلّا الطّيب، وإنّ اللّه ليقبلها بيمينه، ثمّ يربّيها لصاحبه كما يربّي أحدكم فلوّه، حتّى يكون مثل الجبل».


ولما كان المرابي لا يرضى بقسم الله من الحلال ونفسه تدعوه للشهوات فيسعى لإرضائها ولو كان بكسب خبيث وآكل لأموال الناس بالباطل ناسب أن يختم تعالى هذا السياق بقوله
{واللّه لا يحبّ كلّ كفّارٍ أثيمٍ} أي: لا يحبّ كفور القلب أثيم القول والفعل.


وكما هو عادة القرآن بذكر الأضداد ،أعقب بذكر فضل الإيمان والعمل الصالح وجزاؤه، فقال:{إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وأقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} فمدح الله تعالى أهل الإيمان العاملين بأمره، المؤدّين لشكره، فأخبر عمّا أعدّ لهم من الكرامة، وأنّ لهم الأمن يوم القيامة ، ولأن الصلاة أجل أعمال الأبدان والزكاة أجل أعمال المال كان لتخصيصهما شرف بالذكر مع كون دخولهما في عموم الأعمال الصالحة .

ولا زالت الآيات تتابع في سياق التحذير والنهي عن الربا، ثمّ قال تعالى :{يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من اللّه ورسوله}
كان لهذه الآية سبب نزول ذكرها ابن كثير رحمه الله تعالى فقال: ذكر زيد بن أسلم، وابن جريج، ومقاتل بن حيّان، والسّدّيّ: «أنّ هذا السّياق نزل في بني عمرو بن عميرٍ من ثقيفٍ، وبني المغيرة من بني مخزومٍ، كان بينهم ربًا في الجاهليّة، فلمّا جاء الإسلام ودخلوا فيه، طلبت ثقيفٌ أن تأخذه منهم، فتشاوروا وقالت بنو المغيرة: لا نؤدّي الرّبا في الإسلام فكتب في ذلك عتّاب بن أسيدٍ نائب مكّة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية فكتب بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليه: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من اللّه ورسوله} فقالوا: نتوب إلى اللّه، ونذر ما بقي من الرّبا، فتركوه كلّهم» ).

{يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه} ففي هذا النداء الجليل يأمر تعالى عباده بأمرين ابتدأهما بالتقوى، أي الوقاية من كل ما يجلب سخطه ويبعد عن مرضاته ،فإن تحقق هذا الشيء بداية انصاعت النفس لسائر الأوامر، ثم بيّن الأمر الثاني وهو ترك ما بقي للمرابين على النّاس من زيادة على رأس المال فقال تعالى: {وذروا ما بقي من الرّبا} وقد عفا تعالى عمّا كان قبل نزول الآية ، وقوله تعالى :{إن كنتم مؤمنين} وإنْ فيها قولان ذكرهما ابن عطية رحمه الله تعالى ؛ الأول أنها شرط محض في ثقيف يقول ابن عطية :" لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام وإذا قدرنا الآية فيمن تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه: إن كنت رجلا فافعل كذا" ، والقول الثاني:حكاه النقاش عن مقاتل بن سليمان :«إن في هذه الآية بمعنى إذ»، وهذا القول ردّه ابن عطية وقال إنّه غير معروف في اللغة .
{إن كنتم مؤمنين} بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا .


ولا زال السياق في بني عمرو بن عمير من ثقيف، فقد توعّد تعالى أكلة الربا إن لم ينتهوا عنها بحرب منه تعالى ومن رسوله وأمته{ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون }، فقال إن لم تتركوا ما نهيتم عنه {فأذنوا} قرأها ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر والكسائي ، وقرأت {فآذنوا} قرأها عاصم على رواية أبي بكر ،والفرق بين المعنيين في اللغة ذكرهما سيبويه فقال:(«آذنت أعلمت»، وأذنت ناديت وصوت بالإعلام قال: وبعض يجري آذنت مجرى أذنت) اهـ
فعلى القراءة الأولى يكوت المعنى فأيقنوا بحرب من الله ،ذكره ابن عبّاس وغيره من المفسرين ، والحرب داعية القتل .
ومعنى القراءة الثانية {آذنوا} أي: فأعلموا كل من لم يترك الربا أنّه حرب، ذكر ابن عطية قول أبو علي: («ومن قرأ «فآذنوا» فمد، فتقديره فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب، والمفعول محذوف، وقد ثبت هذا المفعول في قوله تعالى:{فقل آذنتكم على سواءٍ}[الأنبياء: 109]، وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة، قال: ففي إعلامهم علمهم، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم) اهــ

رجّح الطبري قراءة القصر لأنها تختص بهم، وقال إنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم، ورجّح أبو علي المدّ ، بينما رأى ابن عطية أنّ القراءتان سواء لحضور المخاطب في الآية فإن قيل لهم: «فأذنوا» فقد عمهم الأمر، وإن قيل لهم: «فآذنوا» بالمد فالمعنى أنفسكم وبعضكم بعضا، وقال: «كأن هذه القراءة تقتضي فسحا لهم في الارتياء والتثبيت أي فأعلموا نفوسكم هذا ثم انظروا في الأرجح لكم، ترك الربا أو الحرب» اهـ.
قال ابن عباس: «من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستنيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه»، وقال قتادة: «أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا».

وقد دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ، وبيّنت السنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا ومن لم يأكل الربا أصابه غباره"، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : "اجتنبوا السبع الموبقات . . . - وفيها - وآكل الربا "، وفي مصنف أبي داود عن ابن مسعود قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده .


ثمّ ذكر تعالى كيفية التوبة من أموال الربا فقال: {وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون} قال أبو جعفر : "تبتم أي تركتم أكل الربا وأنبتم إلى ربكم"، ورؤوس الأموال أصولها ؛من باب إطلاق الرأس على الأصل ،كما جاء في الحديث " رأس الأمر الإسلام " . وهذه الأموال المتعلقة في الديون التي لكم على النّاس وبترككم الزيادة التي أحدثتموها وفي هذا المعنى قال قتادة والضّحاك والسّدي.

قال ابن كثير أراد تعالى بقوله {لا تظلمون} أي: بأخذ الزّيادة {ولا تظلمون} أي: بوضعك رؤوس الأموال فلكم ما بذلتم من غير زيادةٍ عليه ولا نقصٍ منه، وفي ذلك ما رواه ابن أبي حاتم بسند عن سليمان بن الأحوص عن أبيه قال: خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حجّة الوداع فقال: «ألا إنّ كلّ ربًا كان في الجاهليّة موضوعٌ عنكم كلّه، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأوّل ربًا موضوعٍ ربا العبّاس بن عبد المطّلب، موضوعٌ كلّه» .
وكذلك قال ابن مردويه عن سليمان بن عمرٍو، عن أبيه قال: سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم يقول:
«ألا إنّ كلّ ربًا من ربا الجاهليّة موضوعٌ، فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون».

ويستنبط من هذه الآية كما ذكر ابن عاشور أنّ مجرد العقد الفاسد لا يوجب فوات التدارك إلاّ بعد القبض ،وتعتبر هذه الآية أصل عظيم في البيوع الفاسدة تقتضي نقضها ، وانتقالَ الضمان بالقبض ، والفواتَ بانتقال الملك ، والرجوع بها إلى رؤوس الأموال أو إلى القيم إن فاتت ، لأنّ القيمة بدل من رأس المال .

ولمّا كان حال الإعسار على الغريم واردا دعا تعالى للرفق والإمهال فقال عزّ وجلّ: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}، وإن كان: أي المدين الذي عليه الدين ذو عسرة أي ضيق حال من جهة المال ؛ {فنظرة إلى ميسرة} النظرة أي تأخير يقال بعته بيعا بنظرة.
وقُرأت بكسر الظاء وسكونها وأيضا ناظرة على وزن فاعلة ، والميسرة ضد العسر، وعليه فالمعنى الدعوة بالصّبر على المعسر الّذي لا يجد سدادا وليس كما كان فعل أهل الجاهلية بإلزام الدائن الذي حلّ عليه الدّين إمّا بالقضاء أو الربا.

وفي هذه الآية مسألة اختلف فيها أهل العلم على قولين ذكرهما ابن عطية: هل الحكم بالنظرة إلى الميسرة متوقف على أهل الربا أم عام في كل ذي دين؟ وهما :
- أنها في الربا خاصة وسائر الديون تؤدى إلى أهلها ؛ قاله ابن عبّاس وشريح، وقد علّق ابن عطية رحمه الله على هذا القول:"وكأن هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر والعدم الصريح، فالحكم هي النظرة ضرورة"اهـ
- القول الثاني أنّ حكم الآية عام وثابت في المعسر سواء كان الدين ربا أو من تجارة في ذمة أو من أمانة فسّر ذلك الضحاك وهو قول الجمهور.

ثمّ ندب تعالى إلى الوضع عنه،فقال: {وأن تصدّقوا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون} قال ابن كثير رحمه الله:"أي: وأن تتركوا رأس المال بالكلّيّة وتضعوه عن المدين" فقد وعد الله تعالى على ذلك الخير الجزيل، ومما جاء في السنة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم تحثّ على ذلك: عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «من أنظر معسرًا فله بكلّ يومٍ مثله صدقةٌ». قال: ثمّ سمعته يقول: «من أنظر معسرًا فله بكلّ يومٍ مثلاه صدقةٌ». قلت: سمعتك -يا رسول اللّه -تقول: «من أنظر معسرًا فله بكلّ يومٍ مثله صدقةٌ». ثمّ سمعتك تقول: «من أنظر معسرًا فله بكلّ يومٍ مثلاه صدقةٌ»؟! قال: «له بكلّ يومٍ مثله صدقةٌ قبل أن يحلّ الدّين، فإذا حلّ الدّين فأنظره، فله بكلّ يومٍ مثلاه صدقةٌ».
وذكر الحاكم في مستدركه،عن عبد اللّه بن سهل بن حنيفٍ، أنّ سهلًا حدّثه، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «من أعان مجاهدًا في سبيل اللّه أو غازيًا، أو غارمًا في عسرته، أو مكاتبًا في رقبته، أظلّه اللّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه» ثمّ قال: صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه

ذكر ابن عطية ما جاء في نسخ الآية، فأورد قول المهدوي: («وقال بعض العلماء هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين»، وأمّا مكي فحكى: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام»، ثمّ بيّن ابن عطية رحمه الله تعالى أنّه إن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ، وإلا فليس بنسخ)اهـ.
وختم تعالى هذه الآيات بالأمر بالتقوى من يوم الحساب الذي يلزم الترهيب منه الاستعداد له من خلال المعاملات التي بين ما أمر منها للاستكثار من الثواب وبين ما نهى عنه للسلامة في ذلك اليوم العصيب فقال تعالى :{واتّقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه ثمّ توفّى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.

وفي ختام رسالتنا نرجو أن نكون وفقنا لبيان حقيقة الربا وحكمها ومخاطرها على مرتكبها وعلى المجتمع بأسره ونتمنى أن يكون اتضح الجواب على الشبهات التي يوردها المنافقون والمعادون لشرع الله فقد حاولنا دحض شبههم بالدليل القاطع الذي لا شبهة فيه وخصوصا ونحن الآن في زمن الفتن، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم:" يأتي زمان على النّاس الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر ".

ففي هذا الزمان لم يعد المرء يعرف الصواب من الخطأ ولا الحق من الباطل ،وذلك لكثرة الداعين إلى الضلال ولَم يعد يقتصر الأمر على أهل الشرك فقط فهؤلاء أمرهم واضح بين ،لكن الخطر الأكبر أصبح ممن ينتسبون إلى ديننا ويطعنون فيه من الداخل ويحاولون هدم قواعده والتشكيك في ثوابته ، فوجب علينا بيان الحق والدعوة إليه والتحذير من سبل الشيطان وطرائقه ،لأن الأمة في أمس الحاجة إلى ذلك ،والقول الجامع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم في ذلك قوله:( دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ ) صححه الألباني.
وكما روي عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ ! إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ ، ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلا وَهِيَ الْقَلْب))رواه مسلم
أسأل الله تعالى أن يثبتنا جميعا على دينه وطاعته وأن ييسر لنا المأكل الحلال الطيب، ويجنبنا الحرام والسبل الموصلة إليه ،إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالين.



----------------------------
المراجع:
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ) تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات الإسلامية بدار هجر الدكتور عبد السند حسن يمامة الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2001 م

- معاني القرآن وإعرابه المؤلف: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج (المتوفى: 311هـ) المحقق: عبد الجليل عبده شلبي الناشر: عالم الكتب - بيروت الطبعة: الأولى 1408 هـ - 1988 م

- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المؤلف: أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي (المتوفى: 542هـ) المحقق: عبد السلام عبد الشافي محمد الناشر: دار الكتب العلمية بيروت الطبعة: الأولى - 1422 هـ

- الجامع لأحكام القرآن، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ) تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر: دار الكتب المصرية - القاهرة الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م.

- تفسير القرآن العظيم (ابن كثير) المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ) المحقق: محمد حسين شمس الدين الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت الطبعة: الأولى - 1419 هـ

- التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد» المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393هـ) الناشر: الدار التونسية للنشر - تونس سنة النشر: 1984 هـ.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 11:32 AM
نبيلة الصفدي نبيلة الصفدي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 508
افتراضي آيات الدين - أسلوب الاستنتاجي ( هناء هلال - نبيلة الصفدي)

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)

يمتاز التشريع الإسلامي بأنه مرن قابل للتطور ليناسب روح العصر ويستجيب لتغطية جميع حاجات المجتمع ، مما جعله صالحا لكل زمان ومكان مكتسبا صفة الخلود .
ومن الآيات التي وضع فيها الله سبحانه بعض التشريعات للمؤمنين لحفظ الحقوق والأموال آية الدَّين وهي أطول آية في كتاب الله ، وقد أورد ابن جرير عن سعيد بن المسيب :: «أنّه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدّين».
وأوضح سبحانه فيها كيفية التعامل في حالة التداين والتبايع وندب إلى الكتابة والإشهاد خوفا من النزاع والشقاق في المستقبل ، وحصول الخصومة والنزاع ، كما أوضح الشروط التي يجب توافرها في الكتّاب والشهداء والواجبات التي عليهم ، ثم عقّب بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب وجعل لها الرهن .
وسنورد بعض الفوائد المستوحاة من تفسيرها في النقاط التالية
1- الالتزام بما ورد في الآية من أحكام من مقتضى الإيمان ، ومخالفتها نقص فيه ، لقوله تعالى :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا "
2- الآية توضح اهتمام الإسلام بالمعاملات بين الناس كما يهتم بالعبادات .
3- جواز الدين والسَّلف بين الناس لقوله "إِذَا تَدَايَنْتُمْ"
4- رفض مجهلة الدَّين ، فلابد أن يكون له أجل مسمى ." أَجَلٍ مُسَمًّى"
5- كتابة الديون والإشهاد عليها من الوسائل التي تحفظ الحقوق لقوله "فَاكْتُبُوهُ " .
6- وجوب كتابة الدَّين المؤجل ، لقوله تعالى : "فاكتبوه" .
7- حضور كل من الدَّائن، والمَدين عند كتابة الدَّين؛ لقوله تعالى: " بَيْنَكُمْ "
8- يجب على الكاتب أن يكتب بالعدل ، لقوله "وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ".
9- على الكاتب ألا يمتنع عن الكتابة كما علمه الله ، لقوله "وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ " .
10- العلم فضل من الله سبحانه يستوجب الشكر عليه ، لقوله "كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ". ، وقوله " ويعلمكم الله " .
11- الذي له الحق في إملاء الدَّين هو المدين لا الدَّائن ، لقوله "وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ"
12- الواجب على الدَّائن والمدين تقوى الله وعدم انتقاص الحق ، لقوله تعالى : "وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا " .
13- إن كان المدين ممن لا يستطيع الإملاء لسفهه أو ضعفه أو صغره أو غيابه فيجوز أن يقوم مقامه وليه في الإملاء ، لقوله "فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ " .
14- عدم اتيان السفهاء الأموال وإنما رزقهم فيها
15- البينة تقوم بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين ممن عرفوا بالعدالة ، لقوله "وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ "
16- لابد في الشاهدين أن يكونا مرضيين عند المشهود له، والمشهود عليه " مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ".
17- قصر حفظ المرأة وإدراكها عن حفظ الرجل، وهذا باعتبار الجنس؛ فلا يرد على ذلك من نبوغ بعض النساء، وغفلة بعض الرجال.
18- جواز شهادة الإنسان فيما نسيه إذا ذُكِّر به، فذكر؛ لقوله تعالى: "أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى".
19- تحريم امتناع الشاهد إذا دُعي للشهادة؛ وهذا تحته أمران :
الأول: أن يُدعى لتحمل الشهادة ، وظاهر الآية الكريمة أنه فرض عين على من طلبت منه الشهادة بعينه؛ لأنه قد لا يتسنى لطالب الشهادة أن يشهد له من تُرضى شهادته.
الأمر الثاني: أن يُدعى لأداء الشهادة؛ فيجب عليه الاستجابة؛ لقوله "وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا". ولقوله تعالى: "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" ،
20- النهي عن السأم في كتابة الدين سواء كان الدين صغيراً أو كبيراً ، لقوله "وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ " .
21- لكتابة الدين فوائد ثلاث ذكرتها الآية : أنه أعدل عند الله لما فيه من حفظ الحق لمن هو له، أو عليه. ولأنه إذا كتب لم يحصل النسيان. وأنه أقرب لعدم الارتياب "ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا".
22- يجوز ترك كتابة ما يديره الناس بينهم لكثرة ما تقع المعاملة فيه ، لقوله "إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا " .
23- الأمر بالإشهاد عند التبايع ، لقوله تعالى : "وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ "
24- تحريم الإضرار بالكاتب بأن يدعى وهو مشغول ولا يمكنه ترك شغله إلا بضرر ، وكذلك الشهيد بأن يضر به مجيئه للشهادة ، لقوله "وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ " .
25- لا يجوز للكاتب أن يضار بأن لا يكتب ما يملى عليه ، ولا يضار الشهيد بأن يزيد أو ينقص من الشهادة ، وكذلك لا يجوز أن يمتنعا من الشهادة .
26- الإضرار بالكاتب أو الشهيد من الفسوق ، لقوله "وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ"
27- وجوب تقوى الله سبحانه في كل هذه الأحكام لقوله "وَاتَّقُوا اللَّه"
28- إثبات صفة العلم لله سبحانه بقوله "وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" .
29- للسفر أحوال تخالف حالة الحضر فإذا كان الإنسان مسافراً وداين شخصاً وتعذر فيه الكاتب أو تعذر وجود قرطاسًا أو دواةً أو قلمًا فله أن يرهن " وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ"
30- مشروعية الرهان حتى في الحضر لانشغال الناس بأوقات يتعذر فيها احضار الكاتب
31- حفظ أموال العباد والخوف من النزاع والشقاق في المستقبل من أهم الأسباب التي شرع لها الرهان
32- إذا وجد الائتمان من بعضنا لم يجب رهان ولا إشهاد ولا كتابة " فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ"
33- اطلاق الأمانة على الدَّين الذي في الذمة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأنّ اسم الأمانات له مهابَة في النفوس ، فذلك تحذير من عدم الوفاء به.
34- وجوب أداء الأمانة على من ائتمن . ويتفرع من ذلك: تحريم الخيانة
35- تحريم كتمان الشهادة وأنها من الكبائر "وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ"
36- عقوبة كتمان الشهادة يأثم القلب حيث يتعلق به الحكم اللاحق عن المعصية في كتمان الشهادة "وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ"
37- خص الله تعالى ذكر القلب إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله"
38- ختم الآية" وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ " توعد وإن كان لفظها يعم الوعيد والوعد

مصادر الرسالة :
تفسير آية الدّين للزجاج ، وابن عطية ، وابن كثير ، وابن عثيمين رحمهم الله .

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 10:05 AM
كوثر التايه كوثر التايه غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 787
افتراضي رسالة بالأسلوب الوعظي

قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}



من رحمة الله تعالى بعباده أن لم يتركهم هملاً لا يميزون حقاً عن باطل، ولا هدى عن ضلالة، فمن رحمته جلّ وعلا أن بيّن الحق، وأوضح السبيل، فأرسل الرسل وأنزل الكتب، فلا حجة للخلق بعد ذلك، قال تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيماً )- النساء: 167-



وقد جعل الله تعالى يوماّ يرجع العباد إليه ليجازيهم على ماعملوا، وهل التزموا أمره فيما أمر؟ واجتنبوا نهيه فيما نهى؟ وهذا اليوم العظيم وإن كان جل وعلا –لحكمته- أخفى وقته عن عباده، إلا أنه تعالى أكثر التذكير به في كتابه الكريم، والتحذير منه، وجاءت آيات كثيرة تصف هوله وشدته وتبين حال من آمن واتقى، وحال من كفر وعصى، وتمايز بين الحالين، تحث على الالتزام بأمر الله، وتحذر من الاعراض والنكران.



قال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) –البقرة: 281-



فهذه الآية الكريمة التي جاءت للتذكير بهذا اليوم الشديد، "فسبحانه وتعالى يعظ عباده ويذكره بزوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى ومحاسبته تعالى خلقه على ماعملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته"[1].



وقد تنبه أهل العلم إلى هذه الآية العظيمة التي تحذر من الاغترار بالدنيا الفانية والاعراض عن الآخرة الباقية، وتحركت قلوبهم لمواعظ الله تعالى وتحذيره، فنجد أن الإمام الطبري يقول:



" واحذروا أيها الناس – يوماً ترجعون فيه إلى الله فتلقونه فيه، أن تردوا عليه بسيئات تعلككم، أو بمخزيات تخزيكم، أو بفاضحات تفضحكم، فتهتك أستاركم، أو بموبقات توبقكم فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به، وإنه يوم مجازاة بالأعمال، لا يوم استعتاب، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، توفى فيه كل نفس أجرها على ماقدمت واكتسبت من سيء وصالح، لا تغادر صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت، فوفيت جزاءها بالعدل من ربها وهم لا يظلمون، وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها، كلا..بل عدل عليك أيها المسيء، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن، فاتقى امرؤ ربه ، وأخذ منه حذره، وراقبه أن يهجم عليه يومه، وهو من الأوزار ظهره ثقيل ومن صالحات الأعمال خفيف، فإنه عز وجل حذر فأعذر، ووعظ فأبلغ"[2].



وعليه فإن ذلك اليوم يوم ثقيل عسير طويل شاق، يوم القدوم على الله للحساب والجزاء، فهو يوم توفية على العمل، وكلمة التوفية (ثم توفى كل نفس) أن الحكم في ذلك اليوم بالعدل ولا يظلم ربك أحداَ،و لا يُقبل فيه شفاعة ولا إنابة ولا توبة، فمن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء عليها، الملك لله العلي العظيم، وكل من في السماوات والأرض قد أتى الله فرداً، لا تغني نفس عن نفس شيئاً إلا بأمر الله وإذنه، لا يتكلمون إلا لمن ارتضى، فالخطب يومئذ جلل والأمر عظيم، والميزان في ذلك اليوم للحسنات والسيئات، كل القرابات والعلاقات الدنيوية تتلاشى، يأتي الإنسان بعمله،وتُعرض عليه صحيفة أعماله، تشهد عليه جوارحه، وقد أكدت الآية العدل الرباني حيث قال تعالى: ( كل نفس ما كسبت) فكل نفس تُجازى بما كسبته هي لا غيرها، لا ينفع الإنسان يوم ذلك من أتى الله بقلب مؤمن خاشع عمل صالح، ولذلك قال تعالى: ( واتقوا يوما) فكلمة التقوى تحذر من الوقوع فيما نهى الله، وتدفع للسعي والعمل والمجاهدة في طاعة الله، وهذه التقوى محلها القلب، فإذا خشع القلب استجابت الجوارح، " إن التقوى هي الحارس القابع في أعماق الضمير يقيمه الإسلام هناك، لا يملك القلب فرار منه لأنه في الأعماق هناك"[3]، وهذا هو ماقاله صلى الله عليه وسلم: " ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب "[4]، فالإنسان إذا طهر قلبه صلحت جوارحه وأعماله، فهو مسؤول عن تصرفاته واختياراته، وثوابه وعقابه متعلق بكسبه وعمله[5] وخصّ الله تعالى هنا ذكر من الأسماء الحسنى (الله) فهو الاسم العلم الله تعالى الذي يعطي معنى جميع الأسماء، فهو سبحانه الله المحيط بكل شيء، القادر على كل شيء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء سبحانه وتعالى، فعندما يصل معنى هذا الإسم العظيم إلى القلوب تتذكر عظمة ربها خالقها ومدبرها، وأن أمرها بيده جل وعلا في الدنيا والآخرة، وأنه المتصرف بأمرها، القادر عليها، فترهب وترغب وتسعى حثيثاً لطاعته واجتناب سخطه، " الله الذي لا يحصر عظمته وصف، ولا يحيط بها حد، فيكون حالكم بعد النقلة الدنيا كحالكم قبل البروز إليها من البطن، لا تصرف لكم أصلاً، ولا متصرف فيكم إلا الله ، ويكون حالكم في ذلك اليوم الإعسار، لأنه يمكن أحد أن يكافئ ما لله سبحانه عليه من نعمة، فمن نوقش الحساب عذب،......."[6].




وقد كانت هذه الآية هي آخر القرآن نزولاً، فعن عكرمة عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي- صلى الله عليه وسلم – ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) .



وجاءت هذه الآية الكريمة خاتمة كتابه تعالى الذي حوى الهداية وأسبابها، والفلاح وطرقه، والفوز وسبيله، وحذر من ضماداتها ومعوقاتها، يختمه تعالى بهذه الآية العظيمة التي كانت تذييلاً وختاماً لمجموعة من الأحكام الإسلامية التي نظمت أمور الحياة للأمة الاسلامية ابتداء من اصلاح الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع الاسلامي فيما بينه، ثم مع من حوله، " هو تعقيب يتناسق مع جو المعملات، جو الأخذ والعطاء، جو الكسب والجزاء.. إنه التصفية الكبرى للماضي جميعه بكل مافيه، والقضاء الأخير في الماضي بين كل من فيه، فما اجدر القلب المؤمن أن يخشاه ويتوقاه"[7].



وهنا مع آخر أية من كتاب الله، وننظر إلى بدايات الوحي بقوله تعالى: ( اقرأ)، نجد أن ما بين الآيتين ينطلق النور والهدى والمعرفة والحث على التعلم، وعبادة الله على بصيرة، والسعي في الأرض فيما يرضي الله وينفع العباد....ثم التوقف عند لحظة معينة هي لحظ الموت، وهي بداية ذلك اليوم، ومرحلة الانتقال بين الحياتين الدنيا والآخرة، فليست هذه الحياة للاستقرار، بل هي للعمل في طاعة الله، فيتقي الإنسان لقاء ربه في كل حركاته وسكناته وهمساته ونظراته، وذلك لا يكون إلا أن نلتزم ( اقرأ) فنعبد الله على نور وبصيرة بما يرضيه ويحبه.



اللهم إنا نسألك التوفيق لما تحب وترضى ونسألك حسن الخاتمة وأن نلقاك وأنت راض عنا


[1]ابن كثير، تفسير القرآن العظيم

[2]الطبري، جامع البيان في تأويل أي القرآن

[3]قطب، في ظلال القرآن، ج1

[4]البخاري، الجامع الصحيح ، كتاب الإيمان

[5][5]انظر ابن عطية، المحرر الوجيز، ج1، ص500

[6]البقاعي، نظم الدرر، ج1

[7]قطب، في ظلال القرآن، ج1

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 21 محرم 1439هـ/11-10-2017م, 08:41 PM
أمل يوسف أمل يوسف غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 570
افتراضي

رسالة بأسلوب الحجاج،إعداد الأخوات (مها شتا-عائشة أبو العينين-أمل يوسف)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا فإنه من يهده الله فلامضل له ومن يضلل فلاهادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد،
فإن السعادة مطلب إنساني لاينفك عنه أحد والكيس من طلب سعادة الدارين ،وإن السعادة الحقيقية هي حال من طمأنينة القلب وسكونه وفرحه ،ولما كان محل السعادة هو القلب ؛ فإن العناية به وبتزكيته وتغذيته بأسباب السعادة واجبة وأعظم أسباب السعادة فهم كلام الله تعالى على مراد الله تعالى و حسن العمل بهداياته.
والله هو الذي يملك السعادة ويهبها من يشاء قال تعالى {وأنه هو أضحك وأبكى}وقال تعالى {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ماشاء ربك عطاء غير مجذوذ}
ومن رحمة الله أن جعل كتابه القرآن العظيم مصدر السعادة والطمأنينة قال تعالى {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}فهنا السعادة الحقيقية وهذا هو الطريق.
قال تعالى {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}
وتدل الآية أن الإيمان والعمل الصالح هما سببان للحياة الطيبة وكلما زاد نصيب العبد منهما زاد نصيبه من السعادة فمن حقق الإيمان ووفق للعمل الصالح نال الحياة الطيبة والعيش الرغيد في الدنيا والآخرة
فمن اتبع هدايات القرآن وعمل بها كان من أهل السعادة {فمن اتبع هداي فلايضل ولايشقى} فلما انتفى الشقاء عنه دل ذلك على حصول السعادة

وقد كان للصحابة رضوان الله عليهم الحظ الأوفر من السعادة فهم السعداء بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ،وسعداء بمعايشة نزول الوحى ،وسعداء بحسن تلقيهم للقرآن فهم خير من تلقى القرآن وفقهه وعمل به وذلك لسلامة قلوبهم وطهارتها من الأهواء والشبهات ولصدق يقينهم ودقة فهومهم فكانوا يتدبرون القرآن ويتفهمونه فيبلغ من قلوبهم مبلغا عظيما حتى إن أحدهم كان إ ذا سمع آية من آيات الوعيد خر مغشيا عليه من شدة وقعها على قلبه فقد كانوا يرون القرآن رسائل من ربهم ،وإذا أشكل عليهم شيئا لم يفهموه بادروا بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما أشكل عليهم ولذلك أمثلة كثيرة منها مافهمه الصديق رضي الله عنه من قوله تعالى{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}فقال يارسول الله وأينا لم يظلم نفسه فقال صلى الله عليه وسلم :ليس ذاك ألم تسمع قول الرجل الصالح {إن الشرك لظلم عظيم}
ومن ذلك أيضا ماروي مسلم في صحيحه عن أبي هريرة وابن عباس أنّه قال: لما نزلت { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }[البقرة: 284]
اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله فأتوه وقالوا: لا نطيقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا:" سمعنا وأطعنا وسلمنا "
فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها }


وهذه الآية الكريمة من خواتيم سورة البقرة جاءت في سياق الخبر عن كتم الشهادة وأن من يكتمها فإنه آثم قلبه وأن الله بما يعمل عباده عليم فأتبع ذلك بذكر الدليل على ذلك بأن كل ما
في السماوات وما في الأرض وما بينهما ملك لله وحده فهو الخالق وحده فلزم من ذلك أنه أحاط بكل شىء خلقه علما ،يعلم الظواهر والبواطن والجليات والخفيات ومن ذلك مكنونات النفوس وما تخفي الصدور فقال تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه}أى إن تظهروه بالقول أو بالعمل أو تكتموه فلاتبدوه فهو في علم الله سواء يستوي في علمه السر والعلانية
وأخبر سبحانه أنه يحاسب عباده على ما انطوت عليه نفوسهم من خير أو شر دل على ذلك قوله {ما} الموصولة التى تفيد العموم، فيغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله ومشيئته تابعة لحكمته وعلمه وهى مترتبة على مايبديه العباد أو يخفوه وهذا جانب من عظيم قدرته ولذا قال {وهو على كل شيء قدير}
فلما نزلت هذه الآية وسمعها الصحابة رضي الله عنهم فهموا من قوله تعالى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} أن كل ما في النفس حتى ما يمر عليها من الخواطر التى ترد على الإنسان مما لاطاقة له بدفعه أو منعه أنهم عليه محاسبون وبه مؤاخذون ،وهذا من شدة إيمانهم وحرصهم على قلوبهم ولأن لفظ الآية عام يشمل الخواطر العابرة وما استقر في النفوس؛ فشق ذلك عليهم ففزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يبين لهم فأمرهم بالتزام الصبر وحبس النفس عن الاعتراض مخالفين في ذلك فعل أهل الكتاب، وانتظار لطف الله ورحمته أن يغفر ويتجاوز لهم عن ذلك {غفرانك ربنا وإليك المصير} وقد كان.كما سيأتي بإذن الله في الآيات التالية
وقد جاءت الروايات الصحيحة الثابتة تشير إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون }إلى آخر السورة.
. قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال دخلت على ابن عباس، فقلت يا أبا عباس كنت عند ابن عمر، فقرأ هذه الآية، فبكى، قال أية آية؟ قلت { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قال ابن عباس إن هذه الآية حين أنزلت، غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غماً شديداً، وغاظتهم غيظاً شديداً، وقالوا يا رسول الله هلكنا، إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل، فأما قلوبنا فليست بأيدينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " قولوا سمعنا وأطعنا "فقالوا سمعنا وأطعنا، قال فنسختها هذه الآية{ ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ }البقرة 285 إلى{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ }البقرة 286 فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال.

وقد اختلف العلماء من أهل التفسير في حقيقة نسخ هذه الآية فمنهم من قال هي منسوخة بالآيات التى بعدها كماهو ظاهر الأحاديث ومنهم من قال هي محكمة غير منسوخة ولكل توجيهه
وهذه المسألة، مسألة النسخ مبنية على فهم المعنى المراد من الآية على الحقيقة في قوله تعالى {يحاسبكم به الله}
وقد أثير جدل كبير ونقاش طويل حول مسألة {المحاسبة على خواطر النفس }وهل الإنسان يحاسب على خواطره التي لايملكها ؟ وهل هذا من قبيل التكليف بما لايطاق؟
ولكى نحرر الجواب على هذا السؤال لابد من معرفة حقيقة الخواطر ماهى ؟وما أقسامها؟

فالخواطر :هى تلك الأفكار التى تمر بخاطرة الإنسان ،و تنقسم من حيث استقرارها في النفس أو عدم ذلك إلى قسمين:
-قسم يتردد على النفس بغير عزم أو جزم ولا تملك النفس صرفه عنها كالوساوس التى لاتستقر في النفس ؛فهذا لايؤاخذ به العبد ولا يعاقب عليه وذلك:
-أن من مقاصد الشريعة التخفيف ورفع الحرج قال تعالى {يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر}
وقوله {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقوله {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}

-القسم الثانى :وهو ما جاش في النفس عزم عليه بعد أن رسخ فيها واستقر وهذا أيضا قسمان:
-قسم يترتب عليه أفعال بدنية وهذه قد يفعلها العبد كالسرقة والكذب والنميمة وقول الزور وقد يتركها قهرا ففيه خلاف هل يؤاخذ به أم لا؟
أو يتركها اختيارا فهذا مورد الحديث المخرج في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
قال الله إذا همّ عبدي بسيئة، فلا تكتبوها عليه، فإن عملها، فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة، فلم يعملها، فاكتبوها حسنة، فإن عملها، فاكتبوها عشراً "
لفظ مسلم، وهو في أفراده من طريق إسماعيل بن جعفر، عن العلاء، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" قال الله إذا هم عبدي بحسنة، ولم يعملها، كتبتها له حسنة، فإن عملها، كتبتها له عشر حسنات، إلى سبعما
ئة ضعف، وإذا هم بسيئة، فلم يعملها، لم أكتبها عليه، فإن عملها، كتبتها سيئة واحدة
" وقال مسلم أيضاً حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا عبد الوارث عن الجعد أبي عثمان، حدثنا أبو رجاء العطاردي عن ابن عباس، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى، قال " إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة، فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها، فعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة، وإن همّ بها فعملها، كتبها الله عنده سيئة واحدة "
-وقسم لايترتب عليه أفعال بدنية كالكفر والإيمان والشك وبغض الدين وإرادة السوء بالمؤمنين إلى غير ذلك مما يملكه العبد ويملك التصرف فيه فهذا مما يؤاخذ عليه ويدل على ذلك النصوص الشرعية
قال تعالى {لايؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}وقوله تعالى {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم }
وقوله تعالى في سياق هذه الآيات {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}

وقوله تعالى {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير}
وغيرها الكثير والكثير من الآيات التي تثبت للقلوب كسبا وأن الإنسان يجازى على ما قام واستقر في قلبه كما قال تعالى {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}
وقد جاء في الحديث المخرج في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب }
فالقلب ملك الأعضاء وهو قائدها ومحركها ولايصدر فعل بدنى إلا وقد سبقته حركة للقلب
فإذا تقرر أن للقلوب كسب كالجوارح بل أخطر يتبين أن المؤاخذة على كسب القلوب وما تحركت به فلا تدخل الخواطر والوساوس العابرة في ذلك لأن الخواطر ونحوها لايسمى كسبا وعلى ذلك فلا حاجة للقول بأن الآية منسوخة
وقد يقول قائل فبم تفسر قول السلف بنسخ الآية؟
إن العلماء من المفسرين ممن قالوا بعدم النسخ وجهوا قول السلف بالنسخ عدة توجيهات منها:
أن النسخ في الاصطلاح عند المتأخرين هو رفع حكم شرعي من جميع الوجوه واستبداله بحكم غيره ؛ فهل هذا هو المعنى المراد للنسخ عند السلف؟
إن اصطلاح النسخ هذا لم يكن معروفا لدى السلف
والمتأمل في الآية التى يزعم أنها منسوخة بقوله {لايكلف الله نفسا إلا وسعها } فليس فيها مايدل على نسخ الآية السابقة أي رفع حكم المحاسبة على ما في النفوس بالكلية وأن الحساب مداره على أعمال الجوارح وأما النفوس فلا محاسبة على مااستقر فيها
هذا لايقول به عاقل فإن الآيات والسنة النبوية تؤكد على أن الشأن كل الشأن في تلك المضغة العجيبة التي هي محل الكفر والإيمان والشك واليقين وحسن الظن بالله وغير ذلك
ومن تأمل الحديث الصحيح {أول من تسعر بهم النار ..}يفهم أنهم عوقبوا على ما انطوت عليه قلوبهم من إيرادات خبيثة
إذن ليس المراد بالنسخ عند السلف النسخ المعروف عند المتأخرين الذي هو رفع الحكم بآخر ولكن لابد وأن يكون له مدلول آخر وهو النسخ الذي يراد به معنى البيان والإيضاح
يقال نسخت الشمس الظل إي أزالته فالنسخ هنا إزالة الإشكال المتوهم من الآية وبيان حقيقة المعنى
وهذا الذي حصل للصحابة رضي الله عنهم إذ توهموا دخول الخواطر العابرة في معنى الآية فشق ذلك عليهم فبين الله تعالى لهم حقيقة الأمر وأزال عنهم الفهم الخاطىء، وما كان الله تعالى ليكلف عباده مالايطيقون ولايحتملون ،وهو أرحم بنا من أنفسنا وأرحم بنا من والدينا وهو التواب الغفور الرحيم العفو الذي يحب التوبة ويفرح بها ويثيب عليها {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما} فالغرض من التكليف وثمرته الامتثال لا التعجيز تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
-التوجيه الثاني:أن الآية خبر والأخبار لايدخلها نسخ فيكون المراد به البيان كماسبق
-الثالث:أن الآية ليس فيها ماينص على المحاسبة على الخواطر العابرة وذلك أن قوله تعالى {ما في أنفسكم } التي تفيد الظرفية وتدل على التمكن والاستقرار أي ماتمكن في النفس واستقر فيها لا ما كان عابرا وطارئا عليها وأن الخواطر وإن كانت ترد على النفس وتتردد فيها فهو من باب التجوز لا الحقيقة
وأنه لايلزم من المحاسبة المؤاخذة والمعاقبة فقد يحاسب ويغفر وقد يحاسب فيعاقب فإن أصل معنى المحاسبة :العد والإحصاء ثم شاع استعماله في المجازاة وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أنه يحصي على العباد كل ما عملوه صغيره وكبيره {مال هذا الكتاب لايغادر صغيرة ولاكبيرة إلا أحصاها} ثم إنه تعالى يخبر عباده المؤمنين يوم القيامة بماعملوه فيغفر للمؤمنين كما وعدهم سبحانه {إن تجتنبوا كبائر ماتنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }أى من الصغائر فيكون معنى المحاسبة الإخبار
عن قتادة، عن صفوان بن محرز، قال بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر، وهو يطوف، إذ عرض له رجل، فقال يابن عمر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ":
يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول له هل تعرف كذا؟ فيقول رب أعرف ـ مرتين ـ حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ، قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، قال فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه، وأما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رؤوس الأشهاد { هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ }هود 18 وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة عن قتادة به
"

فإذا تبين هذا اتضح أن قوله تعالى {يحاسبكم به الله }خبر مجمل تبينه وتفصله الآية التى بعده وتؤصله الآيات الأخرى ومقاصد الشريعة تبرهن عليه وأن الآية محكمة واختلفوا في نوع إحكامها:
-فقيل هى محكمة مخصوصة بكتمان الشهادة فهى تابعة للآية السابقة لها ومبينة لها كما قال بعضهم أنها في شأن موالاة الكفار من دون المؤمنين وهذا من باب التفسير بالمثال وسياق الآيات يجعله بعيدا
-وقيل هى محكمة عامة وأن الله يحاسب عباده على مافي قلوبهم مما عملوه ومما لم يعملوه فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين
-وقيل المراد مافي النفوس من ا لشك واليقين
-وقيل هي مخصوصة بما استقر في النفوس ولايدخل فيه الخواطر العارضة
-وقيل أيضا إن الله يحاسب عباده على ماعملوه ومالم يعملوه مما أخفوه فيؤاخذهم به في الدنيا بما يحصل لهم من المصائب والآلام روى الطبري بإسناده قال :حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ }... الآية، قال: كانت عائشة رضي الله عنها تقول: من همّ بسيئة فلـم يعملها أرسل الله علـيه من الهمّ والـحزن مثل الذي همّ به من السيئة فلـم يعملها، فكانت كفـارته.
وقد امتثل الصحابة ما أرشدهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}
فهذا مدح وثناء من الله تعالى على رسوله والمؤمنين بكمال السمع والطاعة والاستسلام لله فأثنى على رسوله بلفظ {الرسول }تشريفا وتكريما وعلى المؤمنين بكمال إيمانهم.
وهذه الاية الكريمة جمعت جميع أركان الإيمان التى يجب على المؤمن الإيمان بها وتفقد قلبه فيها مدى حياته
وسبب هذه الآية أنه لما نزلت { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } الآية التي قبلها . وأشفق منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ثم تقرر الأمر على أن { قالوا سمعنا وأطعنا } ، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة ، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية ، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر ، وهذه ثمرة الطاعة و ختام سورة البقرة بهذه الآيات الكريمات إشارة لما يجب أن يكون عليه حال المؤمنين أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين سينقل لهم مهمة الإستخلاف فى الارض وخاصةً بعد أن بين الله تعالى فى أول السورة حال بنى أسرائيل وما فعل الله بهم من ذمهم وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا ، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله ، و { آمن } معناه صدق ، و { الرسول } محمد صلى الله عليه وسلم ، و { بما أنزل إليه من ربه } هو القرآن وسائر ما أوحي إليه ، من جملة ذلك هذه الآية التي تأولوها شديدة الحكم ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه قال : ويحق له أن يؤمن
والإيمان بالله هو التصديق به وبصفاته ورفض الأصنام وكل معبود سواه .وهو أول اركان الإيمان
والإيمان بملائكته هو اعتقادهم عباداً الله ، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم وهو ثانى أركان الإيمان
والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمن ذكرهم كتاب الله المنزل على محمد صلى اللهعليه وسلم ، أو ما أخبر هو به وهذا ثالث أركان الإيمان
والإيمان برسله وهذا هو الركن الرابع من أركان الإيمان ومعنى هذه الآية أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، ولا رب سواه. ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مَهْديون هادون إلى سُبُل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله، حتى نُسخ الجميع بشرع محمدّ صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي تقوم الساعة على شريعته، فمن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم كفر بكل الرسل واستحق عذاب الله وفى هذا رد على النصارى الذين يعلنون إيمانهم بعيسى ويكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم واليهود الذين يعلنون إيمانهم بموسى ثم يقتلون الأنبياء ويكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم
وقوله تعالى : { وقالوا سمعنا وأطعنا } سمعنا قولك يا ربنا، وفهمناه، وقمنا به، وامتثلنا العمل بمقتضاه وفى قولهم هذا تحقيق للركن السادس من أركان الأيمان فأمتثالهم أعلاناً عن إيمانهم بالقدر خيره وشره
وهذا مدح يقتضي الحض على هذه المقالة وأن يكون المؤمن يمتثلها دائماً ، والطاعة قبول الأوامر ،
و { غفرانك } مصدر كالكفران والخسران ومعناه اغفر غفرانك كما ذكر الزجاج ، وقال غيره نطلب ونسأل غفرانك ، { وإليك المصير } إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى .وهذا هوالركن الخامس من أركان الإيمان الإيمان باليوم الإخر

{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}

{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}
التكليف هو الإلزام بما فيه مشقة ،أي لايلزم الله{ نفساً إلا وسعها } أي طاقتها فلا يلزمها أكثر من الطاقة في الأمور الشرعية والعبادات من أعمال القلوب والجوارح،وهذا من لطفة تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم،
وهذا المعنى مصدقاً لقاله تعالى:{يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[البقرة: 185]
وقوله تعالى: {ما جعل عليكم في الدّين من حرجٍ}[الحج: 78]
وقوله: {فاتّقوا اللّه ما استطعتم}[التغابن: 16]

وعلى ذلك يكون معنى الآية:
لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فلا يجهدها، ولا يضيق عليها في أمر دينها، فيؤاخذها بهمة إن همت، ولا بوسوسة إن عرضت لها، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها.
فهذه الآية فتحت باب الأمل على مصراعيه لهؤلاء الذين استجابوا لله وللرسول وقالوا {سمعنا وأطعنا} أي سمعنا سمع استجابة ،فإن جملة الأوامر والنواهي التي في السورة قد يحدث فيها التقصيرمن نسيان وخلافه ،و"النسيان "هو ذهول القلب عن شئ معلوم،أو "الخطأ " وهو المخالفة بلا قصد المخالفة،وذلك بمقتضى طبيعتهم البشرية،فدلهم ربهم ومليكهم بأن يرفعوا أكف الضراعة له قائلين : ربنا لا تعاقبنا إن نسينا أوامرك أو فعلنا خلاف ما أردت جهلاً منا ،ربنا لا تكلفنا بما يشق علينا كما كلفت به الذين من قبلنا من اليهود بسبب ظلمهم ، ثم بعد ما سألوا ربهم التخفيف في أحكامه سألوه التخفيف في قضائه وقدره ،فدعوا ربهم ألا يحملهم ما هو فوق وسعهم وقدرتهم من المصائب والعقوبات وغير ذلك ،و"الوسع"وهو الطّاقَةُ والِاسْتِطاعَةُ، والمُرادُ بِهِ هُنا ما يُطاقُ ويُسْتَطاعُ، والمُسْتَطاعُ هو ما اعْتادَ النّاسُ قُدْرَتُهم عَلى أنْ يَفْعَلُوهُ إنْ تَوَجَّهَتْ إرادَتُهم لِفِعْلِهِ مَعَ السَّلامَةِ وانْتِفاءِ المَوانِعِ. ،ثم سألوه أربع أمور فيها صلاح دنياهم وآخرتهم :فسألوه أن يعفواعنهم بمحو سيئاتهم وإسقاط حقه عليهم ،وأن يغفرها ويسترها ،و"المغفرة "وقاية ،فهم يسألونه أن يقيهم أثر ذنوبهم ، "فالعفو" إسقاط الذنب و"المغفرة "تفضل وإحسان ،و أن يرحمهم برحمته التي وسعت كل شئ فهي زيادة إحسان وعطف ،ولهذا قالوا: إنّ المذنب محتاجٌ إلى ثلاثة أشياء:
أن يعفو اللّه عنه فيما بينه وبينه،
وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم،
وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره.
ثم ختموا دعاءهم {أنت مولانا}أي أنت ولينا ولا مولى لنا سواك ولا ناصر لنا ولا معين ولاكافي ولا هادي إلا أنت فانصرنا على القوم الكافرين أي: الّذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيّتك، ورسالة نبيّك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك، حتى نتمكن من إظهار دينك وإعلاء كلمته التى كلفتنا به في السورة كلها .
قال اللّه: نعم. وفي الحديث الّذي رواه مسلمٌ،و عن ابن عبّاسٍ: «قال اللّه: قد فعلت».
ويقصد من الآية:تعليم من الله لعباده كيفية الدعاء وهذا من غاية الكرم حيث يعلمهم الطلب ليعطيهم المطلوب.
مسألة:تكليف الله العباد بالمحال و بما لا يطيقون.
اختلف الناس في جواز تكليف الله العباد بالمحال و بما لا يطيقون على أقوال:
أولاً في الأحكام الشرعية:
اتفق العلماء على أنه لا يقع في الأمور الشرعية والأحكام الدينية ،والدليل الآية التي بين يدينا { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} .
ثانيا في الأحكام الدنيوية:
اختلفوا العلماء فيه على أقوال:
القول الأول:تكليف ما لا يطاق جائز عقلا ولا يحرم ذلك شيئا من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعا به،قاله أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين وذكره ابن عطية
استدل عليه بِحَدِيثِ تَكْلِيفِ المُصَوِّرِ بِنَفْخِ الرُّوحِ في الصُّورَةِ وما هو بِنافِخٍ، وتَكْلِيفِ الكاذِبِ في الرُّؤْيا بِالعَقْدِ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وما هو بِفاعِلٍ،
الرد عليه: ولا دَلِيلَ فِيهِ لِأنَّ هَذا في أُمُورِ الآخِرَةِ.ذكره ابن عاشور
القول الثاني:يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِما لا يُطاقُ بِناءً عَلى قاعِدَتِهِمْ في أنَّهُ يَجِبُ لِلَّهِ فِعْلُ الصَّلاحِ ونَفْيُ الظُّلْمِ عَنْهُ،قاله أئمة المعتزلة وذكره ابن عاشور.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ هَلْ وَقَعَ فِي رسالة محمد ﷺ أولا؟على قولين:
القول الأول: قالت فِرْقَةٌ: وَقَعَ فِي نَازِلَةِ أَبِي لَهَبٍ، لِأَنَّهُ كَلَّفَهُ بِالْإِيمَانِ بِجُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، لِأَنَّهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِتَبِّ الْيَدَيْنِ وَصَلْيِ النَّارِ، وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَقَدْ كَلَّفَهُ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ.ذكره ابن عطية والقرطبي
القول الثاني:قَالَتْ فِرْقَةٌ: لَمْ يَقَعْ قَطُّ. وَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ. ذكره القرطبي
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" سَيَصْلى نَارًا "معناه إن وافى على كفره، حكاه ابن عطية."
ويُكَلِّفُ "يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ عِبَادَةً أَوْ شَيْئًا.
والراجح: أن َاللَّهُ سُبْحَانَهُ بِلُطْفِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْنَا وَإِنْ كَانَ قَدْ كَلَّفَنَا بِمَا يَشُقُّ وَيَثْقُلُ كَثُبُوتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشْرَةِ، وَهِجْرَةِ الْإِنْسَانِ وَخُرُوجِهِ مِنْ وَطَنِهِ وَمُفَارَقَةِ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ وَعَادَتِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يكلفنا بالمشقات المثقلة ولا بالأمور المؤلمة، كَمَا كَلَّفَ مَنْ قَبْلَنَا بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ وَقَرْضِ مَوْضِعِ الْبَوْلِ مِنْ ثِيَابِهِمْ وَجُلُودِهِمْ، بَلْ سَهَّلَ وَرَفَقَ وَوَضَعَ عَنَّا الْإِصْرَ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي وَضَعَهَا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَالْفَضْلُ وَالنِّعْمَةُ.ذكره القرطبي
عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «بعثت بالحنيفيّة السّمحة».
حكم جواز التكليف بالمحال في غير أمة محمد صلى الله سلم:
قال الطاهر ابن عاشور:عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِما فَوْقَ الطّاقَةِ في أدْيانِ اللَّهِ تَعالى لِعُمُومِ (نَفْسًا) في سِياقِ النَّفْيِ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى ما شَرَعَ التَّكْلِيفَ إلّا لِلْعَمَلِ واسْتِقامَةِ أحْوالِ الخَلْقِ، فَلا يُكَلِّفُهم ما لا يُطِيقُونَ فِعْلَهُ، وما ورَدَ مِن ذَلِكَ فَهو في سِياقِ العُقُوباتِ، وهَذا حُكْمٌ عامٌّ في الشَّرائِعِ كُلِّها.
وما لا يطاق ينقسم أقساما: فمنه المحال عقلا كالجمع بين الضدين، ومنه المحال عادة، كرفع الإنسان جبلا، ومنه ما لا يطاق من حيث هو مهلك كالاحتراق بالنار ونحوه، ومنه ما لا يطاق للاشتغال بغيره، وهذا إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير
وهاتان الآيتان الكريمتان من خواتيم سورة البقرة لهما فضائل عديدة ذكرها بن كثير
من ذلك:
=من قرأها في ليلة كفتاه
عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ بالآيتين"، وحدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كَفَتَاه" رواه البخارى ومسلم
=أنها من كنز تحت العرش

عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطهن نبي قبلي" رواه الإمام أحمد
=لا يقرب الشيطان دار قرأت فيه ثلاث ليال
عن النعم
ان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما (4) سورة البقرة، ولا يقرأن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان". رواه الترمذى ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
=لا يقرأ عبد بحرف منها إلا أتاه الله إياه

عن ابن عباس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل؛ إذ سمع نقيضا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فُتِح قَط. قال: فنزل منه مَلَك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته، رواه مسلم والنسائي، وهذا لفظه
وورد في فضلها :
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
في قول الله: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } إلى قوله: { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } قال: قد غفرت لكم.

وهذا الختام يلخص لنا السورة كلها ،ويلخص لنا معتقدنا،ويلخص تصور المؤمنين وحالهم مع ربهم في كل حين من حيث الافتقار التام إليه سبحانه فهوالغني القدير، قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ*إن يشأ يذهبكم ويأتي بخلق جديد *وما ذلك على الله بعزيز*وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۗ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } .فاطر
ومعلوم أن كل حي -سوى الله سبحانه وتعالى- هو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ،ولا يتم ذلك له إلا بالعلم عن النافع الضار،
فإنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره وحده ، وهو معبودة وغاية مطلوبه ، وأحب إليه من كل ما سواه.
ومن ترك الاختيار والتدبير لنفسه ، وعلم أن الله على كل شئ قدير ، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير ، وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه ، وأنه أعلم بمصلحته منه ، وأقدر على جلبها وتحصيلها منه ، وأنصح للعبد من نفسه ،وأرحم به منه بنفسه ، وأبر به منه ، وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يقدم بين يدي تدبيره شئ، فألقى نفسه بين يدي مولاه ، وسلم الأمر كله إليه ، وانطرح بين يديه انطرح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر ، له التصرف في عبده بكل ما يشاء وليس للعبد التصرف في أي شئ ،وأحسن الظن بربه الجميل الذي لا يأتي منه إلا كل خير، استراح من الهموم والغموم والأنكاد، وحَمّل حوائجه ومصالحه من لا يبالي بحملها ولا يثقله ، فتولاها دونه وأراه لطفه ورحمته وإحسانه فيها من غير تعب من العبد، لأنه قد صرف اهتمامه كله إليه ،وجعله وحده سبحانه همه ، فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه ، فما أطيب عيشه وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه.
وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء
( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا الله استغفرك وأتوب إليك

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 26 محرم 1439هـ/16-10-2017م, 09:58 AM
الشيماء وهبه الشيماء وهبه غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Dec 2012
المشاركات: 1,465
افتراضي

( رسالة بالأسلوب الاستنتاجي لمجموعة: الشيماء وهبه - تماضر - شيماء طه )


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وبعد:


إن من فضل الله علينا وعلى هذه الأمة أن أنزل عليها القرآن الكريم وشرّع لها هذا الشرع القويم الذي فيه سعادة المرء في الدنيا والآخرة ، فحفظ لنا الحقوق وبين لنا الأحكام والحدود ، ومن ذلك ما سنتناوله في هذه الرسالة من استنباط واستنتاج بعض الفوائد من آية الدين التي هي أطول آية في كتاب الله وفي طولها دلالة على عظم حقوق العباد وأن الدين شامل وجامع لكل ما فيه صلاح الخلق وذلك بداية من توحيد رب العباد ثم سائر تفاصيل حياتهم ومعاملاتهم التي بها قضاء لمصالحهم وإشباع لاحتياجاتهم وفي هذا رد على كل من ادعى أن الدين قاصر على العبادات فقط وينادون بفصل الدين عن الحياة.

وقد بدأ الله سبحانه وتعالى الآية بالنداء للمؤمنين لينبههم على أهمية ما سيكون بعد هذا النداء ويلفت الأنظار إليه؛ لما فيه من مصلحة دينهم ودنياهم وموضوع الآية هنا:

في إباحة المعاملات بالدين والأمر بكتابته حفظًا للحقوق بين العباد.

ولأن الحاجة إلى التداين ضرورية في معاملات العباد لقضاء مصالح معيشتهم من تجارة أو صناعة أو زراعة أو غير ذلك، فقد وضع الله تعالى الأحكام اللازمة لذلك بما فيها من تحريم للربا لمفاسده التى لا تحصى ولا تعد ثم بوضع البديل الحلال بضوابطه لئلا يقع الناس في الحرج كما قال تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج }

عن ابن عبّاسٍ، قال: «أشهد أنّ السّلف المضمون إلى أجلٍ مسمّى أنّ اللّه أحلّه وأذن فيه، ثمّ قرأ { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى } رواه البخاريّ.
ومن هذا يتبين لنا عظيم رحمة الله تعالى بعباده وأنه ما شق على العباد بالتحريم بل أبدلهم بالحلال خير مما حرم.

وفي الأمر بكتابة الدين حفظ لحقوق العباد فالله تعالى عالم بخلقه وعالم بطبيعة الإنسان وما قد يعترضه من شهوات تحيد به عن طريق الحق والصواب فيقع في المحذور فجاء الأمر بكتابة الدين قمعًا للنفس وحفظًا للحقوق وهذا مانراه في سائر التشريعات أنها تقي الإنسان من شر نفسه وذلك مثل أمر الله تعالى بغض البصر للرجال والنساء سواء وكما في تحريم الخلوة، فالواجب الأخذ بالحيطة والحذر لأن القلوب تتقلب والإنسان لا يأمن شر نفسه ففي التزام أوامر الشريعة الإسلامية السلامة والنجاة.

{وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَايَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}

قوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب }،فيه النهي عن امتناع الكاتب عن الكتابة إذا طلب منه ذلك.
وقوله تعالى: { كما علمه الله } فيها قولان : ذكرهم المفسرون
-
الأول:

يحتمل أن تكون الكاف للتشبيه؛ فالمعنى حينئذ: أن يكتب كتابة حسب علمه بحيث تكون مستوفية لما ينبغي أن تكون عليه.
وهذا فيه محبة الله تعالى لإتقان العمل كما في الحديث الشريف { إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه } فالإتقان والإحسان في العمل من سبل التقرب إلى الله تعالى وكل حسب ما بلغ من العلم فمن كان علمه قاصر فيؤدي حسب علمه ولا يلام على تقصيره وأما من كان عنده علم ولم يعمل به كمايجب فهذا قد جلب على نفسه اللوم لأنه قصر فيما يقدر على عدم التقصير فيه والله نسأل السداد في العمل بما نعلم.

-
القول الثاني:
يحتمل أن تكون الكاف للتعليل؛ فالمعنى: أنه لما علمه الله فليشكر نعمته عليه، ولا يمتنع من الكتابة.
- وفي هذا وجوب شكر النعمة التى من الله تعالى على عباده بها وعدم جواز كتمان العلم والامتناع به عن إفادة الخلق لما هم بحاجة إليه وخاصة لو فقدالبديل،

وكما قال تعالى لأهل الكتاب {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه}
-
وفي هذا بيان لقيمة العلم وأنه من عند الله تعالى فضل ومنة على عباده ولو شاء لأبقاهم جهلة لا يدرون ولا يفقهون ما يقام به مصالحهم وهذا يقتضي مما آتاه الله علمًا أن يحرص على شكره وأن يزداد به تواضعًا أن فضله الله تعالى على سائر خلقه بهذا العلم فيعرف قدر المنعم ويتبرأ من حوله وقوته فيصبح علمه رفعة له وشرفا.

{
فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَايَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا }

- في الأمر لصاحب الدين بالتقوى تذكيرًا له بمراقبة ربه.
- والبخس هو إنقاص الحق وهذا يشمل قليله وكثيره وفي ذلك الحث على أداء الحق كاملًا دون نقصان، والله تعالى يحب الأمانة في المعاملات ومن ذلك مدحه لبعض أهل الكتاب قال تعالى { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } وذمه للآخرين { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما }آل عمران.

{ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ }
- لقد راعى الإسلام حقوق الضعفاء والمساكين في كل شىءوقد ذكر ذلك في أكثر من موضع في القرآن وفي هذا بيان لعظمة القرآن وعظمة تشريعاته وشمولها إذ شملت كل طبقات المجتمع وطوائفه ، والسفيه هو خفيف العقل أو الضعيف العقل سواء من الصبيان أو النساء.
- وتأكيد الله تعالى هنا للولي بالعدل مع السفهاء والضعفاء بعد الأمر بالتقوى قبلها فيه مزيد تأكيد على أداء الحقوق كاملة وإن كان المؤدى إليه سفيه لن يدرك ذلك ولكن المراقب الله العليم الخبير الذي يجازي أهل الإحسان بالإحسان.

{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى }

-
في الآية الأمر باتخاذ شهداء بعد كتابة الدين مزيد عناية وتأكيد على ضرورة حفظ الحقوق.
-
وفي الآية دليل على قوامة الرجال على النساء كما قال تعالى{الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم }
-
وقوله {ممن ترضون من الشهداء} دلالة على وجوب ارتضاء الطرفين من أصحاب المعاملات المالية للشهداء وهذا شامل لعدالة الشهداء ولقبولهم ، وعلى هذا فلا يجبر أحدهما على اتخاذ شهداء ممن يكره وإن كان عدل فيجب أن يكون الاختيار بالاتفاق والتراضي بينهم.

وفي قوله تعالى} أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى }

من البلاغة: إظهار في موضع الإضمار؛ لأنه لم يقل: فتذكرها الآخرى؛ لأن النسيان قد يكون متفاوتاً، فتنسى هذه جملة، وتنسى الأخرى جملة؛ فهذه تذكر هذه بما نسيت؛ وهذه تذكر هذه بما نسيت. ذكره ابن عثيمين

-وفي ذلك بيان لسعة علم الله تعالى بطبيعة المرأة وأنها قد تقع في ما لايقع فيه الرجال بحكم طبيعتها وكثرة مشاغلها ومسؤوليتها في البيت من رعاية الأولاد وتربيتهم والقيام بحقوق الزوج وغير ذلك مما قد يكون سببا لنسيانها أو غفلتها وهذا لا يعيبها ولا ينقص من قدرها فهي خلقة الخالق جل وعلا وقد جعل فيها هذا لحكم خفية يدركها من تأملها.

-وفي هذا التشريع أيضًا لطف الله تعالى بالمرأة أن جعل لها شريكة في الشهادة فتجبر كل منها ما نقص لدى صاحبتها دون ما ينقص من شهادتهما شيئًا ولا ينقص من عدالتهما بل قد ذكر التشريع ذلك النسيان وكأنه أمر وارد لا حرج فيه.

{ وَلَايَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواوَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَايُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}

-
في الاية دليل على وجوب معاونة المسلمين فيما بينهم وإجابتهم لحاجة بعضهم لبعض فقد أمر الله تعالى بإجابة الشهادة لمن دعي إليها ،

قال الحسن بن أبي الحسن: « الآية جمعت أمرين: لا تأب إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها»، وقاله ابن عباس. كما ذكر ذلك ابن عطية وابن كثير رحمهم الله.

-
مما يدل على أهمية الشهادة وكتابتها قوله تعالى: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله}أي:لا تملوا أن تكتبوا ما أشهدتم عليه ، وهذا من تمام إرشاد الله لعباده لما فيه خير ونفع لهم في الدنيا والآخرة.

-
جاء في الآية النهي عن الملل والسآمة من كتابة الديون والإشهاد عليها لكثرة ما يحصل من المداينة عندهم وذلك حرصا على حفظ الحقوق وحفظ المودة والأخوة بين المسلمين وردعا للشك والتشتت والخلاف بسبب أمر من أمور الدنيا الفانية.
-
وفيها دلالة على سعة علم الله تعالى بطبيعة الإنسان وما قد يتعرض له من السآمة والملل فيفرط في شأن الكتابة فيحثه الله تعالى بقوله {ذلكم أقسط عند الله }فينبغي لمن علم قيمة عمله عند ربه أن يعتني به أشد عناية ففي إجابة الأمر قربة إلى الله تعالى.

{
وأقوم للشّهادة}أي: أثبت للشّاهد إذا وضع خطّه ثمّ رآه تذكّر به الشّهادة، لاحتمال أنّه لو لم يكتبه أن ينساه، كما هو الواقع غالبًا. ذكره ابن كثير.
-
مما يدل على سماحة الاسلام وتخفيف الله على عباده ورفع الجناح والحرج عليهم رخص لهم في كتابة ما يقع من المعاملة الحاضرة بين الطرفين لكثرة ما تقع ولأن ذلك لا يكون إلا في شيء يسير كالطعام ونحوه.
-
مما يدل على أن الترخيص في عدم الكتابة في البيع كان للأمور اليسيرة قوله تعالى: {تديرونها بينكم}وهذا يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض، أماالعقار والأراضي وكثير من الحيوان لا تقوى البينونة به ولا يعاب عليه حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك بمبايعة الدين.
-
وفي الآية مراعاة لعدم إحداث الضرر باحدى الطرفين سواء الكاتب أو الشهيد وهذه سنة الله تعالى في سائر أحكامه جل وعلا إذ جعلت لتحقيق النفع للإنسانية عامة فلا ضرر ولا ضرار .

وفي الآية تحريم الكذب وذمه لما فيه من الضرر والظلم وإفساد أمور الناس.

قوله تعالى{وإن تفعلوا فإنّه فسوق بكم }
- -في الآية النهي عن مخالفة ما أمر الله أو فعل ما نهى عنه لأن من فعل ذلك اتصف بالفسق اللازم لصاحبه وهو الخروج عن طاعة الله وأن من صفات الفاسق الكذب في الشهادة أو الكتابة وإلحاق الضرر بأحد الفريقين.

-
وفي الآية دليل على أن الزيادة في الكتابة أو الشهادة فيما كتب وأملى أو النقص منها من الكبائر لأنه كذب يؤدي إلى ضرر في المال وتفريق بين الناس وإبطال للحق، فمن خالف في هذه الشهادة او الكتابة أمر الله فإنه يدخل في الفسوق المذكور في الآية.


{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

-من اتقى الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه تكفل الله بتعليمه وهدايته وحفظه ورعايته وولايته كما قال تعالى ( ويعلّمكم الله}و كقوله {يا أيّهاالّذين آمنوا إن تتّقوا اللّه يجعل لكم فرقانًا}[الأنفال: 29]، وكقوله: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورًا تمشون به}[الحديد: 28].

-وقوله: {واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ} أي: هو عالمٌ بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها، فلا يخفى عليه شيءٌ من الأشياء، بل علمه محيط بجميع الكائنات، فالعالم بكل شيء يستحق العبودية الخالصة والالتزام بأمره والثقة بما جاء به، فإنه لا يحكم بشيء إلا وله حكمة تقتضي ذلك علمها من علمها وجهلها من جهلها.


قوله تعالى { وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) }
قال ابن عطية الأندلسي في مناسبة هذه الآية لما قبلها:
لما ذكر الله تعالى الندب الى الشهادة والكتابة لمصلحة حفظ الأموال والأديان عقب بذكر الأعذار المانعة من الكتابة
وجعل لها الرهن وذكر من الأعذار السفر الذي هو غالب الأعذار لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو .

-وفي الآية مشروعية الرهن وقد قال العلماء الرهن في السفر ثابت في القرآن وفي الحضر ثابت في الحديث.

وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير
فقال "إنما يريد محمد أن يذهب بمالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذب أني لأمين في الأرض أمين في السماء ولو ائتمنني لأديت اذهبوا اليه بدرعي." أخرجه النسائي وصححه الألباني

-وفي قوله تعالى "فرهان مقبوضة." دليل على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض كما هو قول الشافعي والجمهور.
وفيها دليل على أن الرهن لا بد أن يكون مقبوضا في يد المرتهن.
وفيها دليل على أن المتداينين اذا ائتمنوا بعضهم بعضا فلا بأس ألا يكتب ولا يشهد كما قال اشعب "اذا ائتمن بعضكم بعضا فلا بأس ألا تكتبوا أو لا تشهدوا"

وفيها أهمية تقوى الله في جميع الأمور وخاصة اذا ائتمن على الاشهاد
كما قال صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت حتى ترد" أخرجه أصحاب السنن عن سعيد بن أبي عروبة.



-وفيها أيضا النهي عن كتم الشهادة وهذا النهي على الوجوب بعدة قرائن منها: الوعيد وموضع النهي حيث يخاف الشاهد ضياع حق.
قال ابن عباس "على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر حيثما استخبر."
وقال أيضا "شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك."

- وفي الآية تخصيص القلب بالذكر إذ هو الكتم من أفعاله وهو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كله.

- وفي مراعاة الشريعة لكل تلك التفاصيل الدقيقة في التشريع المتقدم دلالة بينة على أن هذا القرآن من عند الله إذ هو من حكيم خبير لا يخفى عليه خافية في الأرض والسماء،
تبارك وتعالى عما يصفون فما على القلب إلا التسليم بحكم العليم الحكيم والانقياد بالطاعة والإذعان للأحكام،
والله نسأل النجاة من الفتن ما ظهر منها وما بطن والعون على العمل والقبول والتوفيق اللهم آمين والصلاة والسلام على خير المرسلين.
_____________________
المصادر: الزجاج،ابن عطية،ابن كثير، ابن عثيمين.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 6 صفر 1439هـ/26-10-2017م, 06:24 PM
ميسر ياسين محمد محمود ميسر ياسين محمد محمود غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 716
افتراضي

تفسير القسم الأول من آيات الربا بأسلوب التقرير العلمي :(ميسر ياسين)
وسيتم إرسال القسم الثاني :(ريم الحمدان)قريباً ان شاء الله
تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فيها خالدون}
سبحان من خلق النفوس منها الكريم المعطاء الذي حمل نفسه ومرنها على البذل والصدقة راجياً رضى مولاه وجنته، ومنها من لا يكل ولا يمل جمعاً للأموال لا يأبه بالوسيلة سواء كانت رباأو رشوة أو سرقة أو غيرها ،منساقاً وراء أهواءه وجشعه ، ظناً منه أن ذلك يغنيه ناسياً أن الله له بالمرصاد، معرضاًعن كتابه سبحانه.
بين الله سبحانه خلال هذه الآيات صورة شنيعة فظيعة للمرابي تنفر منها النفوس السوية ،وذلك لما له من مخاطر على مستوى الفرد والمجتمع، وفي السنة النبوية ما يبين شناعة هذا الفعل وقذارته كالأحاديث التي ذكرها ابن كثير في تفسيره وهي :
-حديث أبي سعيدٍ في الإسراء، كما هو مذكورٌ في سورة سبحان: أنّه، عليه السّلام مرّ ليلتئذٍ بقومٍ لهم أجوافٌ مثل البيوت، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء أكلة الرّبا. رواه البيهقيّ مطوّلًا.
-حديث ابن ماجه عن عليّ بن زيدٍ، عن أبي الصّلت، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أتيت ليلة أسري بي على قومٍ بطونهم كالبيوت، فيها الحيّات ترى من خارج بطونهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الرّبا».ورواه الإمام أحمد، عن حسنٍ وعفّان، كلاهما عن حمّاد بن سلمة، به. وفي إسناده ضعفٌ.
-وما رواه البخاريّ، عن سمرة بن جندبٍ في حديث المنام الطّويل: «فأتينا على نهرٍ-حسبت أنّه كان يقول: أحمر مثل الدّم -وإذا في النّهر رجلٌ سابحٌ يسبح، وإذا على شطّ النّهر رجلٌ قد جمع عنده حجارةً كثيرةً، وإذا ذلك السّابح يسبح، ما يسبح ثمّ يأتي ذلك الّذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجرًا» وذكر في تفسيره: أنّه آكل الرّبا.
ذكر الزجاج وابن عطية أن الربا هو الزيادة من ربا يربو إذا نما وزاد ، وذكر الرازي أن الربا في الجاهلية قسمان: ربا النسيئة، وربا الفضل؛فالنسيئة هو أن يزيد الغريم في الأجل نظير زيادة في المال يدفعها كل شهر مع بقاء رأس المال على حاله . وقال عنه قتادة: "إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه".
أما ربا الفضل فهو التفاضل في النوع الواحد لأنها زيادة، في عين مال، أو في منفعة أو تأخير قبض أحدهما عن الآخر. وذكر ابن كثير أنواع أخرى من الربا منها:
1-بيع العينة وهو أن يبيع السلعة بثمن مؤجل ، ثم يشتريها مرة أخرى نقدا بثمن أقل .
روى ابن أبي حاتمٍ: عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن أمّ يونس -يعني امرأته العالية بنت أيفع -أنّ عائشة زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قالت لها أمّ محبّة أمّ ولدٍ لزيد بن أرقم-: «يا أمّ المؤمنين، أتعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم. قالت: فإنّي بعته عبدًا إلى العطاء بثمانمائةٍ، فاحتاج إلى ثمنه، فاشتريته قبل محلّ الأجل بستّمائةٍ. فقالت: بئس ما شريت! وبئس ما اشتريت! أبلغي زيدًا أنّه قد أبطل جهاده مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن لم يتب قالت: فقلت: أرأيت إن تركت المائتين وأخذت السّتّمائة؟ قالت: نعم، {فمن جاءه موعظةٌ من ربّه فانتهى فله ما سلف}».
2-المخابرة قال ابن كثير:(وهي: المزارعة ببعض ما يخرج من الأر روى أبو داود: حدّثنا يحيى بن معينٍ، أخبرنا عبد اللّه بن رجاءٍ المكّيّ، عن عبد اللّه بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ قال: «لمّا نزلت: {الّذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشّيطان من المسّ} قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من لم يذر المخابرة، فليأذن بحربٍ من اللّه ورسوله». ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث ابن خثيمٍ، وقال: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرّجه .)
3-المزابنة ،قال ابن كثير:(وهي: اشتراء الرّطب في رؤوس النّخل بالتّمر على وجه الأرض.)
4-المحاقلة قال ابن كثير (وهي: اشتراء الحبّ في سنبله في الحقل بالحبّ على وجه الأرض -إنّما حرّمت هذه الأشياء وما شاكلها، حسمًا لمادّة الرّبا؛ لأنّه لا يعلم التّساوي بين الشّيئين قبل الجفاف. ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة. ومن هذا حرّموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الرّبا، والوسائل الموصّلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب اللّه لكلٍّ منهم من العلم، وقد قال تعالى: {وفوق كلّ ذي علمٍ عليمٌ}[يوسف: 76].)
كما ذكر ابن عطية نوع من البيوع يسمى ربا مجازي : كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع يوم الجمعة أثناء النداء للصلاة ، فهي تشبيه للربا تجاوزاً،ليس فيه معنى الزيادة.
وهناك أنواع كثيرة للربا في عصرنا الحالي وقد قال ابن ماجه: حدّثنا عمرو بن عليٍّ الصّيرفيّ، حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن شعبة، عن زبيدٍ، عن إبراهيم، عن مسروقٍ، عن عبد اللّه -هو ابن مسعودٍ -عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الرّبا ثلاثةٌ وسبعون بابًا».
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث عمرو بن عليٍّ الفلّاس، بإسناد مثله، وزاد: «أيسرها أن ينكح الرّجل أمّه، وإنّ أربى الرّبا عرض الرّجل المسلم». وقال: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا هشيم، عن عبّاد بن راشدٍ، عن سعيد بن أبي خيرة حدّثنا الحسن -منذ نحوٍ من أربعين أو خمسين سنةً -عن أبي هريرة، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «يأتي على النّاس زمانٌ يأكلون فيه الرّبا» قال: قيل له: النّاس كلّهم؟ قال: «من لم يأكله منهم ناله من غباره» وكذا رواه أبو داود، والنّسائيّ، وابن ماجه من غير وجهٍ، عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن، به. ذكره ابن كثير .
فلابد من إتقاء الربا وشبهته لنقص المعلومات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كما في حديث عن أحمد، عن يحيى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب أنّ عمر قال: «من آخر ما نزل آية الرّبا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسّرها لنا، فدعوا الرّبا والرّيبة». رواه ابن ماجه وابن مردويه.كماذكر ابن كثير .
ولابد من سد باب الذرائع :وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرّما لأن كل ما يؤدي للحرام فهو حرام كما ورد في الصّحيحين، عن النّعمان بن بشيرٍ، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إنّ الحلال بيّنٌ وإنّ الحرام بيّنٌ، وبين ذلك أمورٌ مشتبهاتٌ، فمن اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام، كالرّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه».ذكره ابن كثير
وفي السّنن عن الحسن بن عليٍّ، رضي اللّه عنهما، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». وفي الحديث الآخر: «الإثم ما حاك في القلب وتردّدت فيه النّفس، وكرهت أن يطّلع عليه النّاس». وفي روايةٍ: «استفت قلبك، وإن أفتاك النّاس وأفتوك».،الحديث الّذي رواه الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن مسلم بن صبيحٍ، عن مسروقٍ، عن عائشة قالت: «لمّا نزلت الآيات من آخر البقرة في الرّبا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المسجد، فقرأهن، فحرّم التّجارة في الخمر».وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «لعن اللّه آكل الرّبا وموكله، وشاهديه وكاتبه». قالوا: وما يشهد عليه ويكتب إلّا إذا أظهر في صورة عقدٍ شرعيٍّ ويكون داخله فاسدًا، فالاعتبار بمعناه لا بصورته؛ لأنّ الأعمال بالنّيّات، وفي الصّحيح: «إنّ اللّه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنّما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، ذكره ابن كثير .
فالموضوع جد خطير يستحق البعد عنه ؛فالذين يأكلون الربا لايقومون في البعث يوم القيامة إلا كما يقوم المجنون كما قال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد ،ذكره ابن كثير .والمسّ الجنون، وكذلك الأولق والألس والرود،ذكره ابن عطية والزجاج.
واختلف في المس هل هو من الشيطان أم أن المعنى مجازي ؛فقال بعضهم: أنه يجعل معه شيطان يخنفة،
وقال جمهور المفسرين أنه معنى مجازي يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا يوم القيامة وتكون علامة خزي يعرف بها .ودليل هذا الإجما هو:قراءة عبد الله بن مسعود «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم».كما ذكر ابن عطية .
ولقد خصصت لفظة الأكل مع الربا:لأن من أقوى استعمالات الما للأكل ، ولأن لفظة الأكل تدل على الجشع ، وهي من باب الخاص الذي يدل على العموم من كسب ولباس وسكنى وإنفاق وغيره كما ذكر ابن عطية.
وقوله تعالى: {ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الرّبا} أن (ذلك)إشارة إلى الأكل أو إلى ما نزل بهم من العذاب ويعود الضمير عند الجمهو على الكفار ؛ فهم أصلاً لا يؤمنون بالبيع الذي شرّعه الله في القرآن ولو أرادوا قياس الربا على البيع لقالوا إنما الربا مثل البيع ولكن غرضهم الإنكار والتكذيب والاعتراض على ما شرّع الله ومن اعترض مثلهم فهو كافر،مضمون ماذكر الزجاج وابن عطية وابن كثير والألوسي.
أما قوله تعالى: {وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا} جملة مستأنفة من الله تعالى للرد على جرأتهم وسوء أدبهم مع الله ؛فهو العالم بحقيقة المصالح والمضار الحكيم الرحيم بعباده الذي يسأل ولا يُسأل . وقيل أنها من تتمة كلام الكفار اعتراضاً وإنكاراً للشريعة ،كأنهم يقولون أن البيع مثل الربا فلماذا أحلّ الله البيع وحرم الربا ،ذكره ابن كثير والألوسي
واختلف في قوله تعالى : {وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا} هل هو على العموم أم على الخصوص على أقوال :
1-أنه من عموم القرآن، عموم البيع وعموم الربا إلا ما خصه الدليل بالتحريم ،قاله بعض العلماء كما ذكر ابن عطية والألوسي .
2-أنهما مجملان فلا يحلل بيع أو يحرم ربا إلا بالدليل قاله بعضه ودليل الإجمال ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: من آخر ما أنزل آية الربا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة ، مضمون ما ذكر ابن عطيةوالألوسي .
ورجح ابن عطية القول الأول.
وذكر ابن عطية أقوالاً تبين سبب تحريم الربا للإمام جعفر بن محمد الصادق : «حرم الله الربا ليتقارض الناس». وأقوالاً لبعض العلماء: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس.
وقوله عزّ وجلّ: {فمن جاءه موعظة من ربّه فانتهى}:
أي من بلغه نهي اللّه عن الرّبا فانتهى حال وصول التحريم إليه.كما ذكر الزجاج وابن كثير وابن عطية والألوسي
- وجاز تذكير {جاءه}، لأن تأنيث موعظة غير حقيقي فهي بمعنى الوعظ ، وقال تعالى في موضع آخر (قد جاءتكم موعظة من ربّكم} ، كما ذكر ابن عطية والألوسي.
وقوله: {فله ما سلف}: معنى سلف أي تقدم في الزمن وانقضى أي من الربا لاتباعه عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة قاله السدي وغيره، فما أخذ من الربا معفو عنه لا يلزم رده وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هناك، . كما ذكر ابن عطية.
وقال ابن كثير :(قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكّة: «وكلّ ربًا في الجاهليّة موضوعٌ تحت قدمي هاتين، وأوّل ربًا أضع ربا العبّاس» ولم يأمرهم بردّ الزّيادات المأخوذة في حال الجاهليّة، بل عفا عما سلف، كما قال تعالى: {فله ما سلف وأمره إلى اللّه}، قال سعيد بن جبيرٍ والسّدّيّ: «{فله ما سلف}؛فإنّه ما كان أكل من الرّبا قبل التّحريم».)
معنى {وأمره إلى اللّه} أي اللّه وليّه.ذكره الزجاج
وذكر ابن عطية الاختلاف في عود الضمير في قوله تعالى: {وأمره إلى اللّه} بأربعة أقوال هي:
1- أنه يعود على الربا بمعنى: وأمر الربا إلى الله في المحاسبة والجزاء.
2-أنه يعود على ما سلف من الربا أي أمره إلى الله في العفو عنه أو العقاب.
3- أن يكون الضمير عائداًعلى صاحب الربا أي أمره إلى الله في أن يجعله يتوب وينتهي من الربا ويثيبه على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا.
4-أن يعود الضمير على التائب من الربا أي يثبته ويعينه على التوبة تأنيساً له وتشجيعاً وحتى يصبح عنده رجاءً برحمة الله .
وقوله عزّ وجل: {ومن عاد فأولئك أصحاب النّار} :أي من عاد إلى الربا بعد تحريمه وإلى القول إنّما البيع مثل الرّبا فهو كافر،تقوم عليه الحجة.
نزلت الآية بأكملها في الكفار المرابين أما عصاة المؤمنين ينالهم طرف من الوعيد في الآية .مضمون ما ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير
والمراد بالخلود في قوله تعالى:(ومن عاد فأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون )،فيه أقوال ذكرها ابن عطية هي:
1-إن كانت الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي، 2-إن كانت في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب: ملك خالد، عبارة عن دوام ما لا على التأبيد الحقيقي.
وقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)}
ذكر ابن عطية معنى يمحق أي :أي ينقص ويذهب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه، كما ذكر معنى يربي الصّدقات :أي ينميها ويزيد ثوابها تضاعفا،وذكر ابن كثير أقوال متماثلة في المراد بمحق الرّبا هي:
1-أي: ذهابه بالكلّيّة .
2-يحرمه البركة فلا ينتفع به، في الدنيا ويعذّب عليه في الآخرة
3-ينقصه ،كما في حديث الإمام أحمد في مسنده عن عن الرّكين بن الرّبيع بن عميلة الفزاريّ عن أبيه، عن ابن مسعودٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ الرّبا وإن كثر فإنّ عاقبته تصير إلى قلٍّ» .
كما ذكر أيضاً أقوالاً لمعنى (يربي) تبعاً للقراءات:
1-القراءة بضمّ الياء والتّخفيف، من "ربا الشيء يربو" و "أرباه يربيه" أي: كثّره ونمّاه ينمّيه.
2-القراءة : بالضّمّ والتّشديد، "ويربّي" من التّربية، ودليله حدي البخاريّ: عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من تصدق بعدل تمرة من كسبٍ طيّبٍ، ولا يقبل اللّه إلّا الطّيب، وإنّ اللّه ليقبلها بيمينه، ثمّ يربّيها لصاحبه كما يربّي أحدكم فلوّه، حتّى يكون مثل الجبل».
جاءت هذه الألفاظ :(يمحق ويربي) لتعديل المفاهيم عند من تلوث فطرته بالجشع والطمع؛فهي عكس مفهومه تماماً :يظن الربا مُغنيه وهو في الحقيقة ممحق مهلك في الدنيا والآخرة ، ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة.
ويزجر الله سبحانه آكل الربا الكافر القائل :(إنّما البيع مثل الرّبا )في قوله تعالى: {واللّه لا يحبّ كلّ كفّارٍ أثيمٍ} ووصفه سبحانه له بالأثيم مبالغة للتنبيه على فظاعة آكل الربا ومستحله وليذهب الاشتراك الذي في كفار، ورد ابن عطية القول بأن المراد هو : أن الله لا يحب هدايته وتوفيقه بأن هذا قول مستكره ؛فالله تعالى يحب التوفيق والهداية على العموم كما رد القول بأن الله لايحبه محسناً صالحاً بأن من قاله أفرط في تعدية الفعل وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه،مضمون ما ذكره ابن عطية والألوسي.
ذكر ابن كثير أن المراد هو : أن الله لا يحبّ كفور القلب أثيم القول والفعل، كما بين مناسبة ختم الآية بهذه الصّفة، فقال :(أنّ المرابي لا يرضى بما قسم اللّه له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التّكسّب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحودٌ لما عليه من النّعمة، ظلومٌ آثمٌ بأكل أموال النّاس بالباطل) .

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 8 صفر 1439هـ/28-10-2017م, 10:55 PM
ريم الحمدان ريم الحمدان غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 447
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة تفسيرية في آيات الربا بأسلوب التقرير العلمي
قال تعالى :(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ،يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ،وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ .وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ )
الحمد لله الذي أنزل الكتاب ليكون للعالمين نذيراً ، من فضل الله علينا أن وضع لنا منهاجاً دقيقاً نسير عليه ونتبعه في هذه الحياة ، وأرشدنا لما تصلح به حياة العباد والبلاد، وقد تضمنت سورة البقرة أحكاماً كثيرة تحفظ للمسلم الضرورات الخمسة الدين والمال والعرض والعقل ،
منها ما يخص الأسرة من خطبة ونكاح وعدة ، ومنها ما يخص المجتمع كالقصاص والقتال ،ومنها ما يخص المعاملات المالية كالإنفاق في سبيل الله والدين والربا .
لماذا خص الله عز وجل الربا بالتحريم ؟ لا شك أن في تحريم الربا مصالح جمة تعود على المجتمع كافة من تواد وتراحم وحفظ لحقوق الضعفاء .
ستعرض لنا الآيات التالية شيئاً من التشريعات الربانية حول الربا ، نسأل الله التوفيق والسداد .
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}
بعد بيان حال آكل الربا في الآيات السابقة ، تبين هذه الايات بيان حال ضدهم ، المؤمن المتقي المتبع لأوامر الله ،وافتتحت الآية (بإن ) للتأكيد على أن من اتصف بهذه للصفات استحق الأجر من عند الله والأمن التام يوم القيامة . قال ابن عطية وخص الصلاة والزكاة بالذكر لأهميتهما وشرفهما ،فالصلاة عماد أعمال البدن والزكاة عماد أعمال المال .
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)}
ذكر ابن عطية رحمه الله أن سبب نزول هذه الآية أنه كان الربا بين الناس كثيرا في ذلك الوقت، وكان بين قريش وثقيف ربا، فكان لهؤلاء على هؤلاء. فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح: «ألا كل ربا في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب»، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به
ذكر ابن عطية رواية للنقاش في سبب نزول هذه الآية الكريمة : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، فلما جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني المغيرة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف، وكانت لهم على بني المغيرة المخزوميين فقال بنو المغيرة لا تعطي شيئا فإن الربا قد وضع، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، وكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب فعلمت بها ثقيف فكفت»، ذمر ذلك ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم .
والآية بدأت بنداء للمؤمنين بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية كما ذكر ابن عطية بترك الربا ،( إن كنتم مؤمنين ) جملة شرطية ،والمعنى إن كنتم صادقين في إيمانكم فاتركوا الربا ولا تتعاملوا به ، وقوله تعالى :( وذروا مابقي من الربا ) يوضح لنا أن النهي نزل وكانوا يتعاملون بالربا فأمرهم الله بتركه كله وإن كان هناك اتفاق سابق .

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)}
ذكر ابن كثير في تفسيره لما نزلت هذه الآية فكتب بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليه: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من اللّه ورسوله} فقالوا: نتوب إلى اللّه، ونذر ما بقي من الرّبا، فتركوه كلّهم» ).
ذكر الزجاج وجهان لقراءة فأذنوا ، ففي قراءة فآذنوا : أي أخبروا من لم يسمع الأمر بالحرب ، والقراءة الأشهر ( فأذنوا ) أي أيقنوا .
والآية فيها تهديد شديد من الله ،والربا هو المعصية الوحيدة التي جعل الله لها الحرب كعقاب ، فمن الذي يقدر على هذه الحرب ؟

(وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)
القراءات الواردة في الآية :
1-قال الطبري: «وفي مصحف أبي بن كعب: وإن كان ذو عسرةٍ على معنى وإن كان المطلوب»
2- وقرأ الأعمش «وإن كان معسرا فنظرة». قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى: «وكذلك في مصحف أبي بن كعب»، قال مكي والنقاش: «وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ وإن كان ذو عسرةٍ بالواو فهي عامة في جميع من عليه دين». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا غير لازم».
3-وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان، «فإن كان» بالفاء ذو عسرةٍ بالواو.
4-وقراءة الجماعة نظرة بكسر الظاء .
5- وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن: «فنظرة» بسكون الظاء، وكذلك قرأ الضحاك، وهي على تسكين الظاء من نظرة، وهي لغة تميمية.
6- وقرأ عطاء بن أبي رباح «فناظرة» على وزن فاعلة، وقال الزجّاج: «هي من أسماء المصادر، كقوله تعالى:{ليس لوقعتها كاذبةٌ}[الواقعة: 2]وكقوله تعالى:{تظنّ أن يفعل بها فاقرةٌ}[القيامة: 25]، وكخائنة الأعين وغيره»،
7- وقرأ نافع وحده «ميسرة» بضم السين، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «ميسرة» بفتح السين على وزن مفعلة، وهذه القراءة أكثر في كلام العرب، لأن مفعلة بضم العين قليل.
تفسير الآية :
روى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال: «كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة». وقال ابن عباس: «آخر ما نزل آية الربا»
قال ابن عطية أن جمهور العلماء قالوا : «النظرة إلى الميسرة حكم ثابت في المعسر سواء كان الدين ربا أو من تجارة في ذمة أو من أمانة>>.
والعسرة ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة، والنظرة التأخير، والميسرة مصدر بمعنى اليسر،والآية فيها حث على أن يصبر المقرض على المقترض الذي لايجد مالاً ، وأن يمهله حتى يتيسر له رد المال ، ثم ندبهم الله تعالى إلى أن يتصدقوا على المقترض وذلك بالمسامحة وعدم طلب رد المال وأخبر عز وجل أن الصدقة خير من الإنظار والإمهال وأن في ذلك خير للمقرض من حيث زيادة الحسنات والتجاوز عنه يوم الحساب .
وقد أورد ابن كثير أحاديث في فضل الإنظار ، منها :
1/ عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من سرّه أن يظلّه اللّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه، فلييسّر على معسرٍ أو ليضع عنه»رواه الطبراني.
2/عن بريدة قال: سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «من أنظر معسرًا فله بكلّ يومٍ مثله صدقةٌ». قال: ثمّ سمعته يقول: «من أنظر معسرًا فله بكلّ يومٍ مثلاه صدقةٌ». قلت: سمعتك -يا رسول اللّه -تقول: «من أنظر معسرًا فله بكلّ يومٍ مثله صدقةٌ». ثمّ سمعتك تقول: «من أنظر معسرًا فله بكلّ يومٍ مثلاه صدقةٌ»؟! قال: «له بكلّ يومٍ مثله صدقةٌ قبل أن يحلّ الدّين، فإذا حلّ الدّين فأنظره، فله بكلّ يومٍ مثلاه صدقةٌ».
3/عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ: «أنّ أبا قتادة كان له دينٌ على رجلٍ، وكان يأتيه يتقاضاه، فيختبئ منه، فجاء ذات يومٍ فخرج صبيٌّ فسأله عنه، فقال: نعم، هو في البيت يأكل خزيرةً فناداه: يا فلان، اخرج، فقد أخبرت أنّك هاهنا فخرج إليه، فقال: ما يغيّبك عنّي؟ فقال: إنّي معسرٌ، وليس عندي. قال: آللّه إنّك معسرٌ؟ قال: نعم. فبكى أبو قتادة، ثمّ قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «من نفّس عن غريمه -أو محا عنه -كان في ظلّ العرش يوم القيامة». رواه مسلم .
4/عن حذيفة بن اليمان قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أتى اللّه بعبدٍ من عبيده يوم القيامة، قال: ماذا عملت لي في الدّنيا؟ فقال: ما عملت لك يا ربّ مثقال ذرّةٍ في الدّنيا أرجوك بها، قالها ثلاث مرّاتٍ، قال العبد عند آخرها: يا ربّ، إنّك أعطيتني فضل مالٍ، وكنت رجلًا أبايع النّاس وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسّر على الموسر، وأنظر المعسر. قال: فيقول اللّه، عزّ وجلّ: أنا أحقّ من ييسّر، ادخل الجنّة».وقد أخرجه البخاريّ، ومسلمٌ، وابن ماجه .


(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ )
أورد ابن عطية القراءات في ترجعون :
1- قرأأبو عمرو بن العلاء «ترجعون» بفتح التاء وكسر الجيم .
2- وقرأ باقي السبعة «ترجعون» بضم التاء وفتح الجيم .
3-وقرأ الحسن «يرجعون» بالياء على معنى يرجع جميع الناس.
قال ابن عطية أن جمهور العلماء قالوا بأنها آخر ما نزل من القرآن .
وأما وقت نزولها فقد ورد عن سعيد بن المسيب أن قوله عز وجل:{واتّقوا} نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال، ثم لم ينزل بعدها شيء، وروي بثلاث ليال، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، قال ابن كثير وروى الثّوريّ، عن الكلبيّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «آخر آيةٍ أنزلت:{واتّقوا يومًا ترجعون فيه إلى اللّه}فكان بين نزولها وبين موت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم واحدٌ وثلاثون يومًا».
وأنه قال عليه السلام: «اجعلوها بين آية الربا وآية الدين»، وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية، من البقرة».
والآية فيها أمر بتقوى الله باتباع أوامره واجتناب محارمه وفيها عظة وتخويف باليوم الآخر ،قال تعالى :( يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم ).
وبيان أن الله عدل سبحانه وسيعطي كل إنسان حقه كاملاً يوم القيامة بحسب ما عمل في الدنيا .قال ابن عطية والآية تنص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الإنسان. وهذا رد على الجبرية .


استغفر الله وأتوب إليه

رد مع اقتباس
  #11  
قديم 18 جمادى الآخرة 1439هـ/5-03-2018م, 10:14 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

تقويم مجلس مذاكرة القسم العشرين من تفسير سورة البقرة



أولا: تفسير آيات الربا بأسلوب التقرير العلمي

فاطمة الزهراء أحمد- هبة الديب أ
أحسنتما التقديم للرسالة وعرض المسائل، وكذلك الاستزادة من المصادر، بارك الله فيكما ونفع بكما.
- تتكرّر أحيانا لفظة "حدّثني" و"حدّثا" دون بيان المحدَّث، وقد يذكر في آخر الكلام "ذكره ابن جرير"، والمناسب أن تكتب قبلها: "قال ابن جرير"،
لا أن تكتب بعدها.
- المأثور عن السلف أن هذه الصفة لآكل الربا تكون يوم القيامة، وتشهد لها قراءة ابن مسعود: "لا يقومون يوم القيامة"، وهذا يردّ الاحتمال الذي ذكره ابن عاشور أنه قد يكون في الدنيا، والقول بوجود المجاز في القرآن قول مرجوح، وقول ابن عطية في المسألة هو قول السلف وإنما ذكر هذا القول لأن ألفاظ الآية تحتمله من جهة اللغة.
- يفوت أحيانا ذكر مصدر القول، فإذا ذكر قول عن السلف يجب أن يذكر من خرّجه أو نقله من المفسّرين، ولا نقتصر عليه فقط.
- الآثار الواردة في تفسير الحرب المعلنة على أكلة الربا تشمل معاني الحرب في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب الشديد.

ميسر ياسين ب
أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
وقد اشتملت رسالتك على كثير من المسائل الأساسية في الآية، وظهرت استفادتك من التفاسير الثلاثة والاستزادة من غيرها.
ولكن الملاحظات على أسلوب الطالب وطريقة بناء الرسالة، وأرجو أخذها بعين الاعتبار لأنه لم يعد هناك متّسع لهذا النوع من الأخطاء في كتابة رسائل التقرير العلمي وقد سبق التنبيه عليها، وهي كالتالي:
- اتّفقنا سابقا أنه يتوجّب على الطالب أن يتفهّم أقوال المفسّرين في كل مسألة ويعبّر عنها بأسلوبه، لا أن يكون عماد بناء رسالته هو النسخ واللصق ثم ينسب الكلام للمفسّرين مراعاة لأمانة النقل، فهذا ليس مقصود هذه الرسائل، ولكن قلنا إن على الطالب أن يتفهّم مجموع كلام المفسّرين في المسألة الواحدة ثم يعبّر بأسلوبه عن خلاصة ما فهمه من جميع هؤلاء، وله أن يحلّي عبارته ويقوّي رسالته باقتباس بعض كلام المفسّرين بالنصّ مع وضعه بين علامتي التنصيص " .."، دون إسراف ودون أن يكون ذلك هو الغالب على الرسالة، أما كثرة تقطيع الكلام بقولنا: "وذكره فلان وفلان" فغير جيد، وكذلك قولك: "وهو مضمون كلام فلان وفلان وفلان" أيضا غير مطلوب طالما جاء التعبير بأسلوب الطالب وطالما بيّن مراجعه في الرسالة، ونحن نحتاج نسبة القول إذا كان اختيارا لأحد المفسّرين أو رواية لأقوال السلف، أما المعاني العامّة المتّفق عليها فهذه يعبّر عنها الطالب بأسلوبه هو.
- ومع تقديري لحسن تقديمك للرسالة ببيان شناعة الربا ووعيد المرابين، إلا أنك أطلتِ فيه الكلام وصدّرتِ الرسالة بتفصيل الكلام عن الربا وأنواعه وأخّرتِ الكلام عن تفسير الآية حتى إنه ليخيّل للقاريء أن الرسالة إنما هي في موضوع الربا عموما، وأن الكلام عن الآية أتى لمجرّد الاستشهاد عليه فقط، وليست هي موضوع الرسالة الرئيس، وكان الأولى أن تتناولي مسائل الآية على الترتيب، والإشارة إلى مناسبتها ومقصدها ثم تفصيل في الكلام عن الربا في مسألته، وأوصيك بالاستفادة من رسالة الأستاذتين هبة وفاطمة.
وتوجد ملاحظات على بعض المسائل:
- لو استغنيتِ عن عبارة "قلة المعلومات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الربا"، لأنه لا شكّ أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لنا ما يقوم به الدين، وإن لم يشمل جميع تفاصيله لأن المعاملات التي تستجدّ مع الزمان لا يمكن حصرها وإن أمكن إرجاعها إلى أصل واحد.
- كلامك على أن الجمهور على المجاز في قوله: {يتخبّطه الشيطان من المسّ} خطأ، والقول الصواب أنه لا مجاز في القرآن، وقيام آكل الربا يوم القيامة كالمجنون هو على الحقيقة.
- التعرّض لكلام ابن فورك في معنى قوله تعالى: {والله لا يحب كل كفّار أثيم} لا حاجة له، واقتصري على تفاسير أهل السنة كالطبري وابن كثير في تفسير آيات الصفات.

ريم الحمدان ج+
أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
- راجعي التعليق على رسالة الأستاذة ميسر فيما يخصّ ظهور أسلوب الطالب في الرسالة.
- يلاحظ اقتصارك في بعض المسائل على تفسير واحد، مثل مسألة القراءات في قوله تعالى: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله}، علاوة على أن تفسير الزجّاج ليس أوفاهم تحريرا للمسألة حتى يؤثر بالاختيار دونهم، فالواجب مراجعة التفاسير الثلاثة في كل مسألة والخروج بقول وافٍ فيها.
- وكذلك يلاحظ فوات مسائل كثيرة من تفسير الآية السابقة فقد اخترتِ منها مسألة واحدة فقط وتركتِ بقية مسائل الآية، كالمراد بهذه الحرب ووقتها وبيان ما جاء فيها من آثار، ولم تبيّني معنى بقية الآية {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 19 جمادى الآخرة 1439هـ/6-03-2018م, 10:23 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

تابع تقويم مجلس مذاكرة القسم العشرين من تفسير سورة البقرة



ثانيا: تفسير آيات الدين بالأسلوب الاستنتاجي
نعلم جميعا أن شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله وأعلى درجته- من المفسّرين الذين يعتنون باستنباط الفوائد من الآيات التي يفسّرونها وهذا في جميع تفسيره، ونحن لا نمانع استفادة الطالب منه أو من غيره في كتابة الرسالة، لكن بعد أن يستفرغ الطالب الوسع والجهد في استنباط الفوائد وكتابتها بأسلوبه، فله أن يضيف بعد ذلك ما خفي عليه من الفوائد مما استفاده من تفسير ابن عثيمين رحمه الله شرط العزو إليه، على أنه إذا كانت العبارة منقولة نصّا من تفسير ابن عثيمين أو غيره وجب أن تعزى إليه مباشرة في الرسالة بعبارة "قاله فلان" دون الاكتفاء بالعزو إليه في مصادر الرسالة، أما إذا عبّر عن الفائدة بأسلوبه أمكنه حينها الاكتفاء بالإحالة على المصادر.
ونحن ننظر إلى الفائدة المتحصّلة من هذه الرسائل التي قرّرت خصّيصا لتدريب الطالب على الكتابة وتطوير أسلوبه، فنجد أن النقل النصّي للتفسير ليس مطلبا لا من جهة الطالب ولا من جهة فريق التصحيح.

(نبيلة الصفدي - هناء هلال) ب
أحسنتما، بارك الله فيكما ونفع بكما.
والرسالة لم تخل في كثير من المواضع من ظهور أسلوب الطالب واستفادته من بقية التفاسير، لكن غلب عليها النقل في كثير من مواضعها.


(الشيماء وهبه - تماضر - شيماء طه) أ
أحسنتن، بارك الله فيكن ونفع بكن.
وأسلوب الرسالة ممتاز، مع اجتهاد في الاستنباط والفهم، وحسن الاستدلال على كل فائدة.
ولكن تفوت الفوائد من بعض المواضع، والذي ظهر لي اقتصاركم على الفوائد الخفية دون الاستنتاجات الظاهرة من الآية مباشرة، والواجب في التفسير بالأسلوب الاستنتاجي أن يشمل الاثنين معا، كأن نقول مثلا في قوله تعالى: { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء}..
= وجوب الإشهاد على كتابة الدين..
= شرط الشهود أن يكونوا من أهل الإسلام لقوله: {من رجالكم}.
= الشهود إما رجلان أو رجل وامرأتان.
= وجوب أن يكون الشهداء عدولا مرضيّين في شهادتهم.


رد مع اقتباس
  #13  
قديم 19 جمادى الآخرة 1439هـ/6-03-2018م, 05:52 PM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

تابع تقويم مجلس مذاكرة القسم العشرين من تفسير سورة البقرة


ثالثا: تفسير آخر آيات القرآن نزولا بالأسلوب الوعظي
كوثر التايه ب
أحسنت بارك الله فيك ونفع بك، وأسلوبك حاضر في الرسالة، مع شمولها أهمّ مسائل الآية.
والأسلوب الوعظي من الأساليب التي تحتاج إلى الإكثار من الشواهد المحرّكة للقلب، من القرآن والسنة وسير السلف، والكلام عن يوم القيامة وعظمته وما يكون فيه من أحداث تناولته آيات القرآن والأحاديث النبوية في مواضع كثيرة جدا، وكذلك خوف الصالحين منه وشدة استعدادهم له مما ضجّت به كتب السير، فهذا مما افتقده محتوى الرسالة.
أما الملاحظ على أسلوب الرسالة فهو الوصل بين عبارة الكاتب وعبارات غيره من أهل العلم في دون تمييز القائل، وإن كان ميّز بينها بعلامات التنصيص والإحالة إلى الهوامش، والأمانة أن نعلم بصاحب العبارة للقاريء مباشرة فنقول: قال فلان كذا وكذا، فأرجو مراعاة ذلك فيما يستقبل إن شاء الله.
والاستفادة من العبارات المؤثّرة لأهل العلم من مميزات الرسائل الوعظية، شريطة عدم طغيان النقل على أسلوب الكاتب.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 20 جمادى الآخرة 1439هـ/7-03-2018م, 01:31 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

تابع تقويم مجلس مذاكرة القسم العشرين من تفسير سورة البقرة



رابعا: تفسير آخر ثلاث آيات من سورة البقرة بالأسلوب المقاصدي

صفية الشقيفي أ+
أحسنت بارك الله فيك وزادك توفيقا.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 21 جمادى الآخرة 1439هـ/8-03-2018م, 11:17 PM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

تابع تقويم مجلس مذاكرة القسم العشرين من تفسير سورة البقرة



خامسا: تفسير آخر ثلاث آيات من سورة البقرة بأسلوب الحجاج


(مها شتا - عائشة أبو العينين - أمل يوسف) أ+
أحسنتم وأجدتم بارك الله فيكم ونفع بكم.
- توجد ملاحظة على مسألة الخلاف في إحكام الآية، فهذه الأقوال غير مختلفة، وإنما يستفاد من مجموعها فهم معنى الآية، ما تتعلّق به المحاسبة، وما يستوجب العقوبة وما لا يستوجب، وأنواع العقوبات وزمنها بحسب أصحابها، وبعضها من باب التفسير بالمثال لم يقصد أصحابها تخصيص الآية بها.

- والقول بجواز التكليف بما لا يطاق عقلا هو مذهب الأشاعرة، وقد بسط أهل العلم الكلام فيه كثيرا وناقشوه، وتحريره يحتاج إلى اطّلاع أوسع.



(مضاوي الهطلاني - منيرة محمد - عابدة المحمدي) أ+
أحسنتم وأجدتم بارك الله فيكم ونفع بكم.
- أحسنتم بيان ما يكون في النفس ولا يؤاخذ به العبد وهي الخواطر العابرة والوسوسة،
ولم تبيّنوا ما يكون في النفس ويؤاخذ به وهو ما استقرّ في القلب وقصده واعتقده وقد أشار ابن عطية إلى هذا المعنى.
- يلاحظ تعرّضكم لمسألة القول بجواز التكليف بما لا يطاق عقلا في موضعين مختلفين في الرسالة، والأولى جمع المسألة ومناقشتها في موضع واحد.
وتحرير المسألة كما أشرنا في التقويم السابق يحتاج إلى اطّلاع أوسع، وأنتم غير مطالبين في هذا التطبيق بغير التفاسير الثلاثة، لذا تحرير هذه المسألة على التمام لا يدخل ضمن المطالب الرئيسة في هذا التطبيق.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المجلس, الأول

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:48 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir