لأمر كما
وقد كانت فتنة القول بخلق القرآن فتنة عظيمة، وكذلك فتنة الوقف كانت فتنة عظيمة؛ وكان العامّة أكثر قبولاً للقول بالوقف منهم للقول بخلق القرآن؛ فمن وقف من المحدّثين فقد وافق قوله قول الواقفة من الجهمية والشاكّة، وكان عوناً لهم على التشكيك في كلام الله.
ولذلك أنكر عليهم كبار الأئمة وهجروهم.
وممن نُسب إليه القول بالوقف من أهل الحديث: مصعب بن عبد الله الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل المروزي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن الجعد الجوهري، ويعقوب بن شيبة السدوسي.
فأمّا مصعب بن عبد الله الزبيري (ت:236هـ) وإسحاق بن أبي إسرائيل المروزي (ت:245هـ) فقد صرّحا بأنّهما لم يقفا على الشكّ، وإنما سكتا كما سكت من قبلهم، وكرها الدخول في هذه المسألة من أصلها، وكرهوا الكلام فيما ليس تحته عمل.
قال ابن أبي خثيمة: قلت لمصعب ابن عبد الله: إن هؤلاء يقولون القرآن كلام الله، ويقفون؛ فيقولون من قال: مخلوق ابتدع، ومن قال: غير مخلوق ابتدع، ويحتجون بك، ويزعمون أنك تقول بهذا القول، وأن مالكاً يقوله.
فقال: معاذ الله؛ أما أنا فأقول كلام الله وأسكت، وقلبي يميل إلى أنه غير مخلوق، ولكني أسكت لأنه بلغني عن مالكٍ أنه يقول: الكلام في الدين كلُّه أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، القدرَ ورأيَ جهم، وكلَّ ما أشبهه، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في الله فأحبُّ إليَّ السكوتُ عن هذه الأشياء؛ لأن أهل بلدنا ينهون عن الكلام إلا فيما تحته عمل.
قال مصعب: ولقد ناظرني إسحاق بن أبي إسرائيل فقال: لا أقول كذا ولا كذا، ولا أقول ذلك على الشك، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي.
وكان هذا اجتهاد منهم أخطؤوا فيه رحمهم الله؛ فإنّ كلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفات الله ليست مخلوقة، ولو كانت المسألة لم يُتكلّم فيها بالباطل ويُمتحن الناسُ فيها لكان يسعهم السكوت؛ فأمّا مع ما حصل من الفتنة وحاجة الناس إلى البيان، وكثرة تلبيس الجهمية؛ فلا بدّ من التصريح بردّ باطلهم، وأن لا يترك الناس في عماية؛ فيكونوا أقرب إلى قبول الأقوال المحدثة.
قال الحسين بن فهم: (كان مصعب إذا سئل عن القرآن يقف، ويعيب من لا يقف).
وقال شاهين العبدي: سمعت أبا عبد الله، يعنى أحمد بن حنبل، يقول: (إسحاق بن أبي إسرائيل واقفيٌّ مشؤوم، إلا أنه صاحب حديث كيّس).
وقال أبو حاتم الرازي: (كتبتُ عنه فوقف في القرآن، فوقفنا عن حديثه، وقد تركه الناس حتى كنت أمر بمسجده وهو وحيدٌ لا يقربه أحد بعد أن كان الناس إليه عنقاً واحداً).
وقد روى أبو القاسم اللالكائي عن مصعب الزبيري رواية من طريق عليّ بن الفرات الأصفهاني توافق قول أهل السنة في تخطئة الواقفة وتضليلهم؛ فلعلّه رجع عن قوله المشهور عنه، والله تعالى أعلم.
وأما عليّ بن الجعد الجوهري (ت:230هـ) فقد نُسب إليه الوقف، وما هو أشدّ من الوقف، وهو أنه لم ينكر على من يقول بخلق القرآن، وهو في نفسه لا يقول بخلق القرآن.
وكان ابنه الحسن من قضاة الجهمية في بغداد، ثم قيل: إنّ ابنه رجع عن التجهم في خلافة المتوكّل، والله أعلم
|