المثال الأول: فوائد سلوكية من تفسير قول الله تعالى: {للذين استجابوا لربهم الحسنى...}
الحمد لله الذي له المحامد كلها، على كرمه وعلمه، وعلى عفوه وحلمه، وعلى هدايته وتوفيقه، والصلاة والسلام على خير عباده، وصفوة أوليائه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه أما بعد:
فهذه فوائد سلوكية من تدبر قول الله تعالى: {للذين استجابوا لربهم الحسنى} وبيان ما تضمَّنه من هدايات جليلة القدر عظيمة النفع لمن وفّقه الله:
فمنها: تضمّن هذه الآية الكريمة بيان سرّ السعادة وسبب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وهو الاستجابة لله تعالى؛ فالمستجيب هو السعيد الذي له كتب الله له الحُسْنى.
ومنها: ما في هذه الآية ضمان كريم ووعد صادق من الله تعالى – والله لا يخلف الميعاد - أن من استجاب له تعالى فسيكون في أحسن حال.
ومنها: أنَّ وصف الحُسنى في الآية عامّ للحال والمآل على أظهر أقوال المفسّرين.
ومنها: أنَّ بناء لفظ "الحُسنى" الصرفي على "فُعْلى" دالٌّ على بلوغ الغاية في الحسنِ حسن الحال وحسن الجزاء، كما يقال: المثلى والوُثقى والعظمى والكبرى للدلالة على بلوغ منتهى الغاية في ذلك.
ومنها: أن هذا الجزاء منحة خاصة لأهل الاستجابة لا يشاركهم فيها غيرهم؛ فلهم بها أعظم الامتياز عن غيرهم، دلَّ على ذلك تقديم الجار والمجرور {للذين استجابوا لربهم الحسنى}.
ومنها: أن الاستجابة لا تكون إلا بعد دعوة فدلَّ ذلك على سبق بيان الهدى؛ وتكفّل الله تعالى به في كل ما يحتاجه العبد وإنما عليه الاستجابة.
ومنها: أن هذا الثواب عام في الدنيا والآخرة، وسيجد المستجيب لربه أحسن ما يُنال وأفضله في الميزان الصحيح.
ومنها: أن اقتران ذكر الاستجابة بوصف الربوبية له دلالات عظيمة:
إحداها: أنه تعالى هو ربّ المستجيبين ربوبية خاصة تملأ قلوبهم ثقة وطمأنينة بحسن هداه وصدق وعده.
والثانية: أنه تعالى أعلم بما يصلح عباده وأرحم بهم من أنفسهم؛ فقد يمنعهم بعض ما يشتهونه وقاية لهم مما يفضي إلى شقاوتهم وهلاكهم.
والثالثة: أنه تعالى هو الربّ الكفيل ببيان هداه وإنجاز وعده.
والرابعة: أنَّ المستجيب الصادق سيجد العون على الاستجابة لربّه جلّ وعلا.
ومن الفوائد أيضاً: أن هذه الاستجابة ميسَّرة لا حرج فيها دلَّ على ذلك استصحاب أصل رفع الحرج في كلّ ما يأمر الله به عباده.
ومنها: أن استجابة العبد يجب أن تكون خالصة لربه جلّ وعلا {للذين استجابوا لربهم} دلّ على ذلك معنى الاختصاص في حرف اللام في قوله تعالى: {لربهم} أي لا لغيره؛ فيعمل الطاعات امتثالاً لأمر الله وابتغاء وجهه.
ومنها: أن استجابة العباد لربّهم على درجات متفاوتة، دلّ على ذلك ظهور التفاوت في تحقيق الاستجابة؛ فمن المستجيبين من هو محسن في استجابته مسارع بها إلى الله تعالى؛ فله أحسن الجزاء وأحسن العاقبة، ومنهم المقتصد الذي يستجيب استجابة تبرأ بها عُهدته، فينال بذلك حسن ثواب المتّقين، ومنهم الظالم لنفسه الذي في استجابته نقص وتفريط؛ فيستجيب له في أصل الدين وما يحفظ به إسلامه ويقصّر في بعض ما يجب عليه فيما وراء ذلك؛ فله من حسن العاقبة ما وعد الله به أهل الإسلام من النجاة من النار ودخول الجنّة وإن عُذّب قبل ذلك ما عذّب.
فهؤلاء كلهم من أهل الاستجابة، والتفاضل بينهم في الحال والجزاء عظيم كما تفاضلوا في الاستجابة.
فتبيّن بذلك أن أسعد الناس بأحسن الأحوال والجزاء أحسنهم استجابة لربه جلّ وعلا.
وأمّا الذين أخبر الله عنهم بقوله: { وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} فهم الذين لم يستجيبوا له في أصل الدين وهم الكفار والمنافقون، والعياذ بالله.
ومنها: أنَّ العبدَ لو تأمّل أسباب شقائه وسوء حاله لوجده راجعاً إلى أصل واحد، وهو تقصيره في استجابته لربه فساءت حاله لما أساء.
ومنها: أنَّ كل أمر يعترض العبد يقابله هدى من الله تعالى يُحِبُّ أن يستجاب له فيه؛ فمن استجاب فاز بالحسنى ومن أعرض عرّض نفسه لسوء الحال والعقاب.
ومنها: أنَّ يقين العبد بأن مدار سعادته وفوزه وفلاحه على استجابته لله تعالى يجعله دائم الفكر فيما يرضي ربه وما يحب أن يستجاب له فيه، وهنا سر العبودية.
ومنها: أنَّه من المُحَال شرعا وعقلاً عند أهل العلم والإيمان أن تكون عاقبة المستجيب لربه سيئة ، فمن أيقن بهذا أحسن الظنّ بالله، ورضي به ربّا، وتيسّر له تحقيق التوكل.
فهذه بضع عشرة فائدة سلوكية في قوله تعالى: {للذين استجابوا لربهم الحسنى} من تبصَّر بها وفقه معانيها وعرف قدرها تبيَّنت له مناسبة قول الله تعالى في الآية التي تليها: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربّك هو الحقّ كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب}.
هذا مما فتح الله تعالى به من بيان بعض ما تضمنته هذه الآية من الفوائد السلوكية على تقصير في الشرح وقصور في التعبير عن دلائل هذه الكلمة العظيمة، أسأل الله تعالى أن يتقبلها ويبارك فيها إنه حميد مجيد.
وأستغفر الله تعالى من الخطأ والزلل، وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه.