قوله: (فإن تعارض عمومان) التعارض لغة: التقابل والتمانع.
وعند الأصوليين: أن يتقابل دليلان بحيث يخالف أحدهما الآخر.
والتعارض من أهم المباحث في أصول الفقه؛ لأنه يقع في جميع الأدلة الشرعية، ولا يمكن إثبات الحكم إلا بإزالة التعارض، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ البحث في التعارض، والمقصود هنا التعارض في باب «العام».
فإذا تعارض نصان عامان فللخروج من التعارض طرق:
قوله: (وأمكن الجمع بتقديم الأخص) هذا الطريق الأول ، وهو أن يمكن الجمع بينهما بتقديم الأخص، وهذا إذا كان التعارض بين العامين من وجه، كأن يكون بين عموم الأول وخصوص الثاني، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: {{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}} [البقرة: 234] فهذه الآية عامة في الحامل وغيرها، خاصة في المتوفى عنها.
وقوله تعالى: {{وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}} [الطلاق: 4] عامة في المتوفى عنها وغيرها، خاصة بالحامل، فيقدم الأخص، وهو الثاني، على الأول، وتُخرج الحامل من عموم الآية الأولى، وتكون عدتها وضع الحمل، سواء كانت متوفى عنها أم غيرها، بدليل حديث سُبيعة الأسلمية رضي الله عنها أنها وضعت بعد وفاة زوجها بليال، فأفتاها النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم أن تتزوج[(498)]. فدلّ ذلك على أن الحامل المتوفى عنها غير داخلة في عموم آية البقرة، والله أعلم.
والتمثيل بآية البقرة لا يتمشى مع القول بأن الجموع المنكرة لا عموم لها، وقوله تعالى: {{وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}} [البقرة: 234] جمع منكر، فلا يعم[(499)]، كما تقدم، والله أعلم.
ومن أمثلة ذلك ـ أيضاً ـ: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بدل دينه فاقتلوه» [(500)] مع نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن قتل النساء[(501)]. فالأول عام في الرجال والنساء، خاص بأهل الردة، والثاني عام في الحربيات والمرتدات، خاص بالنساء، فالتعارض بين عموم الأول وخصوص الثاني، بمعنى أن المرتدة هل تقتل عملاً بعموم الأول، أو لا تقتل عملاً بالثاني؟
والجمهور على العمل بالحديث الأول، فيقتل كل مرتد ومرتدة، وحملوا حديث النهي على الكافرة الأصلية ما دامت لم تباشر القتال، بدليل سياق قصة النهي، ولحديث معاذ رضي الله عنه وفيه: «وأيُّما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها» [(502)].
قوله: (أو تأويل المحتمل) كحديث أسامة رضي الله عنه: «إنَّما الربا في النسيئة»[(503)]، فهذا كالصريح في نفي ربا الفضل، وورد حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر وبالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» [(504)]، وفيه إثبات ربا الفضل، فوقع التعارض في الظاهر، فيجمع بينهما بتأويل حديث أسامة وحمله على الجنسين كَبُرٍّ بشعير، فلا يجوز فيه النَّسَأ. وقيل: يحمل حديث أسامة على الربا الأغلظ الأشد، كما يقال: لا عالم في البلد إلا زيد، مع أن فيها علماء غيره، وقيل: هو منسوخ؛ لكن هذا ضعيف؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ثم إن الاستدلال بحديث أسامة على جواز ربا الفضل إنَّما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛ لأنه منطوق[(505)].
قوله: (فهو أولى من إلغائهما) أي: إن الجمع أولى من الإلغاء؛ لأن الجمع عمل بكلا الدليلين.
قوله: (وإلا فأحدهما ناسخ إن علم تأخره) هذا الطريق الثاني للخروج من التعارض، وهو أنه إذا لم يمكن الجمع فإنه يصار إلى النسخ، ومن شروط النسخ: عدم إمكان الجمع، والعلم بتأخر الناسخ. فإذا عُلِمَ تأخر أحد النصين فهو ناسخ للآخر فيعمل به، ومثاله قوله تعالى في الصيام: {{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}} [البقرة: 184] فهذه الآية تفيد التخيير بين الإطعام والصيام مع ترجيح الصيام.
وقوله تعالى: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} [البقرة: 185] يفيد تعيين الصيام أداء في حق المقيم الصحيح، وهي متأخرة عن الأولى فتكون ناسخة لها؛ كما دل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (لما نزلت: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}} [البقرة: 184] كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها)[(506)].
قوله: (وإلا تساقطا) أي: إذا لم يمكن الجمع ولا النسخ تساقطا، فلا يعمل بأحدهما دون الآخر؛ لئلا يلزم عليه الترجيح بلا مرجح.
لكن كلام المصنف مبني على ما إذا لم يمكن الترجيح، فإذا أمكن الترجيح بمرجحات خارجية عمل بها، وإلا تساقطا، ولا مانع من ذلك، إذ قد يخفى علينا دليل الترجيح لطول المدة، واندراس القرائن؛ لحِكَمٍ يعلمها الله تعالى.
واعلم أنه لا يمكن التعارض بين الأدلة في نفس الأمر على وجه لا يمكن فيه الجمع، ولا النسخ، ولا الترجيح؛ لأن الأدلة لا تتناقض، والرسول صلّى الله عليه وسلّم قد بلّغ وبيّن، ولكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد، إمَّا لنقص في علمه، أو خلل في فهمه. والله أعلم[(507)].