خـطــــر التعــــالـم
والتحــذير من المتعالمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فإن التعالم داء خطير؛ وبلاء مستطير، ابتليت به الأمّة على تعاقب أجيالها، وتطاول قرونها، فكم فتن به من طالب علم تعجّل الثمرة قبل نضجها، والتصدّر قبل حينه، فاشترى الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة؛ إذ حاد عن الصراط السويّ، والمنهج الرضيّ؛ فزلَّ وأزلّ، وضلّ وأضلّ، فباء بإثمه وإثم الذين يضلّهم بغير علم.
وكم جلب المتعالمون على الأمّة من بلايا ومحن، وفتحوا من أبواب الفتن، وفي التاريخ من خَبرهم قصص وعبر.
والمتعالمون من أخطر قطّاع الطريق على طلاب العلم؛ فكم أخمدوا في نفوسهم من جذوة حماس، وأوهوا من عزائم كانت متّقدة، وأماتوا من همم طلاب كانوا متطلّعين لطلب العلم والإمامة فيه؛ ونفع أنفسهم ونفع المسلمين؛ يتلمّسون سبل العلم، ويتعرفون مناهجه؛ فاستغلّ أولئك المتعالمون ضعف بداياتهم، ونعومة أظفارهم في العلم؛ فصالوا عليهم بوصاياهم الخاطئة، وضلالاتهم المردية؛ فاجتالوهم عن جادّة أهل العلم، وغرّوهم بزخرف أقوالهم، وزيّنوا لهم سوء أعمالهم، حتى أوردوهم المهالك، وأعقبوهم الحسرات.
وكم من طالب كان يُرى في حلق العلم حاملاً كتبه، معتنيا بطلبه، تُرى عليه وضاءة العلم، وبهجة أهله، يتردد بين شيوخه؛ يدرس ويتعلم، ويسأل ويتفهّم؛ فبينا هو كذلك إذ تلقّفه منهم متلقّف فوسوس له كما يوسوس الوسواس الخناس ؛ وألقى إليه الشبهات تلو الشبهات، حتى إذا تحيّر وتردد، وأسلم إليه القياد انخنس به من بين زملائه، واقتاده إلى وادٍ من أودية الضلال، وكل ضلالة في النار.
وكثير من أتباع الفرق الضالة إنما كانت بدايات انحرافهم بأيدي أولئك المتعالمين الضالين؛ يمنّونهم ويغرونهم؛ حتى يستحوذوا عليهم.
ولم تزل فتنة المتعالمين على اختلاف أصنافهم تمنى بها الأمة جيلاً بعد جيل، تتنوّع مظاهرهم ووسائلهم، وتتشابه قلوبهم وحقائقهم؛ فكان من أهمّ ما ينبغي أن يُبصّر به طالب العلم في أوّل طلبه للعلم تحذيره من التعالم والمتعالمين، وبيان خطرهم وضررهم.
وعماد هذه الرسالة على مقصدين مهمّين:
أحدهما: التحذير من المتعالمين وبيان خطرهم وضررهم، وأصنافهم وعلاماتهم.
والثاني: تحذير طلاب العلم من التعالم، وسلوك سبيل المتعالمين.
معنى التعالم:
التعالم هو ادّعاء العلم والتظاهر به.
والتعالُمُ «تفاعُلٌ» من العلم، ومن معاني صيغة «تفاعل» في اللغة إظهار خلاف الباطن؛ ومنه قولهم: تماوت، وتمارض، وتغافل، وتجاهل، وتذاكى، وتباكى.
وتأتي هذه الصيغة لمعانٍ أخر.
والمقصود أن التعالم في اللغة هو ادّعاء العلم، والتظاهر به، وحقيقة المرء على خلاف ذلك.
فالمتعالم هو الجاهل الذي يدّعي المعرفة ويتظاهر بالعلم؛ فيتلبس بلباس أهل العلم، ويتحدث بلسانهم، ويستعمل شيئاً من أدواتهم وعباراتهم، وهو لم يسلك سبيلهم في تحصيله ورعايته، ولم يتحمل مشقّته، ولم يحمل أمانته.
فيتكلم في مسائل العلم على غير هدى، ويقول بغير علم، فيفتن نفسه ومن يستمع إليه، ممن يشتبه عليه تضليله وتلبيسه.
والنُّقّاد من أهل العلم يميزون العالم من المتعالم؛ فلا يلبث المتعالم الجهول حتى يتصدّى له من أهل العلم من يبيّن جهله وتعالمه، ويحذّر من خطئه وخطره؛ فيناله من الخزي في الدنيا ما يناله، مع ما توعّد به من العذاب في الآخرة إن لم يتب ويستعتب.
مظاهر التعالم
وللتعالم مظاهر متفشية وأخطار شائعة، ومنها:
1. التوصية بمناهج تعليمية لم يدرسها ولم يجرّبها، وليس له من التمكن في التخصص ما يؤهّله لإصدار تلك الوصايا المنهجية في الكتب والشيوخ؛ فيتلقّف الطالب المبتدئ وصاياه المنهجية ويظنّها مرشدة وهي مضلّة، والوصايا الخاطئة من أخطر أضرار المتعالمين على طلاب العلم المبتدئين؛ لأنهم ليس لديهم من التمييز ما يعرفون به صحة تلك الوصايا من خطئها، ويحسبون هذا المتعالم عالماً ناصحاً، وقد يكون صاحب هوى، أو جاهل متعالم جريء على القول بما لا علم له به.
2. نقد الكتب والرجال، والكلام فيهم بغير علم، وتتبع عثرات العلماء، وترصّد زلاتهم، وهو من أشهر مسالك المتعالمين، وأقرب طرقهم إلى الشهرة.
3. الفتوى بغير علم، والتسرّع إليها، وهي داء دوي لا يكاد يسلم منه متعالم.
4. التصدّر للوعظ والتذكير عن غير تأهّل، ولو أن الواعظ اقتصر على النقول الصحيحة واستعمل التثبّت في النقل؛ لكان على خير، لكن من التعالم الذي وقع فيه كثير من الوعّاظ مجاوزة ذلك إلى الفتوى بغير علم، وإيراد الأحاديث الضعيفة والباطلة، والحكايات الواهية، والدعاوى العريضة، والأحكام الجائرة؛ كالتشديد فيما فيه سعة، والتهوين في أمور العزائم.
وهذه الأمور التي وقع فيها بعض الوعّاظ فأشاعوا الموضوعات والأحاديث الضعيفة والمفاهيم الخاطئة كان لها أثر كبير في نشر الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتفشي بعض الأقوال الخاطئة، وانتشار بعض البدع.
5. التصدر للتدريس قبل التأهل، وهو من أخطر مظاهر التعالم؛ ولا سيما إذا كان التصدّر نظامياً؛ فيغتر به الطلاب.
6. التصدر للتأليف وتحقيق الكتب قبل اكتمال الأداة العلمية، فيقع في عظائم وطوام، وتعالم فجّ، يتأذّى به الصادقون من طلاب العلم، ويغترّ به الجاهلون.
7. استغلال مواضع الحاجة عند العامة والدخول عليهم من تلك المداخل ثم التصدر بذلك في مسائل العلم، كالرقية وتعبير الرؤى والاستشارات الاجتماعية والدورات التدريبية.
وهذه الأمور إذا قام بها من يحسن فهو على باب خير، لكن التحذير إنما هو ممن يدّعي تلك الصنعة أو من يكون علمه مقتصراً عليها ثمّ يجاوز ذلك إلى ما لا يحسن من الفتوى بغير علم والكلام في مسائل العلم بما يخالف أصول ذلك العلم وطرق الاستدلال فيه ومنهج أئمته.
أصناف المتعالمين:
والمتعالمون يغلب عليهم وصف الجهل المركّب، فهم يجهلون ويحسبون أنهم على شيء، وهم مع ذلك على مراتب وأصناف في تفاوت خطرهم وتنوّعه على الأمة وعلى طلاب العلم:
الصنف الأول: متعالم ضحل المعرفة؛ قليل البضاعة في العلم، لكنّه جرئ على الكلام في مسائل العلم بنقل خاطئ، وادّعاء كاذب؛ فيشيع من الأباطيل ما يظنّه الجاهل حقاً، وقد يستغربه من يبلغه ولا يقف على حقيقة بطلانه.
ويغلب على هذا النوع الاعتماد على النقل، وتقويل أهل العلم ما لم يقولوا، وإساءة فهم أقوالهم، وعدم التثبّت في نقل المرويات والحكايات؛ مع ادّعاء العلم والمعرفة بلسان الحال أو لسان المقال.
وقد تبلغ الوقاحة في التعالم عند هؤلاء، والجرأة على الكذب، والمهارة في التمويه، أن ينقل بعضهم عن بعض العلماء أقوالاً تؤيّد ما يريد ويعزوها إليهم في كتبهم بالجزء والصفحة ، وهو كاذب في ذلك ؛ فيصدّقه من يعجز عن التثبّت.
ومنهم من يسرد بعض الأحاديث ويعزوها إلى دواوين السنة زوراً وتخبطاً اتكالا منه على عجز السامعين عن التحقق مما يقول.
وقد يعرض لبعضهم قول يستحسنه فينقله كاذباً عن عالم من العلماء لم يتكلّم به قطّ لأجل أن يصدّقه الناس، ويصدروا عما يقول ؛ لأنه يعلم أنّهم لا يقنعون بقوله، ولا يصدرون عنه، فيقوّي ادّعاءه بنسبته إلى عالم متبوع القول مسموع الكلمة.
وأشد من ذلك وأشنع أن ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه أنّ أبا جعفر الهاشمي المدني كان يضع أحاديث كلام حق، وليست من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرويها عن النبي صلى الله عليه وسلم).
وقال ابن حبان: (كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، ويرسل من الأخبار ما ليس لها أصول، على قلة روايته لا يحتج بخبره وإن وافق الثقات؛ كان يحيى بن معين يكذبه).
وقال عليّ ابن المديني: (كان يضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يضع إلا ما فيه أدب أو زهد؛ فيقال له في ذلك؛ فيقول: إنَّ فيه أجراً).
فانظر كيف زيّن له الشيطان سوء عمله؛ حتى ظنّ أن فيما يأتي به من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أجراً !!
والصنف الثاني: من لا يتعمّد الكذب والتضليل، لكنّه لا يتثبّت فيما يقول، ولا يميز الصحيح من الضعيف، ويتسرّع ويعجل في القول بغير علم، اجتهادا منه في النصيحة وهو مخطئ غير معذور، مغامر بدينه، مغرّر لغيره، وقد يُغترّ به لما يظهر من صلاحه واشتغاله بالوعظ والتذكير.
وكان السلف يحذّرون من القُصّاص الذين عمدة وعظهم على القَصص والعجائب والغرائب ولا يتثبّتون فيما يقولون، ولا يميّزون الصحيح من الضعيف، ويخلطون المرويات، ويروون بالمعنى، ويدرجون فيما يروون شرحهم بما يفهمون، ويخطؤون في ذلك ويزيدون، ويُشيعون الأحاديث الضعيفة والموضوعة، والحكايات الغريبة الواهية.
قال عاصم بن أبي النجود: كنا نأتي أبا عبد الرحمن السلمي ونحن غلمة أيفاع. قال فكان يقول لنا: (لا تجالسوا القصاص غير أبي الأحوص). رواه مسلم في مقدمة صحيحه.
وذلك لأن أبا الأحوص وهو عوف بن مالك الجشمي كان ثقة متثبّتا وهو من أصحاب عبد الله بن مسعود.
- وقال أبو الوليد الطيالسي: كنت مع شعبة، فدنا منه شاب؛ فسأل عن حديث فقال له: أقاص أنت؟ قال: نعم. قال: اذهب؛ فإنا لا نحدث القصاص.
فقلت له: لم يا أبا بسطام؟
قال: (يأخذون الحديث منا شبراً فيجعلونه ذراعاً).
- وقال أيوب: ( ما أفسد على الناس حديثهم إلا القُصَّاص).
- وقال ابن الجوزي: (وفي القصاص من يسمع الأحاديث الموضوعة فيرويها ولا يعلم أنها كذب. فيؤذي بها الناس. وربما سمعها من أفواه العوام فرواها. وربما سمع كلام الحسن أو سري السقطي فقال: قال رسول الله. وقد صنف من لا علم له بالنقل كتبا فيها الموضوع والمحال؛ فترى القُصَّاص يوردون منها، ويزيدون فيها ما يوجب تحسينا لها).
ومن القُصّاص من كان أهل العلم يذكرونه بالصلاح في نفسه ويضعّفون حديثه ويحذّرون من الأخذ عنه:
أ: كما قال الأئمة النقّاد في يزيد بن أبان الرقاشي
- قال يحيى بن معين: (رجل صالح وليس حديثه بشيء).
- وقال أحمد بن حنبل: ( كان منكر الحديث، وكان شعبة يحمل عليه وكان قاصاً).
- وقال أبو حاتم: (كان واعظاً بكّاءً كثيرَ الرواية عن أنس بما فيه نظر وفي حديثه ضعف).
- وقال ابن حبان: (كان من خيار عباد الله من البكائين بالليل في الخلوات والقائمين بالحقائق في السبرات، ممن غفل عن صناعة الحديث وحفظها، واشتغل بالعبادة وأسبابها، حتى كان يقلب كلام الحسن فيجعله عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم؛ فلما كثر في روايته ما ليس من حديث أنس وغيره من الثقات بطل الاحتجاج به؛ فلا تحل الرواية عنه إلا على سبيل التعجب، وكان قاصّا يقصّ بالبصرة، ويبكي الناس).
ب: وكما قال الأئمة النقّاد في شأن صالح بن بشير المري
قال البخاري: (منكر الحديث).
وقال يحيى بن معين: (كان قاصا وكان كل حديث يحدث به عن ثابت باطلا).
وقال عمرو بن علي الفلاس: (ضعيف الحديث يحدث بأحاديث مناكير عن قوم ثقات مثل سُلَيْمان التَّيْمِيّ، وهشام بن حسان، والحسن، والجريري، وثابت، وقتادة، وكان رجلا صالحا، وكان منكر الحديث).
وقال صالح بن محمد: (كان يقص، وليس هو شيئا في الحديث، يروي أحاديث مناكير).
وقال ابن عدي: (صالح المري من أهل البصرة، وهو رجل قاص حسن الصوت، وعامة أحاديثه منكرات ينكرها الأئمة عليه، وليس هو بصاحب حديث، وإنما أُتي من قلة معرفته بالأسانيد والمتون، وعندي أنه مع هذا لا يتعمد الكذب، بل يغلط).
وقال عفان بن مسلم: (كنا نأتي مجلس صالح المري نحضره وهو يقص، وكان إذا أخذ في قصصه كأنه رجل مذعور يفزعك أمره من حزنه، وكثرة بكائه كأنه ثكلى، وكان شديد الخوف من الله، كثير البكاء).
وأكثر خطر هذا الصنف على العامّة والمبتدئين من طلاب العلم، وأما من له نصيب من معرفة بأصول العلم فإنه يدرك خطأهم وخطرهم.
والصنف الثالث: متعالم عليم اللسان، جهول الجنان، متصرّف في فنون الكلام، وأدوات الجدال، له اطّلاع مشوّش، وتصوّر خاطئ، وهوى مردٍ، وذكاء غير نافع، ماهر في التدليس والدس، والوقوف على مواضع الفتن والأغاليط، منصرف الهمّة إلى الإبهار والإدهاش، والتعاظم والفياش، متباهٍ بما عنده من زخرف القول، وأضاليل الشبه، يحسب أنهّ عالم نحرير، وهو متعالم خطير؛ جاهل بأصول العلم وقواعد الاستدلال، ومنهج أهل العلم في تحصيله ورعايته وتعليمه، فقير في آدابه وأخلاقه، متعامٍ عن سموّ مقاصده، ونبل غاياته.
وأهل هذا الصنف من أخطر المتعالمين؛ وأضرّهم على الأمّة، وأكثرهم غلطا ولغطاً، وأكبرهم إثماً، وأشدّهم أذى، والغالب عليهم الهوى والبدعة، والتعصّب لأهوائهم وبدعهم، والحقد والضغينة على أهل العلم، وترصّد زلاتهم والفرح بها، والطعن عليهم، بتجهيلهم وتخطئتهم، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله.
ويحملهم بغضهم لأهل العلم على الأخذ عن غيرهم وتقديس علومهم من الفلاسفة والمتكلمين؛ حتى إن منهم من يعظّم قوماً من الكفار لا خلاق لهم، ويعظّم علومهم وآثارهم، ليغرّ بهم من يأخذ عنه.
وهؤلاء يضطرّهم استعجالهم للتصدّر، وانحرافهم في مصادر التلقّي، وجهلهم بأصول العلم وقواعد الاستدلال إلى الاضطراب والتناقض، واختراع أصول عجيبة متخالفة؛ وادّعاء دعاوى عريضة باطلة، والاعتماد على تشنيع أقوال مخالفيهم، وتهويل أقوال موافقيهم من غير اعتماد على حجة صحيحة؛ ولا تثبّت في النقل، لأن التشنيع والتهويل أقرب مأخذاً، وأهون مسلكاً، وأيسر مؤونة.
ومن يعجز منهم عن دراسة أصول الأسانيد وأحوال الرواة فيكتفي بنقد المتون على نظره القاصر وهواه، ويتفاخر بذلك ويعلن به، ويزيّن له سوء عمله فيفتن به، ويجتهد في تأصيله ومحاولة تقريره حتى لا تنكشف سوأته، ويتبيّن تعالمه.
ومن يعجز منهم عن دراسة مقاصد الشريعة وتقرير الاستدلال لها على منهج أهل العلم؛ يخترع مقاصد من عنده ويدّعيها للشريعة، ويقرر بناء عليها كثيراً من شبهه وضلالاته.
إلى غير ذلك من أبواب العلم التي تستدعي من طلاب العلم الصادقين جهداً كبيراً وسنوات طويلة في الدرس والضبط والإتقان؛ فيستعجل أولئك الثمرة، ويتظاهرون بشيء مما يشبه أحوال طلبة العلم، ويخالفونهم في حقيقة التحصيل وجوهر الطلب.
وأهل هذا الصنف من أكثر من تسبب في الفتن في تاريخ الأمّة:
أ: فما كان جهم بن صفوان إلا متعالماً بليغ اللسان، متفنناً في الكلام، صاحب رسائل ومكاتبات، ومجادلات ومناظرات؛ وكان كاتباً لبعض الأمراء في عصره؛ فانتشرت مقالاته، وأدخل على الأمّة فتناً عظيمة من إنكار الأسماء والصفات، والقول بخلق القرآن، والإرجاء الغالي، وغيرها من البدع الشنيعة.
قال أبو معاذ البلخي: (كان جهمٌ على معبَر ترمذٍ، وكان رجلًا كوفيَّ الأصل،ِ فصيح اللّسان، لم يكن له علمٌ، ولا مجالسةٌ لأهل العلم).
وعلى شناعة مقالاته، ونكارة بدعه؛ إلا أنّه وجد من يتلقّفها ويتعصّب لها لما زيّنها به من زخرف القول الذي يظنّه الجاهل علماً وتحقيقاً وهو ضلال وفتنة، حتى أحدث في الأمّة ما أحدث مما هو معروف مشتهر، وهذا مما يدلّ على خطورة شأن المتعالمين أصحاب اللسان.
ب: وما كان بشر المريسي أيضاً إلا صاحب خُطَب وشُبه، وجدال ومراء، وهوى ومشاغبة لأهل العلم، فضلّ بفتنته كثير من الناس في زمانه، واتّصل هو وأصحابه بالخليفة المأمون فعظم خطر فتنتهم، واشتدّ البلاء بهم.
قال الإمام أحمد في شأن بشر المريسي: (ما كان صاحب حُججٍ، بل صاحب خطبٍ).
وكثير من رؤوس أهل الأهواء والبدع إنما كانوا من هذا الصنف؛ وإذا اتّصلوا بالحكام والأمراء والتجار والوجهاء عظم خطرهم واشتدّ ضررهم، لما يكون في نفوسهم من العصبية الشديدة لبدعهم، والنقمة على أهل السنة وأئمّتهم؛ فيحملهم ذلك على فتنة العامّة ومحنة العلماء.
ولا يزال لأهل هذا الصنف في زماننا أفراخ يودّوا لو أنهم يظفرون بما ظفر به أسلافهم من رؤوس البدعة.
ووسائل هؤلاء إلى التمكن تتلخّص في ثلاثة أمور:
1- مخطابة العامّة بما يبهرهم ويدهشهم حتى يفتنوهم ويلفتوا وجوه الناس إليهم.
2- والتربّص بأهل العلم وتصيّد أخطائهم وزلاتهم، والتشكيك فيهم، والتحريش بينهم، والتنفير منهم.
3- ومدّ الصلات مع أصحاب المال والجاه والسلطان ليستميلوهم ويتقووا بهم.
والصنف الرابع: صنف كانت له بدايات لا بأس بها في طلب العلم، فحصّل ما حصّل، وحفظ شيئاً من الأدلة وأقوال العلماء، ودرس جملة من الكتب والمسائل، لكنّه لم يصبر على مواصلة الطلب على طريقة العلماء، واستعجل الثمرة، وغرّته فتنة الجاه والمال، فتنكّب جادّة أهل العلم، وتنكّس وارتكس، ونظر إلى أقرب طريق للتصدّر فلم يجد سوى التعالم مطيّة له؛ فشمّر فيه وتنمّر، وتفيهق به وتحذلق، وعاد بقلمه ولسانه على مواضع الخلاف ومثارات اللغط؛ فتكلّم فيها كلام ذي هوى متعالم، مجهّل لأهل العلم ومتجاهل؛ فلبس الحق بالباطل، ورخرف قوله بما يلفت إليه أنظار الناس، وغرّهم بما يستعمله من أدوات أهل العلم وعباراتهم؛ فتلقّفه أصحاب الأهواء من الذين يكيدون للسنّة وأهلها؛ فقرّبوه وصدّروه، واستعانوا به وأعانوه؛ ومكنوه من وسائلهم ومنابرهم؛ ليصول بها على السنة وأهلها.
وأخبث هؤلاء من كان يرصد مواضع التقصير والقصور، والزلات والعثرات لدى زملائه في بدايات الطلب؛ فيعمّ بها طلاب العلم؛ ويسلقهم بألسنة حداد؛ يبتغي بذمّهم مدح نفسه، وبمضارتهم نفع أعوانه على بغيه وعدوانه.
وجملة القول في هذا الصنف أنّهم بلاء وأذى على أهل السنة، وفتنة لطلاب العلم والعامة، وفي قَصَص أسلافهم عظة وعبرة لمن يعتبر.
الصنف الخامس: صنف مشتغل بطلب العلم وتحصيله غير ممالئ لأعداء الدين ممن يكيد للسنة وأهلها، وله حظ من التحصيل العلمي، لكنّه لا يتثبّت في مسائل العلم، ولا يحجزه ورع عن الخوض فيما لا يحسن، واقتفاء ما لا يعلم، فتكون له جرأة على الفتوى بغير علم، والتخرص والتكثر، رغبة في التقدّم والتصدّر.
وهؤلاء قد يغترّ بهم المبتدئون من طلاب العلم لما يرون من اشتغالهم بطلب العلم، وما عليهم من مظاهر أهله.
الصنف السادس: صنف أصحاب اختصاص في علم من العلوم؛ إذا تكلّموا في فنّهم أحسنوا وأجادوا، لكن ليس لديهم ورع يحجزهم عن الكلام في غير فنّهم؛ وقد قيل: "من تكلّم في غير فنّه أتى بالعجائب"
وهؤلاء قد يغتر بهم من يبلغه ثناء بعض أهل العلم عليهم في اختصاصهم، فيصدّقهم فيما يقولون في غير ما يحسنون.
فمن نُبّه منهم وانتبه، ورجع إلى الحقّ فقد أحسن، ومن تمادى في التعالم والكلام فيما لا يحسن فقد عرّض نفسه لما يسقطها.
وأصحاب هذين الصنفين لو اقتصروا على ما يحسنون، ولم يتكلموا فيما لا يعلمون؛ لرجي لهم أن يبلغوا مبلغ أهل العلم، وأن يوفّقوا لإدراك فضيلة العلم، وحسن عاقبة أهله، ورفعتهم في الدنيا والآخرة.
وهذا مما يدلّ على أنّ طالب العلم لا بدّ له من تقوى تردعه عن ادّعاء ما لا يعلم، والقول فيما لا يحسن، وأن من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، ومن تصدّر قبل إبّانه فقد تصّدى لهوانه.
علامات المتعالمين:
وللمتعالمين علامات يعرفون بها، منها:
1: انحرافهم عن مقاصد أهل العلم وغاياتهم؛ وسعيهم وراء ما يخدم أغراضهم الخفية، ومطامعهم الدنيوية، وهي من أظهر علاماتهم لمن نوّر الله بصيرته؛ فأهل العلم يدعون إلى الله لا إلى أنفسهم، يبيّنون للناس ما أنزل الله في كتابه من البيّنات والهدى، ويبصرونهم بما يجب عليهم أن يفعلوه وأن يجتنبوه، ويعظونهم بمواعظ الكتاب والسنة، ويسيرون على سَنن العلماء قبلهم، ويصبرون على ما يصيبهم من البلاء والأذى.
وأما المتعالمون فغايتهم الدعوة إلى تعظيم أنفسهم تلميحاً أو تصريحاً، والتظاهر بما ليس فيهم، والتشبع بما لم يعطوا، فهم وإن تكلموا وخطبوا ووعظوا فما تحته إلى الدعوة إلى أنفسهم والحديث عنها والتنبيه على قدرها.
ولذلك يُكثرون من الحديث عن أنفسهم بما يُظهر ما يتزيّنون به.
2: التشبّع بما لم يعطوا، والتزيّن بما ليس فيهم، والتكثّر بما لديهم، وكلّ هذا إنما هو فرع عن انحراف مقاصدهم.
- وفي صحيح مسلم من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه وكان ممن بايع تحت الشجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة ».
- وفي الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور »
- وقال عمر بن الخطاب: « من يصلح سريرته فيما بينه وبين ربه أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك شانه الله ».
3: العجب والزهو والكبر، والتعاظم والتفاخر، وهذا من افتتانهم بقليل ما حصّلوه من العلم فظنوه كثيراً لما استمالوا به الجهال، وتصدروا به المجالس.
4: التوسّع في الدعاوى العريضة، وهذا بسبب عدم تثبّتهم، ورغبتهم في الإتيان بما يبهر الناس ويدهشهم، وما يطمعون به في قطع الحجة على من سواهم؛ فلا يجدون مسلكاً أهون عليهم من الدعاوى العريضة التي قد يغتر بها من لا يعرف حقيقة أمرهم.
5: الاضطراب والتناقض، وهذا بسبب تلوّن أهوائهم، وتعدد أطماعهم، فلكل مطمع هوى ووسيلة، وتبرير الأهواء المختلفة يوقع صاحبها في التناقض والاضطراب.
6: التشغيب على أهل العلم، وتتبع زلاتهم، لأنها من أقرب الوسائل للفت الأنظار إليهم.
7: الخلف بين القول والعمل، وذلك لانصراف همتهم إلى طلب الظهور في الدنيا، وغفلتهم عما أوجب الله عليهم من طاعة أمره واتّباع هداه.
8: الكذب والتدليس، والتمويه والتلبيس، والمصادرة والتحكم، والتشنيع والتهويل، وهي أمور تضطرهم إليها صنعة التعالم؛ لأنهم إنما يتصدرون باستعمال هذه الأدوات السيئة.
9: التسرّع والعجلة، والجراءة على القول بغير علم، والظهور بمظهر العالم الذي قد أحاط علماً بتلك المسألة، وقد تكون نازلة من النوازل يتداعى كبار أهل العلم لبحثها والنظر فيها.
10: كثرة الغرائب والعجائب؛ بسبب انصرافهم إلى استمالة وجوه الناس، ولفت أنظارهم.
التحذير من المتعالمين:
قضيّة التعالم من القضايا الخطيرة، وقد ورد التحذير من التعالم والمتعالمين في الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، واشتهر تحذير السلف الصالح رضي الله عنهم من التعالم والمتعالمين:
أ-فمن الآيات التي يستدل بها على النهي عن التعالم والتحذير منه ومن أهله:
1. قول الله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}
2. قول الله تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}
3. وقول الله تعالى: { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)}
4. وقول الله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» متفق عليه.
5. وقول الله تعالى: { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} ومن أظهر صفات المتعالمين تزكيتهم لأنفسهم.
ب- ومن الأحاديث المروية في التحذير من التعالم والمتعالمين:
1. حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» متفق عليه.
2. وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان). رواه الإمام أحمد.
والمتعالمون قد وقعوا في جملة من خصال المنافقين وأخلاقهم، وهم بسبب مخالفة ظواهرهم لحقائق بواطنهم متصفون بالنفاق، وإن كانوا على مراتب متفاوتة في النفاق بسبب تفاوت مراتبهم في التعالم ومبلغ ضررهم وخطرهم على المؤمنين.
3. وحديث ثوبان رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) رواه الدارمي وأبو داوود.
4. وحديث أبي أميّة الجمحي رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر )). رواه ابن المبارك والطبراني وابن منده وغيرهم.
قال ابن المبارك: (الأصاغر: أهل البدع).
وهو بيان بالمثال، ومن المعلوم أن كلّ متعالم فهو صغير في مقام العلم.
5. وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار». رواه ابن ماجه وابن حبان.
وهذه هي عامّة مقاصد المتعالمين.
6. وحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون}). رواه الإمام أحمد والترمذي.
ومن فوائد هذا الحديث بيان علامة من علامات الضالين، وهي الجدل، وهي مما يقع فيه كثير من المتعالمين.
ج- وأما تحذير السلف الصالح من التعالم والمتعالمين، وبيان ما يعتصم به طالب العلم من التعالم؛ فكثير مشتهر ومن أمثلة ذلك:
1. تأديب عمر بن الخطاب لصبيغ بن عسل التميمي، وكان ممن يتتبع المتشابه، وقد رويت قصته من طرق متعددة:
- منها: ما أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة من طريق يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد أنه قال: أُتى إلى عمر بن الخطاب، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا لقينا رجلا يسأل عن تأويل القرآن.
فقال: اللهم أمكني منه، قال: فبينا عمر ذات يوم جالس يغدي الناس إذ جاءه وعليه ثياب وعمامة، فغداه، ثم إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين، {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا} ؟
قال عمر: أنت هو؟ فمال إليه وحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، ثم قال: احملوه حتى تقدموه بلاده، ثم ليقم خطيبا ثم ليقل: إن صبيغا ابتغى العلم فأخطأ، فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك، وكان سيد قومه.
- ومنها: ما أخرجه الدارمي من طريقيزيد بن حازم، عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة؛ فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه وقد أعدَّ له عراجين النخل، فقال: من أنت؟
قال: أنا عبد الله صبيغ.
فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين، فضربه وقال: (أنا عبد الله عمر) فجعل له ضربا حتى دمي رأسه.
فقال: (يا أمير المؤمنين، حسبك، قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي).
وقد انتفع صُبيغ بهذا التأديب؛ وعصمه الله به من فتنة الخوارج التي حدثت في عهد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال معمر بن راشد: خرجت الحرورية، فقيل لصبيغ: إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا، قال: هيهات قد نفعني الله بموعظة الرجل الصالح.
2. خبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع أبي يحيى المعرقب، وقد رويت قصته من طرق أنه رآه يقصّ فقال له: هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟
قال: لا.
قال: (هلكت وأهلكت).
وفي رواية أنه قال له: من أنت؟
قال: أنا أبو يحيى.
فقال له: (بل أنت أبو اعرفوني).
3. وقال عبد الله بن مسعود: (أيها الناس! من علم منكم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: لا أعلم، والله أعلم؛ فإن من علم المرء أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، وقد قال الله تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين}).
4. وقال يحيى البكاء رأى ابن عمر قاصاً يقص في المسجد الحرام، ومعه ابن له، فقال له ابنه: أي شيء يقول هذا؟
قال: (هذا يقول: اعرفوني اعرفوني).
5. وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أخبرني نافع أن رجلا سأل ابن عمر عن مسألة فطأطأ ابن عمر رأسه ولم يجبه حتى ظنَّ الناس أنه لم يسمع مسألته.
قال: فقال له: يرحمك الله أما سمعت مسألتي؟
قال: قال: (بلى، ولكنكم كأنكم ترون أن الله ليس بسائلنا عما تسألوننا عنه!! اتركنا يرحمك الله حتى نتفهَّم في مسألتك؛ فإن كان لها جواب عندنا، وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به). رواه ابن سعد.
6. وقال أحمد بن محمد الأزرقي: حدثنا عمرو بن يحيى عن جده قال: سئل ابن عمر عن شيء فقال: لا أدري؛ فلما ولى الرجل أفتى نفسه؛ فقال: (أحسن ابن عمر، سئل عما لا يعلم فقال لا أعلم). رواه ابن سعد.
7. وسُئل القاسم بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن مسألة فلم يجب؛ فقال له يحيى بن سعيد: والله إني لأعظم أن يكون مثلك، وأنت ابن إمامي الهدى - يعني عمر، وابن عمر - تُسأل عن أمر ليس عندك فيه علم؛ فقال: «أعظم من ذلك والله عند الله، وعند من عقل عن الله، أن أقول بغير علم، أو أخبر عن غير ثقة».
8. وقال القاسم بن محمد: (إن من إكرام المرء لنفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه).
9. وقال سعيد بن جبير: (ويل لمن يقول لما لا يعلم إني أعلم).
10: وقال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: (لا يُؤخذ العلم إلا عمّن شُهد له بطلب العلم).
11. وقال أحمد بن حنبل: سمعت الشافعي قال:سمعت مالكا قال: سمعت ابن عجلان قال:(إذا أغفل العالم "لا أدري" أصيبت مقاتله) رواه الآجري والخطيب البغدادي
12. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد قال الناس: أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان).
وقال ابن دريد:
جهلت فعاديت العلوم وأهلها ... كذاك يعادي العلم من هو جاهله
ومن كان يهوى أن يرى متصدرا ... ويكره لا أدري أصيبت مقاتله
تحذير طالب العلم من التعالم:
وفيما مضى من الآيات والأحاديث والآثار ما فيه أبلغ زاجر لطالب العلم عن التعالم، والجراءة على القول بغير علم؛ فإن في ذلك العطب والهلاك، والخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
وليعلم طالب العلم أن شرف العلم لا يُنال بمعصية الله، وأن من أعظم معاصي طلاب العلم أن يطلبوه لغير الله، أو يضلوا به عباد الله، وقد اشتدّ الوعيد على علماء السوء، وعلى القائلين على الله بغير علم.
فحريّ بمن نصح لنفسه أن يسعى في نجاتها من سخط الله وعقابه، وأن يصبر نفسه على سلوك الصراط المستقيم، وأن لا يؤثر متاع الدنيا الزائل على نعيم الآخرة الباقي، ومن صدق اللهَ صدقه الله، ومن طلب العلم لله نفعه الله به، ويسّره له، وبارك له فيه.
ومن طلبه ليتصدّر به المجالس ويباهي به العلماء ويماري به السفهاء فبئس ما اختار لنفسه من سوء العاقبة والخزي والعذاب الأليم.
ولن ينفعه ما متّع به من الجاه والمال؛ فإنه متاع زائل، يعقبه عذاب دائم، وإنّ من أوّل من تسعّر بهم النار يوم القيامة من طلب العلم ليقال: "عالم".
قال سفيان بن عيينة: (ما في القرآن آية أشد علي من: {لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم}). رواه البخاري.
وسبب شدة هذه الآية على سفيان معرفته بحقيقة العلم وما يتطلّبه من التقوى والعمل وإقامة الدين، وأنّ من لم يُقم ما أمره الله به فليس على شيء، وليس له عند الله عهد ولا أمان من العذاب؛ بل هو هالك لا محالة.
والمتعالمون من أبعد الناس عن مقاصد العلم وحمل أمانته ورعايته.
اللهم اجعلنا ممن يطلب العلم ابتغاء وجهك، وانفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً تنفعنا به.
اللهم إن نعوذ بك من الضلالة بعد الهدى، ومن الزيغ بعد الرشاد، ومن الحور بعد الكور.
اللهم انفعنا بآياتك وارفعنا بها، ولا تجعلنا ممن أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فكان من الغاوين.
وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* مقصود هذه المحاضرة التحذير من التعالم والمتعالمين، ومن أراد التوسّع في معرفة خطر المتعالمين ونماذج من أعمال بعضهم فليقرأ كتاب "التعالم" للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد؛ مع التنبّه لما ذكرته ( هنا ).