دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > تيسير اللطيف المنان

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28 رجب 1436هـ/16-05-2015م, 09:37 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي فصل في الحج وتوابعه

فصل في الحج وتوابعه



قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في الحج وتوابعه
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]
وقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] إلى آخر الآيات المتعلقة بالحج.
لما قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ - فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96 - 97]
وكان في ذلك تنبيه على الحكم والأسرار والمصالح والبركات المتنوعة المحتوي هذا البيت العظيم عليها، وكان ذلك داعيا إلى تعظيمه بغاية ما يمكن من التعظيم، أوجب الله على العباد حجه وقصده لأداء المناسك التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمها أمته، وأمرهم أن يأخذوا عنه مناسكهم.
فأوجبه على من استطاع إليه سبيلا بأن قدر على الوصول إليه بأي مركوب متيسر، وبزاد يتزوده ويتم به السبيل، وهذا هو الشرط الأعظم لوجوب الحج، وهذه الآية صريحة في فرضية الحج، وأنه لا يتم للعبد إسلام ولا إيمان وهو مستطيع إلا بحجه، وأن الله إنما أمر به العباد رحمة منه بهم، وإيصالا لهم إلى أجل مصالحهم وأعلى مطالبهم، وإلا فالله غني عن العالمين وطاعتهم، فمن كفر فلم يلتزم لشرع الله فهو كافر، ولن يضر إلا نفسه.
وأما آية البقرة فإن الله أمر فيها بإتمام الحج والعمرة بأركانهما وشروطهما وجميع متمماتهما؛ ولا فرق في ذلك بين الفرض والنفل، وبهذا تميز الحج والعمرة عن غيرهما من العبادات؛ وإن من شرع فيهما وجب عليه إتمامهما لله مخلصا، ويدخل في الأمر بإتمامهما أنه ينبغي للعبد أن يجتهد غاية الاجتهاد في فعل كل قول وفعل ووصف وحالة بها تمام الحج والعمرة، وذلك شيء كثير مفصل في كتب أهل العلم، وأن من دخل فيهما فلا يخرج منهما إلا بإتمامهما والتحلل منهما إلا بما استثناه الله وهو الحصر.
ولهذا قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] أي: منعتم من الوصول إلى البيت، ومن تتميم المناسك بمرض أو عدو أو ذهاب نفقة أو ضللتم الطريق أو غير ذلك من أنواع الحصر الداخلة في عموم قوله: {أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] فاذبحوا ما تيسر من الهدي وهو شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة يذبحها المحصر ويحلق رأسه ويحل من إحرامه بسبب الحصر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما صدهم المشركون عن البيت وهم محرمون عام الحديبية، فإن لم يتيسر الهدي على المحصر فهل يكفيه الحلق وحده ويحل، كما فعله الصحابة الذين لم يكن معهم هدي - وهو الصحيح - أو ينوب عن الهدي صيام عشرة أيام قياسا على هدي التمتع كما قاله آخرون ثم يحل؟
ثم قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وفي هذا أن المحرم يحرم عليه إزالة شيء من شعر بدنه تعظيما لهذا النسك، وقاس عليه أهل العلم إزالة الأظفار بجامع الترفه، ويستمر المنع من ذلك حتى يبلغ الهدي محله، وهو وقت ذبحه يوم النحر، والأفضل أن يكون الحلق بعد النحر، ويجوز أن يقدم الحلق على النحر كما رخص في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عمن قدم الحلق أو الرمي أو الذبح أو الطواف بعضها على بعض، فقال: «افعل ولا حرج» .
ويستدل بالآية الكريمة على أن المتمتع كالقارن والمفرد لا يحل من عمرته إذا كان سائقا للهدي حتى يبلغ الهدي محله، فقيل: إنه إذا حل من عمرته بأن فرغ من الطواف والسعي بادر بالدخول بالحج بالنية، وقيل: إنه بسوقه للهدي صار قارنا، وأن الهدي الذي استصحبه - حيث إنه كان للنسكين كليهما - مزج بين النسكين وصار صاحبه قارنا، وهذا هو القول الصواب، وإنما منع تعالى من الحل لمن ساق الهدي قبل محله لما في سوق الهدي، وما يتبعه من كشف الرأس، وترك أخذ الشعور ونحوها من الذل والخضوع لله والانكسار له، والتواضع الذي هو روح النسك وعين صلاح العبد وكماله، وليس عليه في ذلك ضرر؛ فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من رأسه من مرض ينتفع بحلق رأسه أو قروح أو قمل أو نحو ذلك، فإنه يحل له أن يحلق رأسه، ولكن يكون عليه فدية تخيير، يخير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، وهذه تسمى فدية الأذى، وألحق بذلك إذا قلم أظفاره، أو لبس الذكر المخيط، أو غطى رأسه، أو تطيب المحرم من ذكر وأنثى، فكل هذا فديته فدية تخيير بين الصيام أو الإطعام أو النسك.
وأما فدية قتل الصيد فقد ذكر الله التخيير فيها بين ذبح المثل من النعم، أو تقويمه بطعام فيطعم كل مسكين مدبر أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوما؛ فهذه الأنواع فديتها تخيير.
وأما المتمتع والقارن فإن هديهما هدي نسك، غير هدي جبران، وهو على الترتيب، إن تيسر الهدي وجب الهدي، فإن لم يتيسر فعليه صيام عشرة أيام، ثلاثة في الحج - ولا يؤخرها عن أيام التشريق -، وسبعة إذا رجع - أي: فرغ من جميع شؤون النسك -، ودل إطلاق إيجاب الصيام على أنه يجوز فيها التتابع والتفريق.
(ذَلِكَ) أي: وجوب الهدي على المتمتع والقارن؛ أو بدله لمن لم يجد من الصيام، {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وهم الأفقية؛ لأن من الحكمة في إيجاب الهدي على الأفقي أنه لما حصل نسكين في سفرة واحدة كان هذا من أعظم نعم الله، فكان عليه أن يشكر الله على هذه النعمة الجليلة، ومن جملة الشكر إيجاب الهدي عليه.
وأما المقيمون في مكة أو كانوا في قربها - بحيث لا يقال لهم مسافرون - فليس عليهم هدي ولا بدله لما ذكرنا من الحكمة وَاتَّقُوا اللَّهَ: في جميع أموركم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ومن ذلك امتثالكم لهذه المأمورات في هذه العبادة الجليلة، واجتنابكم لمحظوراتها، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196] أي: لمن عصاه، وذلك موجب للتقوى، فإن من خاف عقاب الله انكف عن السيئات، كما أن من رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب، وأما من لم يخف الله فإنه لا بد أن يتجرأ على المحارم، ويتهاون بالفرائض.
ثم أخبر تعالى أن الحج واقع في أشهر معلومات عند المخاطبين، بحيث لا تحتاج إلى تعيين كما احتاج الصيام لتعيين شهره، وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس، وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم التي لم تزل مستمرة في ذريته، معروفة بينهم، والمراد بالأشهر المعلومات عند الجمهور: شوال وذو القعدة، وعشر أو ثلاثة عشر من ذي الحجة، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا، وهي التي تقع فيها أفعال الحج: أركانه وواجباته ومكملاته، {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] أي: عقده وأحرم به؛ لأن الشروع فيه يصيره فرضا ولو كان قبل ذلك نفلا.
واستدل بهذه الآية الشافعي، ومن قال بقوله: إنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، ولو قيل: إن الآية فيها دلالة لقول الجمهور بصحة الإحرام بالحج قبل أشهره لكان قريبا، لأن قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] دليل على أنه يقع الفرض فيهن وفي غيرهن، وإلا لما كان في القيد فائدة {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] أي: يجب عليكم أن تعظموا حرمة الإحرام بالحج، وخصوصا الواقع في أشهره، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقضه من الرفث، وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصا التكلم في أمور النكاح بحضرة النساء، {وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197] وهو جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام، {وَلَا جِدَالَ} [البقرة: 197] والجدال هو المماراة والمنازعة والمخاصمة؛ لكونها تثير الشر وتوقع العداوة، والمقصود من الحج الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه يكون بذلك مبرورا، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء - وإن كانت ممنوعة في كل زمان ومكان - فإنه يتأكد المنع منها في الحج.
واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر، فلهذا أتبعه بقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197] أتى (بِمَنْ) المفيدة لتنصيص العموم؛ فكل عبادة وقربة فإنها تدخل في هذا، والإخبار بعلمه يتضمن الحث على أفعال الخير خصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة فإنه ينبغي اغتنام الخيرات والمنافسة فيها من صلاة وصيام وصدقة وقراءة وطواف وإحسان قولي وفعلي، {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة: 197] لهذا السفر المبارك؛ فإن التزود فيه الاستغناء عن الخلق وعدم التشوف لما عندهم، وإعانة المسافرين، والتوسعة على الرفقة، والانبساط والسرور في هذا السفر، وزيادة التقرب إلى الله تعالى، وهذا الزاد المراد به إقامة البنية بلغة ومتاع، وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة وأجل نعيم دائما أبدا؛ ومن ترك هذا الزاد فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر وممنوع من الوصول إلى دار المتقين.
وقد يتمكن الموفق من جعل الزاد الحسي يجمع الزادين: بأن يقصد به وجه الله، والقيام بواجب النفس والرفقة ومن يتصل به، والقيام بالإحسان المستحب، وقصد امتثال أمر الله، فالنية هي الأساس لكل خير، التي تجعل الناقص كاملا والعادة عبادة، ثم قال: {وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197] أي: يا أهل العقول الرزينة اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول، وتركها دليل على فساد العقل والرأي.
ولما أمر بتقواه أخبر أن ابتغاء فضله بالاشتغال بالتكسب في التجارة في مواسم الحج وغيرها ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج، وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله معترفا فيه بنعمة الله، لا منسوبا إلى حذق العبد والوقوف مع السبب ونسيان المسبب، فإن هذا هو الحرج بعينه في كل وقت، فكيف إذا قارن النسك الفاضل.
وفي قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] دلالة على أمور:
* أحدها: أن الوقوف بعرفة من المشاعر الجليلة، ومن أركان الحج، فإن الإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف الذي هو ركن الحج الأعظم بعد الطواف.
* الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام، وهو المزدلفة، وذلك أيضا معروف، يكون الحاج ليلة النحر بائنا بها، وبعد صلاة الفجر يقف في المزدلفة داعيا حتى يسفر جدا، ويدخل في ذكر الله عند المشعر الحرام ما يقع في المشعر من الصلوات فرضها ونفلها.
* الثالث: أن الوقوف بمزدلفة متأخر عن الوقوف بعرفة، كما تدل عليه (الفاء) المفيدة للترتيب.
* الرابع والخامس: أن عرفات ومزدلفة كليهما من مشاعر الحج المقصود فعلها وإظهارها.
* السادس: أن مزدلفة في الحرم، كما قيده بالمشعر الحرام.
* السابع: أن عرفة بالحل كما هو مفهوم التقييد بمزدلفة.
{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] أي: اذكروا الله كما من عليكم بالهداية بعد الضلالة، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم التي يجب شكرها ومقابلتها بالإكثار من ذكر المنعم بالقلب واللسان، {ثُمَّ أَفِيضُوا} [البقرة: 199] أي: من مزدلفة {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] من لدن إبراهيم إلى هذا الوقت، والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم، وهو رمي الجمار، وذبح الهدايا، والطواف، والسعي، والمبيت بمنى ليالي أيام التشريق، وتكميل بقية المناسك.
ولما كانت هذه الإفاضة يقصد بها ما ذكر، والمذكورات آخر المناسك، أمر تعالى بعد الفراغ منها باستغفاره؛ خشية الخلل الواقع من العبد في أداء العبادة وتقصيره فيها، وبالإكثار من ذكره؛ شكرا له على نعمة التوفيق لهذه العبادة العظيمة وتكميلها، وهكذا ينبغي للعبد كلما فرغ من عبادة أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، فهذا حقيق بأن الله يجبر له ما نقص منها ويتقبلها، ويزيده نعما أخرى، لأن من جهل حق ربه فرأى نفسه أنه قد كمل حقوق العبادة فأعجب بنفسه، ومن بعبادته على ربه، وتراءى له أنه قد جعلت له محلا ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت، ويخشى عليه من رد العمل.
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق، وأن الجميع يسألونه مطالبهم، ويستدفعونه ما يضرهم؛ ولكن هممهم ومقاصدهم متباينة، فمنهم من يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} [البقرة: 200] أي: يسأل ربه من مطالب دنياه وشهواته فقط، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200] لا رغبة له فيها، ولا حظ له منها، ومنهم عالي الهمة من يدعو الله لمصلحة الدارين، ويفتقر إلى ربه في مهمات دينه ودنياه، وكل من هؤلاء وهؤلاء له نصيب من كسبهم وعملهم، وسيجازيهم الله على حسب أعمالهم ونياتهم، جزاء دائرا بين الفضل والإحسان والكرم للمقبولين، وبين العدل والحكمة لغيرهم، وفي هذه الآية دليل على أن الله تعالى يقبل دعوة كل داع، مسلما كان أو كافرا، برا أو فاجرا، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه دليلا على محبته وقربه منه إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين، فمن أجيبت دعوته في هذه الأمور الدائم نفعها كان من البشرى، وكان أكبر دليل على بره وقربه من ربه.
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد، وما به تكمل حياته، من رزق هنيء واسع حلال، وزوجة صالحة، وولد تقر به العين، ومن راحة وعلم نافع وعمل صالح، وما يتبع ذلك من المطالب النافعة المحبوبة والمباحة.
وأما حسنة الآخرة فهي السلامة من العقوبات التي يستقبلها العباد من عذاب القبر والموقف وعذاب النار، وحصول رضا الله، والفوز بالنعيم المقيم، والقرب من الرب الرحيم، فهذا الدعاء أجمع الأدعية وأكملها وأولاها بالإيثار، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به، ويحث عليه.
ولما أكمل الله تعالى أحكام النسك أمر بالإكثار من ذكره في الأيام المعدودات، وهي أيام التشريق في قول جمهور المفسرين، وذلك لمزيتها وشرفها وكون بقية المناسك تفعل بها، ولكون الناس فيها أضيافا لله، ولهذا حرم صيامها، فللذكر فيها مزية ليست لغيرها؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله» ، ويدخل في ذكر الله رمي الجمار، والتكبير عند رميها، والدعاء بين الجمرتين، والذبح والتسمية فيه، والصلوات التي تفعل فيها من فرائض ونوافل، والذكر المقيد بعد الفرائض فيها، وعند كثير من أهل العلم أنه يستحب فيها التكبير المطلق كالعشر، فجميع ما يقرب إلى الله داخل بذكره: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] أي: خرج من منى، ونفر منها قبل غروب الشمس فلا إثم عليه، ومن تأخر بأن بات بها ليلة الثالث من أيام التشريق؛ ليرمي من غده فلا إثم عليه، وهذا تخفيف من الله على عباده حين أباح الأمرين، مع أن التأخر أرجح لموافقته فعل النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة العبادات، وقوله: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] هذا من الاحتراز العالي، لأن نفي الحرج يوهم العموم، فقيل ذلك بهذا الشرط الذي هو شرط لنفي الحرج في كل شيء، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 203] بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203] فمجازيكم بأعمالكم، فمن اتقاه وجد عنده جزاء المتقين، ومن لم يتقه عاقبه عقوبة تارك التقوى، فإن التقوى هي ميزان الثواب والعقاب في القائم بها والمضيع لها، فالعلم بالجزاء والإيمان به هو أعظم الدواعي للقيام بالتقوى.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] الآية - وما تلاها -[الحج: 26 - 29] .
يذكر الله تعالى عظمة البيت الحرام وجلالته، وعظمة بانيه، وهو خليل الرحمن فقال: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] أي: هيأناه له وأنزلناه إياه، بحيث جعل قسما من ذريته هم سكانه، وأمره الله ببنيانه، فبناه وأسسه على تقوى الله ورضوانه هو وابنه إسماعيل بنية صادقة وخضوع لله وإخلاص ودعاء منهما أن يتقبل منهما هذا العمل الجليل، فتقبله الله.
فهذه آثار القبول لهذا البيت في كل وقت وجيل متواصلة، ووصاه بأن لا يشرك به شيئا، بأن ينفي الشرك عنه، وعن ذريته، وعمن وصلت إليه دعوته، {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26] أي: من الشرك والمعاصي، ومن الأنجاس والأدناس، وأضافه إلى نفسه ليكتسب شرفا إلى شرفه، ولتعظم محبته في القلوب، لكونه بيت محبوبها الأعظم، وتنصب وتهوي إليه الأفئدة من كل جانب، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه للطائفين به؛ والقائمين عنده للعبادات المتنوعة، {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] أي: المصلين، أي: طهره لهؤلاء الفضلاء الذين ليس لهم هم إلا طاعة مولاهم وما يقربهم إليه، فهؤلاء لهم الحق، ومن إكرامهم تطهير هذا البيت لهم، وتهيئته لما يريدونه عنده، ويدخل في تطهيره تطهيره من الأصوات اللاغية المرتفعة التي تشوش على المتعبدين بالصلاة والطواف والقراءة وغيرها، وقدم الطواف لاختصاصه بهذا البيت، ثم الاعتكاف لاختصاصه بجنس المساجد، {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] أي: أعلمهم به وادعهم إليه، وبلغ دانيهم وقاصيهم فرضه وفضيلته، فإنك إذا دعوتهم عن أمر الله أتوك حجاجا وعمارا {رِجَالًا} [الحج: 27] أي: مشاة على أرجلهم من الشوق، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] أي: ناقة ضامر تقطع المهامه والمفاوز، وتواصل السير حتى تأتي إلى أشرف الأماكن {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] أي: مكان وبلد بعيد، وقد فعل الخليل صلى الله عليه وسلم ذلك، ثم من بعده ابنه محمد صلى الله عليه وسلم، فدعيا الناس إلى حج هذا البيت، وأبديا وأعادا فيه فحصل ما وعد الله به، أتاه الناس رجالا وركبانا من مشارق الأرض ومغاربها.
ثم ذكر فوائد زيارة بيت الله الحرام مرغبا فيه فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] أي: لينالوا بوصولهم لبيت الله في الأنساك منافع متنوعة دينية، ومنافع دنيوية كالتكسب وحصول الأرباح، وهذا أمر مشاهد يعرفه كل أحد، فجميع العلوم والعبادات الدينية التي تفعل في تلك البقاع الفاضلة، وما جعل الله لها من التضعيف داخل في هذه المنافع، وجميع المنافع الدنيوية التي لا تعد ولا تحصى داخلة في ذلك؛ فصدق الله وعده، وأنجز ما قاله، وكان ذلك آية وبرهانا على توحيده وصدق رسله.
وقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] وهذه تجمع الأمرين: الدينية والدنيوية؛ أي: ليذكروا اسم الله عند ذبح الهدايا؛ شكرا لله على ما رزقهم منها ويسرها لهم، فإذا ذبحتموها {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] أي: شديد الفقر.
والآية الأخرى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ الْقَانِعَ} [الحج: 36] وهو الفقير الذي لا يسأل الناس، {وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] الفقير السائل، وفي هذا الأمر بالأكل والإهداء والصدقة، فإن الأمر يشمل أكل أهلها منها وإهداءهم للأغنياء، {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] أي: يستكملوا بقية أنساكهم، ويزيلوا عنهم محظورات الإحرام، وما ترتب عليها من الشعث ونحوه {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] التي أوجبوها على أنفسهم من الحج والعمرة والهدايا، فنفس عقد العبد للإحرام إيجاب منه على نفسه، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] أي: القديم أقدم المساجد على الإطلاق، المعتق من تسلط الجبابرة عليه، وتخصيص الطواف به دون غيره من المناسك لفضله وشرفه، ولكونه المقصود وما قبله وما بعده وسائل وتوابع، ولأنه يتعبد به لله مع الأنساك ووحده، وأما بقية الأنساك فلا تكون عبادة إلا إذا كانت تابعة لنسك). [تيسير اللطيف المنان: 1/97-108]


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 28 رجب 1436هـ/16-05-2015م, 09:38 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي فصل في آيات تتعلق بالجهاد وتوابعه

فصل في آيات تتعلق بالجهاد وتوابعه
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السَّعْدِيُّ (ت: 1376هـ): (فصل في آيات تتعلق بالجهاد وتوابعه
قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]
كان المسلمون في أول الأمر مأمورين بكف الأيدي عن قتال الكفار، وإنما جهادهم بالدعوة لحكمة ظاهرة، فلما اضطهدوا واضطرهم الأعداء إلى ترك بلادهم وأوطانهم، وقتلوا من قتلوا، وحبسوا من حبسوا، وجدوا في العداوة البليغة بكل طريق، وهاجر المسلمون بسبب ذلك إلى المدينة، وقواهم الله على قتال الأعداء، وقد رماهم الأعداء عن قوس واحدة، فحينئذ أذن الله لهم في القتال، ولهذا قال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] لمنعهم من دينهم، وإخراجهم من ديارهم، ومطاردتهم لهم في كل مكان، {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] وهذا مع أمره لهم بفعل الأسباب، ومقاومة الأعداء بكل مستطاع أمر لهم بالتوكل عليه، واستنصاره، والطلب منه.
ثم ذكر صفة عدوانهم، فقال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحج: 40] بالأذية والفتنة بغير حق إلا أن ذنبهم إيمانهم بالله، واعترافهم بأنه ربهم وإلههم، وأنهم أخلصوا له الدين، وتبرءوا من عبادة المخلوقين، وهذا كما قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]
وهذا ظاهر في حكمة الجهاد، وعظم مصلحته، وأنه من الضروريات في الدين؛ فإن المقصود به إقامة دين الله، والدعوة إلى عبادته التي خلق الله المكلفين لها، وأوجبها عليهم، ودفع كل من قاوم الأمر الضروري، ومقاومة الظالمين المعتدين على دين الله وعلى المؤمنين من عباده كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]
ولهذا قال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] فلولا مدافعة الله الناس بعضهم ببعض بأسباب متعددة، وطرق متنوعة قدرية وشرعية، وأعظمها وأجلها وأزكاها الجهاد في سبيله لاستولى الكفار الظالمون، ومحقوا أديان الرسل، فقتلوا المؤمنين بهم، وهدموا معابدهم، ولكن ألطاف الله عظيمة، وأياديه جسيمة، وبهذا وشبهه يعرف حكمة الجهاد الديني، وأنه من الضروريات لا كقتال الظلمة المبني على العداوات والجشع والظلم والاستعباد للخلق، بل الجهاد الإسلامي مرماه وغرضه الوحيد إقامة العدل، وحصول الرحمة، واستعباد الخلق لخالقهم، وأداء الحقوق كلها، ونصر المظلومين، وقمع الظالمين، ونشر الصلاح والإصلاح المطلق بكل وجه واعتبار، وهو من أعظم محاسن دين الإسلام.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ - وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 45 - 47]
هذه الآيات تضمنت الأمر بجهاد الأعداء، والإرشاد إلى الأسباب التي ينبغي للجيوش والمجاهدين الأخذ بها، فمن أعظمها وأهمها أمران: الصبر، وهو الثبات التام وإبداء كل مجهود في تحصيل ذلك، والثاني: التوكل على الله، والتضرع إليه، والإكثار من ذكره، فمتى اجتمع الأمران على وجه الكمال والتكميل فقد أتى المجاهدون بالأسباب الوحيدة للنصر والفلاح، فليبشروا بنصر الله وليثقوا بوعده.
فيدخل بالأمر بالصبر والثبات تمرين النفوس على ذلك، فإنه من يتصبر يصبره الله، وتعلم الرمي والركوب والفنون العسكرية المناسبة للزمان، فإن التعليم وتعلم أمور الجهاد من أكبر العون على الثبات والصبر؛ ومن ذلك الحث على الشجاعة، والسعي في أسبابها، والترغيب في فضائل الجهاد، وما فيه من الثمرات العاجلة والآجلة، وما في تضييعه من ضياع الدين والدنيا، واستيلاء الأعداء، والذل والدمار، فإن النفوس الأبية والهمم العلية لا ترضى لأنفسها بغير هذا الخلق الفاضل الذي هو أعلى الأخلاق وأنفعها، قال تعالى:
{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104] فحثهم على الصبر بتأملهم وطمعهم في الأجر والثواب وإدراك المقامات العالية.
وقال أيضا في ذم الناكلين، وترغيب التائبين الصابرين:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121]
وقال عن المنافقين ونكولهم عن مشقة الجهاد: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] أي: لو كان عندهم فقه نافع في تنزيل الأشياء منازلها، وتقديم ما ينبغي تقديمه لآثروا مشقة الجهاد على راحة القعود الضار عاجلا وآجلا.
وفي هذا أنه بحسب فقه العبد وعلمه ويقينه يكون قيامه بالجهاد، وصبره عليه وثباته، ومن دواعي الصبر وهو من الفقه أيضا أنه إذا علم المجاهد أنه على الحق ويجاهد أهل الباطل أن هذا أعلى الغايات وأشرفها وأحقها، وأن الحق منصور وعاقبته حميدة.
ومن دواعي الصبر الثقة بالله وبوعده؛ فإن الله وعد الصابرين العون والنصر، وأنه معهم في كل أحوالهم، ومن كان الله معه فلو اجتمع عليه من بأقطارها لم يخف إلا الله، ومما يعين على الصبر والثبات (الأمر الثاني) وهو التوكل على الله، وقوة الاعتماد عليه، والتضرع إليه في طلب النصر، والإكثار من ذكره، كما قال تعالى هنا حيث رتب على هذا الفلاح: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] وقال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]
وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ - وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} [آل عمران: 146 - 148]
وقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ} [محمد: 7] أي: تقوموا بدينه وبالحق الذي جاء به رسوله مخلصين لله، قاصدين أن تكون كلمة الله هي العليا ينصركم، ويثبت أقدامكم، وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]
فإخباره بأنه المتفرد بنصرهم، وأن غيره لا يملك من النصر شيئا، وأمرهم بالتوكل عليه أمر لهم بأقوى الأسباب النافعة في هذا المقام العظيم؛ وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]
أي: الذي قام بعبوديته، فبحسب توكلهم عليه، وقيامهم بعبوديته يحصل لهم النصر، والكفاية التامة.
ومن أسباب النصر والصبر والثبات: اتفاق القلوب، وعدم التفرق والتنازع، فإن ذلك محلل للقوة، موجب للفشل، وأما اجتماع الكلمة، وقيام الألفة بين المؤمنين، واتفاقهم على إقامة دينهم وعلى نصره فهذا أقوى القوى المعنوية التي هي الأصل، والقوة المادية تبع لها، والكمال: الجمع بين الأمرين كما أمر الله بذلك في هذه الآية، وفي قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ} [الأنفال: 60]
ومن أسباب الثبات والنصر: حسن النية، وكمال الإخلاص في إعلاء كلمة الحق؛ فلهذا حذر تعالى من مشابهة الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، فهؤلاء لما لم يعتمدوا على ربهم، وأعجبوا بأنفسهم، وخرجوا أشرين بطرين، وكان قتالهم لنصر الباطل باءوا بالخيبة والفشل والخذلان، ولهذا أدب خيار الخلق لما حصل من بعضهم الإعجاب بالكثرة في غزوة حنين حيث قال القائل: لن نغلب اليوم عن قلة. فقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] فلما زال هذا الأمر عنهم، وعرفوا ضعفهم وعاقبة الإعجاب: {أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26]
ومن الأسباب التي أرشد الله إليها في القتال: الثبات والصبر وحسن التدبير، والنظام الكامل في جميع الحركات العسكرية، قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121]
وكان صلى الله عليه وسلم يرتب الجيش، وينزلهم منازلهم، ويجعل في كل جنبة كفئها، ويسد الثغرات التي يخشى أن يتسرب منها العدو، يحفظ المكامن، ويبعث العيون لتعرف أحوال العدو، ويستعين بمشاورة أصحابه كما أمر الله بذلك، خصوصا في هذا الأمر المهم، وتعرف أسرار العدو، وبث العيون، ووضع الجواسيس السريين الذين لا يكاد يشعر بهم، كما أن من المهم التحرز من جواسيس العدو، وعمل الأسباب لأخذ الحذر من ذلك بحسب ما يليق، ويناسب الزمان والمكان.
ومن المهم أيضا أن تفعل جميع الأسباب الممكنة في إخلاص الجيوش، وقتالها عن الحق، وأن تكون غايتها كلها واحدة لا يزعزعها عن هذا الغرض السامي فقد رئيس، أو انحراف كبير، أو تزعزع مركز قائد، أو توقف في صمودها في طريقها النافع على أمور خارجية، فإنه متى كانت هذه الغاية العالية هي التي يسعى لها أهل الحل والعقد، ويعملون لها التعليمات القولية والفعلية، كانت الجيوش التي على هذا الوصف مضرب المثل في الكمال وسداد الأحوال، وحصول المقاصد الجليلة؛ ولهذا أرشد الله المؤمنين يوم أحد إلى هذا النظام العجيب، فقال تعالى:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]
فنبههم على أنه وإن كان محمد هو الإمام الأعظم، والرسول المعظم، فإنه لا ينبغي لكم أن يفت فقده في عزيمتكم، وانحلال قوتكم، بل أنتم تقاتلون لله، وعلى الحق الذي بعث به رسوله، ولدفع الباطل والشرور، فاجعلوا هذه الغاية نصب أعينكم، وأساس عملكم، وامضوا قدما في سبيل الله غير هائبين، ولا متأثرين إذا أتت الأمور على خلاف مرادكم، فإن الأمور هكذا تكون: تارة لك، وتارة عليك، والكمال كل الكمال أن يكون العبد عبدا لله في الحالين، في السراء والضراء، في حال إتيان الأمور على ما يحب، أو ضد ذلك، وهذا الوصف هو كمال الفرد، وكمال الجماعات، والله الموفق.
ومن الأمور المهمة جدا أن يكون الرئيس رحيما برعيته، ناصحا محبا للخير، ساعيا فيه جهده، كثير المراودة والمشاورة لهم، خصوصا لأهل الرأي والحجا منهم؛ وأن تكون الرعية مطيعة منقادة، ليس عندهم منازعات ولا مشاغبات، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] أي: إذا حصل النزاع في أي أمر من الأمور، خصوصا في الأمور المتعلقة في سياسة الحرب، ردت إلى هذا الأصل الذي يطمئن إليه المؤمنون، ويلجأ إليه كبارهم وصغارهم، لعلمهم أنه فرض على جميعهم، ولعلمهم أن حكم الله ورسوله هو الخير والصلاح، وأن الله يعلم من مصالحهم ما لا يعلمون، ويرشدهم إلى كل ما به ينتفعون.
ومن الأمور المهمة جدا سلوك طريق الحق، والعدل في قسمة الغنائم، وأن لا تكون ظالمة مستبدا بها الأقوياء، محروما منها الضعفاء، أو تكون فوضى، فإن هذين الأمرين مع ضررهما في الدين - وإن هذا لا يحل ولا يجوز، وهو من أعظم المحرمات - فإنهما يضران غاية الضرر في الجيوش في وقوع العداوات، وحصول الجشع والطمع، وكون وجهتها تكون متباينة، فبذلك ينحل النظام، ويقع الفشل، ويكون هذا الأمر أعظم سلاح للأعداء على المسلمين.
ومن الأمور المهمة جدا أيضا - وهي عون كبير في الحروب - السعي بقدر الاستطاعة في إيقاع الانشقاق في صفوف الأعداء، وفعل كل سبب يحصل به تفريق شملهم وتفريق وحدتهم، ومهادنة من يمكن مهادنته منهم، وبذل الأموال للرؤساء إذا غلب على الظن أن ينكف شرهم عن المسلمين، فكم حصل بهذا الطريق من نكاية العدو ما لا يحصل بالجيوش الكثيرة، ولهذا قال:
{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} [النساء: 90]
فذكر الله هذه المصلحة العظيمة في الكف عن أمثال هؤلاء الموصوفين.
وللموفقين من الرؤساء وقواد الجيوش في هذه الأمور مقامات معروفة صار لهم فيها اليد البيضاء على المسلمين.
فانظر إلى هذه التعاليم الإلهية التي هي النظام الكامل الوحيد في جميع الأزمنة والأمكنة، واستدل بذلك على أن الإسلام الحقيقي هو الدين الحق الذي إليه ملجأ الخليقة، وبه سعادتها وسلامتها من الشرور، وأن النقص والهبوط بتضييع تعاليم هذا الدين الذي أكمله الله، وأتم به النعمة على المؤمنين). [تيسير اللطيف المنان: 1/108-116]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
أحكام, القرآن

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:14 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir