دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > الرسائل التفسيرية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20 جمادى الآخرة 1436هـ/9-04-2015م, 06:22 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي مسائل التفسير المستخلصة من كتاب "شفاء العليل" لابن القيم رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد:
فإن كتاب "شفاء العليل" لابن القيّم - رحمه الله - من أحسن كتبه تحريراً، وأوسعها بحثاً للمسائل، وجمعاً للأقوال ، وإعمالاً لقواعد الجمع والترجيح، والإعلال والتصحيح، والنقد والتعليل، وقد أبان في هذا الكتاب عن علم غزير، وذكاء حادّ، وفهم حسن، ونصح بيّن؛ فجزاه الله عن أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم خير ما جزى عالماً لعلمه، وناصحاً بنصحه، وداعيا بدعوته.
وقد اشتغلت باختصار هذا الكتاب، وتلخيص مقاصده، وتقريب مسائله في مجالس متعددة بين عامي 1415هـ و 1416هـ، وقد أتممت تلخيصه في ذلك الوقت، ولم أنشره بعد، وأرجو أن ييسر الله نشره قريباً.
وقد كان من أحسن ما استفدته من دراسة هذا الكتاب طريقة ابن القيّم رحمه الله في تناول مسائل التفسير، وجمع الأقوال وتحريرها، وتمييز الصحيح من الضعيف، وحسن التعبير عن الأقوال الصحيحة بما يزيدها وضوحاً وحسناً، وهذه ملكة عظيمة النفع؛ تفتح لطالب العلم أبواباً مباركة في فهم نصوص الكتاب والسنة.
وقد خصصت هذا الموضوع لاستخلاص مسائل التفسير من ذلك الكتاب القيّم ، وأسأل الله التوفيق والإعانة على ما توخيّت من الإبانة.


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20 جمادى الآخرة 1436هـ/9-04-2015م, 07:41 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي


تفسير قول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}
قالَ ابنُ القيّم - رحمه الله -: (وقال أبو داود الطيالسي: ثنا عبد المؤمن هو ابن عبد الله؛ قال: كنا عند الحسن فأتاه يزيد بن أبي مريم السلولي يتوكأ على عصا؛ فقال يا أبا سعيد أخبرني عن قول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}
فقال الحسن: (نعم والله إن الله ليقضي القضية في السماء ثم يضرب لها أجلا أنه كائن في يوم كذا وكذا في ساعة كذا وكذا في الخاصة والعامة حتى إن الرجل ليأخذ العصا ما يأخذها إلا بقضاء وقدر).
قال: يا أبا سعيد والله لقد أخذتها وإني عنها لغني ثم لا صبر لي عنها!!
قال الحسن: (أولا ترى؟!!).

واختلف في الضمير في قوله: {من قبل أن نبرأها}؛
  • فقيل: هو عائد على الأنفس لقربها منه.
  • وقيل: هو عائد على الأرض.
  • وقيل: عائد على المصيبة.
والتحقيق أن يقال: هو عائد على البرية التي تعمّ هذا كله، ودل عليه السياق وقوله: {نبرأها}؛ فينتظم التقادير الثلاثة انتظاما واحدا، والله أعلم). [شفاء العليل: 7]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 20 جمادى الآخرة 1436هـ/9-04-2015م, 07:42 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي


تفسير الآيات التي أبطل الله بها احتجاج المشركين بالقدَر على المعاصي
قالَ ابنُ القيّم - رحمه الله -: (حكى الله سبحانه الاحتجاج في القدر عن المشركين أعداء الرسل فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}، إلى قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء} إلى قوله: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} فهذه أربع مواضع حكى فيها الاحتجاج بالقدر عن أعدائه وشيخهم وإمامهم في ذلك عدوه الأحقر إبليس حيث احتج عليه بقضائه فقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فإن قيل قد علم بالنصوص والمعقول صحة قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولو شاء الرحمن ما عبدناهم فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} فكيف أكذبهم ونفى عنهم العلم وأثبت لهم الخرص فيما هم فيه صادقون وأهل السنة جميعا يقولون لو شاء الله ما أشرك به مشرك ولا كفر به كافر ولا عصاه أحد من خلق؟
فكيف ينكر عليهم ما هم فيه صادقون؟!!
قيل: أنكر سبحانه عليهم ما هم فيه أكذب الكاذبين، وأفجر الفاجرين، ولم ينكر عليهم صدقا ولا حقا؛ بل أنكر عليهم أبطل الباطل؛ فإنهم لم يذكروا ما ذكروه إثباتا لقدره وربوبيته ووحدانيته وافتقارا إليه وتوكلا عليه واستعانة به، ولو قالوا كذلك لكانوا مصيبين، وإنما قالوه معارضين به لشرعه، ودافعين به لأمره؛ فعارضوا شرعه وأمره ودفعوه بقضائه وقدره، ووافقهم على ذلك كل من عارض الأمر ودفعه بالقدر!!
وأيضا فإنهم احتجوا بمشيئته العامة وقدره على محبته لما شاءه ورضاه به وإذنه فيه؛ فجمعوا بين أنواع من الضلال:
1. معارضة الأمر بالقدر.
2. ودفعه به.
3. والإخبار عن الله أنه يحب ذلك منهم ويرضاه؛ حيث شاءه وقضاه.
4. وأن لهم الحجة على الرسل بالقضاء والقدر.
وقد ورثهم في هذا الضلال وتبعهم عليه طوائف من الناس ممن يدعي التحقيق والمعرفة!! أو يُدَّعى فيه ذلك، وقالوا: العارف إذا شاهد الحكم سقط عنه اللوم!!
...
هؤلاء الكفرة يشهدون أن أفعالهم كلها طاعات لموافقتها المشيئة السابقة، ولو أغضبهم غيرهم وقصر في حقوقهم لم يشهدوا فعله طاعة؛ مع أنه وافق فيه المشيئة فما احتج بالقدر على إبطال الأمر والنهي إلا من هو من أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم لهواه.
وتأمل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه واحتجاجهم بمشيئته وقدره على إبطال ما أمرهم به رسوله وأنه لولا محبته ورضاه به لما شاءه منهم: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه وبيان ما ينفعهم ويضرهم وتمكنهم من الإيمان بمعرفة أوامره ونواهيه وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول؛ فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك، واضمحلت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه، ثم قرر تمام الحجة بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فإن هذا يتضمن أنه المتفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه، وأنه لا رب غيره ولا إله سواه؛ فكيف يعبدون معه إلها غيره؟!!
فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم، وأن الأمر كله لله، وأن كل شيء ما خلا الله باطل؛ فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد؛ فجعلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك فكانت حجة الله هي البالغة وحجتهم هي الداحضة وبالله التوفيق). [شفاء العليل: ؟؟]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 20 جمادى الآخرة 1436هـ/9-04-2015م, 09:05 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي


تفسير قول الله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
قالَ ابنُ القيّم - رحمه الله -: (قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ فتستنسخ الملائكة ما يكون من أعمال بني آدم قبل أن يعملوها فيجدون ذلك موافقا لما يعملونه؛ فيثبت الله تعالى منه ما فيه ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو.
وذكر ابن مردويه في تفسيره من طرق إلى بقية عن أرطأة بن المنذر عن مجاهد عن ابن عمر يرفعه أن أول خلق الله القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول من بر أو فجور رطب أو يابس فأحصاه عند الذكر وقال اقرؤا إن شئتم: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.فهل تكون النسخة إلا من شيء قد فرغ منه؟
وقال آدم: ثنا ورقاء عن عطاء بن السائب عن مقسم عن ابن عباس: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} قال: تستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم؛ فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب.
وفي تفسير الأشجع عن سفيان عن منصور عن مقسم عن ابن عباس قال: كتب في الذكر عنده كل شيء هو كائن ثم بعث الحفظة على آدم وذريته وكل ملائكته ينسخون من الذكر ما يعمل العباد ثم قرأ: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
وفي تفسير الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال: هي أعمال أهل الدنيا الحسنات والسيئات تنزل من السماء كل غداة وعشية ما يصيب الإنسان في ذلك اليوم أو الليلة الذي يقتل والذي يغرق والذي يقع من فوق بيت والذي يتردى من جبل والذي يقع والذي يحرق بالنار؛ فيحفظوا عليه ذلك كله وإذا كان الشيء صعدوا به إلى السماء فيجدونه كما في السماء مكتوبا في الذكر الحكيم). [شفاء العليل: 23-24]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 20 جمادى الآخرة 1436هـ/9-04-2015م, 09:07 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي



تفسير قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.
قالَ ابنُ القيّم - رحمه الله -:(يسبق إلى أفهام كثير من الناس أن القضاء والقدر إذا كان قد سبق فلا فائدة في الأعمال وإن ما قضاه الرب سبحانه وقدره لا بد من وقوعه فتوسط العمل لا فائدة فيه!!
وقد سبق إيراد هذا السؤال من الصحابة على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فأجابهم بما فيه الشفاء والهدى ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: (كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكث بمخصرته ثم قال: (ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة)، فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، فقال: (اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة) ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.
- وفي بعض طرق البخاري أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة من كل من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة.
- وعن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: " جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأننا خلقنا الآن فيم العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال: (لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير) قال: ففيم العمل؟ فقال: (اعملوا فكل ميسر) رواه مسلم.
- وعن عمران بن حصين قال: قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار فقال: نعم، قيل: ففيم يعمل العاملون، فقال: (كل ميسر لما خلق له) متفق عليه.
- وفي بعض طرق البخاري: (كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له)، ورواه الإمام أحمد أطول من هذا فقال: ثنا صفوان بن عيسى ثنا عروة بن ثابت عن يحي بن عقيل عن أبي نعيم عن أبي الأسود الدؤلي قال: غدوت على عمران بن حصين يوما من الأيام فقال: إن رجلا من جهينة أو مزينة أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قضى عليهم أو مضى عليهم في قدر قد سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم واتخذت عليهم الحجة، قال: (بل شيء قضى عليهم)، قال: فلم يعملون إذا يا رسول الله؟ قال: (من كان الله -عز وجل- خلقه لواحدة من المنزلتين فهيأه لعملها وتصديق ذلك في كتاب الله:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}).
- وقال المحاملي: ثنا أحمد بن المقدام ثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت أبا سفيان يحدث عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال نزل فمنهم شقي وسعيد فقال عمر: يا نبي الله علامَ نعمل؟ على أمر قد فرغ منه، أم لم يفرغ منه؟
قال: (لا، على أمر قد فرغ منه، قد جرت الأقلام، ولكن كل ميسر: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}).
فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد، ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال: ما كنت أشد اجتهادا مني الآن.
وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقة أفهامهم وصحة علومهم؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب؛ فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه ومكن منه وهيئ له؛ فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب، وكلما زاد اجتهادا في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه.
وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل زمانه؛ فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه.
وإذا قدر له أن يرزق الولد لم ينل ذلك إلا بالنكاح أو التسري والوطء.
وإذا قدر له أن يستغل من أرضه من المَغَلَّ كذا وكذا؛ لم ينله إلا بالبذر، وفعل أسباب الزرع.
وإذا قدر الشبع والري؛ فذلك موقوف على الأسباب المحصلة لذلك من الأكل والشرب واللبس.
وهذا شأن أمور المعاش والمعاد فمن عطل العمل اتكالا على القدر السابق؛ فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالا على ما قدر له، وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي بها مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية، بل فطر الله على ذلك سائر الحيوانات؛ فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية في معادهم؛ فإنه سبحانه رب الدنيا والآخرة وهو الحكيم بما نصه من الأسباب في المعاش والمعاد.
وقد يسر كلا من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة؛ فهو مهيأ له ميسر له؛ فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهادا في فعلها من القيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه.
وقد فقه هذا كل الفقه من قال: (ما كنت أشد اجتهادا مني الآن) ؛ فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا الطريق يقضي به إلى رياض مونقة وبساتين معجبة ومساكن طيبة ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب كان حرصه على سلوكها واجتهاده في السير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه.
ولهذا قال أبو عثمان النهدي لسلمان: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحا مني بآخره، وذلك لأنه إذا كان قد سبق له من الله سابقة وهيأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها؛ فإنها سبقت له من الله قبل الوسيلة منه، وعلمها الله وشاءها، وكتبها وقدَّرها، وهيأ له أسبابها لتوصله إليها؛ فالأمر كله من فضله وجوده السابق؛ فسبق له من الله سابقة السعادة ووسيلتها وغايتها؛ فالمؤمن أشد فرحا بذلك من كون أمره مجعولا إليه، كما قال بعض السلف: (والله ما أحب أن يجعل أمري إلي، إنه إذا كان بيد الله خيرا من أن يكون بيدي).
فالقدر السابق معين على الأعمال، وما يحث عليها، ومقتض لها، لا أنه مناف لها، وصاد عنها.
وهذا موضع مزلة قدم، مَن ثبتت قدمه؛ فاز بالنعيم المقيم، ومن زلت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في القدر إلي أمرين هما سببا السعادة:
1. الإيمان بالأقدار؛ فإنه نظام التوحيد.
2. والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره، وتحجز عن شره، وذلك نظام الشرع.
فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر؛ فأبى المنحرفون إلا القدح بإنكاره في أصل التوحيد، أو القدح بإثباته في أصل الشرع، ولم تتسع عقولهم التي لم يُلْقِ الله عليها من نوره للجمع بين ما جمعت الرسل جميعهم بينه وهو القدر والشرع والخلق والأمر، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والنبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على جمع هذين الأمرين للأمة، وقد تقدم قوله: (أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز). وإن العاجز من لم يتسع للأمرين، وبالله التوفيق). [شفاء العليل: 24-26]


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 16 رجب 1436هـ/4-05-2015م, 07:08 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي


تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمه الله: (في صحيح الحاكم من حديث الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}قال المشركون فالملائكة وعيسى وعزيرا يعبدون من دون الله قال: فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} " وهذا إسناد صحيح.
وقال علي بن المديني: ثنا يحيى بن آدم ثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم قال: أخبرني أبو رزين عن أبي يحيى عن ابن عباس أنه قال: (آية لا يسأل الناس عنها لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها أو جهلوها فلا يسألون عنها)
فقيل له: وما هي؟
فقال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} شق ذلك على قريش أو على أهل مكة وقالوا: يشتم آلهتنا فجاء ابن الزِّبَعْرى فقال: مالكم قالوا: يشتم آلهتنا قال: وما قال قالوا: قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}.
قال: ادعوه لي؛ فلما دعي النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله؟
فقال: (لا، بل لكل من عبد من دون الله).
قال: فقال ابن الزِّبَعْرَى: (خصمت ورب هذه البنية - يعني الكعبة - ألست تزعم أن الملائكة عباد صالحون، وأن عيسى عبد صالح، وأن عزيرا عبد صالح، وهذه بنو مليح تعبد الملائكة، وهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيرا، قال: فضج أهل مكة فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}.
قال: ونزلت: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}.
قال: هو الضجيج.
وهذا الإيراد الذي أورده ابن الزبعري لا يرد على الآية فإنه سبحانه قال: {إنكم وما تعبدون من دون الله} ولم يقل (ومن تعبدون) و(ما) لما لا يعقل؛ فلا يدخل فيها الملائكة والمسيح وعزير، وإنما ذلك للأحجار ونحوها التي لا تعقل.
وأيضا: فإن السورة مكية، والخطاب فيها لعبّاد الأصنام؛ فإنه قال: {إنكم وما تعبدون}؛ فلفظة (إنكم) ولفظة (ما) تبطل سؤاله، وهو رجل فصيح من العرب لا يخفى عليه ذلك، ولكن إيراده إنما كان من جهة القياس والعموم المعنوي الذي يعم الحكم فيه بعموم علته؛ أي إن كان كونه معبودا يوجب أن يكون حصب جهنم؛ فهذا المعنى بعينه موجود في الملائكة وعزير والمسيح فأجيب بالفارق وذلك من وجوه:
أحدها: أن الملائكة والمسيح وعزيراً ممن سبقت لهم من الله الحسنى فهم سعداء لم يفعلوا ما يستوجبون به النار؛ فلا يعذبون بعبادة غيرهم مع بغضهم ومعاداتهم لهم؛ فالتسوية بينهم وبين الأصنام أقبح من التسوية بين البيع والربا والميتة والذكي، وهذا شأن أهل الباطل، وإنما يسوون بين ما فرّق الشرع والعقل والفطرة بينه، ويفرّقون بين ما سوّى الله ورسوله بينه.
الفرق الثاني: أن الأوثان حجارة غير مكلفة ولا ناطقة؛ فإذا حصبت بها جهنم إهانة لها ولعابديها لم يكن في ذلك من لا يستحق العذاب؛ بخلاف الملائكة والمسيح وعزير؛ فإنهم أحياء ناطقون فلو حصبت بهم النار كان ذلك إيلاما وتعذيبا لهم.
الثالث: أن من عبد هؤلاء بزعمه فإنه لم يعبدهم في الحقيقة فإنهم لم يدعوا إلى عبادتهم، وإنما عبد المشركون الشياطين وتوهموا أن العبادة لهؤلاء؛ فإنهم عبدوا بزعمهم من ادّعى أنه معبود مع الله، وأنه معه إله، وقد برأ الله سبحانه ملائكته والمسيح وعزيراً من ذلك، وإنما ادّعى ذلك الشياطين، وهم بزعمهم يعتقدون أنهم يرضون بأن يكونوا معبودين مع الله ولا يرضى بذلك إلا الشياطين، ولهذا قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} فما عبد غير الله إلا الشيطان.
وهذه الأجوبة منتزعة من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} فتأمل الآية تجدها تلوح في صفحات ألفاظها وبالله التوفيق.

والمقصود ذكر الحسنى التي سبقت من الله لأهل السعادة قبل وجودهم وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم، ثنا أبو سعيد بن يحي بن سعيد، ثنا أبو عامر العقدي، ثنا عروة بن ثابت الأنصاري، ثنا الزهري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: "أن عبد الرحمن بن عوف مرض مرضا شديدا أغمي عليه فأفاق فقال: (أغمي علي؟) قالوا: نعم قال: (إنه أتاني رجلان غليظان فأخذا بيدي فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين فانطلقا بي فتلقاهما رجل وقال: أين تريدان به؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين. فقال: دعاه فإن هذا ممن سبقت له السعادة وهو في بطن أمه).
وقال عبد الله بن محمد البغوي: ثنا داود بن رشيد، ثنا ابن علية، حدثني محمد بن محمد القرشي، عن عامر بن سعد، قال: "أقبل سعد من أرض له فإذا الناس عكوف على رجل فاطلع فإذا هو يسب طلحة والزبير وعليا فنهاه فكأنما زاده إغراء فقال: ويلك تريد أن تسب أقواما هم خير منك لتنتهين أو لأدعون عليك فقال: كأنما يخوفني نبي من الأنبياء فانطلق فدخل دارا فتوضأ ودخل المسجد ثم قال: اللهم إن كان هذا قد سب أقواما قد سبقت لهم منك حسنى أسخطك سبه إياهم فأرني اليوم آية تكون للمؤمنين آية وقال تخرج بختية من دار بني فلان لا يردها شيء حتى تنتهي إليه ويتفرق الناس وتجعله بين قوائمها وتطأه حتى طفى قال: فأنا رأيت سعدا يتبعه الناس يقولون استجاب الله لك يا أبا إسحاق استجاب الله لك يا أبا إسحاق).
وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا}؛ أي الله سماكم من قبل القرآن وفي القرآن فسبقت تسمية الحق سبحانه لهم مسلمين قبل إسلامهم وقبل وجودهم وقال تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}وقال ابن عباس في رواية الوالبي عنه في قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال: (سبقت لهم السعادة في الذكر الأول).
وهذا لا يخالف قول من قال: إنه الأعمال الصالحة التي قدموها، ولا قول من قال: إنه محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنه سبق لهم من الله في الذكر الأول السعادة بأعمالهم على يد محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو خير تقدم لهم من الله؛ ثم قدمه لهم على يد رسوله، ثم يقدمهم عليه يوم لقائه.
وقد قال تعالى:{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقد اختلف السلف في هذا الكتاب السابق:
- فقال جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم: لولا قضاء من الله سبق لكم يا أهل بدر في اللوح المحفوظ أن الغنائم حلال لكم لعاقبكم.
- وقال آخرون لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب أحدا إلا بعد الحجة لعاقبكم.
- وقال آخرون لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر أنه مغفور لهم وإن عملوا ما شاؤا لعاقبهم.
- وقال آخرون: وهو الصواب لولا كتاب من الله سبق بهذا كله لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم، والله أعلم). [شفاء العليل: 26-28]


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 16 رجب 1436هـ/4-05-2015م, 07:22 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي


تفسير قول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمه الله: (قال سفيان عن زياد بن إسماعيل المخزومي ثنا محمد بن عباد بن جعفر ثنا أبو هريرة قال جاء مشركو قريش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخاصمون في القدر فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} رواه مسلم.
وقد روى الدارقطني من حديث حبيب بن عمرو الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله -تعالى صلى الله عليه وسلم-: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين خصماء الله وهم القدرية)، ولكن حبيب هذا قال الدارقطني: مجهول، والحديث مضطرب الإسناد، ولا يثبت.
والمخاصمون في القدر نوعان:
أحدهما: من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره؛ كالذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا.
والثاني: من ينكر قضاءه وقدره السابق.
والطائفتان خصماء الله، قال عوف: (من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام، إن الله تبارك وتعالى قدّر أقدارا، وخلق الخلق بقدر، وقسّم الآجال بقدر، وقسّم الأرزاق بقدر، وقسّم البلاء بقدر، وقسّم العافية بقدر، وأمر ونهى).
وقال الإمام أحمد: (القدر قدرة الله).
واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدا، وقال: (هذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين).
وهو كما قال أبو الوفاء؛ فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد وكتابتها وتقديرها، وسلف القدرية كانوا ينكرون علمه بها، وهم الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم...
وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}قال: (الذين يقولون إن الله على كل شيء قدير)
وهذا من فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل، ومعرفته بحقائق الأسماء والصفات؛ فإن أكثر أهل الكلام لا يوفون هذه الجملة حقها، ولو كانوا يقرّون؛ فمنكرو القدر وخلق أفعال العباد لا يقرّون بها على وجهها، ومنكرو أفعال الرب القائمة به لا يقرّون بها على وجهها، بل يصرحون أنه لا يقدر على فعل يقوم به.
- ومن لا يقر بأن الله سبحانه كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء لا يقر بأن الله على كل شيء قدير.
- ومن لا يقر بأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وأنه سبحانه مقلب القلوب حقيقة، وأنه إن شاء يقيم القلب أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، لا يقر بأن الله على كل شيء قدير.
- ومن لا يقر بأنه استوى على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض، وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يقول: (من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)
وأنه ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة حين تخلو من سكانها، وأنه يجيء يوم القيامة؛ فيفصل بين عباده، وأنه يتجلى لهم يضحك، وأنه يريهم نفسه المقدسة، وأنه يضع رجله على النار فيضيق بها أهلها، وينزوي بعضها إلى بعض، إلى غير ذلك من شؤونه وأفعاله التي من لم يقر بها لم يقر بأنه على كل شيء قدير.
فيا لها كلمة من حبر الأمة وترجمان القرآن!!
وقد كان ابن عباس شديدا على القدرية، وكذلك الصحابة). [شفاء العليل: 28-29]


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 19 رجب 1436هـ/7-05-2015م, 07:45 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي


تفسير قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}
قال ابن القيّم - رحمه الله -: (قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}؛
قال ابن عباس: علم ما يكون قبل أن يخلقه.
وقال أيضا: على علم قد سبق عنده.
وقال أيضا: يريد الأمر الذي سبق له في أم الكتاب.
وقال سعيد بن جبير ومقاتل: على علمه فيه.
وقال أبو إسحاق: أي على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه، وهذا الذي ذكره جمهور المفسرين.
وقال الثعلبي: (على علم منه بعاقبة أمره).
قال: وقيل على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه، وكذلك ذكر البغوي وأبو الفرج بن الجوزي قال:على علمه السابق فيه أنه لا يهتدي.
وذكر طائفة منهم المهدوي وغيره قولين في الآية، هذا أحدهما؛ قال المهدوي: فأضله الله على علم علمه منه بأنه لا يستحقه.
قال: وقيل على علم من عابد الصنم أنه لا ينفع ولا يضر.
- وعلى الأول يكون {على علم} حالا من الفاعل، المعنى: أضله الله عالما بأنه من أهل الضلال في سابق علمه.
- وعلى الثاني حال من المفعول، أي أضله الله في حال علم الكافر بأنه ضال).
قلت: وعلى الوجه الأول فالمعنى أضله الله عالما به وبأقواله وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره قبل خلقه وبعده، وأنه أهل للضلال، وليس أهلا أن يُهدى، وأنه لو هُدِي لكان قد وضع الهدى في غير محله، وعند من لا يستحقه، والرب تعالى حكيم إنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها.
فانتظمت الآية - على هذا القول - إثبات القدر والحكمة التي لأجلها قدّر عليه الضلال، وذكر العلم إذ هو الكاشف المبين لحقائق الأمور، ووضع الشيء في مواضعه، وإعطاء الخير من يستحقه، ومنعه من لا يستحقه؛ فإن هذا لا يحصل بدون العلم؛ فهو سبحانه أضله على علمه بأحواله التي تناسب ضلاله وتقتضيه وتستدعيه.
وهو سبحانه كثيرا ما يذكر ذلك مع إخباره بأنه أضل الكافر كما قال:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، وقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} : {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} : {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} : {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} : {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} : {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.
وقد أخبر سبحانه أنه يفعل ذلك عقوبة لأرباب هذه الجرائم وهذا إضلال ثان بعد الإضلال الأول كما قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} وقال تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وقال تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً}وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}؛ أي إن تركتم الاستجابة لله ورسوله عاقبكم بأن يحول بينكم وبين قلوبكم فلا تقدرون على الاستجابة بعد ذلك.
ويشبه هذا إن لم يكن بعينه قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} الآية، وفي موضع آخر: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}.
وفي هذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: قال أبو إسحاق: هذا إخبار عن قوم لا يؤمنون كما قال عن نوح:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ}،واحتج على هذا بقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}.
قال: وهذا يدل على أنه قد طبع على قلوبهم.
وقال ابن عباس: فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم؛ فآمنوا كرها وأقروا باللسان، وأضمروا التكذيب.
وقال مجاهد: فما كانوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم.
قلت: وهو نظير قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه}.
وقال آخرون: لما جاءتهم رسلهم بالآيات التي اقترحوها وطلبوها ما كانوا ليؤمنوا بعد رؤيتها ومعاينتها بما كذبوا به من قبل رؤيتها ومعاينتها؛ فمنعهم تكذيبهم السابق بالحق لما عرفوه من الإيمان به بعد ذلك، وهذه عقوبة من رد الحق أو أعرض عنه؛ فلم يقبله؛ فإنه يصرف عنه، ويحال بينه وبينه، ويقلب قلبه عنه؛ فهذا إضلال العقوبة، وهو من عدل الرب في عبده، وأما الإضلال السابق الذي ضل به عن قبوله أولا والاهتداء به؛ فهو إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به، وأن محله غير قابل له؛ فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه، كما هو أعلم حيث يجعل رسالته؛ فهو أعلم حيث يجعلها أصلا وميراثا، وكما أنه ليس كل محل أهلا لتحمل الرسالة عنه وأدائها إلى الخلق؛ فليس كل محل أهلا لقبولها والتصديق بها كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}؛ أي: ابتلينا واختبرنا بعضهم ببعض؛ فابتلى الرؤساء والسادة بالأتباع والموالى والضعفاء فإذا نظر الرئيس والمطاع إلى المولى والضعيف أَنِفه وأَنِفَ أن يسلم، وقال: هذا يمنُّ الله عليه بالهدى والسعادة دوني؟!!
قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وهم الذين يعرفون النعمة وقدرها، ويشكرون الله عليها؛ بالاعتراف والذل والخضوع والعبودية؛ فلو كانت قلوبكم مثل قلوبهم تعرفون قدر نعمتي وتشكروني عليها، وتذكروني بها وتخضعون لي كخضوعهم، وتحبوني كحبهم لمننت عليكم كما مننت عليهم، ولكن لِمِنَنِي ونِعَمي محالّ لا تليق إلا بها، ولا تحسن إلا عندها، ولهذا يقرن كثيرا بين التخصيص والعلم كقوله ههنا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}وقوله: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}؛ أي سبحانه المتفرد بالخلق والاختيار مما خلق، وهو الاصطفاء والاجتباء، ولهذا كان الوقف التام عند قوله: {ويختار} ثم نفى عنهم الاختيار الذي اقترحوه بإرادتهم، وأن ذلك ليس إليهم بل إلى الخلاق العليم، الذي هو أعلم بمحالّ الاختيار ومواضعه، لا من قال: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}؛ فأخبر سبحانه أنه لا يبعث الرسل باختيارهم، وأن البشر ليس لهم أن يختاروا على الله، بل هو الذي يخلق ما يشاء ويختار، ثم نفى سبحانه أن تكون لهم الخيرة كما ليس لهم الخلق.
ومن زعم أن (ما) مفعول يختار فقد غلط؛ إذ لو كان هذا هو المراد لكانت الخيرة منصوبة على أنها خبر كان، ولا يصح المعنى ما كان لهم الخيرة فيه وحذف العائد؛ فإن العائد ههنا مجرور بحرف لم يجر الموصول بمثله؛ فلو حذف مع الحرف لم يكن عليه دليل؛ فلا يجوز حذفه.
وكذلك لم يفهم معنى الآية من قال: إنّ الاختيار ههنا هو الإرادة، كما يقوله المتكلمون أنه سبحانه (فاعل بالاختيار)؛ فإن هذا الاصطلاح حادث منهم، لا يحمل عليه كلام الله، بل لفظ الاختيار في القرآن مطابق لمعناه في اللغة، وهو اختيار الشيء على غيره، وهو يقتضي ترجيح ذلك المختار، وتخصيصه وتقديمه على غيره، وهذا أمر أخص من مطلق الإرادة والمشيئة.
قال في الصحاح: (الخيرة الاسم من قولك خار الله لك في هذا الأمر والخيرة أيضا يقول محمد خيرة الله من خلقه وخيرة الله أيضا بالتسكين والاختيار الاصطفاء، وكذلك التخيير والاستخارة طلب الخيرة، يقال: استخر الله يخر لك، وخيرته بين الشيئين، فوضت إليه الاختيار). انتهى.
فهذا هو الاختيار في اللغة، وهو أخص مما اصطلح عليه أهل الكلام.
ومن هذا قوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، وقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا}؛ أي: اختار منهم.
وبهذا يحصل جواب السؤال الذي تورده القدرية، يقولون في الكفر والمعاصي: هل هي واقعة باختيار الله أم بغير اختياره؟
فإن قلتم: (باختياره)؛ فكل مختار مرضى مصطفى محبوب؛ فتكون مرضية محبوبة له.
وإن قلتم: (بغير اختياره) لم يكن بمشيئته واختياره.
وجوابه أن يقال: ما تعنون بالاختيار؟ ألعامّ في اصطلاح المتكلمين وهو المشيئة والإرادة؟ أم تعنون به الاختيار الخاص الواقع في القرآن والسنة وكلام العرب؟
وإن أردتم بالاختيار الأول؛ فهي واقعة باختياره بهذا الاعتبار، لكن لا يجوز أن يطلق ذلك عليها لما في لفظ الاختيار من معنى الاصطفاء والمحبة، بل يقال: واقعة بمشيئته وقدرته. وإن أردتم بالاختيار معناه في القرآن ولغة العرب فهي غير واقعة باختياره بهذا المعنى، وإن كانت واقعة بمشيئته.
فإن قيل: فهل تقولون إنها واقعة بإرادته؟ أم لا تطلقون ذلك؟
قيل: لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان:
- إرادة كونية شاملة لجميع المخلوقات كقوله:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقوله:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} وقوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} ونظائر ذلك.
- وإرادة دينية أمرية لا يجب وقوع مرادها كقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}.
فهي مرادة بالمعنى الأول غير مرادة بالمعنى الثاني.
وكذلك إن قيل: هل هي واقعة بإذنه أم لا؟
والإذن أيضا نوعان:
- كوني كقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}.
- وديني أمري كقوله: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُم} وقوله:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}.
ولفظ الاختيار مشتق من الخير المخالف للشر، ولما كان الأصل في الحي أنه يريد ما ينفعه وما هو خير؛ سميت الإرادة اختيارا، وهذا يتضمن أن الإرادة اختيار، لا ترجح نوعا على نوع إلا لمرجح رجح ذلك النوع عند الفاعل.
والمقصود أنه يذكر العلم عند التخصيصات كقوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} لا خلاف بين الناس أن المعنى على علم منا بأنهم أهل الاختيار؛ فالجملة في موضع نصب على الحال، أي اخترناهم عالمين بهم وبأحوالهم، وما يقتضي اختيارهم من قبل خلقهم، ذكر سبحانه اختيارهم وحكمته في اختياره إياهم وذكر علمه الدال على مواضع حكمته واختياره.
ومن هذا قوله سبحانه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}
وأصح الأقوال في الآية أن المعنى من قبل نزول التوراة فإنه سبحانه قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ}، وقال:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} ثم قال:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} مِنْ قَبْلِ ذلك. ولهذا قطعت قبل عن الإضافة، وبنيت لأن المضاف منوي معلوم، وإن كان غير مذكور في اللفظ.
وذكر سبحانه هؤلاء الثلاثة، وهم أئمة الرسل، وأكرم الخلق عليه: محمد وإبراهيم وموسى.
وقد قيل: {من قبل}؛ أي في حال صغره قبل البلوغ، وليس في اللفظ ما يدل على هذا السياق، إنما يقتضي من قبل ما ذكر.
وقيل المعنيّ بقوله: {من قبل}؛ أي في سابق علمنا، وليس في الآية أيضا ما يدل على ذلك، ولا هو أمر مختص بإبراهيم، بل كل مؤمن فقد قدر الله هداه في سابق علمه.
والمقصود قوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}؛ قال البغوي: (أنه أهل للهداية والنبوة)
وقال أبو الفرج: (أي عالمين بأنه موضع لإيتاء الرشد).
وقال صاحب الكشاف: (المعنى علمه به أنه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها وحمدها حتى أهّله لمخالّته ومخالصته، وهذا كقولك في حرّ من الناس: أنا عالم بفلان؛ فكلامك هذا من الاحتواء على محاسن الأوصاف).
وهذا كقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وقوله:{وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ}، ونظيره قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وقريب منه قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}، حيث وضعنا هذا التخصيص في المحل الذي يليق به من الأماكن والأناسي).


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مسائل, التفسير

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:22 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir